التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

وأما الطائفة الثانية فهي التي سارعت إلى الاعتذار والاعتراف بالذنب ، فقبل الله توبتهم ، وقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً).

وأما الطائفة الثالثة فهي التي لم تجد عذرا تعتذر به ، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول توبتهم بعد خمسين ليلة ، وقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ..).

ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين ، بالحديث عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإضرار بالإسلام والمسلمين ، فقال ـ تعالى ـ.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)

قال الإمام ابن كثير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في

٤٠١

الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز العداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة ليمالئهم على حرب المسلمين فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام «أحد» فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله ـ تعالى ـ وكانت العاقبة للمتقين.

وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى والسفلى وشج رأسه. وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم ، واستمالهم إلى نصره وموافقته. فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله لك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ـ إلى مكة ـ وقرأ عليه القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد. فدعا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة.

وذلك أنه لما فرغ الناس من «أحد» ورأى أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم ، أنه سيقدم بجيش ليقاتل به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويغلبه ، ويرده عما هو فيه. وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قدم عليه بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوه أن يأتى إليهم فيصلى في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم ، وأهل العلة في الليلة الشاتية!! فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : «إنا على سفر ولكنا إذا رجعنا ـ إن شاء الله ـ أتيناكم فصلينا لكم فيه».

فلما قفل راجعا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر ، والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم. مسجد قباء. الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مسجد الضرار من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة (١).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٨٢.

٤٠٢

وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) منصوب على الذم.

أى : وأذم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا .. أو معطوف على ما سبق من أحوال المنافقين ، والتقدير : ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.

وقوله «ضرارا» مفعول لأجله أى : اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى. وإنما اتخذوه من أجل الإضرار بالمؤمنين. وإيقاع الأذى بهم.

وقوله «وكفرا» معطوف على «ضرارا» ؛ وهو علة ثانية لاتخاذ هذا المسجد.

أى : اتخذوه للإضرار بالمؤمنين ، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه ومن الغل الذي يخفونه.

وقوله : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) علة ثالثة.

أى : واتخذوه أيضا للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء ، فأراد هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء ، أن يفرقوا وحدة المؤمنين ، بأن يجعلوهم يصلون في أماكن متفرقة. حسدا لهم على نعمة الإخاء والتآلف والاتحاد التي غرسها الإسلام في قلوب أتباعه.

وقوله : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) علة رابعة لاتخاذ هذا المسجد.

أى : واتخذوه ليكون مكانا يرقبون فيه قدوم «من حارب الله ورسوله» وهو أبو عامر الراهب ، الذي أعلن عداوته لدعوة الإسلام «من قبل» بناء مسجد الضرار.

فقد سبق أن ذكرنا في أسباب نزول هذه الآيات ، أن أبا عامر هذا ، كتب إلى جماعة من قومه. وهو عند هرقل. يعدهم ويمنيهم ، ويطلب منهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه فشرعوا في بناء هذا المسجد.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد ذكرت أربعة من الأغراض الخبيثة التي حملت المنافقين على بناء هذا المسجد ، وهي : مضارة المؤمنين ، وتقوية الكفر ، وتفريق كلمة أهل الحق وجعله معقلا لالتقاء المحاربين لله ولرسوله.

وقد خيب الله تعالى مسعاهم ؛ وأبطل كيدهم ، بأن أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهدمه وإزالته.

وقوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ذم لهم على أيمانهم الفاجرة ، وأقوالهم الكاذبة.

أى : أن هؤلاء المنافقين قد بنوا مسجد الضرار لتلك المقاصد الخبيثة. ومع ذلك فهم يقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة الحسنى التي عبروا عنها قبل ذلك.

٤٠٣

كذبا. بقولهم : «إننا بنيناه للضعفاء ، وأهل العلة في الليلة الشاتية».

وقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) زيادة في مذمتهم وتحقيرهم.

أى : والله ـ تعالى ـ يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أيمانهم بأنهم ما أرادوا من بناء مسجدهم إلا الحسنى ، فإنهم في الحقيقة لم يريدوا ذلك ، وإنما أرادوا تلك الأغراض القبيحة السابقة ، وهي مضارة المؤمنين ، وتفريق كلمتهم.

