التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

الْمَلائِكَةُ ، أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١).

هذا ، ولا تعارض بين قوله تعالى ـ (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) وبين قوله في آية أخرى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وبين قوله في آية ثالثة (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها).

لأن إسناد التوفي إلى ذاته ـ تعالى ـ ، باعتبار أن أحدا لا يموت إلا بمشيئته ـ تعالى ـ ، وإسناده إلى ملك الموت باعتباره هو المأمور بقبض الأرواح ، وإسناده إلى الملائكة باعتبارهم أعوانا له ، ولا تعارض ـ أيضا ـ بين قوله ـ تعالى ـ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبين ما جاء في الحديث الصحيح : «لن يدخل أحدا عمله الجنة ..».

لأن الأعمال الصالحة إنما هي أسباب عادية لدخول الجنة ، أما السبب الحقيقي فهو فضل الله ـ تعالى ـ ورحمته ، حيث قبل هذه الأعمال ، وكافأ أصحابها عليها.

وبعد أن بينت السورة الكريمة جانبا من أقوال المتقين ، وبشرتهم بما يسرهم ويشرح صدورهم ، عادت مرة أخرى لتهديد الكافرين ، لعلهم يزدجرون أو يتذكرون ، فقال ـ تعالى ـ :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤)

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ ..) إنكارى في معنى النفي.

«ينظرون» هنا بمعنى ينتظرون ، من الإنظار بمعنى الإمهال ، والضمير المرفوع يعود إلى أولئك المتكبرين الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، كما جاء في الآيات السابقة.

أى : ما ينتظر أولئك المتكبرون الذين لا يؤمنون بالآخرة ، إلا أن تأتيهم الملائكة لنزع

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٣٠.

١٤١

أرواحهم من أجسادهم ، أو يأتى أمر ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ بإهلاكهم ، أو بإنزال العذاب بهم من حيث لا يشعرون.

وليس المراد من الجملة الكريمة ، أنهم ينتظرون ذلك على سبيل الحقيقة ، لأن إصرارهم على الكفر جعلهم يستهينون بهذا التهديد وإنما المراد أنهم حين أصروا على الكفر مع ظهور البراهين على بطلانه ، صار حالهم كحال المترقب لنزول أحد الأمرين : قبض الملائكة لأرواحهم ، أو نزول العذاب بهم.

فالجملة الكريمة تهديد لهم في تماديهم في الكفر ، وتحريض لهم على الإيمان قبل فوات الأوان.

قال الجمل : و «أو» في قوله «أو يأتى أمر ربك» مانعة خلو ، فإن كلا من الموت والعذاب يأتيهم وإن اختلف الوقت ، وإنما عبر بأو دون الواو ، للاشارة إلى كفاية كل واحد من الأمرين في تعذيبهم ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم من أذى.

أى : مثل هذا الفعل الشنيع الذي صدر عن الكافرين من قومك ـ يا محمد ـ فعل الذين من قبلهم من أقوام الرسل السابقين ، كقوم نوح وقوم هود ، وقوم صالح ، فإنهم قد آذوا رسلهم. كما آذاك قومك.

وقد أنزلنا بهم ما يستحقون من عقاب دنيوى ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). بيان لعدالة الله ـ تعالى ـ وأنه ـ سبحانه ـ لا يظلم الناس شيئا.

أى : وما ظلمهم الله حين أنزل بهم عقابه : ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بترديهم في الكفر ، وإصرارهم عليه ، ومحاربتهم لمن جاء لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) معطوف على قوله (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وما بينهما اعتراض.

وحاق : بمعنى أحاط ، من الحيق بمعنى الإحاطة ، وبابه باع ، يقال : حاق يحيق ، وخص في الاستعمال بإحاطة الشر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٦٩.

١٤٢

أى : هكذا تمادى أسلافهم في الكفر والجحود ، فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم ، وأحاط بهم العذاب من كل جانب ، بسبب كفرهم وسخريتهم بالرسل وبما أخبروهم به من حساب وثواب وعقاب في الآخرة ، وسيقال لهؤلاء المجرمين يوم القيامة وهم يردون النار : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١).

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين ، قد هددتا الكافرين ودعتهما إلى الدخول في الحق ، وحذرتاهم من انتهاج نهج الظالمين من قبلهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض أقاويلهم الباطلة ، ومعاذيرهم الفاسدة ، ورد عليهم بما يدحضها ويدمغها ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٧)

إن هذه الآيات الكريمة ، تعالج شبهة من الشبهات القديمة الحديثة.

