التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

١ ـ أن التكاليف الإسلامية تقوم على اليسر ورفع الحرج ، ومن مظاهر ذلك : أن الجهاد. وهو ذروة سنام الإسلام ، قد أعفى الله ـ تعالى ـ منه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون وسائله ومتطلباته.

قال الإمام القرطبي (١) : قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ..) هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز ، فكل من عجز عن شيء مسقط عنه ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال. ونظير هذه الآية قوله. تعالى ـ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢) وقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (٣).

٢ ـ أنه متى وجدت النية الصادقة في فعل الخير. حصل الثواب وإن لم يكن هناك عمل ، بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعي ، بشرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر.

قال الإمام ابن كثير : في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال. «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم قالوا : وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر».

وروى الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم واديا ، ولا سلكتم طريقا ، إلا شاركوكم في الأجر ، حبسهم المرض» (٤).

٣ ـ أن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ضربوا أروع الأمثال في الحرص على الجهاد والاستشهاد وأن أعذارهم الشرعية لم تمنع بعضهم من المشاركة في القتال ...

فهذا عبد الله بن أم مكتوم وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء. وهذا عمرو ابن الجموح ـ وكان أعرج ـ يخرج في مقدمة الجيوش فيقول له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد عذرك» فيقول : «والله لأحفرن بعرجتي هذه الجنة» ـ أى لأتركن آثار أقدامى فيها.

ومن كان يؤتى به وهو يمشى بين الرجلين معتمدا عليهما من شدة ضعفه» ومع ذلك يقف في صفوف المجاهدين.

وبهذه القلوب السليمة ، والعزائم القوية والنفوس النقية التي خالط الإيمان شغافها ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ـ بتصرف يسير ج ٨ ص ٢٢٦.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٦.

(٣) سورة الفتح الآية ١٧.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٢٦.

٣٨١

ارتفعت كلمة الحق ، وعزت كلمة الإسلام.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أحكام أصحاب الأعذار المقبولة ، أتبع ذلك ببيان أحكام الأعذار الكاذبة ، والصفات القبيحة ، فقال تعالى.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٩٦)

فهذه الآيات الكريمة بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين قعدوا في المدينة بدون عذر ، بعد أن يرجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم والمؤمنون من تبوك.

والمعنى : إذا كان الضعفاء والمرضى ومن في حكمهم ، لا إثم ولا عقوبة عليهم بسبب تخلفهم عن الجهاد ، فإن «السبيل» أى الإثم والعقوبة «على الذين يستأذونك» في التخلف «وهم أغنياء» أى يملكون كل وسائل الجهاد من مال وقوة وعدة.

وقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) استئناف تعليلى مسبوق لمزيد مذمتهم.

٣٨٢

أى : استأذنوك في القعود مع غناهم وقدرتهم على القتال ، لأنهم لخلو قلوبهم من الإيمان ، ولسقوط همتهم وجبنهم ، رضوا لأنفسهم أن يقبعوا في المدينة مع الخوالف من النساء والصبيان والعجزة.

وقوله : (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بيان لسوء مصيرهم.

أى : وبسبب هذا الإصرار على النفاق ، والتمادي في الفسوق والعصيان ، ختم الله ـ تعالى ـ على قلوبهم ، فصارت لا تعلم ما يترتب على ذلك من مصائب دينية ودنيوية وأخروية.

وقوله : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) ، إخبار عما سيقولونه للمؤمنين عند لقائهم بهم.

أى : أن هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد مع قدرتهم عليه ، سيعتذرون إليكم ـ أيها المؤمنون ـ إذا رجعتم إليهم من تبوك ، بأن يقولوا لكم مثلا : إن قعودنا في المدينة وعدم خروجنا معكم كانت له مبرراته القوية. فلا تؤاخذنا.

وهذه الجملة الكريمة من الأنباء التي أنبأ الله بها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أحوال المنافقين وعما سيقولونه له وللمؤمنين بعد عودتهم إليهم ، وهذا يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة ، وقبل وصول الرسول وأصحابه إلى المدينة من تبوك.