ثم نهى الله ـ تعالى ـ رسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكدا فقال ـ سبحانه ـ : (لا تَقُمْ فِيهِ ، أَبَداً).

أى : لا تصل. أيها الرسول الكريم. في هذا المسجد في أى وقت من الأوقات لأنه لمن يبن لعبادة الله ، وإنما بنى للشقاق والنفاق.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) يعنى مسجد الضرار. لا تقم فيه للصلاة ، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام. يقال : فلان يقوم الليل أى : يصلى ، ومنه الحديث الصحيح : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

وقد روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها هذا المسجد ، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار ...» (١).

وقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) جملة مسوقة لمدح مسجد قباء وتشريفه.

أى : لمسجد بنى أساسه ، ووضعت قواعده على تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه. أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره.

قال الآلوسى ما ملخصه : واللام في قوله «لمسجد» إما للابتداء أو للقسم ، أى : والله لمسجد ، وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ ، والجملة بعده صفته ، وقوله «أحق أن تقوم فيه» خبر المبتدأ : «وأحق» أفعل تفضيل ، والمفضل عليه كل مسجد. أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير ، أو على زعمهم ، وقيل إنه بمعنى حقيق ، أى : ذلك المسجد بأن تصلى فيه ..» (٢).

وقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) جملة مسوقة لتكريم رواد هذا المسجد ومديحهم.

أى : في هذا المسجد رجال أتقياء الظاهر والباطن ، إذ هم يحبون الطهارة من كل رجس

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٥٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٩.

٤٠٤

حسى ومعنوي ، ومن كان كذلك أحبه الله ورضى عنه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا يستوي من أسس بنيانه على الحق ، ومن أسس بنيانه على الباطل فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ..).

قال صاحب الكشاف : قرئ أسّس بنيانه ، وأسّس بنيانه على البناء للفاعل والمفعول. والشفا : الحرف والشفير. وحرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول ، فيبقى واهيا ، والهار وهو المتصدع الذي أوشك على التهدم ـ وهار صفة لجرف ، أى جرف موصوف بأنه هائر أى متساقط.

والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه «خير أم من» أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل «شفا جرف هار» في قلة الثبات والاستمساك. وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.

فإن قلت : فما معنى قوله : «فانهار به في نار جهنم».

قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل ، قيل : فانهار به في نار جهنم ، على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليتصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم. فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ، ولا أدل منه على حقيقة الباطل وكنه أمره» (١).

وقال صاحب المنار ما ملخصه : والمراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ، ودوامه ، وسعادة أهله به ، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى ، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله وقرب زواله ، وخيبة صاحبه ، وسرعة انقطاع آماله.

وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول وهم المؤمنون المشبه دون المشبه به لأنه هو المقصود بالذات ؛ وذكر من وصف الفريق الثاني ـ وهم المنافقون ـ الهيئة المشبه بها دون المشبه ، لأنه ذكر قبل ذلك مقاصدهم الخبيثة من بناء مسجد الضرار. وهذا من دقائق إيجاز القرآن» (٢).

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى مضت سنة الله ـ تعالى ـ في خلقه أنه ـ سبحانه ـ لا يهدى إلى طريق الخير أولئك الذين استحبوا العمى على الهدى وظلموا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٠ ـ بتصرف وتلخيص.

(٢) تفسير المنار ج ١١ ص ٤٥.

٤٠٥

أنفسهم بوضعهم الأمور في غير مواضعها.

ثم بين ـ سبحانه ـ الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار ، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال ـ تعالى ـ ؛ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

الريبة : اسم من الريب بمعنى الشك والقلق والحيرة ، وتقطع ـ بفتح التاء ـ أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين ، من التقطع بمعنى التمزق. وقرأ بعضهم. «تقطع» ـ بضم التاء ـ من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق.

والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال ، والمستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفوسهم في كل وقت وحال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى : أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء ، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق ، ويجدون مصيرهم الأليم.