قديمة ، لأن كثيرا من مجادلى الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ جادلوا بها.

وحديثة ، لأنها كثيرا ما تراود الذين يتمسكون بالأوهام ، إرضاء لنزواتهم وشهواتهم.

إنهم جميعا يقولون عند ارتكابهم للقبائح والمنكرات : هذا أمر الله وهذا قضاؤه ، وتلك

__________________

(١) سورة الطور الآية ١٤.

١٤٣

مشيئته وإرادته ، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها ومادام الله ـ تعالى ـ قد قضى علينا بها فما ذنبنا؟ ولما ذا يعاقبنا عليها مادام قد شاءها لنا؟

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى هذه الشبهة بأسلوبه الخاص فيقول : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ...).

أى : وقال الذين أشركوا ، مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة ، لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لو شاء الله ـ تعالى ـ لنا عبادته وحده لعبدناه نحن وآباؤنا الذين هم قدوتنا.

ولو شاء لنا ولآبائنا ـ أيضا ـ ألا نحرم شيئا مما حرمناه من البحائر والسوائب وغيرهما ، لتمت مشيئته ، ولما حرمنا شيئا لم يأذن به ـ سبحانه ـ.

ولكنه ـ عزوجل ـ لم يشأ ذلك ، بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام ، وأن نحرم بعض الأنعام ، وقد رضى لنا ذلك ، فلما ذا تطالبنا يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتغيير مشيئة الله ، وتدعونا إلى الدخول في دين الإسلام والذي لم يشأ لنا الله ـ تعالى ـ الدخول فيه؟

هذه حجتهم ، ولا شك أنها حجة داحضة ، لأنهم يحيلون شركهم وفسوقهم على مشيئة الله ـ تعالى ـ مع أن مشيئته ـ تعالى ـ لم يطلع عليها أحد من خلقه حتى يقولوا ما قالوا.

وإنما الذي أطلعنا عليه ـ سبحانه ـ أنه أرسل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهدايتنا ، ومنحنا العقول التي نميز بها بين الحق والباطل ، فمن أطاع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد وفاز ، ومن أعرض عن هدايته خسر وخاب ، قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١).

وقال ـ سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ..) (٢).

ولقد حكى ـ سبحانه ـ شبهة المشركين هذه في آيات أخرى ورد عليها ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا ، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ

__________________

(١) سورة الإنسان الآيتان ٢ ، ٣.

(٢) سورة الكهف الآية ٢٩.

(٣) سورة الزخرف الآية ١٩.

١٤٤

فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ..) (١).

هذا ، وقد قلنا عند تفسيرنا لهذه الآيات ما ملخصه : ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا ، فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله.

نقول لهم : نحن معكم في أنه لا يقع في ملكه ـ سبحانه ـ إلا ما يشاؤه. فالطائع تحت المشيئة ، والعاصي تحت المشيئة ، ولكن هذه المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية ، وقضاء الله هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون وليس العلم صفة تأثير وجبر.

ولقد شاء ـ سبحانه ـ أن يجعل في طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر ، ووهبهم العقل ليهتدوا به ، وأرسل إليهم الرسل لينمو فيهم استعدادهم ، وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون وما يدعون ، كي لا يتركهم لعقولهم وحدها.

وإذا فمشيئة الله متحققة حسب سنته التي ارتضاها ، سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أم إلى الضلال ، وهو مؤاخذ إن ضل ، ومأجور إذا اهتدى ، غير أن سنة الله اقتضت أن من يفتح عينيه يبصر النور ، ومن يغمضهما لا يراه.

كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى ، ومن يحجب قلبه عنها يضل. سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا.

وإذا فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا ، على معنى أنه أجبرهم عليه ، فهم لا يستطيعون عنه فكاكا ، إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح ..» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قاله هؤلاء المشركون من كذب ، وما نطقوا به من باطل.

واسم الإشارة «كذلك» يعود إلى إشراكهم وتحريمهم لما أحله الله ـ تعالى ـ أى : مثل ذلك الفعل الشنيع الذي فعله قومك معك يا محمد ، فعل أشباههم السابقون مع أنبيائهم الذين أرسلهم الله ـ تعالى ـ لهدايتهم ، فلا تبتئس ـ أيها الرسول الكريم ـ مما فعله معك مشركو قومك. فإننا لولا وجودك فيهم ، لأنزلنا بهم ما أنزلنا على سابقيهم من عذاب.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٤٨ ، ١٤٩.

