التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع ، فاختلف فيه المسلمون ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو .. : والله لو لا نحن ما أصبتموه ..

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين.

ثم فرق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم :

«استوصوا بالأسارى خيرا».

قال ابن إسحاق : وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له : ما وراءك؟ فقال ، قتل عتبة ، وشيبة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف .. فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا ، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى!! فقالوا له : ما فعل صفوان بن أمية؟ فقال : ها هو ذاك في الحجر ، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا ..

ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمري الخبر!! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب : يا ابن أخى أخبرنى كيف كان أمر الناس؟

فقال أبو سفيان : والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ..

أما بعد : فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلى لسورة الأنفال ، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة : أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة ـ كما سبق أن أشرنا وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحا مستنيرا ..

لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحا مقبولا ، بعيدا عن الانحراف. محررا من لغو القول وباطله ..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٢١
٢٢

التفسير

قال ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

لعل من الخير قبل أن نتكلم في تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التي وردت في سبب نزولها ، فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم.

قال الإمام ابن كثير ـ ما ملخصه ـ روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس ، فهزم الله ـ تعالى ـ العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي لا يصيب العدو منه غرة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخافة أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ـ فنزلت :

٢٣

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) .. فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين.

وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه ـ واللفظ له ـ عن ابن عباس قال : «لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم. فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم ، لو انكشفتم لثبتم إلينا. فتنازعوا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ..).

وقال الثوري ، عن الكلبي ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا» ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك ـ أنت وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك. فتشاجروا ، ونزل القرآن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء ـ أى : على السواء (١).

هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعا حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، حول الغنائم التي ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل الله ـ تعالى ـ في هذه الآيات بيان حكمه فيها.

والضمير في قوله (يَسْئَلُونَكَ) يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت في هذه الغزوة ، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها.

قال الإمام الرازي ـ ما ملخصه ـ : فإن قيل من هم الذين سألوا؟ فالجواب : إن قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك هاهنا ، لأنه في حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوما معينا فانصرف اللفظ إليهم. ولا شك أنهم كانوا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٣.

٢٤

أقواما لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا في غزوة بدر (١).

والأنفال جمع نفل ـ بفتح النون والفاء ـ كسبب وأسباب ـ وهو في أصل اللغة من النفل ـ بفتح فسكون ـ أى : الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد. قال ـ تعالى ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) (٢).

قال الآلوسى : ثم صار النفل حقيقة في العطية ، لأنها لكونها تبرعا غير لازم كان زيادة ، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما.

وإطلاقه على الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله ـ تعالى ـ من غير وجوب.

ثم قال : ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص. فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنما سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو ما كان بغير قتال وهو «الفيء».

والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة من الصحابة وغيرهم (٣).

هذا ، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأنفال ـ أى الغنائم ـ إنما هو حكمها وعن المستحق لها ، فيكون المعنى :

يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم؟ ومن المستحق لها؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ـ سبحانه ـ وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها.

وفي هذه الإجابة على سؤالهم تربية حكيمة لهم ـ وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كلمة الله. أما الغنائم والأسلاب وأعراض الدنيا التي تأتيهم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١١٣ ، طبعة عبد الرحمن محمد ١٣٥٧ ه‍ ١٩٣٨ م.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٧٢.

(٣) تفسير الآلوسى بتصرف وتلخيص ج ٩ ص ١٦ طبعة منير الدمشقي.

٢٥

من وراء جهادهم فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم.

وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن حرف «عن» زائد ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفال التي وعدتهم بها زيادة على سهامهم فيها. قل لهم : الأنفال لله ولرسوله.

والذي نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :

١ ـ بعض الروايات التي وردت في أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييدا صريحا ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال : «فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا. فجعله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء».

٢ ـ ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائمها الضخمة التي ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزا لسؤال بعض المؤمنين رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حكمها وعن المستحق لها.