والسبب في أن هذا البناء كان مثار ريبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه ، أنهم بنوه بنية سيئة ، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى ... فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة ، فهذه الخشية أورثتهم القلق والريبة ، فلما أطلع الله ـ تعالى ـ نبيه على أغراضهم ، وتم هدم مسجد الضرار ، وانهار الجرف المتداعي المتساقط ، استمر قلقهم وريبهم ؛ لأنهم لا يدرون بعد ذلك ما ذا سيفعل المؤمنون بهم.

وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان ، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم ، ويظهر خداعهم.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم.

أى : والله ـ تعالى ـ عليم بكل شيء في هذا الكون ، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا : حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفي صنعه بهم ، وسيجازيهم يوم القيام بما يستحقونه من عقاب.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ وجوب بناء المساجد على تقوى من الله ورضوان ، لأنها إذا بنيت على هذا الأساس ، كانت محل القبول والثواب من الله ، أما إذا بنيت لأى مقصد يتنافى مع آداب الإسلام وأحكامه وتشريعاته ، فإنها تكون بعيدة عن رضا الله ـ تعالى ـ وقبوله.

قال بعض العلماء ، دلت الآيات على أن كل مسجد بنى على ما بنى عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حركة ، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله ـ الخليفة

٤٠٦

العباسي ـ كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة (١).

وقال الزمخشري : قيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة ، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار.

وعن عطاء : لما فتح الله. تعالى. الأمصار على عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضار أحدهما صاحبه (٢).

٢ ـ أن مسجد قباء هو المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ...) وذلك لأن سياق الآيات في الحديث عنه ، وفي بيان أحقية الصلاة فيه ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزوره راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين.

ولا منافاة بين كون مسجد قباء هو المقصود هنا ، وبين الأحاديث التي وردت في أن المسجد الذي أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان ، هو المسجد النبوي ، لأن كليهما قد أسس على ذلك.

قال الإمام ابن كثير : وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس ، وعروة بن الزبير ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وقتادة.

وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى ، وهذا صحيح.

ولا منافاة بين الآية وبين هذا ، أنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الأولى والأحرى» (٣).

٣ ـ أن المحافظة على الطهارة من الصفات التي يحبها الله ـ تعالى ـ فقد قال ـ تعالى ـ : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها : ما جاء عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عويم بن مساعدة فقال له : «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به»؟.

فقال : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو هذا» (٤)».

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٢٦٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٠.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٩.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٩.

٤٠٧

٤ ـ كذلك يؤخذ من الآيات الكريمة ، استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحة ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك ، أتبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفي بيان فضله فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١)

قال الفخر الرازي : اعلم أن الله ـ تعالى ـ لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع كل قسم ما كان لائقا به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية (٢).

وقال القرطبي : نزلت هذه الآية في البيعة الثانية ، وهي بيعة العقبة الكبرى وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند العقبة ، فقال عبد الله بن رواحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا فما لنا؟ قال :

«لكم الجنة» قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية (٣).

ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تمثيل للثواب الذي منحه الله ـ تعالى ـ للمجاهدين في سبيله.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٠.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٠٦.

(٣) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٦٧.

٤٠٨

فقد صور ـ سبحانه ـ جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابته ـ سبحانه ـ لهم على ذلك بالجنة ، صور كل ذلك بالبيع والشراء.

أى : أن الله ـ تعالى ـ وهو المالك لكل شيء ، قد اشترى من المجاهدين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله ، وأعطاهم في مقابل ذلك الجنة.

قال أبو السعود : الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين في الجهاد ... وقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبّر عن قبول الله ـ تعالى ـ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله ـ تعالى ـ وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية. ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد : أنفس المؤمنين وأموالهم ، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة : الجنة.

ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها ، إيذانا بتعليق كمال العناية بهم وبأموالهم.

ثم إنه لم يقل «بالجنة» بل قال : «بأن لهم الجنة» مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم «واختصاصه بهم» فكأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم (١).

وقوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) جملة مستأنفة جيء بها لبيان الوسيلة التي توصلهم إلى الجنة وهي القتال في سبيل الله.

