التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

والشوكة في الأصل واحدة الشوك وهو النبات الذي له حد ، ثم استعيرت للشدة والحدة ، ومنه قولهم : رجل شائك السلاح أى : شديد قوى.

والمعنى : واذكروا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن وعدكم الله ـ تعالى ـ على لسان رسوله ـ ـ بأن إحدى الطائفتين : العير أو النفير هي لكم تظفرون بها ، وتتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه ، وأنتم مع ذلك تودون وتتمنون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي العير.

وعبر ـ سبحانه ـ عن وعده لهم بصيغة المضارع (يَعِدُكُمُ) مع أن هذا الوعد كان قبل نزول الآية ، لاستحضار صورة الموعود به في الذهن ، ولمداومة شكره ـ سبحانه ـ على ما وهبهم من نصر وفوز.

وإنما وعدهم ـ سبحانه ـ إحدى الطائفتين على الإبهام مع أنه كان يريد إحداهما وهي النفير ، ليستدرجهم إلى الخروج إلى لقاء العدو حتى ينتصروا عليه ، وبذلك تزول هيبة المشركين من قلوب المؤمنين.

وقوله (إِحْدَى) مفعول ثان ليعد ، وقوله : (أَنَّها لَكُمْ) بدل اشتمال من (إِحْدَى) مبين لكيفية الوعد.

أى : يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم ، ومختصة لكم ، تتسلطون عليها تسلط الملاك ، وتتصرفون فيها كيفما شئتم.

وقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) معطوف على قوله : (يَعِدُكُمُ) أى : وعدكم ـ سبحانه ـ إحدى الطائفتين بدون تحديد لإحداهما ، وأنتم تحبون أن تكون لكم طائفة العير التي لا قتال فيها يذكر ، على طائفة النفير التي تحتاج منكم إلى قتال شديد ، وإلى بذل للمهج والأرواح.

وفي هذه الجملة تعريض بهم ، حيث كرهوا القتال ، وأحبوا المال ، وما هكذا يكون شأن المؤمنين الصادقين.

ثم بين لهم ـ سبحانه ـ أنهم وإن كانوا يريدون العير ، إلا أنه ـ سبحانه ـ يريد لهم النفير ، ليعلو الحق ، ويزهق الباطل ، فقال : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ).

أى : ويريد الله بوعده غير ما أردتم ، (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أى أن يظهر الحق ويعلمه بآياته المنزلة على رسوله ، وبقضائه الذي لا يتخلف ، وأن يستأصل الكافرين ويذلهم ،

٤١

ويقطع دابرهم ؛ أى آخرهم الذي يدبرهم.

والدابر : التابع من الخلف ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ، إذا كان آخرهم في المجيء ، والمراد أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم استئصالا.

وقد هلك في غزوة بدر عدد كبير من صناديد قريش الذين كانوا يحاربون الإسلام ، ويستهزئون بتعاليمه.

قال صاحب الكشاف في معنى الآية الكريمة ، قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ...) يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفساف الأمور ، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم ، والله ـ عزوجل ـ يريد معالى الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة الحق ، وعلو الكلمة والفوز في الدارين ، وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزكم وأذلهم ، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ، ونصرتهم عليهم فقال : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

أى : فعل ما فعل من النصرة والظفر بالأعداء (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أى : ليثبت الدين الحق دين الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أى : ويمحق الدين الباطل وهو ما عليه المشركون من كفر وطغيان.

وقوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) بيان لنفاذ إرادته ـ سبحانه ـ ، أى : اقتضت إرادته أن يعز الدين الحق وهو دين الإسلام ، وأن يمحق ما سواه ، ولو كره المشركون ذلك ؛ لأن كراهيتهم لا وزن لها ، ولا تعويل عليها ..

وبهذا يتبين أنه لا تكرار بين الآيتين السابقتين ، لأن المراد بإحقاق الحق في قوله ـ تعالى ـ (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) : إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المؤمنين للمشركين.

والمراد بإحقاق الحق في قوله بعد ذلك في الآية الثانية (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) : تثبيت دين الإسلام وتقويته وإظهار شريعته ، ويمحق دين الكفر.

فكان ما اشتملت عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد والغاية.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٩.

