التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

عليه وسلم ـ ثم يحدثون به المشركين .. (١).

قال ابن كثير : والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص ؛ فإن الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو المعتمد عند الجماهير من العلماء.

وقوله (لا تَخُونُوا) من الخون بمعنى النقص. يقال خونه تخوينا أى : نسبه إلى الخيانة ونقصه.

قال صاحب الكشاف : معنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ؛ لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه. وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب ـ والكرب حبل يشد في رأس الدلو ـ وخان المشتار السبب. والمشتار مجتنى العسل والسبب الحبل ـ لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له» (٢).

والمقصود بخيانة الله : ترك فرائضه وأوامره التي كلف العباد بها ، وانتهاك حرماته التي نهى عن الاقتراب منها.

والمقصود بخيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إهمال سننه التي جاء بها وأمرنا بالتقيد بتعاليمها.

والمقصود بالأمانات : الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين غيرهم مما يجب أن يصان ويحفظ.

والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ) بأن تهملوا فرائضه ، وتتعدوا حدوده ، ولا تخونوا (الرَّسُولَ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن تتركوا سنته وتنصرفوا إلى غيرها ، وتخالفوا ما أمركم به وتجترحوا ما نهاكم عنه ، ولا تخونوا (أَماناتِكُمْ) بأن تفشوا الأسرار التي بينكم ، وتنقضوا العهود التي تعاهدتم على الوفاء بها ، وتنكروا الودائع التي أودعها لديكم غيركم ، وتستبيحوا ما يجب حفظه من سائر الحقوق المادية والمعنوية ، فقوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) معطوف على قوله (لا تَخُونُوا).

وأعاد النهى للإشعار بأن كل واحد من المنهي عنه مقصود بذاته اهتماما به.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الواو للحال ، والمفعول محذوف. أى. والحال أنكم تعلمون سوء عاقبة الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤتمن عليها ، فعليكم أن تتجنبوا الخيانة في جميع صورها ؛ لتنالوا رضى الله ومثوبته.

__________________

(١) راجع تفسير بن جرير ج ٩ ص ٢٢١. وتفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٥١ وابن كثير ج ٢ ص ٣٠٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢١٣.

٨١

ولما كان حب الأموال والأولاد والاشتغال بهم من أهم دواعي الإقدام على الخيانة ، نبه ـ سبحانه ـ إلى ذلك فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

أى : واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، أى امتحان واختبار لكم من الله ـ تعالى ـ ليتبين قوى الإيمان من ضعيفه.

أما قوى الإيمان فلا يشغله ماله وولده عن طاعة الله ، وأما ضعيف الإيمان فيشغله ذلك عن طاعة الله ، ويجعله يعيش حياته عبدا لأمواله ، ومطيعا لمطالب أولاده حتى ولو كانت هذه الطاعة متنافية مع تعاليم دينه وآدابه.

وقال صاحب المنار : الفتنة هي الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه ، أو قبوله أو إنكاره.

وأموال الإنسان عليها مدار حياته ، وتحصيل رغائبه وشهواته ، ودفع كثير من المكاره عنه ، فهو يتكلف في طلبها المشاق ، ويركب الصعاب ، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ، ويرغبه في القصد والاعتدال في إنفاقها.

وأما الأولاد فحبهم ـ كما يقول الأستاذ الامام ـ ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء ، فيحملهم على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم.

روى أبو ليلى من حديث أبى سعيد الخدري مرفوعا «الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة». فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام ، وعلى الجبن ، وعلى البخل ، وعلى الحزن.

فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى يكسب المال من وجوهه الحلال ، وإنفاقه في وجوهه المشروعة .. واتقاء خطر الفتنة الثانية باتباع ما أوجبه الله على الآباء من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل ، وتجنبهم أسباب المعاصي والرذائل» (١).

وقوله (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) تذييل قصد به ترغيب المؤمنين في طاعة الله ، بعد أن حذرهم من فتنة المال والولد.

أى : واعلموا أن الله عنده أجر عظيم لمن آثر طاعته ورضاه على جمع المال وحب الأولاد ، فكونوا ـ أيها المؤمنون ـ من حزب المؤثرين لحب الله على حب الأموال والأولاد لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٥٩٤ ـ بتصرف وتلخيص.