وقوله : (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) ، إبطال لمعاذيرهم ، وتلقين من الله ـ تعالى ـ لرسوله بالرد الذي يخرس ألسنتهم.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ عند ما يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ، قل لهم : دعوكم من هذه المعاذير الكاذبة ، ولا تتفوهوا بها أمامنا ، فإننا «لن نؤمن لكم» ولن نصدق أقوالكم ، فإن الله ، تعالى. قد كشف لنا عن حقيقتكم ووضح لنا أحوالكم ، وبين لنا ما أنتم عليه من نفاق وفسوق وعصيان ، وما دام الأمر كذلك ، فوفروا على أنفسكم هذه المعاذير الكاذبة.

وقال ، سبحانه. (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) ولم يقل قد نبأنى ، للإشعار بأن الله ـ تعالى ـ قد أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ المؤمنين بأحوال هؤلاء المنافقين حتى يكونوا على بينة من أمرهم.

وقوله : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) تهديد لهم على نفاقهم وكذبهم.

أى : دعوا عنكم هذه الأعذار الباطلة ، فإن الله ـ تعالى ـ مطلع على أحوالكم ، وسيعلم سركم وجهركم علما يترتب عليه الجزاء العادل لكم ، ويبلغ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخباركم ، هذا

٣٨٣

في الدنيا ، أما في الآخرة ، فأنتم «ستردون» يوم القيامة «إلى عالم الغيب والشهادة» الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء «فينبئكم بما كنتم تعملون» أى : فيخبركم بما كنتم تعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقونه من عقاب.

ثم أخبر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هؤلاء المنافقين ، سيؤكدون أعذارهم الكاذبة بالأيمان الفاجرة فقال : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ...).

أى : أنهم سيحلفون بالله لكم ـ أيها المؤمنون ـ إذا ما رجعتم إليهم من تبوك وذلك لكي تعرضوا عنهم فلا توبخوهم على قعودهم ، ولا تعنفوهم على تخلفهم.

وقوله (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) تعليل لوجوب الإعراض عنهم ، لا على سبيل الصفح والعفو ، بل على سبيل الإهمال والترك والاحتقار.

أى : فأعرضوا ـ أيها المؤمنون ـ عن هؤلاء المنافقين المتخلفين ، لأنهم «رجس».

أى : قذر ونجس لسوء نواياهم ، وخبث طواياهم.

وقد جعلهم ـ سبحانه ـ نفس الرجس ، مبالغة في نجاسة أعمالهم ، وقبح بواطنهم.

وقوله : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة.

أى : أنهم في الدنيا محل الاحتقار والازدراء لنجاسة بواطنهم ، أما في الآخرة فمستقرهم وموطنهم جهنم بسبب ما اكتسبوه من أعمال قبيحة ، وما اجترحوه من أفعال سيئة.

وقوله : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بدل مما قبله.

ولم يذكر ـ سبحانه ـ المحلوف به لظهوره أى : يحلفون بالله لترضوا عنهم ، ولتصفحوا عن سيئاتهم ...

وقوله : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) بيان لحكم الله ـ تعالى ـ فيهم ، حتى يكون المؤمنون على حذر منهم.

أى : إن هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد يحلفون بالله لكم بأنهم ما تخلفوا إلا لعذر ، لكي تصفحوا عنهم ، أيها المؤمنون ، فإن صفحتم عنهم على سبيل الفرض فإن الله ـ تعالى ـ لا يصفح ولا يرضى عن القوم الذين فسقوا عن أمره ، وخرجوا عن طاعته.

وقال الآلوسى ، «والمراد من الآية الكريمة ، نهى المخاطبين عن الرضا عنهم ، وعن الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده ، فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله ـ تعالى ـ مما لا يكاد يصدر عن المؤمنين ، والآية نزلت على ما روى عن ابن عباس في جد بن قيس ،

٣٨٤

ومعتب بن قشير ، وأصحابهما من المنافقين ، وكانوا ثمانين رجلا ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة ؛ ألا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا» (١).

وقال ـ سبحانه ـ (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ولم يقل فإن الله لا يرضى عنهم ، لتسجيل الفسق عليهم ، وللإيذان بشمول هذا الحكم لكل من كان مثلهم في الفسوق وفي الخروج عن طاعة الله ، تعالى.

وجواب الشرط في قوله : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) محذوف ، والتقدير : فإن ترضوا عنهم على سبيل الفرض ، فإن رضاكم عنهم لن ينفعهم ، لأن الله تعالى. لا يرضى عن القوم الذين خرجوا عن طاعته.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت جانبا آخر من الأحوال القبيحة للمنافقين ، وردت على معاذيرهم الكاذبة ، وأيمانهم الفاجرة بما يفضحهم ويخزيهم ، وتوعدتهم بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.

