التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٩)

قوله ـ سبحانه ـ (زَحْفاً) : مصدر زحف وأصله للصبي ، وهو أن يزحف على استه قبل أن يمشى. ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأنه جسم واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير.

قال الجمل : وفي المصباح : زحف القوم زحفا وزحوفا. ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف مثل فلس وفلوس. ونصب قوله : (زَحْفاً) على أنه حال من المفعول وهو (الَّذِينَ كَفَرُوا) أى إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين نحوكم.

والأدبار : جمع دبر ـ بضمتين ـ وهو الخلف ، ومقابله القبل وهو الأمام ، ويطلق لفظ الدبر على الظهر وهو المراد هنا.

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) زاحفين نحوكم لقتالكم (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أى. فلا تفروا منهم ، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين ، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة ، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا ، ومقبلا غير مدبر.

فالمراد من تولية الأدبار : الانهزام ، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه.

وعدل من لفظ الظهور إلى الأدبار ، تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا منه ، لأن القبل والدبر يكنى بهما عن السوءتين.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين فقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وقوله : (مُتَحَرِّفاً) من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة في القتال وهو منصوب على الحالية.

وقوله (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) من التحيز بمعنى الانضمام. تقول : حزت الشيء أحوزه إذا ضممته إليك. وتحوزت الحية أى انطوت على نفسها.

والفئة : الجماعة من الناس. سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد

٦١

والتناصر. من الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة.

والمعنى : أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين :

الحالة الأولى : أن يكون المؤمن عند توليته الأدبار مائلا عن مكانه إلى مكان آخر أصلح للقتال فيه ، أو أن يكون منعطفا إلى قتال طائفة من الأدبار أهم من الطائفة التي أمامه ، أو أن يوهم عدوه بأنه منهزم أمامه استدراجا له ، ثم يكر عليه فيقتله.

الحالة الثانية : أن يكون في توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال ، حيث إنها في حاجة إليه.

وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها.

وقد توعد ـ سبحانه ـ الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين بقوله : (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

أى : ومن يول الكافرين يوم لقائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله ـ تعالى ـ ومأواه الذي يأوى إليه في الآخرة جهنم وبئس المصير هي.

وقوله : (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ..) جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :

١ ـ وجوب مصابرة العدو ، والثبات في وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه.

قال الآلوسى : في الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز.

أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اجتنبوا السبع الموبقات ـ أى المهلكات ـ قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

ثم قال : وجاء عد ـ التولي يوم الزحف ـ من الكبائر في غير ما حديث (١).

٢ ـ أن الخطاب في الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصا بأهل بدر. قال الفخر الرازي ما ملخصه : اختلف المفسرون في أن هذا الحكم ـ وهو تحريم التولي أمام الزحف ـ هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق؟

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٢٨.

٦٢

فنقل عن أبى سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر. قالوا : والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حاضرا يوم بدر .. وأنه ـ سبحانه ـ شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم.

والقول الثاني : أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاما في جميع الحروب بدليل أن قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) عام فيتناول جميع الصور. أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» (١).

وهذا القول الثاني هو الذي نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان ، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها.

٣ ـ أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين. أى أن تحريم التولي يوم الزحف على غير المتحرف أو المتحيز ثابت لم ينسخ.

وقد رجح ذلك الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه : «سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فقال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك وهي قوله ـ تعالى ـ : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ...) وليس لقوم أن يفروا من مثليهم.

وقال آخرون : بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما.

وأولى التأويلين بالصواب في هذه الآية عندي : قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر. وحكمها ثابت في جميع المؤمنين. وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث كانت من أرض الإسلام ، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما ـ بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما ـ فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.

وإنما قلنا : هي محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا في غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه ، إلا بحجة يجب التسليم لها : من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (٢).

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٠٣.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٠٣.

٦٣

ثم بين لهم ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكرا له ، وطاعة لأمره فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، أى يوم بدر. روى أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صدروا عن بدر.

ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال : قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده ...» (١).

وقال ابن كثير : قال على بن طلحة عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه ـ يعنى يوم بدر ـ فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ، فقال جبريل : «خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم» فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.