٤٢

وقد بسط هذا المعنى الإمام الرازي فقال ما ملخصه : فإن قيل : أليس قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) ثم قوله بعد ذلك : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) تكرارا محضا ، فالجواب : ليس هاهنا تكرير ؛ لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثاني ؛ تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين ، كان سببا لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة (الْحَقَ) الذي هو الدين والإيمان (١).

وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حدثتنا في الأربع الآيات الأولى منها عن حكم الله ـ تعالى ـ في غنائم بدر بعد أن اختلف بعض المؤمنين في شأنها ، وعن صفات المؤمنين الصادقين الذين يستحقون من الله ـ تعالى ـ أرفع الدرجات.

ثم حدثتنا في الأربع الآيات الثانية منها عن حال بعض المؤمنين عند ما دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتال أعدائهم ، وعن مجادلتهم له في ذلك ، وعن إيثارهم المال على القتال ، وعن إرادة ما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، وفي ذلك ما فيه من العبر والعظات لقوم يعقلون.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة ، وبعض النعم التي أنعم بها على المؤمنين ، وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها ، والتي كانت تدل دلالة واضحة على أن النصر سيكون للمسلمين فقال ـ تعالى ـ :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٢٨.

٤٣

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(١٤)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الاستغاثة : طلب الغوث والنصر ، يقال : غوّث الرجل ، أى : قال وا غوثاه ، والاسم الغوث والغواث ، واستغاثني فلان فأغثته ، والاسم الغياث (١).

وقوله (مُمِدُّكُمْ) من الإمداد بمعنى الزيادة والإغاثة ، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإمداد في الخير ، وأن يستعمل المد في الشر والذم.

قال ـ تعالى ـ : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (٣).

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (٤).

وقال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٥).

وقوله : (مُرْدِفِينَ) من الإرداف بمعنى التتابع.

قال الفخر الرازي : قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم (مُرْدِفِينَ) ـ بفتح الدال ـ وقرأ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٧٠ ، مطبعة دار الكتب سنة ١٣٨٠ ه‍ سنة ١٩٦٠ م.

(٢) سورة الشعراء ، الآيات ١٣٢ ـ ١٣٤.

(٣) سورة الإسراء ، الآية ٦.

(٤) سورة مريم ، الآية ٧٥.

(٥) سورة البقرة ، الآية ١٥.

٤٤

الباقون بكسرها ، والمعنى على الكسر ، أى : متتابعين يأتى بعضهم في إثر البعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب.

والمعنى على قراءة الفتح ، أى : فعل بهم ذلك ، ومعناه أن الله ـ تعالى ـ أردف المسلمين وأمدهم بهم (١) أى جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم.

والمعنى : اذكروا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن كنتم ـ وأنتم على أبواب بدر ـ (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أى : تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) دعاءكم ، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنى (مُمِدُّكُمْ) أى : معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين ، أى : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أو أن الله ـ تعالى ـ جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم.

ويروى الإمام مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه.

فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله!! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) الآية فأمده الله بالملائكة (٢).

وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال حسبك ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر» (٣).

وروى سعيد بن منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين وتكاثرهم ، وإلى المسلمين فاستقلهم ، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في صلاته : «اللهم لا تودع منى ، اللهم لا تخذلني ، اللهم لا تترنى ـ أى لا تقطعني عن أهلى وأنصارى ـ أو لا تنقصني شيئا من عطائك ـ اللهم أنشدك ما وعدتني ـ أى : أستنجزك وعدك».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٣٠.

(٢) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٥٦. طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٨٠ ه‍ سنة ١٩٦٤ م.

(٣) صحيح البخاري ج ٥ ص ٩٣ ، طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٤٥ ه‍.

٤٥

وروى ابن إسحاق في سيرته أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني (١).

فإن قيل : إن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما ذا أسندها القرآن إلى المؤمنين؟

فالجواب : أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتأسون به في الدعاء ، إلا أن الروايات ذكرت دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه هو قائد المؤمنين ، وهو الذي يحرص الرواة على نقل دعائه ، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه.

وقيل : إن الضمير في قوله (تَسْتَغِيثُونَ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجيء به مجموعا على سبيل التعظيم ، ويعكر على هذا القيل أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه ، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها ـ سبحانه ـ عليهم.

وعبر ـ سبحانه ـ بالمضارع (تَسْتَغِيثُونَ) مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية ـ استحضارا للحال الماضية ، حتى يستمروا على شكرهم لله ، ولذلك عطف عليه.

