التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

هذا ، ومن الآيات التي تشبه هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ نعما أخرى لما ألقاه في الأرض فقال : (وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). أى : وجعل في الأرض «أنهارا» تجرى من مكان إلى آخر ، فهي تنبع في مواضع. وتصب في مواضع أخرى ، وفيها نفع عظيم للجميع ، إذ منها يشرب الناس والدواب والأنعام والنبات.

وجعل فيها كذلك طرقا ممهدة ، يسير فيها السائرون من مكان إلى آخر. «لعلكم تهتدون» بتلك السبل إلى المكان الذي تريدون الوصول إليه. بدون تحير أو ضلال.

وقد كرر القرآن الكريم هذا المعنى في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٣).

والمراد بالعلامات في قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) الأمارات والمعالم التي يضعها الناس على الطرق بإلهام من الله ـ تعالى ـ للاهتداء بها عند السفر.

والمراد بالنجم : الجنس ، فيشمل كل نجم يهتدى به المسافر.

أى ومن مظاهر نعمه ـ أيضا ـ ، أنه ـ سبحانه ـ جعل في الأرض معالم وأمارات من جبال كبار ، وآكام صغار ، وغير ذلك ، ليهتدى بها المسافرون في سفرهم ، وتكون عونا لهم على الوصول إلى غايتهم ، وبمواقع النجوم هم يهتدون في ظلمات البر والبحر ، إلى الأماكن التي يبغون الوصول إليها.

والضمير «هم» في قوله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) يشمل كل سالك في ظلمات البر والبحر ، ويدخل فيه دخولا أوليا أهل مكة ، لأنهم كانوا كثيرى الأسفار للتجارة ، كما كانوا معروفين بالاهتداء في سيرهم بمواقع النجوم.

__________________

(١) سورة لقمان الآية ١٠.

(٢) سورة النبأ الآيتان ٦ ، ٧.

(٣) سورة نوح الآيتان ١٩ ، ٢٠.

١٢١

وقدم ـ سبحانه ـ المتعلق وهو «وبالنجم» للاهتمام به ، إذ أن الاهتداء بالنجوم ، أمر هام في حياة المسافرين ولا سيما الذين يسافرون في البحر.

وعدل ـ سبحانه ـ عن الخطاب إلى الغيبة في قوله «هم يهتدون» على سبيل الالتفات ، ليزداد الكلام طلاوة وانتباها إلى ما اشتمل عليه.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١).

وإلى هنا نرى السورة الكريمة ، التي هي سورة النعم ، قد حدثتنا في بضع عشرة آية. عن ألوان متنوعة من نعم الله ـ تعالى ـ على عباده.

حدثتنا عن نعمة الروح الذي يحيى القلوب الميتة وينقذها من الكفر والضلال.

وحدثتنا عن نعمة خلق الإنسان ، وخلق السموات والأرض.

وحدثتنا عن نعمة خلق الأنعام ، والخيل والبغال والحمير.

وحدثتنا عن نعمة إنزال الماء من السماء ، وما يترتب على هذه النعمة من فوائد ومنافع.

وحدثتنا عن نعمة تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم لمصلحة الإنسان.

وحدثتنا عن نعمة تسخير البحر وتذليله للانتفاع بخيراته.

وحدثتنا عن كل ذلك وغيره. لكي يخلص الإنسان عبادته لخالقه ، ولكي يطيعه حق الطاعة ، ويشكره عليها ، ويستعملها فيما خلقت له.

وبعد أن حدثتنا السورة عن كل ذلك ، ساقت لنا جملة من صفات الله ـ تعالى ـ ووبخت المشركين على شركهم ، وأبطلته بأبلغ أسلوب ، ودعتهم إلى الدخول في الدين الحق ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٩٧.

١٢٢

مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢٣)

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ..) للإنكار والتوبيخ لأولئك المشركين الذين عبدوا غير الله ـ تعالى ـ أى : أفمن يخلق هذه الأشياء العجيبة ، والمخلوقات البديعة ، التي بينا لكم بعضها ، وهو الله ـ عزوجل ـ كمن لا يخلق شيئا على سبيل الإطلاق ، بل هو مخلوق ، كتلك الأصنام والأوثان وغيرها ، التي أشركتموها في العبادة مع الله ـ تعالى ـ؟

إن فعلكم هذا لدليل واضح على جهلكم ـ أيها المشركون ـ وعلى انطماس بصيرتكم ، وقبح تفكيركم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت من لا يخلق أريد به الأصنام ، فلما ذا جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟.