٣ ـ ولأن الجواب عن السؤال بقوله ـ تعالى ـ : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما.

ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جوابا له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شرطه لهم الصادر عنه بإذن الله ـ تعالى ـ لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور» (١).

٤ ـ ولأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم .. إلخ» يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا في شأنها ، فهو ـ سبحانه ـ ينهاهم عن هذا التنازع ، ويأمرهم بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضب الله ... ولو كان السؤال للاستعطاء ـ بناء على ما شرطه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعضهم زيادة على سهامهم ـ لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه ، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما وعدهم به وهذا لا محظور فيه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٦١.

٢٦

٥ ـ ولأن الآية الكريمة بمنطوقها الواضح ، وبتركيبها البليغ ، وبتوجيهها السامي ، تفيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن المستحق لها .. أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء وأن عن زائدة أو بمعنى من فهو تكلف لا ضرورة إليه.

والمعنى الواضح الجلى للآية الكريمة ـ كما سبق أن بينا ـ : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ، ومن المستحق لها؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، ولرسوله يقسمها بحسب حكم الله فيها ، فهو ـ سبحانه ـ العليم بمصالح عباده ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)؟

قلت : معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأى أحد ، والمراد : «أن الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي» (١).

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حض لهم على تقوى الله وامتثال أمره ، وإصلاح ذات بينهم ، وتحذير لهم من الوقوع في المعاصي والنزاع والخلاف.

وكلمة (ذاتَ) بمعنى حقيقة الشيء ونفسه ، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الظاهر ، كذات الصدور ، وذات الشوكة.

وكلمة (بَيْنِكُمْ) ، من البين ، وهو مصدر بان يبين بينا ، متى بعد ، ويطلق على الاتصال والفراق ، أى : على الضدين ، ومنه قول الشاعر :

فو الله لو لا البين لم يكن الهوى

ولو لا الهوى ما حس للبين آلف

والمراد به في الآية الاتصال.

أى : فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ ، وأصلحوا نفس ما بينكم وهي الحال والصفة التي بينكم والتي تربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام. وإصلاحها يكون بما يقتضيه كمال الإيمان من الموادة والمصافاة ، وترك الاختلاف والتنازع ، والتمسك بفضيلة الإيثار.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٥ ، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.

٢٧

وكلمة (ذاتَ) على هذا المعنى مفعول به.

ومنهم من يرى أن كلمة «ذات» بمعنى صاحبة ، وأنها صفة لمفعول محذوف ، فيكون المعنى : فاتقوا الله وأصلحوا أحوالا ذات بينكم.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «فإن قلت : ما حقيقة قوله : (ذاتَ بَيْنِكُمْ).

قلت : أحوال بينكم ، يعنى ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومودة واتفاق. كقوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) وهي مضمراتها.

ولما كانت أحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريدون ما في الإناء من الشراب ..» (١).

وقوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) معطوف على ما قبله ، وهو قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ).

أى : فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ في كل أقوالكم وأفعالكم ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة ومودة ، وأطيعوا الله ورسوله في حكمه الذي قضاه في الأنفال وفي غيرها ، من كل أمر ونهى ، وقضاء وحكم ...

وقد كرر ـ سبحانه ـ الاسم الجليل في هذه الآية ثلاث مرات ، لتربية المهابة في القلوب ، وتعليل الحكم حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم.

وذكر ـ سبحانه ـ رسوله معه مرتين في هذه الآية ، لتعظيم شأنه ، وإظهار شرفه ، والإيذان بأن طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة لله ـ تعالى ـ ، ومخالفته مخالفة لأمر الله ـ تعالى ـ. قال ـ سبحانه ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٢).

ووسط ـ سبحانه ـ الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة ، لإظهار كمال العناية بالإصلاح ، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة ، وهي : التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله.

وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أى : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة السابقة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٥.

(٢) سورة النساء الآية ٨٠.