فاستجاب لكم ، بصيغة الماضي مسايرة للواقع.

وكان العطف بالفاء للإشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغاثتهم وهذا من فضل الله عليهم ، ورحمته بهم ، حيث أجارهم من عدوهم ، ونصرهم عليه ـ مع قلتهم عنه ـ نصرا مؤزرا.

والسين والتاء في قوله : «تستغيثون» للطلب ، أى : تطلبون منه الغوث بالنصر.

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ ذكر هنا أنه أمدهم بألف من الملائكة ، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما؟.

فالجواب أن الله ـ تعالى ـ أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر ، كما بين هنا في سورة الأنفال ، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال ـ تعالى ـ في سورة آل عمران : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ...) ، ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف ، قال ـ تعالى ـ (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (٢).

__________________

(١) تفسير النار ج ٩ ص ٥٥٦ مطبعة دار المنار ، الطبعة الثانية سنة ١٩٦٧ ه‍.

(٢) سورة آل عمران الآيات من ١٢٣ ـ ١٢٥.

٤٦

وقد صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير .. فكان المدد خمسة آلاف ..

واختار ابن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة في الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا ، ولا يثبت شيء من ذلك إلا بنص.

وهذا بناء على أن المدد الذي وعد الله به المؤمنين في آيات سورة آل عمران كان خاصا بغزوة بدر.

أما على الرأى القائل بأن هذا المدد الذي بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال بين ما جاء في السورتين.

وقد بسط القول في هذه المسألة الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه :

«اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين :

أحدهما : أن قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) متعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ).

وهذا قول الحسن والشعبي والربيع بن أنس وغيرهم ..

، فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات ـ التي في سورة آل عمران وبين قوله في سورة الأنفال ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

فالجواب : أن التنصيص على الألف هنا ، لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله ـ تعالى ـ (مُرْدِفِينَ) بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم.

قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف».

والقول الثاني يرى أصحابه أن هذا الوعد ـ وهو قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ). متعلق بقوله ـ قبل ذلك ـ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ). وذلك يوم أحد.

وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم.

لكن قالوا : لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا.

وزاد عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف لقوله ـ تعالى ـ (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا يملك واحد» (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير بتصرف وتلخيص ج ١ ص ٤٠١.

٤٧

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله عليهم ورحمته بهم في هذا الإمداد فقال : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى ، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فالآية الكريمة كلام مستأنف ساقه ـ سبحانه ـ لبيان بعض مظاهر فضله على المؤمنين ، ولبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله وحده حتى يزدادوا ثقة به ، وحتى لا يقنطوا من النصر عند قلة أسبابه.

أى : وما جعل الله ـ تعالى ـ هذا الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم ـ أيها المؤمنون ـ بالنصر على أعدائكم في هذه الغزوة الحاسمة وقوله (بُشْرى) مفعول لأجله مستثنى من أعم العلل.

وقوله : (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) معطوف عليه : أى : ولتسكن بهذا الإمداد قلوبكم ، ويزول عنكم الخوف ، وتهاجموا أعداءكم بنفوس لا يداخلها الإحجام أو التردد ..

ـ وقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، أى : ليس النصر بالملائكة أو غيرهم إلا كائنا من عند الله وحده ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شيء ..

وإن الوسائل مهما عظمت ، والأسباب مهما كثرت ، لا تؤدى إلى النتيجة المطلوبة والغاية المرجوة ، إلا إذا أيدتها إرادة الله وقدرته ورعايته.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أى : غالب لا يقهره شيء ، ولا ينازعه منازع حكيم في تدبيره وأفعاله.

فالجملة الكريمة تذييل قصد به التعليل لما قبله ، وفيه إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات حكمته البالغة ـ سبحانه ـ.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض المنن الأخرى التي منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر فقال : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).

وقوله : (يُغَشِّيكُمُ) بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية من غشاه تغشية أى : غطاه.

والنعاس : أول النوم قبل أن يثقل ، وفعله ـ على الراجح ـ على وزن منع.

والأمنة : مصدر بمعنى الأمن. وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، يقال : أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا بمعنى.

قال الجمل : في قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) ثلاث قراءات سبعية.