وقال السدى : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى يوم بدر «أعطنى حصا من الأرض» فناوله حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ..).

وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه» ، فدخلت في أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٢).

وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله ـ تعالى ـ (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) المقصود به رميه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر ، أو رميه المشركين في غزوة حنين.

قال ابن كثير : وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ... وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٨٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٥.

٦٤

والمعنى : إنكم ـ أيها المؤمنون ـ لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم ، ولكن الله ـ تعالى ـ هو الذي أظفركم بحوله وقوته ، بأن خذلهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر.

والفاء في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ..) يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) لأنه هو الذي أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع.

وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين.

أى : (وَما رَمَيْتَ) بالرعب في قلوب الأعداء (إِذْ رَمَيْتَ) في وجوههم بالحصباء يوم بدر (وَلكِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ هو الذي (رَمى) بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم.

أو المعنى : ما أوصلت الحصباء إلى أعينهم إذ رميتهم بها ، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : يعنى أن الرمية التي رميتها ـ يا محمد ـ لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم .. فأثبت الرمية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله ـ عزوجل ـ ، فكان الله ـ تعالى ـ هو فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا (١).

وقال الآلوسى : واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه ـ تعالى ـ وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإمام : أثبت ـ سبحانه ـ كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم راميا ، ونفى كونه راميا ، فوجب حمله على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمى كسبا ، والله ـ تعالى ـ رمى خلقا (٢).

فإن قيل : لما ذا ذكر مفعول القتل منفيا ومثبتا ولم يذكر للرمي مفعول قط؟

فالجواب ـ كما يقول أبو السعود ـ : «أن المقصود الأصلى بيان حال الرمي نفيا وإثباتا ، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر ، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الأمة الجمة شيء من ذلك» (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) بيان لبعض وجوه حكمته ـ سبحانه ـ في خذلان الكافرين ، ونصر المؤمنين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٠٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٨٥.

(٣) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٢٣.

٦٥

وقوله (لِيُبْلِيَ) من البلاء بمعنى الاختبار. وهو يكون بالنعمة لإظهار الشكر ، كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر. والمراد به هنا : الإحسان والنعمة والعطاء ، ليزداد المؤمنون شكرا لربهم الذي وهبهم ما وهب من نعم.

واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر.

والمعنى ، ولكي يحسن ـ سبحانه ـ إلى عباده المؤمنين ، وينعم عليهم بالنصر والغنائم ، ليزدادوا شكرا له ، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم.

وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل قصد به الحض على طاعة الله ، والتحذير من معصيته ، أى : إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم ، عليم بضمائركم وقلوبكم ، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره.

ثم يقرر ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهي تقوية الحق وتوهين الباطل ، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم فيقول : (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ).

قال الإمام الرازي : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (مُوهِنُ) ـ بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. من التوهين. تقول وهنت الشيء أى ضعفته ـ ، (كَيْدِ) بالنصب على المفعولية. وقرأ حفص عن عاصم (مُوهِنُ كَيْدِ) بالإضافة. وقرأ الباقون (مُوهِنُ) بالتخفيف ، ـ من أوهننه فأنا موهنه بمعنى أضعفته ـ و (كَيْدِ) بالنصب وتوهين الله كيدهم ومكرهم يكون بأشياء منها : إطلاع المؤمنين على عوراتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتفريق كلمتهم ، (١).

واسم الإشارة (ذلِكُمْ) يعود إلى ما سبق من نعمة الإبلاء والقتل والرمي وغير ذلك من النعم. وهو مبتدأ وخبره محذوف ، وقوله : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ ....) معطوف عليه.

المعنى : ذلكم الذي منحته إياكم من العطاء الحسن ، والقتل للمشركين ، والإمداد بالملائكة ، وإنزال الماء عليكم. ذلكم كله نعم منى إليكم ، ويضاف إلى ذلك كله أنّه ـ سبحانه ـ مضعف لكيد الكافرين ومفسد لمكرهم بكم.

قال ابن كثير : وهذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنهم في تبار ودمار» (٢) وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في غزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله .. أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٤١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٦.

٦٦

الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال ـ تعالى ـ : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ، وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم ـ في بدر ـ : اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه ـ أى فأهلكه ـ الغداة. فكان المستفتح (١).

وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين. فقال ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) .. الآية (٢).

قال الراغب : وقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ...) أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم الفتاح أى الحكم .. والفتح إزالة الإغلاق والإشكال ... ويقال : فتح القضية فتاحا. أى فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها. قال ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ). والاستفتاح : الاستنصار ـ أى طلب النصر ـ قال ـ تعالى ـ (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...) (٣).

والمعنى : إن تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل.

فالخطاب مسوق للكافرين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله ـ تعالى ـ القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم.

وقوله : (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أى : وإن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيرا لكم من الكفر ومحاربة الحق.

وقوله : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ...) تحذير لهم من التمادي في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق.

أى : (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وعداوتهم (نَعُدْ)

__________________

(١) نفس المرجع السابق.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٠٨.

(٣) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٣٧٠ ـ بتصرف وتلخيص.

٦٧

عليكم بالهزيمة والذلة. وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم ـ ولو كثرت ـ أن تدفع عنكم شيئا من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم.

أى : وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته.

قال الجمل : «قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح «أن» والباقون بكسرها. فالفتح من أوجه :

أحدها : أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.

والثاني : أن التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف. أى : والأمر أن الله مع المؤمنين.

والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف (١).

هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ..) للمشركين هو رأى جمهور المفسرين.

ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ...) أى تطلبوا ـ أيها المؤمنون ـ النصر على أعدائكم (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم.

(وَإِنْ تَنْتَهُوا) أى عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله ، (فَهُوَ) أى هذا الانتهاء (خَيْرٌ لَكُمْ).

(وَإِنْ تَعُودُوا) إلى المنازعات والتكاسل (نَعُدْ) عليكم بالإنكار وتهييج الأعداء.

(وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئا مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره.

وأن الله ـ تعالى ـ مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له.

والذي يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين .. وأن أبا جهل قال حين التقى القوم :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٣٦.

٦٨

اللهم أينا أقطع للرحم .. فأحنه الغداة. قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ..) (١).

ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ...) للكافرين ، أن بعض المفسرين ـ كابن جرير وابن كثير ـ ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا.

أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة «وقيل» وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ..) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى ...» (٢).

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء .. وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم .. ورغبت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادي في باطلهم وطغيانهم .. وأخبرتهم في ختامها بأن الله ـ تعالى ـ مع المؤمنين بتأييده ونصره.

ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانيا إلى المؤمنين ، أمرتهم بطاعة الله ورسوله ، ونهتهم عن التشبه بالكافرين وأمثالهم من المنافقين.

فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٣)

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٠٨.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٠٨.

٦٩

والمعنى ؛ يا أيها الذين آمنوا حق الإيمان ، أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم ، (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أى ولا تعرضوا عنه ، فإن في إعراضكم عنه خسارة عظيمة لكم في دنياكم وآخرتكم.

قال الآلوسى : «وأعيد الضمير إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن المقصود طاعته ، وذكر طاعة الله ـ تعالى ـ توطئة لطاعته ، وهي مستلزمة لطاعة الله ـ تعالى ـ ، لأنه مبلغ عنه ، فكان الراجع إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالراجع إلى الله ـ تعالى ـ» (١).

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) جملة حالية مسوقة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا ، لا لتقييد النهى عنه بحال السماع.

أى أطيعوا الله ورسوله ـ أيها المؤمنون ـ ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) تأكيد لما قبله ، ونهى لهم عن التشبه بالضالين.

أى أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم عن إخلاص وإذعان ، ولا تقصروا في ذلك في وقت من الأوقات ، وإياكم أن تتشبهوا بأولئك الكافرين والمنافقين الذين ادعوا السماع فقالوا سمعنا ، والحال أنهم لم يسمعوا سماع تدبر واتعاظ ، لأنهم لم يصدقوا ما سمعوه ، ولم يتأثروا به. بل نبذوه وراء ظهورهم.

فالمنفى في قوله ـ تعالى ـ (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع خاص ، وهو سماع التدبر والاتعاظ ، لكنه جيء به على سبيل الإطلاق ، للإشعار بأنهم قد نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا ، بجعل سماعهم بمنزلة العدم ، حيث إنه سماع لا وزن له ، ولا فائدة لهم من ورائه ، مع أنهم لو فتحوا آذانهم وقلوبهم للحق لاستفادوا ، ولكنهم آثروا الغي على الرشد.