ثم بعد الحديث الطويل عن النفاق والمنافقين ، أخذت السورة الكريمة. في الحديث عن طوائف أخرى منها الصالح ، ومنها غير الصالح ، وقد بدأت بالحديث عن الأعراب سكان البادية ، فقال ـ تعالى ـ :

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٩)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٤.

٣٨٥

قال صاحب المنار : قوله ، سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً). بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين ، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى.

والأعراب : اسم جنس لبدو العرب ، واحده : أعرابى ، والأنثى أعرابية ، والجمع أعاريب ، والعرب : اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة ، بدوه وحضره ، واحده : عربي ..» (١).

والمراد بالأعراب هنا : جنسهم لا كل واحد منهم ، بدليل أن الله. تعالى. قد ذم من يستحق الذم منهم ، ومدح من يستحق المدح منهم ، فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده.

وقد بدأ ، سبحانه ، بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقا لهم بمنافقى المدينة الذين تحدثت السورة عنهم قبل ذلك مباشرة حديثا مستفيضا ، وبهذا الترتيب الحكيم تكون السورة الكريمة قد واصلت الحديث عن منافقي الحضر والبدو.

والمعنى : «الأعراب» سكان البادية «أشد كفرا ونفاقا» من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى.

وذلك ، لأن ظروف حياتهم البدوية ، وما يصاحبها من عزلة وكر وفر في الصحراء ، وخشونة في الحياة ... كل ذلك جعلهم أقسى قلوبا ، وأجفى قولا ، وأغلظ طبعا ، وأبعد عن سماع ما يهدى نفوسهم إلى الخير من غيرهم سكان المدن.

وقوله : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) معطوف على ما قبله لتعديد صفاتهم الذميمة.

قال القرطبي : قوله : «وأجدر» عطف على «أشد» ومعناه : أخلق ، وأحق ، يقال : فلان جدير بكذا ، أى : خليق به. وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدراء وجديرون ، وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء فقوله : هو أجدر بكذا ، أى : أقرب إليه وأحق به (٢).

والمعنى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين ، وهم كذلك أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، بسبب ابتعادهم عن مجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرائع وآداب وأحكام.

__________________

(١) تفسير المنار ج ١١ ص ٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٣٣.

٣٨٦

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أى : «عليم» بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء من صفاتهم وطباعهم «وحكيم» في صنعه بهم ، وفي حكمه عليهم ، وفيما يشرعه لهم من أحكام ، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب.

هذا ، وقد ذكر المفسرون هنا أمثلة متعددة لجفاء الأعراب وجهلهم ، ومن ذلك قول الإمام ابن كثير :

قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابى إلى زيد بن صوهان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم «نهاوند» فقال الأعرابى : والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبنى!! فقال زيد : وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال!! فقال الأعرابى : والله ما أدرى اليمين يقطعون أو الشمال!! فقال زيد : صدق الله إذ يقول : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ..).

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن».

وروى الإمام مسلم عن عائشة قال : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم. فقالوا : لكنا والله ما نقبل!! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حال فريق آخر من منافقي الأعراب فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً).

أى : ومن الأعراب قوم آخرون يعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله غرامة وخسارة عليهم لأنهم لا ينفقون ما ينفقونه طمعا في ثواب ، أو خوفا من عقاب وإنما ينفقونه تقية ورياء ومداراة للمسلمين ، لا مساعدة للغزاة والمجاهدين ، ولا حبا في انتصار المؤمنين.

قال الجمل : وقوله : «من يتخذ ما ينفق مغرما» «من» مبتدأ ، وهي موصولة أو موصوفة ، و «مغرما». مفعول ثان ، لأن «اتخذ» هنا بمعنى صير ، والمفعول الأول قوله : «ما ينفق».

والمغرم : الخسران ، مشتق من الغرم وهو الهلاك لأنه سببه ، وقيل أصله الملازمة ، ومنه الغريم للزومه من يطالبه» (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٨٣ بتصرف وتلخيص.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢١١.