(٢) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام من ص ٢٠٥ إلى ص ٢١١.

١٤٥

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). إنكارى في معنى النفي. والبلاغ : اسم مصدر بمعنى الإبلاغ. والمبين : الواضح الصريح.

أى : ما على الرسل الكرام الذين أرسلهم الله ـ تعالى ـ لإرشاد أقوامهم إلى الصراط المستقيم إلا الإبلاغ الواضح ، المظهر لأحكام الله ، المميز بين الحق والباطل ، أما إجبار الناس على الدخول في الحق فليس من وظيفتهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١).

وقال ـ تعالى ـ : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ..) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن من رحمته بعباده ، أن أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ، أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ..).

والطاغوت : اسم لكل معبود من دون الله ـ تعالى ـ ، كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة ، مأخوذ من طغا يطغى طغوا .. إذا جاوز الحد في الضلال.

أى : ولقد اقتضت حكمتنا ورحمتنا أن نبعث في كل أمة ، من الأمم السالفة «رسولا» من رسلنا الكرام ، ليرشدوا الناس إلى الحق والخير ، وليقولوا «أن اعبدوا الله» ـ تعالى ـ وحده ، «واجتنبوا» عبادة «الطاغوت» الذي يضل ولا يهدى.

وأكد ـ سبحانه ـ الجملة باللام وقد ، للرد على ما زعمه المشركون من أن الله ـ تعالى ـ لم ينكر عليهم عبادتهم لغيره ، وأنه ـ سبحانه ـ راض لتحريمهم لما أحله. حيث بين لهم ـ عزوجل ـ أنه قد أرسل الرسل للدعوة إلى عبادته وحده ، ولتجنب عبادة أحد سواه. و «أن» في قوله «أن اعبدوا ..» تفسيرية ، لأن البعث يتضمن معنى القول ، إذ هو بعث للتبليغ.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف هؤلاء الأقوام من رسلهم فقال ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ..).

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٤٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٧٢.

١٤٦

أى : بعثنا في كل أمة من الأمم السابقة رسولا لهداية أبنائها فمن هؤلاء الأبناء من هداهم الله ـ تعالى ـ إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. بأن وفقهم إليه ، لانشراح صدورهم له ، ومنهم من ثبتت وحقت عليه الضلالة ، لاستحبابه العمى على الهدى.

وأسند ـ سبحانه ـ هداية بعض أفراد هذه الأمم إليه ، مع أنه أمر جميعهم ـ على ألسنة رسله ـ بالدخول في طريق الهدى ، للرد على المشركين الذين أحالوا شركهم وفسوقهم على مشيئة الله ، إذ أن الله ـ تعالى ـ قد بين للناس جميعا طرق الخير وطرق الشر ، فمنهم من استجاب للأولى ، ومنهم من انحدر إلى الثانية ، وكلاهما لم يقسره الله ـ تعالى ـ قسرا على الهدى أو الضلال.

فاهتداء المهتدين إنما هو بسبب اختيارهم لذلك ، واتباعهم الرسل ، وضلال الضالين إنما هو بسبب استحواذ الشيطان عليهم.

وعبر ـ سبحانه ـ في جانب الضالين بقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) للإشارة إلى أنهم لم يستجيبوا لما أرشدهم ـ سبحانه ـ إليه ، بل ظلوا ثابتين مصممين على البقاء في طريق الضلالة ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). تحريض لهم على التأمل في آثار المكذبين ، لعلهم عن طريق هذا التأمل والتدبر يثوبون إلى رشدهم ، ويعودون إلى صوابهم ، ويدركون سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن العاقبة الطيبة للمتقين ، والعاقبة السيئة للكافرين.

والفاء في قوله «فسيروا ...» للتفريع ، وقد جيء بها للإشعار بوجوب المبادرة إلى التأمل والاعتبار.

أى : إن كنتم في شك مما أخبرناكم به ، فسارعوا إلى السير في الأرض ، لتروا بأعينكم آثار المجرمين ، الذين كذبوا الرسل وأسندوا شركهم إلى مشيئة الله. لقد نزل بهؤلاء المكذبين عذاب الله ، فدمرهم تدميرا (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).

ثم أخبر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن حرصه على هداية المصرين على ضلالهم ، لن يغير من واقع أمرهم شيئا ، فقال ـ تعالى ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ..).

__________________

(١) سورة الصف الآية ٥.

(٢) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ، ١٣٨.