٢٨

قال الآلوسى : قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جوابه محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، أو المذكور هو الجواب على الخلاف المشهور. وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفى في التعليق بالشرط.

والمراد بالإيمان : التصديق. ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر ، على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة.

وقد يراد بالإيمان الإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ، فالمعنى : إن كنتم كاملى الإيمان ، فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة : الاتقاء ، والإصلاح ، وإطاعة الله ـ تعالى ـ.

ويؤيد إرادة الكمال قوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ...) إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر ..» (١).

وعلى أية حال ففي هذا التذييل تنشيط للمخاطبين ، وحث لهم على الامتثال والطاعة ، ودعوة لهم إلى أن يكون إيمانهم إيمانا عميقا راسخا ، متفقا مع كل ما جاءهم به رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدايات وإرشادات ، ومتساميا عن كل ما يخدش صفاءه ونقاءه من متع وشهوات.

ثم وصف ـ سبحانه ـ المؤمنين الصادقين بخمس صفات ، وبشرهم بأعلى الدرجات ، فقال في بيان صفتهم الأولى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ..) فالجملة الكريمة مستأنفة وهي مسوقة لبيان أحوال المؤمنين الذين هم أهل لرضا الله وحسن ثوابه ، حتى يتأسى بهم غيرهم.

وقوله (وَجِلَتْ) من الوجل وهو استشعار الخوف. يقال : وجل يوجل وجلا فهو وجل ، إذا خاف وفزع.

والمراد بذكر الله : ذكر صفاته الجليلة ، وقدرته النافذة ، ورحمته الواسعة ، وعقابه الشديد ، وعلمه المحيط بكل شيء ، وما يستتبع ذلك من حساب وثواب وعقاب.

والمعنى : إنما المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر اسم الله وذكرت صفاته أمامهم ، خافت قلوبهم وفزعت ، استعظاما لجلاله وتهيبا من سلطانه ، وحذرا من عقابه ، ورغبة في ثوابه ، وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وشدة مراقبتهم لله ـ عزوجل ـ ووقوفهم عند أمره ونهيه ..

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٦٤.

٢٩

وقد جاء التعبير عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر وهي «إنما» ، للإشعار بأن من هذه صفاتهم هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم وإخلاصهم ، أما غيرهم ممن لم تتوفر به هذه الصفات ، فأمره غير أمرهم ، وجزاؤه غير جزائهم.

قال الفخر الرازي : فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ قال هاهنا : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وقال في آية أخرى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (١) فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : الاطمئنان : إنما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل : إنما يكون من خوف العقوبة. ولا منافاة بين هاتين الحالتين. بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة وهي قوله ـ تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢).

والمعنى تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله (٣).

والصفة الثانية من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً).

أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم إذا قرئت عليهم آيات الله أى : حججه وهي القرآن ؛ زادتهم إيمانا ، أى : زادتهم قوة في التصديق ، وشدة في الإذعان ، ورسوخا في اليقين ، ونشاطا في الأعمال الصالحة ، وسعة في العلم والمعرفة.

وجاء التعبير بصيغة الفعل المبنى للمفعول في قوله : (ذُكِرَ اللهُ) و (تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) ، للإيذان بأن هؤلاء المؤمنين الصادقين إذا كانوا يخافون عند ما يسمعون من غيرهم آيات الله .. فإنهم يكونون أشد خوفا وفزعا عند ذكرهم لله وعند تلاوتهم لآياته بألسنتهم وقلوبهم.

فالمقصود من هذه الصيغة : مدحهم ، والثناء عليهم ، وبيان الأثر الطيب الذي يترتب على ذكر الله وعلى تلاوة آياته.

والصفة الثالثة من صفاتهم قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين ـ أيضا ـ أنهم يعتمدون على ربهم الذي خلقهم

__________________

(١) سورة الرعد. الآية ٢٨.

(٢) سورة الزمر. الآية ٢٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١١٨.