٨٢

ثم ختم سبحانه ـ نداءاته للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبل الخير والفلاح فقال ـ سبحانه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

والفرقان في كلام العرب ـ كما يقول ابن جرير ـ مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفرقانا ـ أى أفرق وأفصل بينهما.

وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عند تأويل قوله (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فقال بعضهم : يجعل لكم مخرجا. وقال بعضهم نجاة ، وقال بعضهم فصلا وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم .. وكل ذلك متقارب المعنى ، وإن اختلفت العبارة ..» (١).

وقال الآلوسى : (فُرْقاناً) أى : هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل ـ كما روى عن ابن جريج وابن زيد ـ أو نصرا يفرق به بين الحق والباطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ـ كما قال الفراء ـ أو نجاة في الدارين ـ كما هو كلام السدى ـ أو مخرجا من الشبهات ـ كما جاء عن مقاتل ـ أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم ـ كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق ـ من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أى الصبح. وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين. وجوز البعض من المحققين الجمع بينها» (٢).

ونحن مع هذا البعض من المحققين في جواز الجمع بين هذه المعاني فيكون المعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وتطيعوه في السر والعلن (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أى هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ونصرا تعلو به كلمتكم على كلمة أعدائكم ، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس ، ونجاة مما تخافون ، .. وفضلا عن كل ذلك فإنه ـ سبحانه ـ يكفر عنكم سيئاتكم ، أى يسترها عليكم في الدنيا ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أى : ويغفر لكم يوم القيامة ما فرط منكم من ذنوب بلطفه وإحسانه وقوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل قصد به التعليل لما قبله ، والتنبيه على أن ما وعد به ـ سبحانه ـ المؤمنين على تقواهم إنما هو تفضل منه لهم ، فهو ـ سبحانه ـ صاحب العطاء الجزيل ، والخير العميم. لمن أطاعه واتقاه ، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه.

فأنت ترى أنه ـ سبحانه ـ قد رتب على تقواه وعلى الخوف منه نعما عظمى ، ومننا كبرى ، وأى نعم يتطلع إليها المؤمنون أفضل من هداية القلوب وتكفير الخطايا والذنوب؟.

اللهم لا تحرمنا من هذه النعم والمنن بفضلك وإحسانك ، فأنت وحدك صاحب العطاء العميم ، وأنت وحدك ذو الفضل العظيم ، وأنت وحدك على كل شيء قدير.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٢٤ ـ بتصرف وتلخيص.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٩٦.

٨٣

وبعد : فنحن ـ أخى القارئ ـ لو استعرضنا سورة الأنفال من مطلعها إلى هنا ، لرأيناها تحدثنا ـ على سبيل الإجمال ـ عن :

(أ) أحكام الأنفال ، وأن مرد الحكم فيها إلى الله ورسوله ..

(ب) وعن الصفات الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون لينالوا مغفرة الله ورضوانه.

(ج) وعن أحوال بعض المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكانوا يفضلون العير على النفير. ولكن ـ الله تعالى ـ بين لهم أن الخير فيما قدره لا فيما يفضلون.

(د) وعن النعم والبشارات وأسباب النصر التي أمد الله بها المؤمنين في بدر والتي كان من آثارها ارتفاع شأنهم ، واندحار شأن أعدائهم.

(ه) وعن التوجيهات الحكيمة التي أعقبت تلك النداءات الخمسة التي نادى الله بها المؤمنين ، فقد أمرهم ـ سبحانه ـ بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبالاستجابة السريعة للحق الذي جاءهم به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ .. ونهتهم عن التولي يوم الزحف ؛ وعن التشبه بمن قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، وعن إقرار المنكرات والبدع والرضا بها ، وعن خيانة الله والرسول ، وعن خيانة الأمانات التي تجب صيانتها والمحافظة عليها.

ووعدهم ـ سبحانه ـ بهداية القلوب ، وتكفير الخطايا والذنوب ، متى اتقوه ووقفوا عند حدوده.