قلت : فيه أوجه : أحدها أنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم.

الثاني : المشاكلة بينه وبين من يخلق.

الثالث : أن يكون المعنى : أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم ، فكيف بما لا علم عنده. كقوله ـ تعالى ـ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها ..) يعنى أن الآلهة ـ التي عبدوها ـ حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب لأن هؤلاء أحياء وهم أموات ، فكيف تصح لهم العبادة ، لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا.

فإن قلت الآية إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله ـ تعالى ـ : فكان من حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟

١٢٣

قلت حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له ، وسووا بينه ، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيها بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) زيادة في توبيخهم وفي التهكم بهم.

أى : أبلغ بكم السفه والجهل أنكم سويتم في العبادة بين من يخلق ومن لا يخلق ، والحال أن هذه التسوية لا يقول بها عاقل ، لأن من تفكر أدنى تفكر ، وتأمل أقل تأمل ، عرف وتيقن أنه لا يصح التسوية في العبادة بين الخالق والمخلوق ، فهلا فكرتم قليلا في أمركم ، لكي تفيئوا إلى رشدكم ، فتخلصوا العبادة لله الخلاق العليم.

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمه على سبيل الإجمال ، بعد أن فصل جانبا منها في الآيات السابقة فقال ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

والمراد بالنعمة هنا جنسها ، الذي يشمل كل نعمه ، لأن لفظ العدد والإحصاء قرينة على ذلك ، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع اعتمادا على القرينة ـ من أبلغ الأساليب الكلامية.

أى : وإن تعدوا نعمة الله ـ تعالى ـ التي أنعمها عليكم ، في أنفسكم ، وفيما سخره لكم لا تستطيعون حصر هذه النعم لكثرتها ولتنوعها.

وما دام الأمر كذلك فاشكروه عليها ما استطعتم ، وأخلصوا له العبادة والطاعة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) استئناف قصد به فتح باب الأمل أمامهم لكي يتداركوا ما فرط منهم من جحود وتقصير في حقه ـ سبحانه ـ.

أى : إن الله ـ تعالى ـ لغفور لعباده على ما فرط منهم متى تابوا إليه توبة نصوحا ، رحيم بهم ، حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم. بل منحهم نعمه مع تقصيرهم في شكره ـ تعالى.

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ قوله : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أى يتجاوز عنكم ، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ، ويجازى على اليسير» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٠٥ ـ بتصرف يسير.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٨٢.

١٢٤

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) بيان لكمال علمه ـ تعالى ـ وتحذير من الوقوع فيما نهى عنه ، لأنه ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية.

أى : والله ـ تعالى ـ وحده ، يعلم ما تسرونه من أقوال وأفعال ، وما تظهرونه منها ، وهو محص عليكم ذلك ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.

ثم وصف ـ سبحانه ـ الأوثان التي يعبدها المشركون من دونه ، بثلاثة أوصاف. تجعلها بمعزل عن النفع ، فضلا عن استحقاقها للعبادة ، فقال ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

فوصفها ـ أولا ـ بالعجز التام ، فقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً ..).

أى : وهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله ـ تعالى ـ لا تخلق شيئا من المخلوقات مهما صغرت ، بل هم يخلقون بأيديكم ، فأنتم الذين تنحتون الأصنام. كما قال ـ سبحانه ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ الذي قال لقومه على سبيل التهكم بهم : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١).

وإذا كان الأمر كذلك فكيف تعبدون شيئا أنتم تصنعونه بأيديكم ، أو هو مفتقر إلى من يوجده؟!

وهذه الآية الكريمة أصرح في إثبات العجز للمعبودات الباطلة من سابقتها التي تقول : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ..) لأن الآية السابقة نفت عن المعبودات الباطلة أنها تخلق شيئا ، أما هذه الآية التي معنا فنفت عنهم ذلك ، وأثبتت أنهم مخلوقون لغيرهم وهو الله ـ عزوجل ـ ، أو أن الناس يصنعونهم عن طريق النحت والتصوير ، فهم أعجز من عبدتهم ، وعليه فلا تكرار بين الآيتين.

وأما الصفة الثانية لتلك الأصنام فهي قوله ـ تعالى ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ).

أى : هؤلاء المعبودون من دون الله ـ تعالى ـ ، هم أموات لا أثر للحياة فيهم ، فهم لا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يغنون عن عابديهم شيئا ، فقد دلت هذه الصفة على فقدانهم للحياة فقدانا تاما.