٤٨

الأولى : يغشاكم كيلقاكم ، من غشيه إذا أتاه وأصابه وفي المصباح : غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى أتيته ـ وهي قراءة أبى عمرو وابن كثير.

الثانية : يغشيكم ـ بإسكان الغين وكسر الشين ـ من أغشاه. أى أنزله بكم وأوقعه عليكم ـ وهو قراءة نافع ـ

الثالثة : يغشيكم ـ بتشديد الشين وفتح الغين وهي قراءة الباقين ـ من غشاه تغشية بمعنى غطاه.

أى : يغشيكم الله النعاس أى يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم.

والنعاس على القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية ، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية. وقوله : «أمنة» حال أو مفعول لأجله (١).

وقال القرطبي : وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم.

وقال القرطبي : وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم.

وعن على ـ رضى الله عنه ـ قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة يصلى حتى أصبح.

وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : ـ أحدهما : أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.

الثاني : أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم : كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر» (٢).

وقال ابن كثير : وجاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة من النوم. ثم استيقظ متبسما ، فقال : «أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على ثناياه النقع». ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله ـ تعالى ـ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٣).

والمعنى : واذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أيضا ، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم في هذه المعركة ، فألقى الله عليكم النعاس ، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم ، ليكون أمانا لقلوبكم ، وراحة لأبدانكم ، وبشارة خير لكم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٣٠ ـ بتصرف يسير.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٧٢.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩١.

٤٩

هذا ، ومن العلماء الذين تكلموا عن نعمة النعاس التي ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة ، الإمامان الرازي ومحمد عبده.

أما الامام الرازي فقد قال ما ملخصه : واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله ـ تعالى ـ فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا في ذلك وجوها : منها : أن الخانف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا. فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد ، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.

ومنها : أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن معه العدو من معافصتهم ، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإعياء والكلال ، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله ، ولقدروا على دفعه.

ومنها : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز (١).

وقال الإمام محمد عبده : لقد مضت سنة الله في الخلق ، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ، ومصابا عظيما ، فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا. وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد .. ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس : غشيهم فناموا ، واثقين بالله ، مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه .. فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها» (٢).

وبذلك نرى أن النعاس الذي أنزله الله تعالى ـ على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم في بدر كان نعمة عظيمة ومنة جليلة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) معطوف على قوله (يُغَشِّيكُمُ) وهو ـ أى : إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في طياتها نعما وسننا.

أولها : يتجلى في هذه الجملة الكريمة ، أنه ـ سبحانه ـ أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم به من الحدثين : الأصغر والأكبر ، فإن المؤمن ـ كما يقول الإمام الرازي ـ «يكاد

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٣٢.

(٢) تفسير المنار ج ٤ ص ١٨٥.

٥٠

يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب (١).

وثانيها : قوله ـ تعالى ـ : ويذهب عنكم رجز الشيطان».

وأصل الرجز : الاضطراب ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس.

قال الراغب : أصل الرجز الاضطراب ، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز ، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعفها ..» (٢).

والمراد برجز الشيطان : وسوسته للمؤمنين ، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه الظنون السيئة في قلوبهم.

أى : أنه ـ سبحانه ـ أنزل عليكم الماء ـ أيها المؤمنون ـ ليطهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة الشيطان ، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه في نفوسكم الظنون والأوهام .. وهذا هو التطهير الباطني.

وثالثها قوله ـ تعالى ـ : (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أى : وليقويها بالثقة في نصر الله ، وليوطنها على الصبر والطمأنينة .. ولا شك أن وجود الماء في حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم ، وثباتا على ثباتهم ، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان ، بل وإلى الهزيمة المحققة.

وأصل الربط : الشد. ويقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، أى : حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع ، ومنه قولهم : رجل رابط الجأش. أى : ثابت متمكن.

ورابع هذه النعم التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين ، قبل خوضهم معركة بدر ، يتجلى في قوله ـ تعالى ـ (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).

أى : أنه ـ سبحانه ـ أنزل عليهم المطر قبل المعركة لتطهيرهم حسيا ومعنويا ، ولتقويتهم وطمأنينتهم ، وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ في الرمال ، وحتى يسهل المشي عليها ، إذ من المعروف أنه من العسير المشي على الرمال ، فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير فوقها ، وانطفأ غبارها .. فالضمير في قوله (بِهِ) يعود على الماء المنزل من السماء.