(و) والآن ، وبعد هذا التوجيه الحكيم ، والتأديب القويم ، والتعليم النافع والتذكير بالنعم ، والتحذير من النقم .. ما ذا نرى؟

نرى السورة الكريمة تأخذ في تذكير المؤمنين بجوانب من جرائم أعدائهم فتقص عليهم ما كان من هؤلاء الأعداء من تآمر على حياة رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تهكم بالقرآن الكريم وادعاء أنهم في استطاعتهم أن يأتوا بمثله لو شاءوا ، ومن استهزاء بتعاليم الإسلام ، وسخرية بشعائره وعباداته ، ومن إنفاق لأموالهم ليصدوا الناس عن الطريق للحق ، ومن إصرار على العناد والجحود جعلهم يستعجلون العذاب.

ومع كل هذا فالسورة الكريمة تفتح الباب في وجوه هؤلاء الجاحدين المعاندين ، وتأمر المؤمنين أن ينصحوهم بالدخول في دين الله .. فإذا لم يستجيبوا لنصحهم فعليهم أن يقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

استمع ـ أخى القارئ ـ بتدبر إلى الآيات التي تحكى كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

٨٤

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ

٨٥

كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٤٠)

قال ابن كثير : عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أنه قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ـ في شأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر ، وأن غيرهم قد آمن به ـ فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم بل أخرجوه. ثم اتفقوا أخيرا على قتله ـ ، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك؟ قال : لا أدرى. فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال.

وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية ، إلا أننا نكتفي بهذه الرواية ، لإفادتها بالمطلوب في موضوعنا ، ولأن غيرها قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين ، كما أنكرها ابن كثير نفسه (١).

وقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ ..) تذكير من الله ـ تعالى ـ لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم ، حيث نجى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكر المشركين حين تآمروا على قتله وهو بينهم بمكة.

قال ابن جرير : أنزل الله على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد قدومه المدينة سورة الأنفال ، يذكره نعمه عليه ـ ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) الآية (٢).

وقوله (يَمْكُرُ) من المكر ، وهو ـ كما يقول الراغب ـ صرف الغير عما يقصده بحيلة

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٣ وتفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٢٦.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٢٨.

٨٦

وذلك ضربان : مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في الأمرين : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١).

وقوله : «ليثبتوك» أى ليحبسوك. يقال أثبته إذا حبسته.

والمعنى : واذكر ـ يا محمد ـ وقت أن نجيتك من مكر أعدائك ، حين تآمروا عليك وأنت بين أظهرهم في مكة ، لكي (لِيُثْبِتُوكَ) أى : يحبسوك في دارك ، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن دعوتهم إلى الدين الحق (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب ، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة .. (أَوْ يُخْرِجُوكَ) أى : من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك.

وقوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) بيان لموضع النعمة والمنة ، أى : والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السيئ ، والله ـ تعالى ـ يرد مكرهم في نحورهم ، ويحبط كيدهم ، ويخيب سعيهم ، ويعاقب عليه عقابا شديدا ، ويدبر أمرك وأمر أتباعك ، ويحفظكم من شرورهم ، فهو ـ سبحانه ـ أقوى الماكرين. وأعظمهم تأثيرا ، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع.

قال الآلوسى : قوله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) أى : برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم ، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد.

(وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره ـ سبحانه ـ. وإطلاق هذا المركب الإضافى عليه ـ تعالى ـ إن كان باعتبار أن مكره ـ سبحانه ـ أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل ، لأن لمكر الغير ـ أيضا ـ نفوذا أو تأثيرا في الجملة .. وإن كان باعتبار أنه ـ سبحانه ـ لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به ، فلا شركة لمكر الغير فيه ، وتكون الإضافة حينئذ للاختصاص ، لانتفاء المشاركة ..» (٢).

هذا والصورة التي يرسمها قوله ـ تعالى ـ : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) صورة عميقة التأثير ، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون ، والله من روائهم محيط ، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٤٧١ للراغب الأصفهاني ـ بتصريف يسير.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٩٨.

٨٧

إنها صورة ساخرة ، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة .. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة القادرة .. قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شيء محيط؟

والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ، فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور» (١).

ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال ـ تعالى ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وقد ذكر كثير من المفسرين أن القائل لهذا القول : النضر بن الحارث ؛ فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس فأحضر منها قصصا عن ملوكهم .. ولما قدم مكة ووجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن قال للمشركين : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من مجلس ، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم ، وغيرهم ثم قال : أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر ، فقد أسره المقداد بن عمرو ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضرب عنقه وقال فيه : «إنه كان يقول في كتاب الله ـ عزوجل ـ ما يقول» (٢).

وأسند ـ سبحانه ـ قول النضر إلى جميع المشركين ، لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية.

والأساطير ـ كما يقول ابن جرير ـ : جمع أسطر ، وهو جمع الجمع ، لأن واحد الأسطر سطر. ثم يجمع السطر : أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر. وقد كان بعض أهل العربية يقول : واحد الأساطير : أسطورة ـ كأحاديث وأحدوثة (٣).

والمراد بها : تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى ، والتي يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها.

والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادي في الطغيان ، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله (قالُوا) بصفاقة ووقاحة : (قَدْ سَمِعْنا) أى : قد سمعنا ما قرأته علينا ـ يا محمد ـ ووعيناه (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أى لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) من «في ظلال القرآن» ج ٩ ص ٨٤٤ للأستاذ سيد قطب.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٤ بتصرف وتلخيص.

(٣) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٣١.

٨٨

ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن ـ الذي زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله ـ قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين.

والذي نعتقده أن قولهم هذا ، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كانوا يشنونها على الدعوة الإسلامية ، بقصد تضليل البسطاء ، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب ، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين.

ولكنهم لم يفلحوا. فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة ، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصارا حتى من أعدائه ، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم : «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر .. وما يقول هذا بشر».

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ..) : نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة ، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة ...» (١).

ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركي قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق. فتقول : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ..

وقائل هذا القول : النضر بن الحارث صاحب القول السالف (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ..) ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير.

وأخرج البخاري عن أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام. وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء (٢).

والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق .. بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢١٦ وقوله : «نفاجة» أى : تكبر ، والصلف : الغرور ومجاوزة الحد. والراعدة السحابة وهذا مثل يضرب للرجل يتوعد ثم لا يعمل شيئا.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٩٩.

٨٩

جاءنا به محمد من قرآن وغيره هو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا. أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا.

قال الجمل : قوله : (هُوَ الْحَقَ) قرأ العامة «الحق» بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ (هُوَ) للفصل. وقرأ الأعمش وزيد بن على «الحق» بالرفع ووجهها ظاهر برفع لفظ «هو» على الابتداء ، والحق خبره ، والجملة خبر الكون (١).

وفي إطلاقهم (الْحَقَ) على ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعله من عند الله ؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو المؤمنين.

وأل فيه للعهد : أى الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله.

وقوله : (مِنَ السَّماءِ) متعلق بمحذوف صفة لقوله (حِجارَةً). وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيب الظالمين.

قال صاحب الكشاف : وهذا أسلوب من الجحود بليغ. يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر. ومرادهم نفى كونه حقا ، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا ، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء.

فإن قلت : ما فائدة قوله (مِنَ السَّماءِ) والأمطار لا تكون إلا منها؟

قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل.

وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال الرجل : أجهل من قومي قومك ، فقد قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم إلى الحق : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له (٢).

ولقد كان هذا الرجل حكيما في رده على معاوية ، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه .. ولكن العناد الجامح الذي استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده .. وهكذا النفوس عند ما تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود. وتنقاد للأهواء والشهوات ، وتأخذها العزة بالإثم. ترى الباطل

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٤٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢١٦.

٩٠

حقا ، والحق باطلا ، وتؤثر العذاب وهي سادرة في باطلها ، على الخضوع للحق والمنطق والصواب.

ثم تعقب السورة على هذا الدعاء الغريب الذي حكته عن مشركي مكة ، فتبين الموجب لإمهالهم وعدم إجابة دعائهم فتقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

أى : وما كان الله مريدا لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذيب استئصال وإهلاك ، وأنت مقيم فيهم ـ يا محمد ـ بمكة ، فقد جرت سنته ـ سبحانه ـ ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين.