١٤٧

والفعل المضارع «تحرص» بكسر الراء ، ماضيه «حرص» بفتحها كضرب يضرب.

والحرص : شدة الرغبة في الحصول على الشيء ، والاستئثار به.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) تعليل لجواب الشرط المحذوف ، والتقدير : إن تحرص ـ أيها الرسول الكريم ـ على هداية هؤلاء المصرين على كفرهم لن ينفعهم حرصك. فإن الله ـ تعالى ـ قد اقتضت حكمته أن لا يهدى من يخلق فيه الضلالة بسبب سوء اختياره ، وفساد استعداده.

وفي الجملة الكريمة إشارة إلى ما جبل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكارم الأخلاق ، فإنه مع ما لقيه من مشركي قومه من أذى وعناد وتكذيب ... كان حريصا على ما ينفعهم ويسعدهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك ، أو علة للجواب المحذوف ، أى : إن تحرص على هداهم لن ينفع حرصك شيئا ، فإن الله لا يهدى من يضل.

والمراد بالموصول : كفار قريش المعبر عنهم قبل ذلك بالذين أشركوا ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ؛ للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم.

ومعنى الآية : أنه ـ سبحانه ـ لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره. و «من» على هذا. مفعول «يهدى» وضمير الفاعل في «يضل» لله ـ تعالى ـ والعائد محذوف ، أى من يضله.

وقرأ غير واحد من السبعة «فإن الله لا يهدى ..» بضم الياء وفتح الدال ـ على البناء للمفعول.

و «من» على هذا نائب فاعل ، والعائد وضمير الفاعل كما مر ..» (١).

والمعنى على هذه القراءة : إن تحرص على هداهم ـ يا محمد ـ لن ينفعهم حرصك ، فإن من أضله الله ـ تعالى ـ لا يهديه أحد.

وقوله : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) تذييل مؤكد لما قبله.

أى : وليس لهؤلاء الضالين من ناصر يدفع عنهم عذاب الله ـ تعالى ـ إن نزل بهم ،

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ٣٩.

١٤٨

أو يصرفهم عن سبيل الغي الذي آثروه على سبيل الرشد.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ..) (١) وقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢).

* * *

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك مقولة أخرى من مقولاتهم الباطلة ، التي أكدوها بالأيمان المغلظة ، ورد عليها بما يدمغها ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠)

قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) .. للإيذان بأنهم قد جمعوا بين إنكار التوحيد وإنكار البعث بعد الموت.

والقسم : الحلف : وسمى الحلف قسما ، لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب والجهد ـ بفتح الجيم ـ المشقة. يقال جهد فلان دابته وأجهدها ، إذا حمل عليها فوق طاقتها. وجهد الرجل في كذا ، إذا جد فيه وبالغ ، وبابه قطع.

والمراد بقوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق ،

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٤١.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٨٦.

١٤٩

على أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت ، لأنهم يزعمون أن إعادة الميت إلى الحياة بعد أن صار ترابا وعظاما نخرة ، أمر مستحيل.

وقد أكدوا زعمهم هذا بالقسم ، للتدليل على أنهم متثبتون مما يقولونه. ومتيقنون من صحة ما يدعونه ، من أنه لا يبعث الله من يموت.

قال القرطبي. قوله ـ تعالى ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ..) هذا تعجيب من صنعهم ، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت.

ووجه العجب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات.

وقال أبو العالية : كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه ، وكان في بعض كلامه : والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا ، فأقسم المشرك بالله : لا يبعث الله من يموت ، فنزلت الآية.

وفي البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله ـ تعالى ـ كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياى فقوله : لن يعيدني كما بدأنى ، وأما شتمه إياى فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) تكذيب لهم فيما زعموه من أن الله ـ تعالى ـ لا يبعث من يموت ، ورد عليهم فيما قالوه بغير علم. و «بلى» حرف يؤتى به لإبطال النفي في الخبر والاستفهام.

أى : بلى سيبعث الله ـ تعالى ـ الأموات يوم القيامة ، وقد وعد بذلك وعدا صدقا لا خلف فيه ولا تبديل ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة لجهلهم بكمال قدرة الله ـ تعالى ـ وعموم علمه ، ونفاذ إرادته ، وسمو حكمته.

قال الجمل : وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أى : وعد ذلك وعدا ، وحق حقا. وقيل : حقا نعتا لوعدا ، والتقدير ، بلى يبعثهم وعد بذلك وعدا حقا» (٢).