قال الزمخشري : ويجوز أن يعود للربط ـ في قوله (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت القدم في مواطن القتال.

هذا ، وقد وردت آثار متعددة توضح ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٣٣.

(٢) المفردات في غريب القرآن ص ١٧٨. الأصفهاني. طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٦١.

٥١

ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعنى حين سار إلى بدر ـ والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ـ أى كثيرة مجتمعة ـ فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم ، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ..» (١).

وعن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه» (٢).

ومن هذا القول المنقول عن عروة ـ رضى الله عنه ـ نرى أن المطر كان خيرا للمسلمين ، وكان شرا على الكافرين ، لأن المسلمين كانوا في مكان يصلحه المطر ، بينما كان المشركون في مكان يؤذيهم فيه المطر.

ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها أثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال ـ سبحانه ـ : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ).

والبنان : ـ كما يقول القرطبي ـ واحده بنانة. وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء .. وهو ـ أى البنان ـ مشتق من قولهم أبّن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء ......

وذكر بعضهم : «أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ..» (٣).

والمعنى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين في بدر (أَنِّي مَعَكُمْ) أى بعونى وتأييدى (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أى فقووا قلوبهم ، واملئوا نفوسهم ثقة بالنصر ، وصححوا نياتهم في القتال حتى تكون غايتهم إعلاء كلمة الله.

قال الآلوسى : والمراد بالتثبيت : الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال. وكان ذلك هنا ـ في قول ـ بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ، ووعدهم

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ١٩٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٣.

(٣) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٧٩.

٥٢

إياهم النصر على أعدائهم ، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم. كروا عليهم.

وقال الزجاج : كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم. وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة ، (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) بشارة عظيمة للمؤمنين.

أى : سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم ـ أيها المؤمنون ـ ، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى تتمكنوا منهم.

والرعب : انزعاج النفس وخوفها من توقع مكروه ، وأصله التقطيع من قولهم : رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا ، كأن الخوف يقطع الفؤاد.

وقوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) الخطاب فيه للمؤمنين ، وقيل ، للملائكة.

والمراد بما فوق الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة. أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق بمعنى : على وهو قول أبى عبيدة.

ويرى صاحب الكشاف أن المراد بما فوق الأعناق : أعالى الأعناق التي هي المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس.

والمراد بالبنان ـ كما سبق أن بينا ـ الأصابع أو مطلق الأطراف.

والمعنى : لقد أعطيتكم ـ أيها المؤمنون ـ من وسائل النصر ما أعطيتكم ، فهاجموا أعدائى وأعداءكم بقوة وغلظة ، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم. واضربوهم على كل أطرافهم حتى تشلوا حركتهم ، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم.

ثم بين سبحانه ـ السبب في تكليفه المؤمنين بمجاهدة الكافرين والإغلاظ عليهم وقتلهم.

فقال ـ تعالى ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

فاسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وأمرهم بضرب الكافرين .. وهو في محل رفع على الابتداء. وقوله (بِأَنَّهُمْ ...) خبره. والباء للسببية.

وقوله : (شَاقُّوا) من المشاقة بمعنى المخالفة والمعاداة مشتقة من الشق ـ أى الجانب ـ ، فكل واحد من المتعاديين أو المتخالفين صار في شق غير شق صاحبه.

والمعنى : ذلك الذي ذكره الله ـ تعالى ـ فيما سبق ، من تأييده للمؤمنين وأمره إياهم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١١٧ ـ بتلخيص يسير ـ

٥٣

بضرب الكافرين ، سببه أن هؤلاء الكافرين (شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أى : عاد وهما وخالفوا شرعهما : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بأن يسير في غير الطريق الذي أمرا به ، (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لهذا المعادى والمخالف.

قال الآلوسى : وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) إما نفس الجزاء ، وقد حذف منه العائد عند من يكتفى ولا يلتزم بالعائد في الربط. أى : شديد العقاب له. أو قائم مقام الجزاء المحذوف أى : يعاقبه الله ـ تعالى ـ فإن الله شديد العقاب. وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهاني. كأنه قيل : ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان ، فله بسبب ذلك عقاب شديد ، فإن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقابا شديدا (١).

