التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

وقال بعض العلماء : و «يجوز أن يكون الخطاب هنا شاملا للمؤمنين ، لأن عذاب الله ـ تعالى ـ وإن كان الكافرون يستعجلونه ، تهكما به ، لظنهم أنه غير آت ، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ، ويحبون تعجيله للكافرين» (١).

وقوله : «سبحانه وتعالى عما يشركون» جملة مستأنفة ، قصد بها إبطال إشراكهم ، وزيادة توبيخهم وتهديدهم :

أى : تنزه الله ـ تعالى ـ وتعاظم بذاته وصفاته ، عن إشراك المشركين ، المؤدى بهم إلى الأقوال الفاسدة ، والأفعال السيئة ، والعاقبة الوخيمة. والعذاب المهين. وقوله : «يشركون» : قراءة الجمهور ، وفيها التفات من الخطاب في قوله «فلا تستعجلوه» إلى الغيبة ، تحقيرا لشأن المشركين ، وحطا من درجتهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية لشنائعهم التي يتبرأ منها العقلاء.

وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» تبعا لقوله ـ تعالى ـ (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وعلى قراءتهما لا التفات في الآية.

ثم بين ـ سبحانه ـ لونا من ألوان قدرته ، ورحمته بعباده ، حيث أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فقال تعالى ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...)

والمراد بالملائكة هنا : جبريل ـ عليه‌السلام ـ ومن معه من حفظة الوحى. أو المراد بهم جبريل خاصة ، ولا مانع من ذلك ، لأن الواحد قد يسمى باسم الجمع إذا كان رئيسا عظيما.

والمراد بالروح : كلام الله ـ تعالى ـ ووحيه الذي ينزل به جبريل ، ليبلغه إلى من أمره الله بتبليغه إياه.

وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى في آيات منها قوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ...) (٢).

والمعنى : ينزل ـ سبحانه ـ الملائكة بكلامه ووحيه ، على من يشاء إنزالهم إليه من عباده المصطفين الأخبار.

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ، لفضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج ١٤ ص ٩٧.

(٢) سورة الشورى : الآية ٥٢.

١٠١

وأطلق ـ سبحانه ـ على وحيه اسم الروح ، على سبيل التشبيه ، ووجه الشبه : أن بسببهما تكون الحياة الحقة.

فكما أن بالروح تحيا الأبدان والأجساد ، فكذلك بالوحي تحيا القلوب والنفوس وتؤدى رسالتها في هذه الحياة.

وفي قوله ـ سبحانه ـ : «من أمره» إشارة إلى أن نزول الملائكة بالوحي ، لا يكون إلا بسبب أمر الله لهم بذلك ، كما قال ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (١).

وقوله : «على من يشاء من عباده» رد على مطالب المشركين المتعنتة ، والتي من بينها ما حكاه الله تعالى ـ عنهم في قوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ...) (٢).

فالآية الكريمة تبين أن نزول الملائكة بالوحي ، إنما هو على من يختاره الله ـ تعالى ـ لنزول الوحى عليه ، لا على من يختارونه هم ، وأن النبوة هبة من الله ـ تعالى ـ لمن يصطفيه من عباده. قال ـ تعالى ـ : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٣).

وقوله : «أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاعبدون» بيان للمقصود من نزول الملائكة بالوحي على الأنبياء.

أى : أنزل ـ سبحانه ـ ملائكته بوحيه على أنبيائه ، لكي ينذر هؤلاء الأنبياء الناس ، ويخوفوهم من سوء عاقبة الإشراك بالله ، ويدعوهم إلى أن يخلصوا العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ويبينوا لهم أن الألوهية لا يصح أن تكون لغيره ـ سبحانه ـ.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من «الروح» على أن «أن» هي التي من شأنها أن تنصب المضارع ، وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم : كتبت إليه بأن قم.

وجوز بعضهم كون «أن» هنا مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك لما في «ينزل

__________________

(١) سورة مريم : الآية ٦٤.

(٢) سورة الزخرف الآية ٣١.

(٣) سورة الأنعام الآية ١٢٤.

١٠٢

الملائكة بالوحي ، من معنى القول ، كأنه قيل : يقول ـ سبحانه ـ بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا ...» (١).

واقتصر هنا على الإنذار الذي هو بمعنى التخويف ، لأن الحديث مع المشركين ، الذين استعجلوا العذاب ، واتخذوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى.

والفاء في قوله «فاتقون» فصيجة : أى ، إذا كان الأمر كذلك ، من أن الألوهية لا تكون لغير الله ، فعليكم أن تتقوا عقوبتي لمن خالف أمرى ، وعبد غيرى.