ثم وصف ـ سبحانه ـ الكفار والمنافقين وأشباههم وصفا يحمل العقلاء على النفور منهم ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ..).

والدواب : جمع دابة وهي كل ما يدب على الأرض. قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ..) (٢).

قال الجمل : «وإطلاق الدابة على الإنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا ، وفي المصباح : الدابة كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز» (٣).

وقد روى أن هذه الآية نزلت في نفر من بنى عبد الدار ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٧٨.

(٢) سورة النور الآية ٤٥.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٣٦.

٧٠

جاء به محمد ، فقتلوا جميعا يوم بدر.

وهذا لا يمنع أن الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين ، إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.

والمعنى : إن شر ما يدب على الأرض (عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه وقضائه ، هم أولئك (الصُّمُ) عن سماع الحق (الْبُكْمُ) عن النطق به (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أى لا يعقلون التمييز بينه وبين الباطل.

ووصفهم ـ سبحانه ـ بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون ، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس ، بل استعملوها فيما يضر ويؤذى ، فكان وجودها فيهم كعدمها.

وقدم الصمم على البكم ، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له ، كما أن النطق به من فروع سماعه.

وقوله (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) تحقيق لكمال سوء حالهم ، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور .. أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل ، فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال ..

قال صاحب المنار : وقوله : (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أى : فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل والخير والشر ، إذ لو عقلوا لطلبوا ، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا ، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا ، وتذكروا وذكروا .. فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى .. بل هم شر من ذلك لأنهم أعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله ، فهم كما قال الشاعر :

خلقوا ، وما خلقوا لمكرمة

فكأنهم خلقوا وما خلقوا

رزقوا وما رزقوا سماح يد

فكأنهم رزقوا وما رزقوا

ولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة ، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين ردوا دعوة الإسلام ، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ...) بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد ، والضلالة على الهداية.

أى : ولو علم الله ـ تعالى ـ في هؤلاء الصم البكم (خَيْراً) أى : استعدادا للإيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم وتدبر ، أى : لجعلهم سامعين للحق ، ومستجيبين له ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يعلم فيهم شيئا من ذلك ، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم.

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٥٧٨.

٧١

ولذا قال ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أى : ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر ، وهم على هذه الحالة العارية من كل خير لتولوا عما سمعوه من الحق (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبوله جحودا وعنادا.

قال الفخر الرازي : قوله ـ تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أى : أن كل ما كان حاصلا ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده ، وتقرير الكلام : لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم ، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا به ، ولتولوا وهم معرضون» (١).

ثم وجه ـ سبحانه ـ إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سببا في عذابهم ، وذكّرهم بجانب من مننه عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢٦)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ..) هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١١٤.

٧٢

الإجابة .. قال الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

أى : فلم يجبه عند ذاك مجيب.

وكان الإمام القرطبي يرى أن السين والتاء في قوله : «استجيبوا» زائدتان.

ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هي الإجابة بنشاط وحسن استعداد.

وقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) أى لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة.

وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو الجهاد ، أو العلم ... إلخ.

وذلك ، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا.

والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله حق الإيمان ، (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد (إِذا دَعاكُمْ) الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لِما يُحْيِيكُمْ) أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون بالسعادتين : الدنيوية والأخروية.

والضمير في قوله (دَعاكُمْ) يعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة لله ـ تعالى ـ قال ـ سبحانه ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٢).

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له ـ سبحانه ـ.

وقوله : (يَحُولُ) من الحول بين الشيء والشيء ، بمعنى الحجز والفصل بينهما.

قال الراغب : أصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال قيل حال بيني وبينك كذا ... أى فصل ..» (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٨٩.

(٢) سورة النساء. الآية ٨٠.

(٣) المفردات في غريب القرآن ص ١٣٧.

٧٣

هذا ، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :

أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه ـ كما يقول ابن جرير ـ : أنه ـ سبحانه ـ أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعي به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز ـ جل ثناؤه ـ بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان.