ثم يوجه ـ سبحانه ـ خطابه على سبيل الالتفات لأولئك الذين شاقوا الله ورسوله ، متوعدا إياهم بسوء المصير فيقول : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) فاسم الإشارة (ذلِكُمْ) يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وخذلان الكافرين وإنزال العقوبة بهم.

أى ذلكم الذي نزل بكم ـ أيها الكافرون ـ من القتل والأسر في بدر ، هو العقاب المناسب لطغيانكم وشرككم وعنادكم ، فذوقوا آلامه ، وتجرعوا غصصه ، وعيشوا في مذلته.

هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فلكم عذاب النار الذي هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا. فاتركوا الكفر ، وادخلوا في الإيمان لتنجوا من العذاب وتنالوا الثواب.

قال الجمل ما ملخصه وقوله : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ ..) يجوز فيه وجوه من الإعراب أحدها أن يرفع بالابتداء والخبر محذوف أى ذلكم العقاب. الثاني : أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم وعلى هذين الوجهين يكون قوله (فَذُوقُوهُ) لا تعلق له بما قبله من جهة الاعراب فهو مستأنف ، والوقف يتم على قوله : (ذلِكُمْ) الثالث : أن يرتفع بالابتداء. والخبر قوله (فَذُوقُوهُ) وهذا على رأى الأخفش.

وقوله (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) معطوف على قوله (ذلِكُمْ) أو منصوب على أنه مفعول معه ، والمعنى : ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة ، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر ـ بأن قال (فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) ولم يقل فذوقوه وأن لكم ـ للدلالة على أن الكفر سبب للعذاب الآجل أو للجمع بينهما (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٧٩.

(٢) حاشية الجمل الجلالين ج ٩ ص ١٧٩.

٥٤

ومن هذا نرى أن تلك الآيات الكريمة قد ذكّرت المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر بألوان من نعم الله عليهم ، وبأنواع من البشارات التي كانت تدل على أن النصر سيكون لهم.

١ ـ ذكّرتهم بوعد الله لهم بأن إحدى الطائفتين : العير أو النفير ستكون لهم ، وقد وفّى لهم ـ سبحانه ـ بوعده ، حيث جعل النصر لهم ، ومن أوفى بعهده من الله؟.

٢ ـ وذكرتهم بإجابة الله لدعائهم ، حيث أمدهم بألف من الملائكة مردفين.

٣ ـ وذكرتهم بالنعاس الذي ألقاه ـ سبحانه ـ عليهم قبل المعركة ، ليكون أمانا لهم ، وراحة لأبدانهم.

٤ ـ وذكرتهم بنزول المطر عليهم من السماء ليكون طهارة ظاهرية وباطنية لهم ، وليكون طمأنينة لقلوبهم ، وتثبيتا لأقدامهم.

٥ ـ وذكرتهم بأمر الله لملائكته أن يثبتوهم ، بأن يغرسوا في قلوبهم الثقة في نصر الله لهم ، والاستهانة بقوة أعدائهم.

٦ ـ وذكرتهم بما ألقاه ـ سبحانه ـ في قلوب الكافرين من رعب وفزع وجزع ، جعلهم ينهزمون أمامهم.

٧ ـ وذكرتهم بأن ما أصاب أعداء الله وأعداءهم من قتل وأسر وخسران كان سببه كفرهم وعنادهم وإيثارهم سبيل الغي على سبيل الرشد ، وأنهم ـ إذا استمروا في كفرهم ـ فسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأبقى مما نزل بهم في الدنيا.

ولا شك أن هذا التذكير من مقاصده الأساسية حض المؤمنين على الاستجابة لله ولرسوله : وعلى مداومة الشكر لخالقهم ، فهو ـ سبحانه ـ الذي منحهم هذه النعم الجزيلة التي تمكنوا معها من رقاب أعدائهم ، وهو الذي جعلهم يغنمون كل هذه الغنائم بعد أن خرجوا من ديارهم بلا مال ولا ظهر ولا عتاد.

هذا ، ومن الخير قبل أن ننتقل من هذه الآيات إلى غيرها ، أن نتكلم بشيء من التفصيل عن مسألة كثر الحديث عنها.