قال الجمل : «وفي قوله «فاتقون» تنبيه على الأحكام الفرعية بعد التنبيه على الأحكام العلمية بقوله ، «أنه لا إله إلا أنا» ، فقد جمعت الآية بين الأحكام الأصلية والفرعية» (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أنه منزه عن أن يكون له شريك ، وأنه قد أنزل الملائكة بوحيه على من يشاء من عباده ، وأنه لا إله يستحق العبادة سواه.

بعد كل ذلك ، بين الأدلة الدالة على قدرته ووحدانيته ، بأسلوب بديع ، جمع فيه بين دلالة المخلوق على الخالق ، ودلالة النعمة على منعمها ، ووبخ المشركين على شركهم ، تارة عن طريق خلقه وحده ـ سبحانه ـ للسموات والأرض ، وتارة عن طريق خلقه للإنسان ، وتارة عن طريق خلقه للحيوان وللنبات ، ولغير ذلك من المخلوقات التي لا تحصى.

قال ـ تعالى ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

والباء في قوله «بالحق» للملابسة. والحق : ضد الباطل ، وهو هنا بمعنى الحكمة والجد الذي لا هزل فيه ولا عبث معه ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ...) (٣).

أى : خلق ـ سبحانه ـ بقدرته النافذة السموات وما أظلت ، والأرض وما أقلت ، خلقا ملتبسا بالحكمة الحكيمة ، وبالجدية التي لا يحوم حولها لهو أو عبث.

وقوله : «تعالى عما يشركون» تنزيه وتقدير لذاته وصفاته ، عما قاله المشركون في شأنه ـ عزوجل ـ من أن له ولدا أو شريكا.

قال ـ تعالى ـ : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ٩٤.

(٢) حاشية الجمل ج ٢ ص ٥٥٧.

(٣) سورة الدخان الآيتان ٣٨ ، ٣٩.

١٠٣

خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١).

وقد صدر ـ سبحانه ـ هذه الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته ، بخلق السموات والأرض ، لأن خلقهما أعظم من خلق غيرهما ، ولأنهما حاويتان لما لا يحصى من مخلوقاته ـ سبحانه ـ.

قال ـ تعالى ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ دليلا آخر على انفراده بالألوهية عن طريق خلق الإنسان فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

والمراد بالإنسان هنا جنس الإنسان.

وأصل النطفة : الماء الصافي. أو الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة ، وجمعها : نطف ونطاف. يقال : نطفت القربة إذا قطرت ، أى سال منها الماء وتقاطر.

والمراد بالنطفة هنا : المنى الذي هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة.

والخصيم : الكثير الخصام لغيره ، فهو صيغة مبالغة. يقال : خصم الرجل يخصم ـ من باب تعب ـ إذا أحكم الخصومة ، فهو خصم وخصيم.

والمبين. المظهر للحجة ، المفصح عما يريده بألوان من طريق البيان.

أى : خلق ـ سبحانه ـ الإنسان. من منىّ يمنى ، أو من ماء مهين خلقا عجيبا في أطوار مختلفة ، لا يجهلها عاقل ، ثم أخرجه بقدرته من بطن أمه إلى ضياء الدنيا ، ثم رعاه برعايته ولطفه إلى أن استقل وعقل.

حتى إذا ما وصل هذا الإنسان إلى تلك المرحلة التي يجب معها الشكر لله ـ تعالى ـ الذي رباه ورعاه ، إذا به ينسى خالقه ، ويجحد نعمه ، وينكر شريعته ، ويكذب رسله ويخاصم ويجادل بلسان فصيح من بعثه الله ـ تعالى ـ لهدايته وإرشاده ، ويقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ..).

وإذا في قوله ـ سبحانه ـ (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). هي التي تسمى بإذا الفجائية التي يؤتى بها لمعنى ترتب الشيء ، على غير ما يظن أن يترتب عليه.

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٩١.

(٢) سورة غافر ، الآية ٥٧.

١٠٤

وجيء بها هنا لزيادة التعجيب من حال الإنسان ، لأنه كان المنتظر منه بعد أن خلقه الله ـ تعالى ـ بقدرته ، ورباه برحمته ورعايته ، أن يشكر خالقه على ذلك ، وأن يخلص العبادة له ، لكنه لم يفعل ما كان منتظرا منه ، بل فعل ما يناقض ذلك من الإشراك والمجادلة في أمر البعث وغيره.

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما يدل على وحدانيته وقدرته عن طريق خلقه للسموات وللأرض وللإنسان ، أتبع ذلك ببيان أدلة وحدانيته وقدرته عن طريق خلق الحيوان فقال ـ تعالى ـ : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها ، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ، وَمَنافِعُ ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ).

والأنعام : جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، وقد تطلق على الإبل خاصة ،.

وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان في قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ، أو هو منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور بعده. أى : وخلق الأنعام خلقها.

والدفء : السخونة. ويقابله شدة البرد ، يقال : دفئ الرجل ـ من باب طرب ـ فهو دفأ ـ كتعب ـ ودفآن ، إذا لبس ما يدفئه ، ويبعد عنه البرد.