وقول من قال : يحول بينه وبين عقله. وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه .. فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له ، (١).

وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى.

وقال ابن كثير ـ بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير ـ : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك).

وروى : الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» (٢).

أما القول الثاني فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه ـ كما يقول الزمخشري ـ «أنه ـ سبحانه ـ يميت المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله ، (٣).

أو ـ كما يقول الفخر الرازي ـ بعبارة أوضح : «أن المراد أنه ـ تعالى ـ يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل. فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ،

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢١٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٨ ـ باختصار يسير ـ

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢١٠.

٧٤

وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال الوادي ، (١).

والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب ، كما قال ـ تعالى ـ في ختامها (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وليست مسوقة لإثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء.

فالمعنى الذي ذكره ابن جرير ـ وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها .. ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشري والرازي ، لأن الآية التي معنا والتي بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة.

والمعنى الإجمالى للآية الكريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، (إِذا دَعاكُمْ) الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لِما يُحْيِيكُمْ) أى لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة (وَاعْلَمُوا) علما يقينا (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أى يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل على كذا قريبا .. ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه .. فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت.

وقوله : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تذبيل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة. والضمير في قوله (وَأَنَّهُ) يعود إلى الله تعالى ـ أو هو ضمير الشأن. أى : وأنه ـ سبحانه ـ إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم ، ويجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب. في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله.

ثم يؤكد ـ سبحانه ـ بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخي في تغيير المنكر فيقول : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٤٨ ـ وقد ذكر بضعة أقوال غير هذا القول فراجعه إن شئت.

٧٥

والفتنة : من الفتن. وأصله ـ كما يقول الراغب ـ : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ، واستعمل في إدخال الإنسان النار.

كما في قوله ـ تعالى ـ (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أى : عذابكم. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله ـ تعالى ـ : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا). وتارة في الاختيار نحو قوله ـ تعالى ـ (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (١).

والمراد بالفتنة هنا العذاب الدنيوي ، كالأمراض ، والقحط ، واضطراب الأحوال ، وتسلط الظلمة ، وعدم الأمان .. وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التي تنزل بالناس بسبب غشيانهم الذنوب ، وإقرارهم للمنكرات ، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

والخطاب لجميع المؤمنين في كل زمان ومكان.

فالمعنى : داوموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط ، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين.

وقوله ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله ـ تعالى ـ.

أى : واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانتهك حرماته.

قال صاحب الكشاف : وقوله (لا تُصِيبَنَ) لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بعد أمر ، أو صفة لفتنة.

فإذا كان جوابا فالمعنى : إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ... وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا ذنبا أو عقابا ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة.

فإن قلت : كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟

قلت : لأن فيه معنى النهى ـ ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة ـ كما إذا قلت : انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) (٢).

وقوله (خَاصَّةً) منصوب على الحال من الفاعل المستكن في قوله (لا تُصِيبَنَ). ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. والتقدير : إصابة خاصة.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٣٧١ للراغب الأصفهاني.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢١١ ـ بتصريف يسير ـ

٧٦

هذا ، وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإقلاع عن المعاصي ، ووجوب محاربة مرتكبيها ، فإن الأمة التي تشيع فيها المعاصي والمظالم والمنكرات .. ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على إزالتها ، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها.

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في حق بعض الصحابة الذين اشتركوا في واقعة الجمل فيما بعد.

ولكن هذا القول غير صحيح ؛ لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعا في كل زمان ومكان ، وتأمرهم بالبعد عن المعاصي والمنكرات التي تفضى بهم إلى العذاب الدنيوي قبل الأخروى. وليست خاصة بفريق دون فريق.

لذا قال ابن كثير : والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم هو الصحيح ، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن.

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عدى بن عميرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ـ تعالى ـ لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».

وروى الإمام أحمد أيضا عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أعز وأكثر ممن يعملون ، ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب» (١).

وقال الإمام القرطبي : قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.

ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث».

وفي صحيح الترمذي : «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه ، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».

وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا ـ أى اقترعوا ـ على سفينة فأصاب بعضهم أغلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا».

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٩ ـ وهناك أحاديث أخرى ذكرها في هذا فراجعها إن شئت.

٧٧

ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة.