أى : أنهم يقاتلون في سبيل الله ، فمنهم من يقتل أعداء الله ، ومنهم من يقتل على أيدى هؤلاء الأعداء ، وكلا الفريقين القاتل والمقتول جزاؤه الجنة.

وقرأ حمزة والكسائي «فيقتلون ويقتلون» بتقديم الفعل المبنى للمفعول على الفعل المبنى للفاعل.

وهذه القراءة فيها إشارة إلى أن حرص هؤلاء المؤمنين الصادقين على الاستشهاد أشد من حرصهم على النجاة من القتل ؛ لأن هذا الاستشهاد يوصلهم إلى جنة عرضها السموات والأرض ، وإلى الحياة الباقية الدائمة ..

وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) تأكيد للثمن الذي وعدهم الله به.

أى : أن هذه الجنة التي هي جزاء المجاهدين ، قد جعلها ـ سبحانه ـ تفضلا منه وكرما ،

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٩١.

٤٠٩

حقا لهم عليه ، وأثبت لهم ذلك في الكتب السماوية التي أنزلها على رسله.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : «وعدا عليه» مصدر مؤكد لمضمون الجملة وقوله «حقا» نعت له ، وقوله «عليه» في موضع الحال من قوله «حقا» لتقدمه عليه ، وقوله : «في التوراة والإنجيل والقرآن» متعلق بمحذوف وقع نعتا لقوله «وعدا» أيضا.

أى : وعدا مثبتا في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن ، فالمراد إلحاق مالا يعرف بما يعرف. إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن. ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بذلك ، أو أن من جاهد بنفسه وماله. من حقه ذلك ، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن ...» (١).

وقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) جملة معترضة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها من حقية الوعد وتقريره : والاستفهام للنفي.

أى : لا أحد أوفى بعهده من الله ـ تعالى ـ لأنه إذا كان خلف الوعد لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم ، فكيف يكون الحال من جانب الخالق ـ عزوجل ـ المنزه عن كل نقص ، المتصف بكل كمال.

وقوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تحريض على القتال ، وإعلام لهم بأنهم رابحون في هذه الصفقة.

والاستبشار : الشعور بفرح البشرى ، شعورا تنبسط له أسارير الوجه.

أى : إذا كان الأمر كذلك فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به غاية الفرح ، وارضوا به نهاية الرضى ، فإن ذلك البيع هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه.

قال بعض العلماء : ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه في صورة عقد عقده رب العزة ، وثمنه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضا لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك. وجعل وعده حقا ، ولا أحد أوفى من وعده فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم. وهو استعارة تمثيلية ، حيث صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء وأتى بقوله : «يقاتلون» .. بيانا لمكان التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الجنة تحت ظلال السيوف» ، ثم أمضاه بقوله «وذلك هو الفوز العظيم» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٩.

(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٢٧٣.

٤١٠

ويروى عن الحسن البصري أنه قرأ هذه الآية فقال : انظروا إلى كرم الله. تعالى. أنفس هو خالقها ، وأموال هو رازقها ، ثم يكافئنا عليها متى بذلناها في سبيله بالجنة.

ثم وصف الله ـ تعالى ـ هؤلاء المؤمنين الصادقين بجملة من الأوصاف الكريمة ، فقال :

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٢)

قال الجمل ما ملخصه : ذكر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية تسعة أوصاف للمؤمنين ، الستة الأولى منها تتعلق بمعاملة الخالق ، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والوصف التاسع يعم القبيلين.

وقوله : (التَّائِبُونَ) فيه وجوه من الإعراب منها : أنه مرفوع على المدح. فهو خبر لمبتدأ محذوف وجوبا للمبالغة في المدح أى : المؤمنون المذكورون التائبون ، ومنها أن الخبر هنا محذوف ، أى : التائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة ....» (١).