٣٠

بقدرته ، ورباهم بنعمته ، فيفوضون أمورهم كلها إليه وحده ـ سبحانه ـ لا إلى أحد سواه ، كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله.

ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : أى : أنهم لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ولهذا قال سعيد بن جبير : «التوكل على الله جماع الإيمان» (١).

ومن الواضح عند ذوى العقول السليمة أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب التي شرعها ـ سبحانه ـ بل إن الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها لبلوغ الغايات ، لدليل على قوة الإيمان ، وعلى حسن طاعته ـ سبحانه ـ فيما شرعه وفيما أمر به.

وليس من الإيمان ولا من العقل ولا من التوكل على الله أن ينتظر الإنسان ثمارا بدون غرس ، أو شبعا بدون أكل ، أو نجاحا بدون جهد ، أو ثوابا بدون عمل صالح.

إنما المؤمن العاقل المتوكل على الله ، هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله لبلوغ الأهداف مباشرة سليمة .. ثم بعد ذلك يترك النتائج له ـ سبحانه ـ يسيّرها كيف يشاء ، وحسبما يريد ..

أما الصفتان الرابعة والخامسة من صفات هؤلاء المؤمنين فهما قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

والمراد بإقامة الصلاة : أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها ـ من أقام الشيء إقامة إذا قومه وأزال عوجه لأن الشأن في صلاة المؤمنين أن تكون : إحساسا عميقا بالوقوف بين يدي الله ، وانقطاعا تاما لمناجاته ، وتمثلا حيا لجلاله وكبريائه ، واستغراقا كاملا في دعائه.

والمراد بقوله : (يُنْفِقُونَ) يخرجون ويبذلون ، من الإنفاق وهو إخراج المال وبذله وصرفه.

والجملة الكريمة في محل رفع صفة للموصول في الآية السابقة أو بدل منه أو بيان له.

والمعنى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وسننها وآدابها وخشوعها .. وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٨٦.

٣١

نفس ، وسخاء يد ، استجابة لتعاليم دينهم.

فأنت ترى أنه ـ سبحانه ـ قد وصف هؤلاء المؤمنين بخمس صفات : الأولى والثانية والثالثة منها ترجع إلى العبادات القلبية التي تدل على شدة خشيتهم من ربهم ، وقوة تأثرهم بآيات خالقهم ، واعتمادهم عليه ـ سبحانه ـ وحده لا على أحد سواه.

والصفة الرابعة ترجع إلى العبادات البدنية ، وهي إقامة الصلاة بإخلاص وخشوع.

أما الصفة الخامسة فترجع إلى العبادات المالية ، وهي إنفاق المال في سبيل الله ولا شك أن هذه الصفات متى تمكنت في النفس ، كان صاحبها أهلا لمحبة الله ؛ ورضوانه ، ولذا مدح ـ سبحانه ـ أصحاب هذه الصفات ، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ) عالية ، ومكانة سامية (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولهم (مَغْفِرَةٌ) شاملة لما فرط منهم من ذنوب ، ولهم (رِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة ، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ).

وقوله (حَقًّا) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أى : أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا.

والتنوين في قوله (دَرَجاتٌ) للتعظيم والتهويل أى : لهم درجات رفيعة ، ومنازل عظيمة ، وفي وصف هذه الدرجات بأنها (عِنْدَ رَبِّهِمْ) مزيد تشريف لهم ، ولطف بهم ، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع ، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده ـ سبحانه ـ وفي وصف الرزق الذي أعده لهم بالكرم ، زيادة في إدخال السرور على قلوبهم ؛ لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شيء حسن في بابه ، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه.

وبذلك نرى أن أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله ـ تعالى ـ مدحا عظيما ، وكافأهم على إيمانهم الحق بالدرجات العالية ، والمغفرة الشاملة ، والرزق الكريم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

هذا ، وقد استنبط العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها :

١ ـ حرص الصحابة على سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم. فإن قيل : كيف تأتى لأصحابه الذين شهدوا بدرا ـ وهم من هم في عفتهم وزهدهم ـ أن يختلفوا في شأن الغنائم.