وهذه المسألة هي : ماذا كانت وظيفة الملائكة في بدر؟ أكانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فحسب أم أنهم بجانب هذا التثبيت قاتلوا فعلا معهم؟ إننا بمطالعتنا لما كتبه الكاتبون عن هذه المسألة نراهم في كتاباتهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

(أ) أما القسم الأول منهم ، فيرى أن الملائكة في غزوة بدر لم تكن وظيفتهم التثبيت فحسب ، وإنما هم قاتلوا مع المؤمنين فعلا ، ويستدلون على ذلك بأدلة من أهمها :

١ ـ ما جاء عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه. إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول : أقدم حيزوم ،

٥٥

فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه. فجاء فحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة (١).

٢ ـ وجاء عنه أنه قال ـ أيضا ـ : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء ، ويوم أحد عمائم خضراء ، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر وكانوا فيما سواه عددا ومددا (٢).

٣ ـ وعن أبى داود المازني قال : تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر. فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.

٤ ـ وروى عن عبد الله بن مسعود أن أبا جهل سأله يوم بدر : من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمعه ولا نرى شخصا؟ فقال : من الملائكة ، فقال له أبو جهل : هم إذن غلبونا لا أنتم (٣).

٥ ـ وقال القرطبي : وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت. ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان شهد بدرا : لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب ـ أى الطريق في الجبل ـ الذي خرجت منه الملائكة. لا أشك ولا أمارى. وعن سهل بن حنيف قال : لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه (٤).

هذه أهم الروايات التي استند إليها العلماء الذين يرون أن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر ، وعلى رأس هؤلاء العلماء القرطبي ، فهو يرى أن هذا هو الصحيح وأنه رأى الجمهور.

(ب) أما القسم الثاني من العلماء فيرى أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين في المعركة ، وتقوية أرواحهم وقلوبهم ، واستدلوا على ذلك بأدلة من أهمها :

١ ـ أنه ليس في الآيات القرآنية التي تحدثت عن غزوة بدر آية واحدة صريحة في أن الملائكة قد قاتلت بالفعل ، وإنما هي صريحة في أن الله ـ تعالى ـ قد أمد المؤمنين بالملائكة ، وجعل هذا الإمداد بشارة لهم.

قال الآلوسى عند تفسيره لقوله ـ تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى ..) وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا ، وهو مذهب لبعضهم. ويشعر ظاهرها بأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرهم بذلك الإمداد ، وفي الأخبار ما يؤيد ذلك. بل جاء في غير ما خبر أن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٧٨.

(٢) معالم التنزيل للبقرى ج ١ ص ١٠.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٠١.

(٤) تفسير القرطبي ج ٤ ص ١٩٢.

٥٦

الصحابة رأوا الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ (١).

٢ ـ أن بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن غزوة بدر قد وضحت وظيفة الملائكة توضيحا تاما ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ).

قال ابن جرير في معنى (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) قووا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال أعدائهم من المشركين ..

وقال في معنى قوله ـ تعالى ـ (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ..) : والصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله أمر المؤمنين معلما إياهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف ، أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدى والأرجل ...» (٢).

وقال الفخر الرازي : قوله (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) فيه وجهان : الأول : أنه أمر للملائكة متصل بقوله ـ تعالى ـ (فَثَبِّتُوا). وقيل : بل أمر للمؤمنين ، وهذا هو الأصح لما بينا أنه ـ تعالى ـ ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة .. (٣).

٣ ـ أن الروايات التي استند إليها من قال بأن الملائكة قاتلت مع المؤمنين في بدر لم ترد في كتب السنة المعتمدة ، بل لم يذكر معظمها الإمام ابن جرير مع علمنا باهتمامه بالمرويات في تفسيره. وفضلا عن ذلك فإن أكثر هذه الروايات لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلت.

فمثلا رواية أبى داود المازني لم تصرح بأن المشرك الذي أراد هو أن يقتله قد قتله ملك. وكذلك الحال بالنسبة لروايتي أبى أسيد وسهيل بن حنيف وأما قول أبى جهل لابن مسعود : «هم إذن غلبونا ـ يعنى الملائكة ـ لا أنتم ، فنرجح أنه من باب التبرير والمغالطة. فهو يريد أن ينفى ـ حقدا منه وعنادا ـ قوة المؤمنين الذين صرعوا أمثاله من الطغاة ..

والخلاصة أن معظم هذه الروايات ـ مع ضعفها ـ لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر.

٤ ـ استبعد كثير من العلماء اشتراك الملائكة في القتال ، ومن هؤلاء العلماء الإمام أبو بكر الأصم فقد قال :

«إن الملك الواحد يكفى في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط. فإذا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٧٤.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ١٩٧ ، ص ١٩٨.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٣٥.