والمعنى : «التائبون» عن المعاصي وعن كل ما نهت عنه شريعة الله ، «العابدون» لخالقهم عبادة خالصة لوجهه ، «الحامدون» له ـ سبحانه ـ في السراء والضراء ، وفي المنشط والمكره ، وفي العسر واليسر ، «السائحون» في الأرض للتدبر والاعتبار وطاعة الله. والعمل على مرضاته «الراكعون الساجدون» لله ـ تعالى ـ عن طريق الصلاة التي هي عماد الدين وركنه الركين «الآمرون» غيرهم «بالمعروف» أى : بكل ما حسنه الشرع «والناهون» له «عن المنكر» الذي تأباه الشرائع والعقول السليمة ، «والحافظون لحدود الله» أى : لشرائعه وفرائضه وأحكامه وآدابه .. هؤلاء المتصفون بتلك الصفات الحميدة ، بشرهم. يا محمد. بكل ما يسعدهم ويشرح صدورهم ، فهم المؤمنون حقا ، وهم الذين أعد الله ـ تعالى ـ لهم الأجر الجزيل ، والرزق الكريم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين بتصريف وتلخيص ج ٢ ص ٣٢١.

٤١١

ولم يذكر ـ سبحانه ـ المبشر به في قوله : «وبشر المؤمنين» ، للإشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به الوصف ، ولا تحده العبارة.

ولم يذكر ـ سبحانه ـ في الآية لهذه الأوصاف متعلقا ، فلم يقل «التائبون» من كذا ، لفهم ذلك من المقام ، لأن المقام في مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله ، تعالى. فصاروا ملتزمين طاعته في كل أقوالهم وأعمالهم.

وعبر عن كثرة صلاتهم وخشوعهم فيها بقوله. «الراكعون الساجدون» للإشارة إلى أن الصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ، وكأن الركوع والسجود طابع مميز لهم بين الناس. وإنما عطف النهى عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب ، أو لما بينهما من تباين إذ الأمر بالمعروف طلب فعل ، والنهى عن المنكر طلب ترك أو كف.

وكذلك جاء قوله. «والحافظون لحدود الله» بحرف العطف ومما قالوه في تعليل ذلك. أن سر العطف هنا التنبيه على أن ما قبله مفصل للفضائل وهذا مجمل لها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه (١).

هذا ، وما ذكرناه من أن المراد بقوله : «السائحون» أى : السائرون في الأرض للتدير والاعتبار والتفكر في خلق الله ، والعمل على مرضاته .. هذا الذي ذكرناه رأى لبعض العلماء. ومنهم من يرى أن المراد بهم الصائمون ومنهم من يرى أن المراد بهم : المجاهدون.

قال الآلوسى : وقوله : «السائحون» أى الصائمون. فقد أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين. وجاء عن عائشة : «سياحة هذه الأمة الصيام».

وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ، وليس في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة إلا الهجرة.

وعن عكرمة أنهم طلبة العلم ، لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه.

وقيل : هم المجاهدون في سبيل الله ، لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما ، عن أبى أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله (٢).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠٨٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣١.

٤١٢

والذي نراه أقرب إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا : السائرون في الأرض لمقصد شريف ، وغرض كريم. كتحصيل العلم ، والجهاد في سبيل الله ، والتدبر في ملكوته ـ سبحانه ـ والتفكر في سنته في كونه ، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.

ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ «السائحون» معناه السائرون ، لأنه مأخوذ من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها. وهذه المادة تشعر بالانتشار ، يقال : ساح الماء أى جرى وانتشر.

وما دام الأمر كذلك فمن الأولى حمل اللفظ على ظاهره ، مادام لم يمنع مانع من ذلك ، وهنا لا مانع من حمل اللفظ على حقيقته وظاهره.

أما الأحاديث والآثار التي استشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء الحديث.

قال صاحب المنار : وأقول : وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مرفوعا وموقوفا حديث : «السائحون هم الصائمون» لا يصح رفعه .. (١).

وفضلا عن كل هذا ، فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون في الأرض لكل مقصد شريف ، وغرض كريم .. يتناول الجهاد في سبيل ، كما يتناول الرحلة في طلب العلم ، وغير ذلك من وجوه الخير.

وما أكثر الآيات القرآنية التي حضت على السير في الأرض ، وعلى التفكر في خلق الله ، ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢).

وقوله تعالى. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٣).

قال الإمام الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأن الإنسان يلقى الأكابر من الناس ، فيحتقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله. تعالى. في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين (٤).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا يصح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، لأن رابطة العقيدة هي الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال ـ تعالى :

__________________

(١) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٥٤.