وجيء بقوله «عليه» لتأكيد هذا الوعد ، تفضلا منه ـ سبحانه ـ وكرما.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٠٥.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٧١.

١٥٠

والمراد بالحق هنا : الصدق الذي لا يتخلف ، والثابت الذي لا يتبدل.

أى : وعدا صادقا ثابتا لا يقبل الخلف ، لأن البعث من مقتضيات حكمته ـ سبحانه ـ.

والمراد بأكثر الناس : المشركون ومن كان على شاكلتهم في إنكار البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.

وفي التنصيص على أكثر الناس ، مدح للأقلية منهم ، الذين آمنوا بالبعث وبالآخرة وما فيها من حساب ، وهم المؤمنون الصادقون.

هذا ، وقد حكى ـ سبحانه ـ مزاعم المشركين ورد عليها في آيات كثيرة ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ..) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من بعث الناس يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ).

واللام في قوله «ليبين لهم ..» وفي قوله «وليعلم ..» متعلقة بما دل عليه حرف «بلى» وهو يبعثهم. أى : بلى يبعث الله ـ تعالى ـ الموتى ، ليظهر لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره ، وليعلم الذين كفروا علم مشاهدة ومعاينة ، أنهم كانوا كاذبين في قسمهم أن الله ـ تعالى ـ لا يبعث من يموت ، وفي غير ذلك من أقوالهم الباطلة.

وفي إظهار الحق ، وفي بيان كذبهم يوم البعث ، حسرة وندامة لهم ، حيث ظهر لهم ما أنكروه في الدنيا ، وما كانوا يستهزئون به ، عند ما كان الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يدعونهم إلى نبذ الشرك ، وإلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده.

فالآية الكريمة قد بينت حكمتين لبعث الناس للحساب يوم القيامة ، الأولى إظهار ما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره مما جاءتهم به الرسل. والثانية : إظهار كذب الكافرين الذين أنكروا البعث واستهزءوا بمن دعاهم إلى الإيمان به.

__________________

(١) سورة التغابن الآية ٧.

(٢) سورة يس الآية ٧٨ ، ٧٩.

١٥١

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) استئناف لتأكيد قدرة الله ـ تعالى ـ النافذة ، وشمولها لكل شيء من بعث وغيره ، وذلك لأن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم بأنه ـ سبحانه ـ لا يبعث الموتى ، ورد عليهم بما يبطل مزاعمهم ، أتبع ذلك ببيان أن قدرته ـ تعالى ـ لا يتعاصى عليها شيء ، ولا يحول دون نفاذها حائل.

قال الإمام ابن كثير : «أخبر ـ سبحانه ـ عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له «كن فيكون». والمراد من ذلك إذا أراد كونه ، فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء ، قال ـ تعالى ـ : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (١) وقال ـ سبحانه ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ في هذه الآية (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أى : يأمر به دفعة واحدة فإذا هو كائن قال الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له «كن» قولة فيكون

أى : أنه ـ تعالى ـ لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه ـ سبحانه ـ لا يمانع ولا يخالف ، لأنه الواحد القهار العظيم ، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء ..» (٣).

وقال بعض العلماء : وعبر ـ تعالى ـ عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء ، لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل ، فلا تنافى الآية إطلاق الشيء ـ على خصوص الموجود دون المعدوم ، لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء ـ وأنه يقول كن فيكون ـ ، كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه.

أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع كتسمية العصير خمرا في قوله (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ..) نظرا لما يؤول إليه ..» (٤).

وقوله «فيكون» قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أى : فهو يكون.

وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكون» بالنصب عطفا على قوله «أن نقول له ..».

__________________

(١) سورة القمر الآية ٥٠.

(٢) سورة لقمان الآية ٢٨.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٩١.

(٤) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ٢٧٢ الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

١٥٢

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من أقوال المشركين ، وردت عليها بما يبطلها ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.

وبعد أن عرضت السورة الكريمة لأقاويل المشركين وردت عليها .. أتبعت ذلك بذكر جانب من الثواب العظيم الذي أعده الله ـ تعالى ـ للمؤمنين الصادقين ، الذين فارقوا الدار والأهل والخلان ، من أجل إعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ ، فقال ـ سبحانه ـ :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢)

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ..) هؤلاء أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله ـ تعالى ـ المدينة فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. وعن ابن عباس : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة ، بعد أن ظلمهم المشركون ، (١).

والذي نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء ، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلى غيرها ، رجاء ثواب الله ، وخدمة لدينه.