واللام في قوله (لِيُعَذِّبَهُمْ) لتأكيد النفي ، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة.

والمراد بالاستغفار في قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون.

أى : ما كان الله مريدا لتعذيبهم وأنت فيهم ـ يا محمد ـ وما كان ـ أيضا ـ مريدا تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله ، وهم الذين لم يستطيعوا مغادرتها واللحاق بك في المدينة.

قالوا : ويؤيد أن هذا هو المراد بالاستغفار قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١) أى : لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما.

وأسند ـ سبحانه ـ الاستغفار إلى ضمير الجميع ، لوقوعه فيما بينهم ، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن الكل. كما يقال : قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم.

ويرى بعضهم أن المراد بالاستغفار المذكور : استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم : غفرانك. في طوافهم بالبيت ، أو ما يشبه ذلك من معاني الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب المغفرة منه ـ سبحانه ـ يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة.

ويرجح ابن جرير أن المراد بقوله : (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد ، وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأنى لا أهلك قرية وفيها نبيها ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم

__________________

(١) سورة الفتح الآية ٢٥.

٩١

لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه ، فهم للعذاب مستحقون ...» (١).

قال بعض المحققين : والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.

ثم قال : روى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله على أمانين لأمتى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ...) الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة».

قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله ـ تعالى ـ فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفرونى» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض الجرائم التي ارتكبها المشركون ، والتي تجعلهم مستحقين لعذاب الله ، فقال ـ تعالى ـ : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

والمعنى : وأى شيء يمنع من عذاب مشركي قريش بعد خروجك ـ يا محمد ـ وخروج المؤمنين المستضعفين من بين أظهرهم؟ إنه لا مانع أبدا من وقع العذاب عليهم وقد وجد مقتضية منهم ، حيث اجترحوا من المنكرات والسيئات ما يجعلهم مستحقين للعقاب الشديد.

فالاستفهام في قوله (وَما لَهُمْ ..) إنكارى بمعنى النفي. أى : لا مانع من تعذيب الله لهم وقوله (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) جملة حالية مبينة لجريمة من جرائمهم الشنيعة ، أى : لا مانع يمنع من تعذيبهم : وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالمسجد الحرام ، ومن زيارته. ومن مباشرة عباداتهم عنده ..؟ إنهم لا بد أن يعذبوا على هذه الجرائم.

ولقد أوقع الله بهم عذابه في الدنيا : ومن ذلك ما حدث لهم يوم بدر من قتل صناديدهم ومن أسر وجهائهم.

وأما عذابهم في الآخرة فهو أشد وأبقى من عذابهم في الدنيا.

وقوله : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) رد على ما كانوا يقولونه بالباطل : نحن ولاة البيت الحرام ، فلنا أن نصد من نشاء عن دخوله ، ولنا أن نبيح لمن نشاء دخوله.

أى : إن هؤلاء المشركين ما كانوا في يوم من الأيام أهلا لولاية البيت الحرام بسبب شركهم وعداوتهم ـ لله تعالى ـ رب هذا البيت.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٣٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٦.

٩٢

وقوله (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بيان للمستحقين لولاية البيت الحرام ، بعد نفيها عن المشركين.

أى : إن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا لولاية البيت الحرام ، وليسوا أهلا لأن يكونوا أولياء لله ـ تعالى ـ بسبب كفرهم وجحودهم ، وإنما المستحقون لذلك هم المتقون الذين صانوا أنفسهم عن الكفر وعن الشرك وعن كل ما يغضب الله ، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك بسبب جهلهم وتماديهم في الجحود والضلال.

وقد جاءت جملة (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) مؤكدة بأقوى ألوان التأكيد ، لنفى كل ولاية على البيت الحرام سوى ولايتهم هم.