(٢) سورة الأنعام الآية ١١.

(٣) سورة الحج الآية ٤٦.

(٤) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٠٩.

٤١٣

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١١٦)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضوع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه ، بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان ، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم ، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات ، والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب (١).

والمعنى : ما كان من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا من شأن أصحابه المؤمنين ، أن يدعوا الله ـ تعالى ـ بأن يغفر للمشركين في حال من الأحوال. ولو كان هؤلاء المشركون من أقرب أقربائهم «من بعد ما تبين لهم» أى : للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ، أن هؤلاء المشركين من أصحاب الجحيم ، بسبب موتهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، وعدم اعترافهم بدين الإسلام.

قال الآلوسى ما ملخصه : والآية على الصحيح نزلت في أبى طالب ، فقد أخرج الشيخان

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥١٠.

٤١٤

وغيرهما عن المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى عم ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه. وأبو جهل وعبد الله بن أمية يعاودانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ..) الآية.

ثم قال. واستبعد بعضهم ذلك ، لأن موت أبى طالب كان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة.

وهذا الاستبعاد مستبعد ، لأنه لا بأس من أن يقال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لأبى طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية وعليه فلا يراد من قوله «فنزلت» في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول فحسب. فتكون الفاء للسببية لا للتعقيب (١).

وقال القرطبي : هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم ، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين. فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. ، وقال كثير من العلماء. بأنه لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ما داما حيين ، فأما من مات على الكفر فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعى له (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ السبب الذي حمل إبراهيم على الاستغفار لأبيه ، ثم على ترك هذا الاستغفار فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ..

قال القرطبي : روى النسائي عن على بن أبى طالب قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان. فقلت : أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه. فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له ذلك فنزلت (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية.

والمعنى : لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم ، لأبيه ، لأن استغفاره له إنما كان بسبب وعد صدر له بذلك. فلما أصر «آزر» أبو إبراهيم على كفره ، ومات مشركا بالله ،

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٣٣.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٧٣.

٤١٥

تبرأ إبراهيم منه ومن عمله.

والمراد بهذا الوعد ما جاء في القرآن من قوله له : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (١).

وقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٢).

وقوله : «إن إبراهيم لأواه حليم» جملة مستأنفة مسوقة لبيان الداعي الذي دعا إبراهيم إلى الاستغفار لأبيه قبل التبين.

أى : إن إبراهيم لكثير التأوه والتوجع من خشية الله ، وكثير الحلم والصفح عمن آذاه.

قال الآلوسى : قوله «إن إبراهيم لأواه حليم» أى لكثير التأوه ، وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين .. وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة. ورقة القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهما عن عبد الله بن شداد. قال رجل : يا رسول الله ما الأواه؟ قال : «الخاشع المتضرع الكثير الدعاء» (٣).

ويؤخذ من هاتين الآيتين ، أنه لا يجوز لمسلم أن يستغفر لمشرك بعد موته على الشرك مهما بلغت درجة قرابته له.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه العامة في خلقه ، وهي تدل على سعة رحمته ، ووافر عدله فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ..).

أى : وما كان من شأن الله ـ تعالى ـ في لطفه وعدله .. أن يصف قوما بالضلال عن طريق الحق «بعد إذ هداهم» إلى الإسلام ، لمجرد قول أو عمل صدر عنهم عن طريق الخطأ في الاجتهاد.

وإنما يصفهم بذلك بعد أن يبين لهم ما يجب اتقاؤه من الأقوال والأفعال ، فلا يطيعون أمره ، ولا يستجيبون لتوجيهه ـ سبحانه ـ قال صاحب الكشاف : يعنى ـ سبحانه ـ أن ما أمر باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيرها مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالا ، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ، ولا ببيع الصاع بصاعين قبل التحريم.

__________________

(١) سورة مريم الآية ٤٧.

(٢) سورة الممتحنة الآية ٤.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٣٥ ـ بتصرف وتلخيص.

٤١٦

وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها : وهي أن المهدى للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله صار داخلا في حكم الإضلال» (١).