والمهاجرة في الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها ، واستعملت شرعا في المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان ، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإسلام.

وقوله «لنبوئنهم» من التبوؤ بمعنى الإحلال والإسكان والإنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا ، إذا أسكنه فيه ، وهيأه له.

«وحسنة» صفة لموصوف محذوف أى : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، أو دارا حسنة.

والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم في المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٧٣.

١٥٣

قال القرطبي في المراد بالحسنة هنا ستة أقوال : نزول المدينة ؛ قاله ابن عباس والحسن .. الثاني : الرزق الحسن. قاله مجاهد. الثالث : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك ، الرابع : لسان صدق ، حكاه ابن جريج. الخامس : ما استولوا عليه من البلاد .. السادس : ما بقي لهم في الدنيا من ثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف.

ثم قال : وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله ـ تعالى ـ» (١).

والمعنى : والذين هاجروا في سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم .. من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم.

هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم في الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا.

وقوله «في الله» أى : في سبيله ، ومن أجل نصرة دينه. فحرف «في» مستعمل للتعليل ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت امرأة النار في هرة حبستها ...».

والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله ، ومن أجل نصرة الحق ، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد في الأرض.

وأسند فعل «ظلموا» إلى المجهول ، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون.

وفي ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم ، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم ، كتعذيبهم إياهم ، وتضييقهم عليهم ، إلى غير ذلك من صنوف الأذى.

وأكد ـ سبحانه ـ الجزاء الحسن الذي وعدهم به باللام وبنون التوكيد «لنبوئنهم ..» ، زيادة في إدخال السرور والطمأنينة على قلوبهم ، وجبرا لكل ما اشتملت عليه الهجرة من مصاعب وآلام وأضرار.

إذ الحسنة ـ كما قلنا ـ تشمل كل حسن أعطاه الله ـ تعالى ـ للمهاجرين في هذه الدنيا.

أما في الآخرة فأجرهم أعظم ، وثوابهم أجزل ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

والضمير في قوله «لو كانوا يعلمون» يعود على أعدائهم الظالمين.

أى : ولثواب الله ـ تعالى ـ لهم في الآخرة على هجرتهم من أجل إعلاء كلمته ، أكبر

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٠٧.

١٥٤

وأعظم ، ولو كان أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لدخلوا في دين الإسلام ، ولأقلعوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين.

وكأن جملة «لو كانوا يعلمون» جوابا عن سؤال تقديره : كيف لم يقتد بهم من بقي على الكفر مع هذا الثواب الذي أعده الله لهؤلاء المهاجرين؟

فكان الجواب : لو كان هؤلاء الكافرون يعلمون ذلك لأقلعوا عن كفرهم.

ويصح أن يكون الضمير يعود على المهاجرين ، فيكون المعنى : لو كانوا يعلمون علم مشاهدة ومعاينة ما أعده الله لهم ، لما حزنوا على مفارقة الأوطان والأولاد والأموال ، ولازدادوا حبا وشوقا واجتهادا في المهاجرة.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له «خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخره لك في الآخرة أفضل ، ثم تلا هذه الآية (١).

وجوز بعضهم أن يكون الضمير يعود للمتخلفين عن الهجرة أى : لو علم هؤلاء المتخلفون عن الهجرة ، ما أعده ـ سبحانه ـ من أجر للمهاجرين ، لما تخلفوا عن ذلك.

وعلى أية حال فلا مانع من أن يكون الضمير يعود على كل من يتأتى له العلم ، بهذا الثواب الجزيل لهؤلاء المهاجرين في سبيل الله ـ تعالى ـ.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هؤلاء المهاجرين بوصفين كريمين فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أى : هذا الأجر العظيم لهؤلاء المهاجرين الذين صبروا على ما أصابهم من عدوان وظلم ، وفوضوا أمرهم إلى خالقهم ، فاعتمدوا عليه وحده ، ولم يعتمدوا على أحد سواه.

وصفتا الصبر والتوكل على الله. إذا دخلا في قلب ، حملاه على اعتناق كل فضيلة ، واجتناب كل رذيلة.

وعبر عن صفة الصبر بصيغة الماضي للدلالة على أن صبرهم قد آذن بالانتهاء لانقضاء أسبابه وهو ظلم أعدائهم لهم ، لأن الله ـ تعالى ـ قد جعل لهم مخرجا بالهجرة ، وذلك بشارة لهم.