وجملة «غير أحياء» جيء بها لتأكيد موتهم ، وللدلالة على عراقة وصفهم بالموت ، حيث

__________________

(١) سورة الصافات الآيتان ٩٥ ، ٩٦.

١٢٥

إنه لا توجد شائبة للحياة فيهم ، ولم يكونوا أحياء ـ كعابديهم ـ ثم ماتوا ، بل هم أموات أصلا. أو جيء بها على سبيل التأسيس ، لأن بعض مالا حياة فيه من المخلوقات ، قد تدركه الحياة فيما بعد ، كالنطفة التي يخلق الله ـ تعالى ـ منها حياة ، أما هذه الأصنام فلا يعقب موتها حياة ، وهذا أتم في نقصها ، وفي جهالة عابديها.

وأما الصفة الثالثة لتلك الأصنام فهي قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

ولفظ «أيان» ظرف زمان متضمن معنى متى.

وهذه الصفة تدل على جهلهم المطبق ، وعدم إحساسهم بشيء.

أى : أن من صفات هذه المعبودات الباطلة ، أنها لا تدرى متى يبعثها الله ـ تعالى ـ لتكون وقودا للنار.

وبعضهم يجعل الضمير في «يشعرون» يعود على الأصنام ، وفي «يبعثون» يعود على العابدين لها ، فيكون المعنى : وما تدرى هذه الأصنام التي تعبد من دون الله ـ تعالى ـ متى تبعث عبدتها للحساب يوم القيامة.

قال صاحب فتح القدير ما ملخصه : قوله : «وما يشعرون أيان يبعثون» الضمير في «يشعرون» للآلهة وفي «يبعثون» للكفار الذين يعبدون الأصنام.

والمعنى : وما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار ، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم ، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة. فضلا عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله ـ سبحانه ـ.

ويجوز أن يكون الضمير في الفعلين للآلهة. أى : وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث. ويدل على ذلك قوله تعالى ـ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ..) (١).

وبعد أن أبطل ـ سبحانه ـ عبادة غيره بهذا الأسلوب المنطقي الحكيم ، صرح بأنه لا معبود بحق سواه ، فقال : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

أى إلهكم المستحق للعبادة والطاعة هو إله واحد لا شريك له ، لا في ذاته ولا في صفاته : فأخلصوا له العبادة ، ولا تجعلوا له شركاء.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ١٥٦.

١٢٦

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي جعلت المشركين يصرون على كفرهم ويستحبون العمى على الهدى ، فقال ـ تعالى ـ : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).

أى : فالكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب قلوبهم منكرة للحق ، جاحدة لنعم الله ، منصرفة عن وحدانية الله ـ تعالى ـ وعن الأدلة الدالة عليها ، وحالهم فوق ذلك أنهم مستكبرون مغرورون ، لا يستمعون إلى موعظة واعظ ، ولا إلى إرشاد مرشد. ومتى استولت على إنسان هاتان الصفتان ـ الجحود والاستكبار ـ ، حالفه البوار والخسران ، وآثر سبيل الغي على سبيل الرشد.

والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته «فالذين لا يؤمنون بالآخرة ..» دون التصريح بذواتهم ، لاشتهارهم بتلك الصفات القبيحة ، وللإيمان بأن عدم إيمانهم بالآخرة ، هو أساس خيبتهم ، وخسرانهم وجحودهم ...

وعبر بالجملة الاسمية في قوله «قلوبهم منكرة وهم مستكبرون» للدلالة على تأصل صفتي الجحود والاستكبار في قلوبهم ، وعلى أن الإنكار للحق سمة من سماتهم التي لا يتحولون عنها مهما وضحت لهم الأدلة على بطلانها ، وعلى أن التعالي والغرور لا ينفك عنهم ، وأنهم ممن قال ـ سبحانه ـ فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (١). أى : صاغرين أذلاء.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم ، فقال : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).

وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن في خمسة مواضع ، وفي كل موضع كانت متلوة بأن واسمها ، وليس بعدها فعل.

وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق وثبت ، والجملة بعدها فاعل.

قال الخليل : لا جرم ، كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا ، يقال : فعلوا ذلك ، فيقال : لا جرم سيندمون.

__________________

(١) سورة غافر. الآية ٦٠.

١٢٧

وقال الفراء : «لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة ، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم ، وصارت بمنزله حقا فلذلك يجاب عنها باللام ، كما يجاب بها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك.

والمعنى : حق وثبت أن الله ـ تعالى ـ يعلم ما يسره هؤلاء المشركون وما يعلنونه من أقوال وأفعال ، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يحب المستكبرين عن الاستجابة للحق ، المغرورين بأموالهم وأولادهم ، الجاحدين لنعم الله وآلائه.