والمراد بالدفء هنا : ما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها لهذا الغرض.

وعطف «منافع» على «دفء» من باب عطف العام على الخاص ، إذ المنافع تشمل ما يستدفأ به منها وغيره.

وخص الدفء بالذكر من عموم المنافع ، للعناية به وللتنويه بأهميته في حياة الناس.

أى : ومن مظاهر نعم الله ـ تعالى ـ عليكم ـ أيها الناس ـ ، أن الله ـ تعالى ـ خلق الأنعام ، وجعل لكم فيها ما تستدفئون به ، من الثياب المأخوذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، فتقيكم برودة الجو وجعل لكم فيها منافع متعددة ، حيث تتخذون من ألبانها شرابا سائغا للشاربين ، ومن لحومها أكلا نافعا للآكلين.

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٥٤.

(٢) سورة الفرقان الآية ٥٥.

١٠٥

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) بيان لنوع آخر من أنواع منافع الحيوان للإنسان.

قال أبو حيان في البحر ؛ والجمال مصدر جمل ـ بضم الميم ـ ، يقال رجل جميل وامرأة جميلة وجملاء ، قال الشاعر :

فهي جملاء كبدر طالع

بذت الخلق جميعا بالجمال

والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب ، بحيث يدركه البصر فتتعلق به النفس.

ويكون في الأخلاق ، باشتمالها على الصفات المحمودة ، كالعلم والعفة والحلم.

ويكون في الأفعال ، بوجودها ملائمة لمصالح الخلق. وجلب المنفعة لهم وصرف الشر عنهم ..» (٢).

وجمال الأنعام من النوع الأول ، ومن جمالها ـ أيضا ـ كثرتها ودلالتها على أن صاحبها من أهل السعة واليسار.

وقوله «تريحون» من الإراحة ، يقال : أراح فلان ماشيته إراحة ، إذا ردها إلى المراح ، وهو منزلها الذي تأوى إليه ، وتبيت فيه.

و «تسرحون» من السروح ، وهو الخروج بها غدوة من حظائرها إلى مسارحها ومراعيها.

يقال : سرحت الماشية أسرحها سرحا وسروحا ، إذا أخرجتها إلى المرعى.

ومفعول الفعلين «تريحون وتسرحون» محذوف للعلم به.

والمعنى : ولكم ـ أيها الناس ـ في هذه الأنعام جمال وزينة ، حين تردونها بالعشي من مسارحها إلى معاطنها التي تأوى إليها ، وحين تخرجونها بالغداة من معاطنها إلى مسارحها ومراعيها.

وخص ـ سبحانه ـ هذين الوقتين بالذكر ، لأنهما الوقتان اللذان تتراءى الأنعام فيهما ، وتتجاوب أصواتها ذهابا وجيئة ، ويعظم أصحابها في أعين الناظرين إليها.

__________________

(١) سورة المؤمنون آية ٢١.

(٢) تفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٤٧٥ ـ بتصرف وتلخيص.

١٠٦

وقدم ـ سبحانه ـ الإراحة على التسريح ، لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج ، حيث تقبل من مسارحها وقد امتلأت بطونها ، وحفلت ضروعها ، وازدانت مشيتها.

وقال ـ سبحانه ـ : (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ). بالفعل المضارع ، لإفادة التجديد والتكرار ، وفي ذلك ما يزيد السرور بها ، ويحمل على شكر الله ـ تعالى ـ على وافر نعمه.

قال صاحب الكشاف : «منّ الله بالتجمل بها ، كما منّ بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها ؛ لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي ، وسرحوها بالغداة فزينت إراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، آنست أهلها ، وفرحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس.

فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح ـ مع تأخر الإراحة في الوجود؟.

قلت : لأن الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ منفعة ثالثة من منافع الأنعام ، التي سخرها الله ـ تعالى ـ للإنسان فقال : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

والضمير في قوله «وتحمل» يعود إلى الإبل خاصة ، لأنها هي التي يحمل عليها.

والأثقال : جمع ثقل. وهو ما يثقل الإنسان حمله من متاع وغيره.

والمراد بالبلد جنسه ولأن الارتحال قد يكون إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما.

والشق ـ بالكسر ـ المشقة : ومن كل شيء نصفه ، والباء للملابسة. أى : إلا بمشقة شديدة ، كأن نفوسكم قد ذهب نصفها خلال تلك الرحلة الطويلة الشاقة التي لم تستخدموا فيها الأنعام.

قال القرطبي : وشق الأنفس : مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين.

قال المهدوى : وكسر الشين وفتحها في «شق» متقاربان. وهما بمعنى المشقة.

وقرأ أبو جعفر «إلا بشق الأنفس» ـ بفتح الشين ـ وهما لغتان مثل رق ورق.