ونفى ـ سبحانه ـ العلم عن أكثر المشركين ، لأن قلة منهم كانت تعلم أنه لا ولاية لها على المسجد الحرام ولكنها كانت تجحد ذلك عنادا وغرورا. أو أن المراد بالأكثر الكل ، لأن للأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام ، كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ لونا آخر من ألوان ضلال هؤلاء المشركين وجحودهم فقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

قال القرطبي ما ملخصه : قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفقون ويصفرون ، فكان ذلك عبادة في ظنهم.

والمكاء : الصفير. يقال مكا يمكو مكوا ومكاء إذا صفر.

والتصدية : التصفيق. يقال : صدى يصدى تصدية إذا صفق.

قال قتادة : المكاء : ضرب بالأيدى ، والتصدية : الصياح. (١) والمعنى : أن هؤلاء المشركين لم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا تصفيقا وتصفيرا ، وهرجا ومرجا لا وقار فيه ، ولا استشعار لحرمة البيت ، ولا خشوع لجلالة الله ـ تعالى ـ ، وذلك لجهلهم بما يجب عليهم نحو خالقهم ، ولحرصهم على أن يسيئوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن ، أو وهو يطوف بالبيت ، أو وهو يؤدى شيئا من شعائر الإسلام وعباداته. فقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالصياح والغناء ليمنعوا الناس من سماعه. قال ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢).

وروى ابن جرير أن ابن عمر حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده وصفق بيديه.

وقال مجاهد إنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٤٠.

(٢) سورة فصلت ، الآية ٢٦.

٩٣

وعن سعيد بن جبير : كانت قريش يعارضون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطواف يستهزئون به ، يصفرون ويصفقون (١).

وقال الفخر الرازي : فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف جاز استثناؤهما من الصلاة؟

قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء على حسب ، معتقدهم.

الثاني : أن هذا كقولك : وددت الأمير فجعل جفائى صلتي. أى : أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هنا.

الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له. كما تقول العرب :

ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له (٢).

وقوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) وعيد لهم على كفرهم وجحودهم ، واستهزائهم بشعائر الله.

أى : فذوقوا ـ أيها الضالون ـ العذاب الشديد بسبب كفركم وعنادكم واستهزائكم بالحق الذي جاءكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله ، ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ..).

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلّهم ـ أى جيشهم المهزوم ـ إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم في بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا. ففعلوا. قال : ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس ـ أنزل الله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ..) الآية (٣).

وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : نزلت في أبى سفيان بن حرب ، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة ، فقاتل بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٤٠.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٦٠.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٠٧.

٩٤

وروى عن الكلبي والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش .. كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر (١).

قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهي عامة وإن كان سبب نزولها خاصا.

أى : أن الآية الكريمة تتناول بوعيدها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله ، وفي تأييد الباطل ومعارضة الحق.

المعنى : إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) لا في وجوه الخير ، وإنما ينفقونها (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى : ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي يوصلهم إلى رضا الله وإلى طريقه القويم.

واللام في قوله : (لِيَصُدُّوا) لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل ؛ لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي يرونه دينا مخالفا لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته في زعمهم.

وقوله : (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ...) بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة.

أى : فسينفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان ، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم ، لأنهم لم يصلوا ـ ولن يصلوا ـ من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون. وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإذلال في الدنيا ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق لا لأتباع الباطل.

وقوله : (فَسَيُنْفِقُونَها) خبر إن في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط ، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى.

وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء ، إشعار بكمال سوء إنفاقهم ، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في خير أو ما يشبه الخير ، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة.

وجاء العطف بحرف (ثُمَ) للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم. فهم قد قصدوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين .. ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح ، فقد ذهبت أموالهم سدى ، وغلبوا المرة بعد المرة ، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين.

وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٤٥.

٩٥

أى : أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها.

وقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ...) بيان لحكمته ـ سبحانه ـ في هزيمة الكافرين وحشرهم إلى جهنم.

وقوله : (فَيَرْكُمَهُ) أى : فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض يقال : ركم الشيء يركمه ، إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه. وارتكم الشيء وتراكم أى : اجتمع.