قال القرطبي : قال العلماء : وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه ، إلا الكبر ، فإنه فسق يلزمه الإعلان ، وهو أصل العصيان كله.

وفي الحديث الصحيح : «إن المتكبرين يحشرون أمثال الذرّ يوم القيامة ، يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم» أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها ، وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها» (١).

وبعد أن أقامت السورة الكريمة الأدلة الساطعة ، على وحدانية الله ، وقدرته ، وعلى بطلان عبادة غيره .. أتبعت ذلك بحكاية بعض أقاويل المشركين ، وردت عليها بما يدحضها ، وببيان سوء عاقبتهم ، وعاقبة أشباههم من قبلهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٩٥.

١٢٨

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢٩)

وقوله ـ سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ، قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) حكاية لبعض ما كان يدور بين أولئك المستكبرين ، وبين غيرهم من أسئلة واستفسارات حول القرآن الكريم.

والأساطير : جمع أسطورة ، كأعاجيب وأعجوبة ، وأحاديث وأحدوثة.

والمراد بها : الأكاذيب والترهات التي لا أصل لها ، والتي كانت مبثوثة في كتب الأولين.

والمعنى : وإذا قال قائل لهؤلاء الكافرين المستكبرين ، أى شيء أنزل ربكم على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالوا له على سبيل الجحود للحق : لم ينزل عليه شيء ، وإنما هذا القرآن الذين يتلوه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أتباعه ، هو من أساطير الكهنة الأولين ، نقله من كتبهم ثم قرأه على من يستمع إليه.

روى ابن أبى حاتم عن السدى قال : اجتمعت قريش فقالوا : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين ، فمن جاءه يريده ردوه عنه.

فخرج ناس في كل طريق ، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصل إليهم ، قال أحدهم : أنا فلان بن فلان ، فيعرفه نسبه ، ثم يقول للوافد : أنا أخبرك عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد

١٢٩

ومن لا خير فيهم ، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له ، فيرجع الوافد. فذلك قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ، قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد ، فقالوا له مثل ذلك قال : بئس الوافد لقومي أنا ، إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم ـ من مكة ـ رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل ، وأنظر ما يقول ، وآتى قومي ببيان أمره. فيدخل مكة ، فيلقى المؤمنين فيسألهم : ماذا يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فيقولون : خيرا ..» (١).

وعبر ـ سبحانه ـ بالفعل «قيل» المبنى للمجهول ، للإشارة إلى أن هذا القول الذي تفوه به عتاة الكافرين ، كانوا يقولونه لكل من يسألهم عن القرآن الكريم ، لكي يصدوه عن الدخول في الإسلام. وجملة «ماذا أنزل ربكم» نائب فاعل لقيل.

وقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ «أساطير الأولين» خبر لمبتدأ محذوف.

أى : قالوا هو أساطير الأولين أو المسئول عنه : أساطير الأولين.

ولقد حكى القرآن قولهم الباطل هذا ، ورد عليه بما يدحضه في آيات كثيرة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة كفرهم ، ونطقهم بالباطل ، فقال ـ تعالى ـ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ...).

واللام في قوله ـ «ليحملوا» هي التي تسمى بلام العاقبة ، وذلك لأنهم لما وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، كانت عاقبتهم تلك العاقبة السيئة.

والأوزار جمع وزر ـ بكسر الواو وسكون الزاى ـ بمعنى الشيء الثقيل.

المراد بها الذنوب والآثام التي يثقل حملها على صاحبها يوم القيامة ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ؛ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣).

والمعنى : قالوا ذلك في القرآن الكريم ، لتكون عاقبتهم أن يحملوا أوزارهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٣١.

(٢) سورة الفرقان. الآيتان ٥ ، ٦.

(٣) سورة العنكبوت. الآية ١٣.

١٣٠

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله «ليحملوا» متعلق ـ بقالوا ـ كما هو الظاهر .. واللام للعاقبة ، لأن الحمل مترتب على قولهم وليس باعثا ولا غرضا لهم.

وعن ابن عطية : أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا ، أى : قدر صدور ذلك منهم ليحملوا ... (١).

وقال ـ سبحانه ـ (كامِلَةً) لتأكيد أنه لا يرفع عنهم شيء من ذنوبهم ، بل سيعاقبون عليها جميعا دون أن ينقص منها شيء.