والشق ـ أيضا ـ بالكسر ـ النصف. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى. أى : لم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩٧.

١٠٧

تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها ...» (١).

والمعنى : ومن فوائد هذه الأنعام ـ أيضا ـ أنها تحمل أمتعتكم وأثقالكم من بلد إلى بلد آخر بعيد ، هذا البلد الآخر البعيد. لم تكونوا واصلين إليه بدونها ، إلا بعد تعب شديد ، وجهد مضن ، وكلفة يذهب معها نصف قوتكم.

والتنكير في «بلد» لإفادة معنى البعد ، لأن بلوغ المسافر إليه بمشقة ، هو من شأن البلد البعيد ، الذي يصعب الوصول إليه بدون راحلة.

وجملة «لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس» التي هي صفة لبلد ، تشير إلى هذا المعنى.

وشبيه بهذه الآية قوله تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) (٣).

وجملة «إن ربكم لرءوف رحيم» تعليل لخلقه ـ سبحانه ـ الأنعام لخدمة الإنسان.

أى : خلق لكم هذه الأنعام ؛ لأنه رءوف رحيم بكم ، حيث لم يترككم تحملون أثقالكم بأنفسكم ، وتقطعون المسافات الطويلة على أرجلكم ، بل أوجد هذه الأنعام لمنافعكم ومصالحكم. ثم ذكر ـ سبحانه ـ أنواعا أخرى من الحيوان المنتفع به ، فقال ـ تعالى ـ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

قال الجمل : «الخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه ، بل من معناه وهو فرس. وسميت خيلا لاختيالها في مشيها. والبغال جمع بغل : وهو المتولد بين الخيل والحمير ..» (٤).

واللام في قوله «لتركبوها» للتعليل.

ولفظ «وزينة» مفعول لأجله ، معطوف على محل «لتركبوها».

والزينة : اسم لما يتزين به الإنسان.

قال القرطبي : «هذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا ، إلا أن الله تعالى ـ أذن به

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٧١.

(٢) سورة غافر الآيتان ٧٩ ، ٨٠.

(٣) سورة يس. الآيتان ٧١ ، ٧٢.

(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٥٩.

١٠٨

لعباده ، ففي الحديث الشريف : «الإبل عز لأهلها ، والغنم بركة ، والخيل في نواصيها الخير» خرجه البرقاني وابن ماجة في السنن ...» (١).

والمعنى : ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه خلق لمنفعتكم ـ أيضا ـ الخيل والبغال والحمير ، لتركبوها في غزوكم وتنقلاتكم ، ولتكون زينة لكم في أفراحكم ومسراتكم.

وأتى ـ سبحانه ـ باللام في «لتركبوها» دون ما بعدها ، للإشارة إلى أن الركوب هو المقصود الأصلى بالنسبة لهذه الدواب ، أما التزين بها فهو أمر تابع للركوب ومتفرع منه.

قال صاحب الظلال : وفي الخيل والبغال والحمير ، تلبية للضرورة في الركوب ، وتلبية لحاسة الجمال في الزينة.

وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة ، فالجمال ـ المتمثل في الزينة ـ عنصر له قيمة في هذه النظرة ، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب ، بل تلبية الأشواق الزائدة عن الضرورات. تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنسانى المرتفع على ميل الحيوان ، وحاجة الحيوان» (٢).

وقال بعض العلماء : وقد استدل بهذه الآية ، القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب والزينة يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها.

وأجاب المجوزون لأكلها ، بأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها ـ وهو الركوب والزينة ـ لا ينافي غيره.

وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما ، من حديث أسماء قالت نحرنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا فأكلناه.

وثبت ـ أيضا ـ في الصحيحين من حديث جابر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل (٣).

وقد بسط الإمام القرطبي القول في هذه المسألة ، ورجح حل أكل لحوم الخيل ، وساق الأدلة والأحاديث في ذلك ثم قال : «وكل تأويل من غير ترجيح في مقابلة النص ، فإنما هو دعوى ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٧٩.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ج ١٤ ص ٢١٦١ للأستاذ سيد قطب.

(٣) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٧٠.

(٤) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٧٦. وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٧٦ طبعة دار الشعب.

١٠٩

ويعجبني في هذا المقام قول الإمام البغوي : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب.

ولما كان نص الآية يقتضى أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة ، وكان الأكل مسكوتا عنه ، ودار الأمر فيه على الإباحة والتحريم ، وردت السنة النبوية بإباحة لحوم الخيل ، وبتحريم لحوم البغال والحمير فوجب الأخذ بما جاء في السنة التي هي بيان للكتاب (١).