٣٨٧

وقوله : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) معطوف على ما قبله ، والتربص : الانتظار والترقب والدوائر : جمع دائرة. وهو ما يحيط بالإنسان من مصائب ونكبات ، كما تحيط الدائرة بالشيء الذي بداخلها.

أى : أنهم بجانب اعتبارهم ما ينفقونه غرامة وخسارة ، ينتظرون بكم ـ أيها المؤمنون ـ صروف الدهر ونوائبه التي تبدل حالكم من الخير إلى الشر ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن الصحة إلى المرض والأسقام ، ومن الأمان والاطمئنان إلى القلق والاضطراب ..

وقوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) جملة معترضة ، جيء بها للدعاء عليهم.

أى : عليهم لا عليكم ـ أيها المؤمنون ـ تدور دائرة السوء ، التي يتبدل بها حالهم إلى الهلاك والفساد.

والسوء ـ بفتح السين ـ مصدر ساءه يسوءه سوءا ، إذا فعل به ما يكره ، والسوء ـ بالضم ـ اسم منه. وقيل المفتوح بمعنى الذم ، والمضموم بمعنى العذاب والضرر.

وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة ، كما في قولهم : رجل صدق.

وفي هذا التعبير ما فيه من الذم لهؤلاء المنافقين ، لأنه ـ سبحانه ـ جعل السوء كأنه دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم ، وتدور بهم فلا تدع لهم مهربا أو منجاة من عذابها وضررها.

وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل قصد به تهديدهم وتحذيرهم بما ارتكسوا فيه من نفاق وكفر وشقاق.

والله تعالى ـ «سميع» لكل ما يتفوهون به من أقوال ، «عليم» بكل ما يظهرونه وما يبطنونه من أحوال ، وسيحاسبهم على ما صدر منهم حسابا عسيرا يوم القيامة : وينزل بهم العقاب الذي يناسب جرائمهم ..

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ حال هؤلاء الأعراب المنافقين ، أتبعه ببيان حال المؤمنين الصادقين منهم فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

أى : ومن الأعراب قوم آخرون من صفاتهم أنهم يؤمنون بالله إيمانا صادقا ، ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب.

وقوله : (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) مدح لهم على إخلاصهم وسخائهم وطاعتهم ...

والقربات : جمع قربة وهي ما يتقرب به الإنسان إلى خالقه من أعمال الخير ، والمراد

٣٨٨

بصلوات الرسول : دعواته للمتقربين إلى الله بالطاعة.

أى : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، ويعتبر كل ما ينفقه في سبيل الله وسيلة للتقرب إليه ـ سبحانه ـ وتعالى بالطاعة ، ووسيلة للحصول على دعوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بالرحمة والمغفرة ، وبحسنات الدنيا والآخرة.

ولقد كان من عادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لآل أبى أوفى عند ما تقدموا إليه بصدقاتهم فقال : «اللهم صل على آل أبى أوفى» أى : ارحمهم وبارك لهم في أموالهم ..

وقوله : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) شهادة لهم منه سبحانه ـ بصدق إيمانهم ، وخلوص نياتهم ، وقبول صدقاتهم.

والضمير في قوله (إِنَّها) يعود على النفقة التي أنفقوها في سبيل الله و (أَلا) أداة استفتاح جيء بها لتأكيد الخبر والاهتمام به. أى : ألا إن هذه النفقات التي تقربوا بها إلى الله ، مقبولة عنده ـ سبحانه ـ قبولا مؤكدا ، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من أجر جزيل ...

وقوله (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) وعد لهم بإحاطة رحمته بهم. والسين للتحقيق والتأكيد.

أى : أن هؤلاء المؤمنين بالله واليوم الآخر ، والمتقربين إليه سبحانه بالطاعات ، سيغمرهم الله تعالى برحمته التي لا شقاء معها.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنتين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك قوله : (سَيُدْخِلُهُمُ) وما في السين من تحقيق الوعد. وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان ، إذا خلصت النية من صاحبها (١).

وقوله : «إن الله غفور رحيم» تذييل مقرر لما قبله على سبيل التعليل.

أى : إن الله تعالى ـ واسع المغفرة ، كثير الرحمة للمخلصين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذمت من يستحق الذم من الأعراب ومدحت من يستحق المدح منهم ، وبينت مصير كل فريق ليكون عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٤.