قال الفخر الرازي : وهذا يدل على أن الله ـ تعالى ـ قد يسقط بعض العقاب على المؤمنين ، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى .. (٢).

وقال بعض العلماء : «ويصور التعبير هذه الذنوب بكونها أحمالا ذات ثقل ـ وساءت أحمالا وأثقالا ـ ، فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور ، وهي تثقل القلوب ، كما تثقل الأحمال العواتق ، وهي تتعب وتشقى كما تتعب الأثقال حاملها ، بل هي أدهى وأنكى» (٣).

وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها ، وأنتنه ريحا ، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده فزعا ، وكلما تخوف من شيء زاده خوفا. فيقول له بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول له وما تعرفني؟ فيقول : لا. فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا ، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا. طأطئ إلى أركبك ، فطالما ركبتني في الدنيا ، فيركبه ، وهو قوله ـ تعالى ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ..) (٤).

وقوله : «ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم» بيان لأثقال أخرى يحملونها فوق أثقالهم.

أى : أن أولئك المستكبرين ، قالوا في القرآن إنه أساطير الأولين ، فكانت عاقبة قولهم الباطل أن حملوا آثامهم الخاصة ، وأن حملوا فوقها جانبا من آثام من كانوا سببا في ضلالهم.

قال ابن كثير : أى يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم ،

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٢٤.

(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٨.

(٣) في ظلال القرآن ج ١٤ ص ٢١٦٧ للأستاذ سيد قطب.

(٤) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٦٦.

١٣١

واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث : «من دعا إلى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١).

فهذه الآية وأمثالها ، لا تعارض بينها وبين قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٢).

لأن هؤلاء المستكبرين لم يكتفوا بضلالهم في أنفسهم ، بل تسببوا في إضلال غيرهم ، فعوقبوا على هذا التسبب السيئ ، الذي هو فعل من أفعالهم القبيحة.

وقوله «بغير علم» في موضع الحال من الضمير المنصوب في قوله «يضلونهم».

أى : يضلون ناسا لا علم عندهم ، فهم كالأنعام بل هم أضل ، وفي ذلك ما فيه من مدح أهل العلم والتفكير ، لأن الآية الكريمة قد بينت أن أئمة الكفر ، يستطيعون إضلال من لا علم عنده ، أما أصحاب العقول السليمة فلن يستطيعوا إضلالهم.

قالوا : واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ، وأن يميز بين الحق والباطل ، ولا يعذر بسبب جهله.

وقيل : إن قوله «بغير علم» في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله «يضلونهم».

أى : هم يضلون غيرهم حالة كونهم غير عالمين بما يترتب على ذلك من آثام وعقاب ، إذ لو علموا ذلك لما أقدموا على هذا الإضلال لغيرهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ). قال الجمل : و «ساء» فعل ماض لإنشاء الذم بمعنى بئس ، و «ما» تمييز بمعنى شيئا ، أو فاعل بساء ، و «يزرون» صفة لما والعائد محذوف ، أو «ما» اسم موصول ، وقوله «يزرون» صلة الموصول ، والعائد محذوف أى : يزرونه ، والمخصوص بالذم محذوف» (٣).

والتقدير : بئس شيئا يزرونه ويحملونه نتيجة كفرهم وكذبهم وإضلالهم لغيرهم ؛ وافتتحت

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٨٤.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٦٤.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٦٦.

١٣٢

الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح «ألا» للاهتمام بما تضمنه التحذير ، حتى يقلعوا عن كفرهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، ويحترسوا عن الوقوع في الباطل من القول.

ثم سلى الله ـ تعالى ـ نبيه والمؤمنين ، فبين لهم أن هؤلاء المستكبرين الذين قالوا في القرآن : إنه أساطير الأولين ، سيحيق بهم مكرهم السيئ ، كما حاق بالذين من قبلهم. فقال ـ تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ).

وقوله ـ سبحانه ـ «مكر» من المكر ، وهو التدبير المحكم ، أو صرف الغير عما يريده بحيلته ، وهو مذموم إن تحرى به الماكر الشر والباطل ، ومحمود إن تحرى به الخير والحق.

والمراد به هنا النوع الأول.

والمراد بالذين من قبلهم : الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة ، كقوم نوح وهود وصالح.

وقوله : «فأتى الله بنيانهم ..» أى : أهلكهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ (... فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ..) (١).

ويقال : أتى فلان من مأمنه أى : نزل به الهلاك من جهة أمنه. وأتى عليه الدهر. أى : أهلكه وأفناه. ومنه الأتوّ. وهو الموت والبلاء.