٥٧

حضر هو يوم بدر ـ وجميع الروايات تذكر أنه كان على رأس الملائكة ـ فأى حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ بل أى حاجة حينئذ إلى إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم.

وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا .. وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ، ولم يقل أحد بذلك .. وعلى الثاني كان يلزم جز الرءوس ، وتمزيق البطون ، وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل ، ومثل هذا من أعظم المعجزات ، فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين المسلم والكافر والموافق والمخالف ...» (١).

وقال صاحب المنار : مقتضى السياق أن وحى الله للملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) إلخ.

وقوله ـ تعالى ـ (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ..) إلخ بدء كلام خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون تتمة للبشرى. فيكون الأمر بالضرب موجها إلى المؤمنين قطعا ، وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا لما قبله من الآيات.

ثم قال : وفي كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا ، فهل تعارض هذه البينات النقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن جرير حرية بأن تنقل.

كفانا الله شر هذه الروايات الباطلة التي شوهت التفسير وقلبت الحقائق ، حتى إنها خالفت نص القرآن نفسه فالله ـ تعالى ـ يقول في إمداد الملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ..) وهذه الروايات تقول بل جعله مقاتلة ، وإن هؤلاء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصر المتعددة.

ألا إن في هذا من تعظيم شأن المشركين ، وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم ما لا يصدر عن عاقل ، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند ، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس ذكره الآلوسى وغيره بغير سند. وابن عباس لم يحضر غزوة بدر لأنه كان صغيرا ، فرواياته عنها حتى في الصحيح مرسلة. (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ج ٤ ص ١١٣.

(٢) تفسير المنار ج ٩ ص ٥٦٥.

٥٨

هذه أهم الأدلة التي استند إليها القائلون بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين ، وتقوية عزائمهم. وتصحيح نياتهم.

(ج) أما القسم الثالث من العلماء الذين كتبوا في هذه المسألة ، فمنهم الذي اكتفى بسرد الآراء دون أن يرجح بينها ، ومن هؤلاء صاحب الكشاف ، فقد قال :

فإن قلت : هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت : اختلف فيه. فقيل : نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها على بن أبى طالب في صورة الرجال. فقاتلت. وقيل : قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب .. وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ، ويثبتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم .. (١).

ومنهم الذي يرى أن البحث في تفاصيل أمثال هذه المسائل ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة ، ومن هؤلاء صاحب «في ظلال القرآن» فقد قال ما ملخصه :

«تروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم وطريقة مشاركتهم في المعركة. وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين ، وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين. ونحن ـ على طريقتنا في الظلال ـ نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المتيقنة من قرآن أو سنة ، والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ..) فهذا عددهم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ..) فهذا عملهم. ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية. وبحسبنا أن تعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة ، وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله سبحانه في كلماته .. إننا نؤمن بوجود خلق أسماهم الملائكة ، ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم. فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصرة المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآنى. وقد أوحى إليهم ربهم : أنى معكم. وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا ففعلوا.

ـ لأنهم يفعلون ما يؤمرون ـ ولكننا لا ندري كيف فعلوا.

إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة. وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٠١.

٥٩

الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة ، وعند ما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين ، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول. وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله ـ سبحانه ـ للملائكة في المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة لهى أنفع وأجدى .. (١).

وبعد فهذه أهم الأقوال التي قالها العلماء في مسألة وظيفة الملائكة في بدر ، بسطناها بشيء من التفصيل لتتضح آراؤهم فيها.

والذي نراه بعد كل ذلك : أن أقرب الأقوال إلى الصواب ، هو القول الذي ذهب أصحابه إلى أن الملائكة في بدر لم تقاتل ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت وتقوية عزائم المؤمنين .. وذلك لما سبق أن بيناه من أدلة وحجج ـ والله أعلم بالصواب.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض البشارات والنعم التي ساقها للمؤمنين الذين اشتركوا في بدر. وجه ـ سبحانه ـ نداء إليهم أمرهم فيه بالثبات في وجوه أعدائهم ، وذكرهم بجانب من مننه عليهم.

فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ج ٩ ص ٨١٥ للمرحوم الأستاذ سيد قطب.

٦٠