٣٨٩

وبعد هذا التقسيم للأعراب ، انتقلت السورة للحديث عن المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأطاعوه في السر والعلن ، فقال تعالى :

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٠٠)

فهذه الآية الكريمة قد مدحت ثلاث طوائف من المسلمين المعاصرين للعهد النبوي.

الطائفة الأولى «السابقون الأولون من المهاجرين» وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم بمكة ، وهاجروا إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة من أجل إعلاء كلمة الله واستمروا في المدينة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن تم الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا.

وقيل المراد بهم : الذين صلوا إلى القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا غزوة بدر.

والطائفة الثانية : السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يهاجر إليهم إلى المدينة بيعة العقبة الأولى والثانية.

وكانت بيعة العقبة الأولى في السنة الحادية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعة أفراد.

أما بيعة العقبة الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشركين فيها سبعين رجلا وامرأتين.

ثم يلي هؤلاء أولئك المؤمنون من أهل المدينة الذين دخلوا في الإسلام على يد مصعب بن عمير ، قبل وصول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها.

ثم يلي هؤلاء جميعا أولئك الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مقدمه إلى المدينة.

والطائفة الثالثة : «الذين اتبعوهم بإحسان» أى : الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار ، اتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ونصرتهم لدعوة الحق.

قال الآلوسى ما ملخصه : وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين ، جميع المهاجرين والأنصار. ومعنى كونهم سابقين : أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين.

٣٩٠

روى عن حميد بن زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ، ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم من الفتن؟ فقال لي : إن الله ـ تعالى ـ قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، فقلت له : وفي أى موضع أوجب لهم الجنة ، فقال : سبحان الله!! ألم تقرأ قوله. تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ..) الآية فقد أوجب. سبحانه لجميع الصحابة الجنة وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءا .. (١).

وقوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) بيان لسمو منزلتهم ، وارتفاع مكانتهم.

أى : رضى الله عنهم في إيمانهم وإخلاصهم ، فتقبل أعمالهم ، ورفع درجاتهم وتجاوز عن زلاتهم ، ورضوا عنه ، بما أسبغه عليهم من نعم جليلة ، وبما نالوه منه. سبحانه. من هداية وثواب.

ثم ختم سبحانه الآية الكريمة ببيان ما هيأه لهم في الآخرة من إكرام فقال : (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

أى : أنه ـ سبحانه ـ بجانب رضاه عنهم ورضاهم عنه في الدنيا ، قد أعد لهم ـ سبحانه ـ في الآخرة جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها خلودا أبديا وذلك الرضا والخلود في الجنات من الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا تدانيه سعادة.

قال الإمام ابن كثير : أخبر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية «أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. فيا ويل من أبغضهم ، أو سبهم ، أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول ، وخيرهم وأفضلهم أعنى الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبى قحافة ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ، ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضى الله عنهم؟

وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضى الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالى الله ، ويعادون من يعادى الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون ، وعباده المؤمنون (٢).

وبهذا نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧١.

٣٩١

تبعهم بإحسان ، وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم وإيثارهم ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها ..

ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن أصناف أخرى من الناس ، منهم قوم. أجادوا النفاق ، ومرنوا عليه ، ولجوا فيه. ومنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم قوم موقوف أمرهم إلى أن يظهر الله حكمه فيهم فقال تعالى :

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠٦)

قال القرطبي : ومعنى : «مردوا على النفاق» أقاموا عليه ولم يتوبوا منه ، أو لجوا فيه وأبوا غيره وأصل الكلمة من اللين والملاسة والتجرد ، فكأنهم تجردوا للنفاق ، ومنه رملة مرداء

٣٩٢

أى لا نبت فيها ، وغصن أمرد. أى : لا ورق له ... ويقال : مرد يمرد مرودا ومرادة» (١).

والمعنى : اذكروا أيها المؤمنون أنه يسكن من حول مدينتكم قوم من الأعراب منافقون ، فاحترسوا منهم ، واحترسوا ـ أيضا ـ من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة ، مردوا على النفاق ، أى : مرنوا عليه ، وأجادوا فنونه ، حتى بلغوا فيه الغاية.

قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد بالموصول. في قوله «وممن حولكم». قبائل : جهينة ، ومزينة وأشجع ، وأسلم ... وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين.