فالجواب ، ، أن بعض الصحابة المشتركين في هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف في

٣٢

شأنها ؛ لأنهم لم يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها ، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه الغنائم ، بل تركوا أمرها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعها كيف يشاء.

وأيضا فإن هؤلاء الذين حدث بينهم الخلاف في شأن الغنائم ، كان من الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الخلاف ، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء ، وشدة القتال في سبيل الله ، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم.

وعند ما جاوز هذا الحرص حده ، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء ، نزل القرآن ليربيهم بتربيته الحكيمة ، وليؤدبهم بأدبه السامي ، وليخبرهم بحكم الله في شأن هذه الأنفال .. وبعد أن عرفوا حكم الله في شأنها ، قابلوه بالرضا والإذعان والتسليم.

٢ ـ أن القرآن في ترتيبه للحوادث ، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها ، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص الذي يراعى فيه مقتضى حال المخاطب.

فلقد افتتحت السورة التي معنا بالحديث عن الغنائم التي غنمها المسلمون في بدر ـ مع أن ذلك كان بعد انتهاء الغزوة ـ ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر في هذه الغزوة كان للمسلمين ، وأن الإسلام قد صرع الكفر منذ أول معركة نازله فيها.

وهذا اللون من الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال.

ولقد أفاض بعض العلماء في شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه.

وقد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها ، فساقت في ذلك أربع آيات ، هن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ ..) إلى قوله ـ (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

وقد عالجت هذه الآيات نفوس المؤمنين ، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة ، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل.

ولأهمّيّة هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة ، وإن كان اختلافهم في قسمة الأنفال متأخرا في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر ، وقتال الأعداء.

وقد عرفنا من سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها ، وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان ، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ ، ولما تتطلبه من الأحكام والحكم.

٣٣

وقد بدأت السورة بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذي كفله الله للمؤمنين.

وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف ، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة ..

ولا كذلك يكون الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة ، وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ... إلخ».

لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس ، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره. يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصورهم في ثوب الكراهية الشديدة لمعالي الأمور وعز الحياة.

لهذا كله جاء الأسلوب في سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتيبها في الوجود الخارجي (١).

٣ ـ استدل جمهور العلماء بقوله ـ تعالى ـ (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) على أن الإيمان يزيد وينقص ..

ومن المفسرين الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه :

قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أى : القرآن (زادَتْهُمْ إِيماناً) أى : تصديقا كما هو المتبادر ، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك.

وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا.

بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل ـ أيضا ـ وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي ، مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة ، واللازم باطل فكذا الملزوم.

وقال النووي : إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها ، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٥٤٤ لفضيلة الشيخ محمود شلتوت ـ رحمه‌الله ـ

٣٤

وذهب الإمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، واختاره إمام الحرمين ، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان ، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا ، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.

وذهب جماعة منهم الإمام الرازي إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي ، وهو فرع تفسير الإيمان ، فمن فسره بالتصديق قال : إنه لا يزيد ولا ينقص ، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال : إنه يزيد وينقص ، وعلى هذا قول البخاري «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار ، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر أنه قال. قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص ، قال ، نعم ، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار (١).

ويبدو لنا أن رأى جمهور العلماء في هذه المسألة ، أولى بالقبول ؛ لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أرسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس ، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة كان الإيمان أشد رسوخا في النفس وأعمق أثرا في القلب ، فلا تزلزله الشبهات ولا تزعزعه العوارض والفتن.

ومن أوضح الأدلة على أن الإيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان ، ما حكاه الله ـ تعالى ـ عن إبراهيم في قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢).

فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة في الإيمان ، يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لا شك أنه كان مؤمنا عند ما سأل ربه هذا السؤال ، سأله ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى : وهي مرتبة عين اليقين ...