يقال : أتى على فلان أتوّ ، أى موت أو بلاء يصيبه.

والقواعد : جمع قاعدة. وهي أساس البناء ، وبها يكون ثباته واستقراره.

والمعنى : لا تهتم ـ أيها الرسول الكريم ـ بما يقوله المستكبرون من قومك في شأن القرآن الكريم لكي يصرفوا الناس عن الدخول في الإسلام ، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم ، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد ، بأن اجتث هذا البنيان من أصله ؛ واقتلعه من أساسه «فخر عليهم السقف من فوقهم» أى : فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم «وأتاهم العذاب» المبير المدمر «من حيث لا يشعرون» ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة ، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك.

فالآية الكريمة تصور بأسلوب بديع معجز ، كيف أن هؤلاء الماكرين ، قد حصنوا أنفسهم بالبناء المحكم المتين ، ليتقوا ما يؤذيهم ، إلا أن جميع هذه التحصينات قد هوت وتساقطت على

__________________

(١) سورة الحشر. الآية ٢.

١٣٣

رءوسهم ، أمام قوة الله ـ تعالى ـ التي لا ترد ، فإذا بالبناء الذي بنوه ليحتموا به ، قد صار مقبرة لهم.

وصدق الله إذ يقول : (وَمَكَرُوا مَكْراً ، وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) مع أن السقف لا يكون إلا من فوق ، لتأكيد الكلام وتقويته.

وقال القرطبي : قال ابن الأعرابى : وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول : خر علينا سقف ، ووقع علينا حائط ، إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله : «من فوقهم» ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب ، فقال : «من فوقهم» أى : عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا ..» (٢).

هذا ومن المفسرين الذين رجحوا أن الآية مسوقة على سبيل التمثيل ، الفخر الرازي. فقد قال : وفي قوله ـ سبحانه ـ (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) قولان :

الأول : أن هذا محض التمثيل.

والمعنى أنهم رتبوا حيلا ليمكروا بها على أنبياء الله ، فجعل الله ـ تعالى ـ حالهم في تلك الحيل ، مثل حال قوم بنوا بنيانا وعموده بالأساطين ، فانهدم ذلك البناء ، وضعفت تلك الأساطين ، فسقط السقف عليهم ، ونظيره قولهم : من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه.

ـ ووجه الشبه أن ما عدوه سبب بقائهم ، صار سبب استئصالهم وفنائهم.

الثاني : أن المراد منه ما دل عليه الظاهر ، وهو أن الله ـ تعالى ـ أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته.

والأول أقرب إلى المعنى (٣).

ومن المفسرين الذين رجحوا أن الكلام على حقيقته ، الإمام ابن جرير فقد قال ـ بعد أن سرد بعض الأقوال ـ : وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك ، تساقطت

__________________

(١) سورة النمل الآيات ٥٠ ، ٥١ ، ٥٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٩٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ٢٠.

١٣٤

عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى على أصولها وقواعدها أمر الله ، فانكفأت بهم منازلهم ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف.

وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل» (١).

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ أولى بالقبول ، لأنه مادام اللفظ صالحا للحمل على الحقيقة ، فلا داعي لصرفه عن ذلك.

وقد حكى لنا القرآن الكريم صنوفا من العذاب الذي أنزله الله ـ تعالى ـ بالظالمين ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ مصيرهم في الآخرة ، بعد أن بين عاقبة مكرهم في الدنيا فقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ..).

أى : هذا هو مصير هؤلاء المستكبرين في الدنيا ، أما مصيرهم في الآخرة فإن الله ـ تعالى ـ يذلهم ويهينهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : أين شركائى في العبادة والطاعة ، الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ، قائلين لهم : إنكم لا بد لكم من إشراكهم معى في العبادة.

وجيء بثم المفيدة للترتيب النسبي ، للإشارة إلى ما بين الجزاءين من تفاوت فإن خزي الآخرة أشد وأعظم مما نزل بهم من دمار في الدنيا.

والاستفهام في قوله «أين شركائى ..» للتهكم بهم وبمعبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها في الدنيا ، فإنهم كانوا يقولون للمؤمنين إن صح ما تقولونه من العذاب في الآخرة ، فان الأصنام ستشفع لنا.

أى : أين هؤلاء الشركاء ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من خزي وذلة وعذاب مهين؟! وأضاف ـ سبحانه ـ الشركاء إليه ، لزيادة توبيخهم ، لأنهم في هذا اليوم العظيم ، يعلمون

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٦٨.