واستشكل ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدح بعض هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أنه قال : «قريش ، والأنصار ، وجهينة ، ومزينة ، وأشجع وأسلم ، وغفار ، موالي الله ـ تعالى ـ ورسوله لا والى لهم غيره».

وأجيب ذلك باعتبار الأغلب منهم (٢).

وقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) بيان لتمردهم في النفاق وتمهرهم فيه.

أى : أنت أيها الرسول الكريم. لا تعرف هؤلاء المنافقين. مع كمال فطنتك ، وصدق فراستك لأنك تعامل الناس بظواهرهم ، وهم قد أجادوا النفاق وحذقوه ، واجتهدوا في الظهور بمظهر المؤمنين ، أما نحن فإننا نعلمهم لأننا لا يخفى علينا شيء من ظواهرهم أو بواطنهم ..».

قال الإمام ابن كثير : وقوله تعالى (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) لا ينافي قوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ...) لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء.

وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأسه فقال : «إن في أصحابى منافقين» : ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين بما لا صحة له من الكلام ، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم.

__________________

(١) تفسير القرطبي بتصرف وتلخيص ج ٨ ص ٢٤٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٠.

٣٩٣

ثم قال : وقد تقدم في تفسير قوله ـ تعالى ـ (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا. وهذا تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم.

وروى الحافظ بن عساكر عن أبى الدرداء ، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الإيمان ها هنا وأشار بيده إلى لسانه ، والنفاق ها هنا وأشار بيده إلى قلبه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبى ، وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير».

فقال الرجل يا رسول الله : إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم؟ فقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن أتانا استغفرنا له ، ومن أصر فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا» (١).

وقال الآلوسى. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى معرفة الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها ، فقد أخرج عبد الرازق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة : أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون : فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدرى. لعمري لأنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي. فقد قال نوح عليه‌السلام «وما علمي بما كانوا يعملون» وقال شعيب عليه‌السلام «وما أنا عليكم بحفيظ» ، وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).

وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب ، وتجرد النفس عن الشواغل.

ثم قال : والجملة الكريمة «لا تعلمهم نحن نعلمهم» تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أى : لا يقف على سرائرهم المذكورة فيهم ، إلا من لا تخفى عليه خافية ، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص (٢).

وقوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وعيد لهم بسوء المصير في الدنيا والآخرة.

أى : هؤلاء المنافقون الذين مردوا على النفاق ، سنعذبهم في الدنيا مرتين ، مرة عن طريق فضحيتهم وهتك أستارهم وجعلهم يعيشون في قلق وهم دائم ، والأخرى عن طريق ضرب

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١١.

٣٩٤

الملائكة لوجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم وما يتبع ذلك من عذابهم في قبورهم إلى أن تقوم الساعة ، فيجدون العذاب الأكبر الذي عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ).

أى : ثم يعودون ويرجعون إلى خالقهم ـ سبحانه ـ يوم القيامة فيعذبهم عذابا عظيما بسبب إصرارهم على النفاق ، ورسوخهم في المكر والخداع.

قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم ، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (١) أى : كرة بعد أخرى (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ حال طائفة أخرى من المسلمين فقال : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) ..

قال الآلوسى : قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم ... بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ، ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم (٣).

والمعنى : ويوجد معكم أيها المؤمنون قوم آخرون من صفاتهم أنهم اعترفوا بذنوبهم أى أقروا بها ولم ينكروها.

وقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أى خلطوا عملهم الصالح وهو جهادهم في سبيل الله قبل غزوة تبوك ، بعمل سيئ وهو تخلفهم عن الخروج إلى هذه الغزوة.

وقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أى عسى الله تعالى : أن يقبل توبتهم ، ويغسل ، حوبتهم ، ويتجاوز عن خطاياهم.

وعبر ـ سبحانه ـ بعسى للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه ، حتى لا يتكل الشخص ، بل يكون على خوف وحذر.

وقد قالوا إن كلمة عسى متى صدرت عن الله تعالى ـ فهي متحققة الوقوع ، لأنها صادرة من كريم ، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء لا يعطيه إياه.

وقوله : إن الله غفور رحيم ، تعليل لرجاء قبول توبتهم ، إذ معناه ، إن الله تعالى كثير المغفرة للتائبين ، واسع الرحمة للمحسنين.