هذا وقد ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على عظيم قدرته ، وسعة علمه ، فقال (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أى : ويخلق ـ سبحانه ـ في الحال والاستقبال ، مالا تعلمونه ـ أيها الناس ـ من أنواع المخلوقات المختلفة سوى هذه الدواب ، كالسفن التي تمخر عباب الماء ، والطائرات التي تشق أجواز الفضاء ، والسيارات التي تنهب الأرض نهبا لسرعتها ، وغير ذلك من أنواع المخلوقات التي لا يعلمها سواه ـ سبحانه ـ والتي أوجدها لمنفعتكم ومصلحتكم.

وهذه الجملة الكريمة تدل على أن القرآن من عند الله ـ تعالى ـ فقد أوجد ـ سبحانه ـ العقول البشرية ، التي ألهمها صنع الكثير من المخترعات النافعة في البر وفي البحر وفي الجو ، والتي لم يكن للناس معرفة بها عند نزول القرآن الكريم.

وتشير ـ أيضا ـ إلى مزيد فضل الله ـ تعالى ـ على الناس ، حيث أخبرهم بأنه سيخلق لهم في مستقبل الأيام من وسائل الركوب وغيرها ، ما فيه منفعة لهم ، سوى هذه الدواب التي ذكرها.

فعليهم أن يستعملوا هذه الوسائل في طاعة الله ـ تعالى ـ لا في معصيته وعليهم أن يتقبلوا هذه الوسائل ، وأن يفتحوا عقولهم لكل ما هو نافع.

ورحم الله صاحب الظلال ، فقد قال عند تفسيره الآية ما ملخصه : يعقب الله ـ تعالى ـ على خلق الأنعام والخيل والبغال والحمير بقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ليظل المجال مفتوحا في التصور البشرى ، لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والركوب والزينة.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٦٠.

١١٠

وحتى لا يقول بعض الناس : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير ، فلا نستخدم سواها ، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها.

ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة ، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان ، وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان : والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان ، بلا جمود ولا تحجر ، «ويخلق مالا تعلمون» (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ دلائل وحدانيته وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض والإنسان والدواب .. أتبع ذلك ببيان أنه ـ عزوجل ـ كفيل بالإرشاد إلى الطريق المستقيم لمن يتجه إليه فقال ـ تعالى ـ : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ، وَمِنْها جائِرٌ ، وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

والقصد : الاستقامة. والسبيل : الطريق والقصد منه : هو المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. يقال : سبيل قصد وقاصد ، أى : مستقيم. قال الشاعر :

ومن الطريقة جائر وهدى

قصد السبيل ، ومنه ذو دخل

قال الجمل ما ملخصه : «وعلى الله» أى : تفضلا «قصد السبيل» على تقدير مضاف ، أى : وعلى الله بيان قصد السبيل. وهو بيان طريق الهدى من الضلالة ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والقصد مصدر يوصف به. يقال : سبيل قصد وقاصد أى : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. والمراد بالسبيل : جنسه ..» (٢).

والضمير في قوله «ومنها جائر» يعود إلى السبيل. والجائر : المائل عن الاستقامة ، المنحرف عن الجادة وهو صفة لموصوف محذوف. أى : ومنها سبيل جائر.

أى : وعلى الله ـ تعالى ـ وحده ، تفضلا منه وكرما ، بيان الطريق المستقيم وهو طريق الحق ، الذي يوصل من سلكه إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

وهذا الطريق الحق : هو الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الطريق ما هو حائد عن الاستقامة ، وهو كل طريق يخالف ما جاء به خاتم الرسل ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عقائد وشرائع وآداب.

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٤ ص ٢١٦١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٦١.

١١١

قال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ..) (١).

فالمراد بالطريق القصد : الطريق الموصل إلى الإسلام ، والمراد بالطريق الجائر : الطريق الموصل إلى غيره من ملل الكفر والضلال.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ، ببيان أن الهداية والإضلال بقدرته ومشيئته ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

أى : ولو شاء ـ سبحانه ـ هدايتكم ـ أيها الناس ـ إلى الطريق المستقيم ، لهداكم جميعا ، ولكنه ـ عزوجل ـ لم يشأ ذلك ، بل اقتضت حكمته أن يخلق الناس ، مستعدين للهدى والضلال ، وأن يترك لهم اختيار أحد الطريقين فكان منهم من استحب العمى على الهدى ، وكان منهم من سلك الطريق المستقيم. وسيجازى ـ سبحانه ـ الذين أساءوا بما عملوا ، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

قال تعالى ـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ..) (٣).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على عباده عن طريق خلق الأنعام وغيرها من البهائم ، التي لهم فيها منافع ، أتبع ذلك ببيان نعمه عليهم في إنزال المطر ، فقال ـ تعالى ـ :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١)

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٥٣.

(٢) سورة الإنسان الآيتان ٢ ، ٣.

(٣) سورة يونس الآية ٩٩.

١١٢

والمراد بالسماء : السحاب المرتفع في طبقات الجو ، حيث ينزل منه الماء بقدرة الله ـ تعالى ـ والشراب : اسم للمشروب الذي يشربه الإنسان والحيوان وغيرهما.

والشجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة على سبيل الحقيقة ، ويطلق على العشب والكلأ على سبيل المجاز ، وهو المراد هنا ، لأنه هو الذي ترعاه الأنعام.

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ (وَمِنْهُ شَجَرٌ) يعود على الماء ، باعتباره السبب في وجود الشجر.

قال الآلوسى : قوله ـ سبحانه ـ «ومنه شجر» أى : نبات مطلقا سواء أكان له ساق أم لا ، كما نقل عن الزجاج ، وهو حقيقة في الأول ، ومن استعماله في الثاني قول الراجز :

نعلفها اللحم إذا عز الشجر

والخيل في إطعامها اللحم ضرر

فإنه قيل : الشجر فيه بمعنى الكلأ ، لأنه الذي يعلف ..» (١).

وقوله : «تسيمون» من الإسامة ، بمعنى إطلاق الإبل وغيرها للسوم ، أى الرعي. يقال : أسام فلان إبله للرعي أسامة ، إذا أخرجها إلى المرعى. وسامت هي تسوم سوما ، إذا رعت حيث شاءت وأصل السوم : الإبعاد في المرعى.

والمعنى : هو ـ سبحانه ـ وحده وليس غيره : الذي غمركم بنعمه ، حيث أنزل لكم من السحاب ماء كثيرا ، هذا الماء الكثير المنزل بقدر معلوم ، منه تأخذون ما تشربونه وما تنتفعون في حوائجكم الأخرى ، وبسببه تخرج المراعى التي ترعون فيها دوابكم.

فالآية الكريمة دليل آخر من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وبديع خلقه ، حيث أنزل ـ سبحانه ـ المطر من السماء ، ولو شاء لأمسكه ، أو لأنزله غير صالح للشراب.

قال ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٢).

وأتى ـ سبحانه ـ بلفظ «في» المفيدة للظرفية ، في قوله ـ تعالى ـ (فِيهِ تُسِيمُونَ) ؛ للإشارة إلى أن الرعي في هذا الشجر ، قد يكون عن طريق أكل الدواب منه ، وقد يكون عن طريق أكل ما تحته من الأعشاب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ..) تفصيل لأهم منافع الماء.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٠٥.

(٢) سورة الواقعة الآيات ٦٨ ـ ٧٠.

١١٣

أى : يخرج لكم من الأرض ، بسبب الماء الذي أنزله عليها من السماء «الزرع» الذي هو أصل أغذيتكم ، وعماد معاشكم ، كالقمح والشعير وغيرهما «والزيتون» الذي تستعملونه إداما في أغذيتكم «والنخيل والأعناب» اللذين فيهما الكثير من الفوائد ، ومن التلذذ عند أكل ثمارهما.

وأخرج لكم ـ أيضا ـ بسبب هذا الماء «من كل الثمرات» التي تشتهونها وتنتفعون بها ، والتي تختلف في أنواعها ، وفي مذاقها ، وفي روائحها ، وفي ألوانها ، مع أن الماء الذي سقيت به واحد ، والأرض التي نبتت فيها متجاورة.

ولا شك أن في هذا الإنبات بتلك الطريقة ، أكبر دليل على قدرة الله ـ تعالى ـ. لأنه لا يقدر على ذلك سواء ـ سبحانه ـ.

وأسند ـ سبحانه ـ الإنبات إليه فقال : «ينبت لكم به ...» ؛ لأنه الفاعل الحقيقي لهذا الإنبات والإخراج للزروع من الأرض : أما غيره ـ سبحانه ـ فيلقى الحب في الأرض ، ويرجو الثمار والإنبات منه ـ عزوجل ـ.

قال ـ تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢).

وقال ـ عزوجل ـ : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٣).

وختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) للحض على التفكر والتأمل في عظيم قدرته ـ سبحانه ـ حتى يصل المتأمل إلى إخلاص العبادة له ـ عزوجل.

أى : إن في ذلك المذكور ، من إنزال الماء من السماء ، وإنبات الزروع والثمار بسببه ، لآية

__________________

(١) سورة الواقعة الآيات ٦٣ ـ ٧٠.

(٢) سورة الرعد الآية ٤.

(٣) سورة النمل الآية ٦٠.

١١٤

باهرة ، ودلالة عظيمة ، على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، لقوم يحسنون التفكير ، ويجيدون التأمل في خلقه ، أما الذين لا يحسنون التفكير والتأمل ، فهم كالأنعام بل هم أضل.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقال ـ سبحانه ـ : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأن من تفكر في أن الحبة والنواة ، تقع في الأرض ، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أسفلها ، فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ...

من تفكر في ذلك علم أن من هذه آثاره وأفعاله ، لا يمكن أن يشبهه غيره في صفة من صفات الكمال ، فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة.