والمعنى : أنه ـ سبحانه ـ فعل ما فعل من خذلان الكافرين وحشرهم إلى جهنم ، ومن تأييد المؤمنين وفوزهم برضوانه ، ليتميز الفريق الخبيث وهو فريق الكافرين ، من الفريق الطيب وهو فريق المؤمنين ، فإذا ما تمايزوا جعل ـ سبحانه ـ الفريق الخبيث منضما بعضه على بعض ، فيلقى به في جهنم جزاء خبثه وكفره. واللام في قوله (لِيَمِيزَ) متعلقة بقوله (يُغْلَبُونَ) أو بقوله (يُحْشَرُونَ) ويجوز أن يكون المراد بالخبيث ما أنفقه الكافرون من أموال للصد عن سبيل الله ، وبالطيب ما أنفقه المؤمنون من أموال لإعلاء كلمة الله.

وعليه تكون اللام في قوله (لِيَمِيزَ) متعلقة بقوله : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أى : أنه ـ سبحانه ـ يميز هذه الأموال بعضها من بعض ، ثم يضم الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض ، فيلقى بها وبأصحابها في جهنم.

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) تعبير مؤثر بليغ ، لأنه يصور الفريق الخبيث كأنه لشدة تزاحمه وانضمام بعضه إلى بعض شيء متراكم مهمل ، يقذف به في النار بدون اهتمام أو اعتبار.

واسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يعود إلى هذا الفريق الخبيث ، أى : أولئك الكافرون الذين أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.

وبعد كل هذا التهديد والوعيد للكافرين .. يوجه ـ سبحانه ـ خطابه إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم ، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا ، فيقول ـ سبحانه ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

أى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم ، من أهل مكة وغيرهم ، قل لهم : (إِنْ يَنْتَهُوا) عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من كفرهم ومعاصيهم (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى قتالك ويستمروا في ضلالهم وكفرهم وطغيانهم ، انتقمنا منهم ،

٩٦

ونصرنا المؤمنين عليهم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) على ذلك.

أى : فقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في الأولين ، وسنته لا تتخلف في أنه ـ سبحانه ـ يعذب المكذبين بعد إنذارهم وتبليغهم دعوته ، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم في الأرض. وقد رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم في بدر ، وكيف أهلك ـ سبحانه ـ الكافرين من الأمم قبلهم.

وجواب الشرط لقوله (وَإِنْ يَعُودُوا) محذوف والتقدير : وإن يعودوا ننتقم منهم.

وقوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) تعليل للجواب المحذوف.

قال الآلوسى : قوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أى عادة الله الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء ، من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة. ونظير ذلك قوله ـ سبحانه ـ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) باعتبار جريانها على أيديهم. ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.

والآية حث على الإيمان وترغيب فيه .. واستدل بها على أن الإسلام يجب ما قبله ، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس. وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية ...» (١).

وقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ..) أمر من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين بقتال الكافرين إذا ما استمروا في كفرهم وطغيانهم.

والمعنى : عليكم ـ أيها المؤمنون ـ إذا ما استمر أولئك الكافرون في كفرهم وعدوانهم ، أن تقاتلوهم بشدة وغلظة ، وأن تستمروا في قتالهم حتى تزول صولة الشرك ، وحتى تعيشوا أحرارا في مباشرة تعاليم دينكم ، دون أن يجرأ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم .. وحتى تصير كلمة الذين كفروا هي السفلى.

قال الجمل : وقوله : (وَقاتِلُوهُمْ ..) معطوف على قوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا). ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبي وحده جاء بالإفراد. ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا» (٢).

وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أى : فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم ، فكفوا أيديكم عنهم ، فإن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١ ص ٢٠٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٤٤.

٩٧

وقوله (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بشارة منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين بالنصر والتأييد.

أى : وإن أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الكفر والطغيان (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أى : ناصركم ومعينكم عليهم ، فثقوا بولايته ونصرته ، فهو ـ سبحانه ـ (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لأنه لا يضيع من تولاه ، ولا يهزم من نصره.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد فتحت الباب للكافرين حتى يفيئوا إلى رشدهم ، وينتهوا عن كفرهم ، وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم .. أما إذا استمروا في كفرهم ومعاداتهم للحق ، فقد أمر الله عباده المؤمنين بقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ..