__________________

(١) سورة الملك الآية ٣.

(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٣٩٣.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١١.

٣٩٥

هذا ، وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية ولعل أرجح هذه الروايات ما رواه ابن جرير من أن هذه الآية نزلت في أبى لبابة وأصحابه ، وكانوا تخلفوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فلما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته ، وكان قريبا من المدينة ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا : نكون في الظلال والأطعمة والنساء ونبي الله في الجهاد واللأواء. والله لنوثقن أنفسنا بالسوارى ، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله هو الذي يطلقنا.

وأوثقوا أنفسهم. وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسوارى فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته فمر بالمسجد فأبصرهم فسأل عنهم ، فقيل له : إنه أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبي الله ، فصنعوا بأنفسهم ما ترى ، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله ، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين» ، فأنزل الله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ...) الآية ، فأطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذرهم (١).

ثم أمر الله تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ الصدقات من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم ومن غيرهم ، فقال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما أطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا لبابة وأصحابه جاءوا بأموالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا ، واستغفر لنا ، فقال : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا».

فأنزل الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ....) الآية (٢).

وقال الإمام ابن كثير : أمر الله تعالى ـ رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها. وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.

ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا احتجوا بقوله : ـ تعالى ـ : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ....) الآية.

وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة ، وقاتلوهم حتى

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ١٠٥ طبعة دار المعارف.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ١٠٢.

٣٩٦

أدوا الزكاة الى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال الصديق : «والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاتلتهم على منعه (١)».

والمعنى : خذ ـ أيها الرسول الكريم ـ من أموال هؤلاء المعترفين بذنوبهم ، ومن غيرهم من أصحابك «صدقة» معينة ، كالزكاة المفروضة ، أو غير معينة كصدقة التطوع.

وقوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) بيان للفوائد المترتبة على هذه الصدقة.

أى : من فوائد هذه الصدقة أنها تطهر النفوس من رذائل الشح والبخل والطمع .. وتزكى القلوب من الأخلاق الذميمة ، وتنمى الأموال والحسنات قال بعضهم : قوله : «تطهرهم» قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر. وقرئ. مرفوعا على أنه حال من ضمير المخاطب في قوله : «خذ» أو صفة لقوله «صدقة» والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده أى : تطهرهم بها ...

وقوله : «وتزكيهم» لم يقرأ إلا بإثبات الياء ، على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه. أى : وأنت تزكيهم بها.

هذا على قراءة الجزم في «تطهرهم» ، وأما على قراءة الرفع فيكون قوله «وتزكيهم بها» معطوف على قوله «تطهرهم» حالا أو صفة (٢).

وقوله : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أى : وادع لهم بالرحمة والمغفرة ، وقبول التوبة ، فإن دعاءك لهم تسكن معه نفوسهم ، وتطمئن به قلوبهم ، ويجعلهم في ثقة من أن الله ـ تعالى ـ قد قبل توبتهم ، فأنت رسوله الأمين ، ونبيه الكريم.

فالمراد بالصلاة هنا : الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.

قال بعضهم : «وظاهر» قوله : «وصل عليهم» أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق. وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر.

وأما سائر الفقهاء فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» ولم يأمره بالدعاء ..

أما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيين إلا ما رواه الستة ـ غير الترمذي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم صل على آل أبى أوفى» ـ عند ما أخذ منهم الزكاة ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٦.

(٢) تفسير القاسمى ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ٨ ص ٣٢٥٢.

٣٩٧

ومن هنا قال الحنابلة وداود وأهل الظاهر لا مانع من أن يقول آخذ الزكاة : اللهم صل على آل فلان.

وقال باقى الأئمة لا يجوز أن يقال : اللهم صل على آل فلان ، وإن ورد في الحديث ، لأن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ، كما أن قولنا : ـ عزوجل ـ صار مخصوصا بالله ـ تعالى ـ.

قالوا : وإنما أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة في بعض الأئمة ، والتشبه بأهل البدع منهى عنه.

ولا خلاف في أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم فيقال : اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته .. لأن السلف استعملوا ذلك ، وأمرنا به في التشهد ، ولأن الصلاة على التابع تعظيم للمتبوع ..» (١).

وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أى : سميع لاعترافهم بذنوبهم وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة ، وعليم بندمهم وتوبتهم ، وبكل شيء في هذا الكون ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

ثم حرضهم ـ سبحانه ـ على التوبة النصوح ، وحثهم على بذل الصدقات فقال : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ...).

أى : ألم يعلم هؤلاء التائبون من ذنوبهم ، أن الله ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي يقبل التوبة الصادقة من عباده المخلصين ، وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي «يأخذ الصدقات».

أى : يتقبلها من أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله : فالتعبير بالأخذ للترغيب في بذل الصدقات ، ودفعها للفقراء. والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده.

أى : وأن الله وحده هو الذي يقبل توبة عباده المرة بعد الأخرى ، وأنه هو الواسع الرحمة بهم ، الكثير المغفرة لهم :

قال ابن كثير : قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ..) هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها ، وأخبر ـ تعالى ـ أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ـ بتصرف وتلخيص ج ٣ ص ٤٨.

٣٩٨

يتقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد ، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ). وقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).

وعن عبد الله بن مسعود قال : إن الصدقة تقع في يد الله ـ تعالى ـ قبل أن تقع في يد السائل ، ثم قرأ هذه الآية. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ...) (١).

ثم أمر ـ سبحانه ـ بالتزود من العمل الصالح ، وحذر من الوقوع في العمل السيئ ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء التائبين وغيرهم ، قل لهم : اعملوا ما تشاءون من الأعمال ، فإن الله مطلع عليها ، وسيطلع رسوله والمؤمنون عليها كذلك.

وخص ـ سبحانه ـ رسوله والمؤمنين بالذكر ، لأنهم هم الذين يهتم المخاطبون باطلاعهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ...) تعليل لما قبله ، أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب ، والسين للتأكيد .. والمراد من رؤية الله العمل ـ عند جمع ـ الاطلاع عليه ، وعلمه علما جليا ، ونسبة ذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، باعتبار أن الله ـ تعالى ـ لا يخفى ذلك عنهم ، بل يطلعهم عليه ...» (٢).

وقوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بيان لما سيكون عليه حالهم في الآخرة.

أى : وسترجعون بعد موتكم إلى الله ـ تعالى ـ الذي لا يخفى عليه شيء ، فينبئكم بما كنتم تعملونه في الدنيا من خير أو شر ، وسيجازيكم بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة تبوك ، فقال ـ تعالى ـ : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ..).

قال الجمل : قوله : «وآخرون مرجون ...» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عمر وأبو بكر عن عاصم «مرجؤون» بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. وقرأ الباقون «مرجون» دون

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦.

٣٩٩

تلك الهمزة .. وهما لغتان ، يقال أرجأته وأرجيته ..» (١).

وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ..).

والمعنى : ومن المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك ـ يا محمد ـ قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم الله فيهم بحكمه العادل ، فهو ـ سبحانه ـ «إما يعذبهم» بأن يميتهم بلا توبة «وإما يتوب عليهم» أى : يقبل توبتهم.

وهذا الترديد الذي يدل عليه لفظ «إما» ، إنما هو بالنسبة للناس ، وإلا فالله ـ تعالى ـ عليم بما هو فاعله بهم.

والحكمة من إيهام أمرهم ، إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم ؛ لأن التوبة عند ما تجيء بعد ندم شديد ، وتأديب نفسي .. تكون مرجوة القبول منه ـ سبحانه ـ.

وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم في أمورهم ، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام.

قال الآلوسى : والمراد بهؤلاء «المرجون لأمر الله ..» كما جاء في الصحيحين : هلال بن أمية ، وكعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك ـ فقعدوا في المدينة كسلا وميلا إلى الدعة ـ ولم يكن تخلفهم عن نفاق ، فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ما كان من أمر المتخلفين ـ قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة ، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باجتنابهم .. إلى أن نزل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ... (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ..) فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخالطتهم ، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف ، إذ كانت مدة غيبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المدينة خمسين ليلة ، فلما تمتعوا بالراحة في تلك المدة مع تعب إخوانهم في السفر ، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة ..» (٢).

وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك.

أما الطائفة الأولى فهي التي مردت على النفاق ، وقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ..).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣١٦.

(٢) تفسير الآلوسى ـ بتصرف ـ ج ١١ ص ١٧.

٤٠٠