وقال صاحب المنار : أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول : فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل ، ولا يغدو لسوى ذلك ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير. أيها الناس : إنى والله لا أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم ، وقد قال ـ تعالى ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ..) (٢).

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما قبله ، أى إن الله ـ تعالى ـ عليم بكل شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أقوال الناس وأفعالهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على ذلك ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ببيان أنه ـ سبحانه ـ هو المالك لكل شيء ، والخالق لكل شيء ، فقال : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ).

أى : إن الله ـ تعالى ـ هو المالك للسموات والأرض وما بينهما ، ولا شريك له في خلقهما ، ولا في تدبير شئونهما ، وهو ـ سبحانه ـ الذي يحيى من يريد إحياءه ، ويميت من يريد إماتته ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أى : وليس لكم ـ أيها الناس ـ أحد سوى الله يتولى أمركم وينصركم على أعدائكم.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين عن الاستغفار للمشركين المصرين على شركهم ، كما بشرتهم بأنه ـ سبحانه ـ لا يؤاخذهم على استغفارهم لهم قبل نهيهم عن ذلك. كما أخبرتهم بأن ملك هذا الكون إنما هو لله وحده ، فعليهم أن يستجيبوا لأمره ، لكي ينالوا رحمته ورضاه.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل توبتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٦.

(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٣١٦.

٤١٧

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١١٧)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه فيما سبق ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة ، فذكر ـ سبحانه ـ أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، في تلك الزلات ، فقال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ..) (١).

وللعلماء أقوال في المراد بالتوبة التي تابها الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المراد بها قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة أو في غيرها ، وإلى هذا المعنى أشار القرطبي بقوله : قال ابن عباس : كانت التوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود ، بدليل قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ..).

وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه ـ أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك (٢).

ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : «تاب الله على النبي» كقوله : «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وكقوله : «واستغفر لذنبك». وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح .. (٣).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥١٥.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٨٧.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٦.

٤١٨

ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد تاب الله على النبي ..» أى : أدام توبته على النبي والمهاجرين والأنصار. وهذا جواب عما يقال : من أن النبي معصوم من الذنب ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا في هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها ..» (١).

ومنهم من يرى أن ذكر النبي هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات. وقد وضح هذا المعنى الإمام الآلوسى فقال : قال أصحاب المعاني : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره ـ تعالى ـ في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ..) الآية أى : عفا ـ سبحانه ـ عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين ...» (٢).

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله ـ تعالى ـ على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم يبين الله ـ تعالى ـ حكمه فيها ، فهي لا تنقص من منزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم.

والمعنى ، لقد تقبل الله ـ تعالى ـ توبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العسرة. أى في وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت.

وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذي اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وفقر في الزاد والماء والراحلة.

قال ابن كثير : قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر في الزاد والماء.

وقال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر ـ أى شدته ـ على ما يعلم الله من

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٢٤ ـ بتصرف يسير.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٣٩.

٤١٩

الجهد ، أصابهم فيها تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما (١).

وقال الحسن : كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحدا ، يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشرب عليها جرعة من الماء .. ومضوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صدقهم ويقينهم ـ رضى الله عنهم (٢).

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى.

أى : تاب ـ سبحانه ـ على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار ، من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب.

وفي ذكر «فريق منهم» إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وصدق يقينهم ، ومضاء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : وفي «كاد» ضمير الشأن و «قلوب» فاعل «يزيغ» والجملة في موضع الخبر لكاد .. وهذا على قراءة «يزيع» بالياء ، وهي قراءة حمزة ، وحفص ، والأعمش. وأما على قراءة «تزيغ» بالتاء ، وهي قراءة الباقين. فيحتمل أن يكون «قلوب» اسم كاد «وتزيغ» خبرها ، وفيه ضمير يعود على اسمها» (٣).

وقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم. ولطفه بهم.

أى : ثم تاب عليهم ـ سبحانه ـ بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس. إنه بهم رءوف رحيم.

قال بعضهم : فإن قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانيا فما فائدة التكرار؟

قلت : إنه ـ سبحانه ـ ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه ـ تعالى ـ قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تأكيدا

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٢٤.

(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٤٠.

٤٢٠