وعبر عن صفة التوكل بصيغة المضارع للإشارة إلى أن هذه الصفة ديدنهم في كل وقت ،

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٧٤.

١٥٥

فهم متوكلون عليه ـ سبحانه ـ وحده في السراء والضراء ، وفي العسر واليسر ، وفي المنشط والمكره.

والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين ، يراهما قد غرستا في النفوس محبة هذا الدين ، والاستهانة بكل ألم أو ضر أو مصيبة في سبيل إعلاء كلمته ، والرغبة فيما عند الله ـ تعالى ـ من أجر وثواب.

ثم رد ـ سبحانه ـ على المشركين الذين أنكروا أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البشر ، فبين ـ سبحانه ـ أن الرسل السابقين الذين لا ينكر المشركون نبوتهم كانوا من البشر ، فقال ـ تعالى ـ.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

قال الإمام ابن كثير : عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : لما بعث الله ـ تعالى ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنزل الله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ..) (١) وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ..) (٢).

أى : وما أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ لهداية الناس وإرشادهم إلى الحق إلا رجالا مثلك ، وقد أوحينا إليهم بما يبلغونه إلى أقوامهم ، من نصائح وتوجيهات وعبادات وتشريعات ، وقد لقى هؤلاء الرسل من أقوامهم ، مثل ما لقيت من قومك من أذى وتكذيب وتعنت في الأسئلة.

فالمقصود من الآية الكريمة تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرد على المشركين فيما أثاروه حوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شبهات.

__________________

(١) سورة يونس الآية ٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٩٢.

١٥٦

وقد حكى القرآن في مواطن عدة إنكار المشركين لبشرية الرسل ورد عليهم بما يخرسهم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا ، أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا ، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣).

والمراد بأهل الذكر في قوله «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» علماء أهل الكتاب أى : لقد اقتضت حكمتنا أن يكون الرسول من البشر في كل زمان ومكان ، فإن كنتم في شك من ذلك ـ أيها المكذبون ـ فاسألوا علماء أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى ، فسيبينون لكم أن الرسل جميعا كانوا من البشر ولم يكونوا من الملائكة.

وهذه الجملة الكريمة معترضة بين قوله ـ تعالى ـ (وَما أَرْسَلْنا ..) وبين قوله بعد ذلك : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ..) للمبادرة إلى توبيخ المشركين وإبطال شبهتهم ، لأنه قد احتج عليهم ، بمن كانوا يذهبون إليهم لسؤالهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي قوله ـ تعالى ـ (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إيماء إلى أنهم كانوا يعلمون أن الرسل لا يكونون إلا من البشر ، ولكنهم قصدوا بإنكار ذلك الجحود والمكابرة ، والتمويه لتضليل الجهلاء ، ولذا جيء في الشرط بحرف «إن» المفيد للشك.

وجواب الشرط لهذه الجملة محذوف ، دل عليه ما قبله. أى : إن كنتم لا تعلمون ، فاسألوا أهل الذكر. وقيل المراد بأهل الذكر هنا : المسلمون مطلقا ، لأن الذكر هو القرآن ، وأهله هم المسلمون.

ونحن لا ننكر أن الذكر يطلق على القرآن الكريم ، كما في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) إلا أن المراد بأهل الذكر هنا : علماء أهل الكتاب ، لأن المشركين كانوا يستفسرون منهم عن أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكثر من استفسارهم من المسلمين.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٩.

(٢) سورة الإسراء الآية ٩٤.

(٣) سورة التغابن الآية ٦.

١٥٧

قال الآلوسى ما ملخصه قوله ـ تعالى ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ..) أى : أهل الكتاب من اليهود والنصارى. قاله : ابن عباس والحسن والسدى وغيرهم.

وقال أبو حيان في البحر : والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب ، لأنهم الذين لا يتهمون عند المشركين في إخبارهم بأن الرسل كانوا رجالا ، فإخبارهم بذلك حجة عليهم. والمراد كسر حجتهم وإلزامهم ، وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج إلى إخبار هؤلاء ..» (١).

قالوا : وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى أهل العلم فيما لا يعلم ، وعلى أن الرسل جميعا كانوا من الرجال ولم يكن من بينهم امرأة قط.

والجار والمجرور في قوله : «بالبينات والزبر» .... متعلق بقوله «وما أرسلنا ..» وداخل تحت حكم الاستثناء مع «رجالا».

والمراد بالبينات : الحجج والمعجزات الدالة على صدق الرسل.