(٢) سورة العنكبوت. الآية ٤٠.

١٣٥

علم اليقين أنه لا شركاء له ـ سبحانه ـ وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (١).

قال الجمل ما ملخصه : وقوله : «تشاقون» من المشاقة وهي عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه.

وقرأ نافع «تشاقون» بكسر النون خفيفه ، وقرأ الباقون بفتح النون ، ومفعوله محذوف. أى : تشاقون المؤمنين ، أو تشاقون الله ، بدليل القراءة الأولى ...» (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقوله أولو العلم في هذا الموقف الهائل الشديد فقال ـ تعالى ـ : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ).

والمراد بالذين أوتوا العلم ، كل من اهتدى إلى الحق في الدنيا ؛ وأخلص لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة.

أى : قال الذين هداهم الله ـ تعالى ـ إلى صراطه المستقيم ، في هذا اليوم العصيب ، إن الخزي الكامل ، في هذا اليوم ، والسوء الذي ليس بعده سوء ، على هؤلاء الكافرين ، أصحاب القلوب المنكرة للحق ، والنفوس الجاحدة لليوم الآخر وما فيه من حساب.

وجيء بجمله «قال الذين أوتوا العلم ..» غير معطوفة على ما قبلها ، لأنها واقعة موقع الجواب لقوله ـ سبحانه ـ «أين شركائى ...» وللتنبيه على أن الذين أوتوا العلم سارعوا بالجواب بعد أن وجم المستكبرون ، وعجزوا عن الإجابة.

وقولهم هذا يدل على شماتتهم بأعداء الله ـ تعالى ـ ، وتوبيخهم لهم على كفرهم ، واستكبارهم عن الاستماع إلى كلمة الحق.

وقال ـ سبحانه ـ : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) بلفظ الماضي ، مع أن هذا القول سيكون في الآخرة ، للإشارة إلى تحقق وقوعه ، وأنه كائن لا محالة.

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوال هؤلاء الكافرين ساعة انتزاع أرواحهم من أجسادهم وساعة وقوفهم للحساب ، فقال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ......).

قال الآلوسى : وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة : الجر على أنه صفة للكافرين ،

__________________

(١) سورة القصص : الآية ٧٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٦٧.

١٣٦

أو بدل منه ، أو بيان له ، والنصب والرفع على القطع للذم. وجوز بعضهم كونه مرتفعا بالابتداء ، وجملة «فألقوا» خبره ..» (١).

والمراد بالملائكة : عزرائيل ومن معه من الملائكة.

والمراد بظلمهم لأنفسهم : إشراكهم مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة.

أى : إن أشد أنواع الخزي والعذاب يوم القيامة على الكافرين ، الذين تنتزع الملائكة أرواحهم من أجسادهم وهم ما زالوا باقين على الكفر والشرك دون أن يتوبوا منهما ، أو يقلعوا عنهما. وقوله : «ظالمي أنفسهم» حال من مفعول تتوفاهم.

وفي وصف هؤلاء الكافرين بكونهم «ظالمي أنفسهم» إشعار إلى أن الملائكة تنتزع أرواحهم من جنوبهم بغلظة وقسوة ، ويشهد لذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ...) (٢).

وقوله «فألقوا السلم» بيان لما صار إليه هؤلاء المستكبرون من ذل وخضوع في الآخرة ، بعد أن كانوا مغترين متجبرين في الدنيا.

وأصل الإلقاء يكون في الأجسام والمحسات فاستعير هنا لإظهار كمال الخضوع والطاعة ، حيث شبهوا بمن ألقى سلاحه أمام الأقوى منه ، بدون أية مقاومة أو حركة.

والمراد بالسلم : الاستسلام والاستكانة. أى : أنهم عند ما عاينوا الموت ، وتجلت لهم الحقائق يوم القيامة ، خضعوا واستكانوا واستسلموا وانقادوا ، وقالوا : ما كنا في الدنيا نعمل عملا سيئا ، توهما منهم أن هذا القول ينفعهم.

وقد حكى الله ـ تعالى ـ عنهم في آيات أخرى ما يشبه هذا القول ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقوله ـ سبحانه ـ (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تكذيب لهم في دعواهم أنهم ما كانوا يعملون السوء لأن لفظ «بلى» لإبطال ما نفوه.

أى : بلى كنتم تعملون السوء ، لأن الله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٢٨.

(٢) سورة الأنفال الآية ٥٠.