وحيث كان الاستدلال بما ذكر ، مشتملا على أمر خفى محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ، ختم ـ سبحانه ـ الآية بالتفكر (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ دلائل أخرى مما خلق لنفع الإنسان ، تدل على وحدانيته وقدرته ، فقال ـ تعالى :

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣)

وقوله «سخر» من التسخير بمعنى التذليل والتكليف ، يقال. سخر فلان فلانا تسخيرا ، إذا كلفه عملا بلا أجرة ، والمراد به هنا : الإعداد والتهيئة لما يراد الانتفاع به أى : ومن آياته سبحانه الدالة على وحدانيته وقدرته ، أنه «سخر لكم الليل والنهار» يتعاقبان فيكم لتسكنوا في الليل ، ولتبتغوا الرزق بالنهار.

وأنه ـ سبحانه ـ سخر لكم «الشمس والقمر» يدأبان في سيرهما بدون كلل أو

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٠٨.

١١٥

اضطراب ، بل يسيران من أجل منفعتكم ومصلحتكم بنظام ثابت ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١).

وأنه ـ سبحانه ـ أوجد النجوم مسخرات بأمره وإذنه ، لكي تهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.

هذا وقد قرأ جمهور القراء هذه الأسماء : الليل والنهار ... إلخ بالنصب على المفعولية لفعل «سخر» كما قرأ الجمهور. أيضا. «مسخرات» بالنصب على الحالية.

وقرأ ابن عامر : «والشمس والقمر والنجوم» بالرفع على الابتداء ، وقرأ ـ أيضا قوله ـ «مسخرات ، بالرفع على أنه خبر عنها.

وقرأ حفص برفع النجوم ومسخرات ، على أنهما مبتدأ وخبر : أما بقية الأسماء السابقة فقرأها بالنصب.

وقوله «بأمره» متعلق بمسخرات. والمراد بأمره : إرادته ومشيئته وتدبيره ، الجاري على هذا الكون وفق حكمته وإذنه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

أى : إن في ذلك المذكور من تسخير الليل والنهار وغيرهما لمنفعتكم ومصلحتكم ـ يا بنى آدم ـ لآيات بينات ، ودلائل واضحات ، على وجوب العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، لقوم يعقلون نعم الله ـ تعالى ـ ، ويستدلون بها على وحدانيته ـ سبحانه ـ وقدرته.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) .. معطوف على ما قبله من النعم وأصل الذرأ : الخلق بالتناسل والتوالد عن طريق الحمل والتفريخ.

قال القرطبي : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا ، أى خلقهم ، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين ، والجمع الذراري ، ويقال : أنمى الله ذرأك وذروك أى : ذريتك.

__________________

(١) سورة يس الآية ٤٠.

(٢) سورة الأعراف الآية ٥٤.

١١٦

والمعنى : وسخر لكم ـ أيضا ـ ما أوجده في الأرض من أجل منفعتكم من عجائب الأمور ، ومختلف الأشياء ، من حيوان ونبات ، ومعادن مختلفة الألوان والأجناس والخواص.

ولا شك أن في اختلاف الألوان والمناظر والهيئات وغير ذلك ، فيه الدلالة الواضحة على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى أنه الخالق لكل شيء.

قال ـ تعالى ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ...) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أى : إن في ذلك الذي بيناه لكم ، لآية واضحة على قدرة الله ـ تعالى ـ لقوم يعتبرون ، ويتذكرون آلاء الله ونعمه ، فيشكرونه عليها ، ويخلصون له العبادة.

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ جملة من نعمه التي أوجدها لعباده في البر ، أتبع ذلك ببيان جانب من نعمه عليهم عن طريق خلقه للبحر ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٤)

ففي هذه الآية الكريمة بين ـ سبحانه ـ أربع نعم على عباده في تسخير البحر لهم.

أما النعمة الأولى فتتجلى في قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا).

والطري : ضد اليابس ، والمصدر الطراوة ، وفعله طرو بوزن خشن وقرب.

أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي ذلل لكم البحر ، بحيث مكنكم من الانتفاع به ، وأقدركم على الركوب عليه ، وعلى الغوص فيه ، وعلى الصيد منه ، لتأكلوا من أسماكه لحما. طريا غضا شهيا.

__________________

(١) سورة الروم الآية ٢٢.

١١٧

ووصف ـ سبحانه ـ لحم أسماكه بالطراوة ، لأن أكله في هذه الحالة أكثر فائدة ، وألذ مذاقا ، فالمنة بأكله على هذه الحالة أتم وأكمل.

وقال بعض العلماء : وفي وصفه بالطراوة ، تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير ، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ، فسبحان الخبير بخلقه ، ومعرفته ما يضر استعماله وما ينفع ، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته ـ تعالى ـ في خلقه الحلو الطري في الماء المر الذي لا يشرب.

وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء ، وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نضب عنه الماء فكلوا ، وما لفظه فكلوا ، وما طفا فلا تأكلوا».

فالمراد من ميتة البحر في الحديث : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه البحر لا ما مات فيه من غير آفة (١).

وقوله «وتستخرجوا منه حليه تلبسونها» نعمة ثانية من نعم الله ـ تعالى ـ للإنسان في تسخير البحر له.

والحلية ـ بالكسر ـ اسم لما يتحلى به الناس. وجمعها حلى وحلى ـ بضم الحاء وكسرها ـ يقال : تحلت المرأة إذا لبست الحلي ، أى : ومن فوائد تسخير البحر لكم أنه سبحانه أقدركم على الغوص فيه ، لتستخرجوا منه ما يتحلى به نساؤكم كاللؤلؤ والمرجان وما يشبههما.

قال ـ تعالى ـ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢).

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ تستخرجوا ..» يشير إلى كثرة الإخراج فالسين والتاء للتأكيد ، مثل استجاب بمعنى أجاب. كما يشير إلى أن من الواجب على المسلمين أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما في البحر من كنوز وألا يتركوا ذلك لأعدائهم.

وأسند ـ سبحانه ـ لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور فقال : «تلبسونها» على سبيل التغليب ، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء في معظم الأحيان.

__________________

(١) تفسير المراغي ج ١٤ ص ٦١.

(٢) سورة الرحمن الآيات ١٩ ، ٢٢.

١١٨

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله «تلبسونها» أى : تلبسها نساؤكم ، وأسند الفعل إلى ضمير الرجال ، لاختلاطهم بهم ، وكونهم متبوعين ، أو لأنهم سبب لتزينهن ، فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال ، فكأن ذلك زينتهم ولباسهم.

قال القرطبي : «امتن ، الله ـ تعالى ـ على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنما حرم الله ـ تعالى ـ على الرجال الذهب والحرير ، ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة».

وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ خاتما من ذهب .. ، فاتخذ الناس مثله ، فرمى به وقال : «لا ألبسه أبدا». ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتم الفضة ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) نعمة ثالثة من نعمه ـ تعالى ـ في تسخير البحر للناس وأصل المخر : الشق. يقال : مخر الماء الأرض إذا شقها. ويقال مخرت السفينة تمخر ، وتمخر ، مخرا ، ومخورا ، إذا جرت في الماء وأخذت تشقه بمقدمتها.

أى : وترى ـ أيها العاقل ـ بعينيك السفن وهي تشق البحر بسرعة ، متجهة من بلد إلى بلد ، ومن قطر إلى آخر ، لا تحرسها إلا رعاية الله تعالى وقدرته ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٢).

والتعبير بقوله : «وترى ..» لاستحضار الحالة العجيبة عن طريق الرؤية البصرية ، وهي حالة تدل على قدرة الله تعالى ورحمته بعباده. حيث سخر لهم السفن لتجرى في البحر بأمره.

ثم بين ـ سبحانه ـ النعمة الرابعة من نعم تسخير البحر للناس فقال تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) والابتغاء : الطلب للشيء عن رغبة ومحبة.

أى : وسخر لكم البحر ـ أيضا ـ لتستخرجوا منه الحلية ، ولتطلبوا فضل الله تعالى

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٨٧.

(٢) سورة يس الآيات ٤١ ـ ٤٤.

١١٩

ورزقه ، عن طريق التجارات والأسفار على ظهر البحر من مكان إلى آخر. سعيا وراء الربح.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بحض الناس على شكره على نعمه فقال (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أى : ولعلكم تشكرون الله ـ تعالى ـ على آلائه ، حيث سخر لكم البحر ، وجعله وسيلة من وسائل منفعتكم ومعاشكم.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن فوائد الجبال والأنهار والسبل والنجوم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١٦)

ولفظ : «رواسى» جمع راس من الرسو ـ بفتح الراء وسكون السين ـ بمعنى الثبات والتمكن في المكان ، يقال رسا الشيء يرسو إذا ثبت. وهو صفة لموصوف محذوف. أى : جبالا رواسى.

و «تميد» أى تضطرب وتميل. يقال : ماد الشيء يميد ميدا ، إذا تحرك ، ومادت الأغصان إذا تمايلت أى : وألقى ـ سبحانه ـ في الأرض جبالا ثوابت لكي تقر وتثبت ولا تضطرب.

فقوله «أن تميد بكم» تعليل لإلقاء الجبال في الأرض.

قال القرطبي : وروى الترمذي بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتضطرب ، فخلق الجبال عليها فاستقرت ، فعجبت الملائكة من شدة الجبال. قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم ، الحديد. قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال نعم النار. قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم الماء ، قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال نعم الريح. قالوا يا رب : فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال نعم ، ابن آدم إذا تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٩٠.

١٢٠