والزبر : جمع زبور بمعنى مزبور أى مكتوب. يقال : زبرت الكتاب .. من باب نصر وضرب ـ أى : كتبته كتابة عظيمة.

أى : وما أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلا رجالا مؤيدين بالمعجزات الواضحات ، وبالكتب العظيمة المشتملة على التشريعات الحكيمة والآداب الحميدة ، والعقائد السليمة ، التي تسعد الناس في دينهم وفي دنياهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). بيان للحكم التي من أجلها أنزل الله ـ تعالى ـ القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : وأنزلنا إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ القرآن ، لتعرف الناس بحقائق وأسرار ما أنزل لهدايتهم في هذا القرآن من تشريعات وآداب وأحكام ومواعظ ولعلهم بهذا التعريف والتبيين يتفكرون فيما أرشدتهم إليه ، ويعملون بهديك ويقتدون بك في أقوالك وأفعالك ، وبذلك يفوزون ويسعدون.

فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على حكمتين من الحكم التي أنزل الله ـ تعالى ـ من أجلها القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما الحكمة الأولى : فهي تفسير ما اشتمل عليه هذا القرآن من آيات خفى معناها على

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٤٧.

١٥٨

أتباعه ، بأن يوضح لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أجمله القرآن الكريم من أحكام أو يؤكد لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأحكام.

ففي الحديث الشريف عن المقدام بن معد يكرب ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «ألا وإنى أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ...».

وأما الحكمة الثانية : فهي التفكر في آيات هذا القرآن ، والاتعاظ بها ، والعمل بمقتضاها ، قال ـ تعالى ـ : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

والمراد بالناس في قوله ـ تعالى ـ (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) العموم ، ويدخل فيهم المعاصرون لنزول القرآن الكريم دخولا أوليا.

وأسند ـ سبحانه ـ التبيين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو المبلغ عن الله ـ تعالى ـ ما أمره بتبليغه.

قال الجمل : قوله ـ تعالى ـ (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ..).

يعنى : أنزلنا إليك ـ يا محمد ـ الذكر الذي هو القرآن ، وإنما سماه ذكرا ، لأن فيه مواعظ وتنبيها للغافلين ، «لتبين للناس ما نزل إليهم» يعنى ما أجمل إليك من أحكام القرآن ، وبيان الكتاب يطلب من السنة ، والمبين لذلك المجمل هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال بعضهم : متى وقع تعارض بين القرآن والحديث ، وجب تقديم الحديث ، لأن القرآن مجمل والحديث مبين ، بدلالة هذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل» (١).

وبعد أن ردت السورة الكريمة على ما أثاره المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية ، أتبعت ذلك بتهديدهم من سوء عاقبة ما هم فيه من كفر وعصيان وعناد ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٧٢.

١٥٩

فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤٧)

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) هم عند أكثر المفسرين ، مشركو مكة ، الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وراموا صد أصحابه عن الإيمان.

وقيل : هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء ... والمعول عليه ما عليه أكثر المفسرين ، (١).

والاستفهام في الآية الكريمة للتعجيب والتوبيخ.

والفاء للعطف على مقدر دل عليه المقام.

قال بعضهم ما ملخصه : كل ما جاء في القرآن الكريم ، من همزة استفهام بعدها واو العطف أو فاؤه. فالأظهر فيه ، أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل عليه المقام. والتقدير هنا : أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله لهم بالعقاب ، فأمنوا مكره» (٢).

والمراد بمكرهم هنا : سعيهم بالفساد بين المؤمنين ، على سبيل الإخفاء والخداع.

والسيئات : صفة لمصدر محذوف ، أى : مكروا المكرات السيئات. والمكرات ـ بفتح الكاف ـ جمع مكرة ـ بسكونها ـ وهي المرة من المكر.

ويجوز أن تكون كلمة السيئات مفعولا به بتضمين «مكروا» معنى : فعلوا.

والخسف : التغييب في الأرض ، بحيث يصير المخسوف به في باطنها.

يقال : خسف الله بفلان الأرض ، إذا أهلكه بتغييبه فيها.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ....) (٣).

والمعنى : أجهل الذين اجترحوا السيئات وعيدنا ، فأمنوا عقابنا وتوهموا أنهم لن يصيبهم شيء من عذابنا ، الذي من مظاهره خسف الأرض بهم كما خسفناها بقارون من قبلهم؟!!.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٥٠.

(٢) تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ج ٣ ص ٢٧٦.

(٣) سورة القصص الآية ٨١.

١٦٠