هذا ، وشبيه بهذه الآية في الدلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ..) (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص

(٢) سورة البقرة الآية ٢٦٠.

(٣) سورة آل عمران الآية ١٧٣.

٣٥

وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وردت في هذا المعنى.

٤ ـ في هذه الآيات الكريمة تربية ربانية للمؤمنين ، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم ، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه ، هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة ، وسلامة الخلق ، وصلاح العمل ، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات ، وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه ..

روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «كيف أصبحت يا حارث»؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك»؟ فقال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهاري. وكأنى أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا (٤).

ثم أخذت السورة ـ بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه .. ، في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال ، فاستعرضت مجمل أحداثها ، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير ، استمع معى ـ أخى القارئ ـ بتدبر وتعقل إلى قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ٤.

(٢) سورة التوبة : الآيتان : ١٢٤ ، ١٢٥.

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٢٢.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٨٦ طبعة عيسى الحلبي.

٣٦

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨)

الكاف في قوله ـ تعالى ـ : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ..) بمعنى مثل ، أى : للتشبيه وهي خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه ، وما بعدها هو المشبه به ، ووجه الشبه مطلق الكراهة ، وما ترتب على ذلك من خير للمؤمنين.

والمعنى : حال بعض أهل بدر في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية ، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال ، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة.

ونحن عند ما نستعرض أحداث غزوة بدر ، نرى أنه قد حدث فيها أمران يدلان على عدم الرضا من فريق من الصحابة ، ثم أعقبهما الرضا والإذعان والتسليم لحكم الله ورسوله.

أما الأمر الأول فهو أن فريقا من الصحابة ـ وأكثرهم من الشبان ـ كانوا يرون أن قسمة الغنائم بالسوية فيها إجحاف بحقهم ، لأنهم هم الذين قاموا بالنصيب الأوفر في القتال ، وأن غيرهم لم يكن له بلاؤهم ـ كما سبق أن بينا في أسباب نزول قوله ـ تعالى ـ «يسألونك عن الأنفال .. إلخ».

ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم غنائم بدر بين الجميع بالسوية ، كما أمره الله ـ تعالى ـ.

وكان هذا التقسيم خيرا للمؤمنين ، إذ أصلح الله به بينهم ، وردهم إلى حالة الرضا والصفاء ..

وأما الأمر الثاني : فهو أن جماعة منهم كرهوا قتال قريش بعد نجاة العير التي خرجوا من أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيتهم لذلك أنهم خرجوا بدون استعداد للقتال ، لا من حيث العدد ولا من حيث العدد.

٣٧

ولكنهم استجابوا بعد قليل لما نصحهم به رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجوب قتال قريش ،.

وكان في هذه الاستجابة نصر الإسلام ، ودحر الطغيان.

قال ابن كثير : روى الحافظ بن مردويه ـ بسنده ـ عن أبى أيوب الأنصارى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن بالمدينة : «إنى أخبرت عن عير أبى سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمنا إياها؟ فقلنا نعم. فخرج وخرجنا ، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا :

«ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم»؟ فقلنا : ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير ، ثم قال : «ما ترون في قتال القوم»؟ فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ..) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

وفي رواية أن أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ تكلموا بكلام سر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

هذا ، وما قررناه قبل ذلك من أن الكاف في قوله ـ تعالى ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ..) بمعنى مثل ، هو ما نرجحه من بين أقوال المفسرين التي أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا.

قال الجمل ، قوله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ..) فيه عشرون وجها ، أحدهما : أن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره ؛ الأنفال ثابتة لله ثبوتا كما أخرجك ربك ، أى : ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك ، يعنى أنه لا مرية في ذلك.

الثاني : أن تقديره وأصلحوا ذات بينكم إصلاحا كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد.

الثالث : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك أى : كما أن إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة. إلخ (٢).