قال علماؤنا : فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي ، وانتشار المنكر وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.

روى ابن وهب عن مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.

واحتج بصنيع أبى الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا ، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها.

فإن قيل : فقد قال الله ـ تعالى ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقال : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟

فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ، فإذا سكت عليه فكلهم عاص ؛ هذا بفعله وهذا برضاه ، وقد جعل الله في حكمه الراضي بمنزلة العامل ؛ فانتظم في العقوبة (١).

وقال بعض العلماء : وذكر القسطلاني «أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة ، فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار (٢).

وبعد أن أمر ـ سبحانه ـ المؤمنين بالاستجابة له ونهاهم عن الوقوع في المعاصي .. أخذ في تذكيرهم بجانب من فضله عليهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ...).

أى : (اذْكُرُوا) يا معشر المؤمنين (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أى : وقت أن كنتم قلة مستضعفة في أرض مكة تحت أيدى كفار قريش. أو في أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيركم من الفرس والروم.

وقوله : (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أى : تخافون أن يأخذكم أعداؤكم أخذا سريعا. لقوتهم وضعفكم. يقال خطفه ـ من باب تعب ـ أى : استلبه بسرعة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٩١.

(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٢٩٧٧.

٧٨

والمراد بالتذكر في قوله : (اذْكُرُوا) أن يتنبهوا بعقولهم وقلوبهم إلى نعم الله ، وأن يداوموا على شكرها حتى يزيدهم ـ سبحانه ـ من فضله.

و (إِذْ) ظرف بمعنى وقت. و (أَنْتُمْ) مبتدأ ، أخبر عنه بثلاثة أخبار بعده وهي (قَلِيلٌ) و (مُسْتَضْعَفُونَ) و (تَخافُونَ).

والمراد بالناس : كفار قريش ، أوهم وغيرهم من كفار العرب والفرس والروم.

وقوله : (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بيان لما من به عليهم من نعم بعد أن كانوا محرومين منها.

أى : اذكروا وقت أن كنتم قلة ضعيفة مستضعفة تخشى ـ أن يأخذها أعداؤها أخذا سريعا ، فرفع الله عنكم بفضله هذه الحال ، وأبدلكم خيرا منها ، بأن آواكم إلى المدينة ، وألف بين قلوبكم يا معشر المهاجرين والأنصار (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) في غزوة بدر ، وقذف في قلوب أعدائكم الرعب منكم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أى : ورزقكم من الغنائم التي أحلها لكم بعد أن كانت محرمة على الذين من قبلكم ، كما رزقكم ـ أيضا بكثير من المطاعم والمشارب الطيبة التي لم تكن متوفرة لكم قبل ذلك.

وقوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تذييل قصد به حضهم على مداومة الشكر والطاعة لله ـ عزوجل ـ أى : نقلكم الله ـ تعالى ـ من الشدة إلى الرخاء ، ومن القلة إلى الكثرة ، ومن الضعف إلى القوة ، ومن الخوف إلى الأمن ، ومن الفقر إلى الغنى .. حتى تستمروا على طاعة الله وشكره ، ولا يشغلكم عن ذلك أى شاغل.

قال ابن جرير : قال قتادة في قوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ..) :

«كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا ، وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردى في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس. فبالاسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله ـ تعالى ـ» (١).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاثة قد جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير ... الترغيب

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٢٠.

٧٩

كما في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...).

والترهيب كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...).

والتذكير كما في قوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ...).

وبالترغيب في الطاعات ، وبالترهيب من المعاصي ، وبالتذكير بالنعم ، ينجح الدعاة في دعوتهم إلى الله.

ثم وجه ـ سبحانه ـ بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

روى المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا) روايات منها :

ما جاء عن ابن عباس من أنها نزلت في أبى لبابة حين بعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى بنى قريظة فقالوا له : يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه. أى أن حكم سعد فيكم سيكون الذبح فلا تنزلوا.

قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي ـ عن مكانهما ـ حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله.

ومنها ما جاء عن جابر بن عبد الله من أنها نزلت في منافق كتب إلى أبى سفيان يطلعه على سر من أسرار المسلمين.

ومنها ما جاء عن السدى من أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الشيء عن النبي ـ صلى الله

٨٠