أى أن القتال في الإسلام شرعه الله ـ تعالى ـ من أجل إعلاء كلمته ومن أجل رفع الأذى والفتنة والعدوان عمن يعتنقون دينه وشريعته.

هذا ، وقد ساق ابن كثير عند تفسيره الآيات جملة من الأحاديث التي تشهد بأن القتال في الإسلام إنما شرعه الله ـ تعالى ـ لإعلاء كلمته ، وليس لأجل الغنيمة أو السيطرة على الغير .. وأنه لا يجوز لمسلم أن يقتل إنسانا بعد نطقه بالشهادتين. فقال ـ رحمه‌الله ـ : وقوله ـ تعالى ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ..).

روى البخاري عن ابن عمر أن رجلا جاءه ـ في فتنة ابن الزبير ـ فقال له يا أبا عبد الرحمن ، ألا تصنع ما ذكره الله في كتابه (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...) الآية (١). فما يمنعك من القتال؟ فقال يا ابن أخى لأن أعير بهذه الآية ولا أقاتل ، أحب إلى من أن أعير بالآية التي تقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ..) الآية (٢).

فقال الرجل : فإن الله يقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فقال ابن عمر : «قد فعلنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان الإسلام قليلا ، فكان الرجل يفتن في دينه : إما أن يقتلوه ، وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ..

وعن سعيد بن جبير قال : خرج إلينا ابن عمر فقال له قائل : كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال له ابن عمر وهل تدرى ما الفتنة؟ كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك.

وفي رواية أنه قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله.

__________________

(١) سورة الحجرات : الآية ٩.

(٢) سورة النساء : الآية ٩٣.

٩٨

ثم قال ابن كثير : وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) أى : بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنهم وإن لم تعلموا بواطنهم (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال الرجل لا إله إلا الله ، فضربه فقتله فذكر ذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأسامة : أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ فكيف تصنع «بلا إله إلا الله» يوم القيامة؟ فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذا فقال. هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يقول ويكرر عليه من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ، قال أسامة : حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت إلا يومئذ (١).

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم .. بعد كل ذلك بين ـ سبحانه ـ للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترتب على قتال أعدائهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤١)

وقوله : (غَنِمْتُمْ) من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا ظفر بالشيء قال القرطبي ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي ، ومن ذلك قول الشاعر :

وقد طوفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله ـ تعالى ـ : (غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر.

وسمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا.

فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٨ ـ بتصرف وتلخيص.

٩٩

والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع ، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج الأرضين ، وجزية الجماجم (١).

والمعنى الإجمالي للآية الكريمة : (وَاعْلَمُوا) ـ أيها المسلمون ـ (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أى : ما أخذتموه من الكفار قهرا (فَأَنَّ لِلَّهِ) الذي منه ـ سبحانه ـ النصر المتفرع عليه الغنيمة (خُمُسَهُ) أى خمس ما غنمتموه شكرا له على هذه النعمة (وَلِلرَّسُولِ) الذي هو سبب في هدايتكم (وَلِذِي الْقُرْبى) أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بهم على الراجح بنو هاشم وبنو المطلب.

(وَالْيَتامى) وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا.

(وَالْمَساكِينِ) وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى بلده.

وقوله (وَاعْلَمُوا) معطوف على قوله قبل ذلك (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ..) إلخ وما في قوله : (أَنَّما غَنِمْتُمْ) موصولة والعائد محذوف.

وقوله : (مِنْ شَيْءٍ) بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر.

أى : أن ما غنمتموه من شيء سواء أكان هذا الشيء قليلا أم كثيرا (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ).

وقوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسه والجار والمجرور خبر أن مقدم ، وخمسه اسمها مؤخر. والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول ولذي القربى ... إلخ.

وأعيدت اللام في قوله (وَلِذِي الْقُرْبى) دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمزيد اتصالهم به.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ..) شرط جزاؤه محذوف.

أى : إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أى يوم بدر (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين .. إن كنتم آمنتم بكل ذلك ، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول.

وما أنزله الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر. يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به في بدر.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١. طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٩٦١ م.

١٠٠