١٣٧

وسيجازيكم عنها بما تستحقون وهذا التكذيب لهم قد يكون من الملائكة بأمر الله ـ تعالى ـ وقد يكون من قبله ـ سبحانه ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ...) بيان لما انتهى إليه أمرهم من عذاب مهين.

وأبواب جهنم قد ذكر ـ سبحانه ـ عددها في قوله ـ تعالى ـ : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (١).

أى : فادخلوا ـ أيها الكافرون ـ من أبواب جهنم ، حالة كونكم خالدين فيها خلودا أبديا «فلبئس مثوى المتكبرين» أى فلبئس مقام المتعاظمين عن الإيمان بالله جهنم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة. قد بينت بأسلوب مؤثر ، مصير المستكبرين الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، والذين جادلوا المؤمنين بالباطل ليدحضوا به الحق.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أقوال المستكبرين ، وأحوالهم ، وسوء عاقبتهم أتبع ذلك ببيان أحوال المتقين ، وببيان ما أعده لهم من خيرات فقال ـ تعالى ـ :

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢)

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٤٤.

١٣٨

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ..) بيان لما رد به المؤمنون الصادقون ، على من سألهم عما أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين ما قاله المتقون ، وما قاله المستكبرون.

ووصفهم بالتقوى ، للاشعار بأن صيانتهم لأنفسهم عن ارتكاب ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه ، وخوفهم منه ـ سبحانه ـ ومراقبتهم له ، كل ذلك حملهم على أن يقولوا هذا القول السديد. وكلمة «خيرا» مفعول لفعل محذوف أى : أنزل خيرا. أى : رحمة وبركة ونورا وهداية ، إذ لفظ «خيرا» من الألفاظ الجامعة لكل فضيلة.

قال صاحب الكشاف : فان قلت لم نصب هذا ورفع الأول؟.

قلت : فصلا بين جواب المقر وجواب الجاحد ، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال ، فقالوا خيرا. أى أنزل خيرا. وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) جملة مستأنفة لبيان ما وعدهم به ـ تعالى ـ على أعمالهم الصالحة من أجر وثواب.

أى : هذه سنتنا في خلقنا أننا نجازي الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن الكريم ، دون أن نضيع من أعمالهم شيئا.

وقوله «حسنة» صفة لموصوف محذوف أى : مجازاة حسنة بسبب أعمالهم الصالحة.

كما قال ـ تعالى ـ في آية اخرى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ جزاءهم في الآخرة فقال : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ). والمراد بدار الآخرة : الجنة ونعيمها.

و «خير» صيغة تفضيل ، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال على سبيل التخفيف ، كما قال ابن مالك :

وغالبا أغناهم خير وشر

عن قولهم أخير منه وأشر

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٠٧.

(٢) سورة النحل الآية ٩٧.

١٣٩

ونعم : فعل ماض لإنشاء المدح ، وهو ضد بئس.

والمعنى : ولدار الآخرة وما فيها من عطاء غير مقطوع ، خير لهؤلاء المتقين مما أعطيناهم في الدنيا ، ولنعم دارهم هذه الدار. قال ـ تعالى ـ : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١).

ووصفها ـ سبحانه ـ بالآخرة ، لأنها آخر المنازل ، فلا انتقال عنها إلى دار أخرى ، كما قال ـ تعالى ـ : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً).

والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : ولنعم دار المتقين ، دار الآخرة.

ثم وصف ـ سبحانه ـ ما أعده لهم من نعيم فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

والعدن : الإقامة الدائمة : يقال : عدن فلان ببلد كذا ، إذا توطن فيه وأقام دون أن يبرحه أى : لهؤلاء المتقين : جنات دائمة باقية ، يدخلونها بسرور وحبور ، تجرى من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار.

«لهم فيها ما يشاءون» مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين «كذلك يجزى الله المتقين» أى : مثل هذا الجزاء الحسن ، يجزى الله ـ تعالى ـ عباده المتقين ، الذين جنبوا أنفسهم مالا يرضيه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما تحييهم به الملائكة فقال : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ..).

أى : هذا الجزاء الحسن لهؤلاء المتقين ، الذين تتوفاهم الملائكة ، أى : تقبض أرواحهم ، حال كونهم «طيبين» أى : مطهرين من دنس الشرك والفسوق والعصيان.

«يقولون» أى الملائكة لهؤلاء المتقين عند قبض أرواحهم ، «سلام عليكم» أى : أمان عليكم من كل شر ومكروه.

«ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون» أى : بسبب ما قدمتموه من أعمال صالحة.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ

__________________

(١) سورة الأعلى الآيتان ١٦ ، ١٧.

١٤٠