والحق أن معظم الوجوه النحوية التي ذكرها الجمل وغيره من المفسرين ـ كأبى حيان والآلوسى ـ أقول : إن معظم هذه الوجوه يبدو عليها التكلف ومجانبة الصواب.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد أهمل أكثر ما ذكره المفسرون في ذلك ، واكتفى بوجهين فقال :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٨٧ ـ بتصرف وتلخيص.

(٢) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٢٦ ، طبعة عيسى الحلبي.

٣٨

قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ). فيه وجهان أحدهما : أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيل الغزوة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب.

والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أى : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون (١).

والوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما صاحب الكشاف هو الذي نميل إليه ، وهو الذي ذكرناه قبل ذلك بصورة أكثر تفصيلا.

وأضاف ـ سبحانه ـ الإخراج إلى ذاته فقال : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) للإشعار بأن هذا الإخراج كان بوحي منه ـ سبحانه ـ وبأنه هو الراعي له في هذا الخروج.

والمراد بالبيت في قوله : (مِنْ بَيْتِكَ) مسكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة أو المراد المدينة نفسها ، لأنها مثواه ومستقره ، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه.

وقوله : (بِالْحَقِ) متعلق بقوله : (أَخْرَجَكَ) والباء للسببية ، أى : أخرجك بسبب نصرة الحق ، وإعلاء كلمة الدين ، وإزهاق باطل المبطلين.

ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مفعول أخرجك ، وتكون الباء للملابسة ، أى : أخرجك إخراجا متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.

قال الآلوسى : وقوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) ، أى : للخروج ، إما لعدم الاستعداد للقتال ، أو للميل للغنيمة ، أو للنفرة الطبيعية عنه ، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار ، فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة.

والجملة في موضع الحال ، وهي حال مقدرة ؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج (٢).

والمعنى الإجمالى للآية الكريمة : حال بعض المسلمين في بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية بينهم ، مثل حال فريق منهم في كراهة الخروج للقتال ، مع أنه قد ثبت أن هذه القسمة وذلك القتال ، كان فيهما الخير لهم ، إذ الخير فيما قدره الله وأراده ، لا فيما يظنون.

وقوله ـ تعالى ـ : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال ، وتصوير معجز لما استبد به من خوف وفزع.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٧٠.

٣٩

والمراد بقوله (يُجادِلُونَكَ) مجادلتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن القتال وقولهم له : ما كان خروجنا إلا للعير ، ولو أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له.

والضمير يعود للفريق الذي كان كارها للقتال.

والمراد بالحق الذي جادلوا فيه : أمر القتال الذي حضهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يعدوا أنفسهم له.

وقوله : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) متعلق : (يُجادِلُونَكَ) و (ما) مصدرية والضمير في الفعل (تَبَيَّنَ) يعود على الحق.

والمراد بتبينه : إعلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم فقد روى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرهم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى الطائفتين : العير أو النفير ، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو النفير ، أى : على المشركين الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال لا على العير ، أى : الإبل الحاملة لأموال المشركين.

والمعنى : يجادلك بعض أصحابك ـ يا محمد ـ (فِي الْحَقِ) أى في أمر القتال (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أى ، بعد ما تبين لهم الحق بإخبارك إياهم بأن النصر سيكون حليفهم ، وأنه لا مفر لهم من لقاء قريش تحقيقا لوعد الله الذي وعد بإحدى الطائفتين.

وقوله : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أى : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، ومشاهد لموجباته.

والجملة في محل نصب على الحالية من الضمير في قوله : (لَكارِهُونَ).

وفي هذه الجملة الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال يسبب قلة عددهم وعددهم.

وقوله : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) زيادة في لومهم ، لأن الجدال في الحق بعد تبينه أقبح من الجدال فيه قبل ظهوره.

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين ، مع جزع بعضهم من قتال عدوه وعدوهم ، وإيثارهم العير على النفير فقال : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).

والمراد بإحدى الطائفتين : العير أو النفير ، والخطاب للمؤمنين.

والمراد بغير ذات الشوكة : العير ، والمراد بذات الشوكة : النفير.

٤٠