التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٩)

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم. إن جاء أحد منهم بمال جزيل ، قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ، كما روى البخاري عن أبى مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا ـ أى : نؤاجر أنفسنا في الحمل ـ فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا هذا يقصد الرياء ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ، فنزلت هذه الآية (١).

وأخرج ابن جرير عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تصدقوا فإنى أريد أن أبعث بعثا ، ـ أى إلى تبوك ـ قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله .. إن عندي أربعة آلاف : ألفين أقرضهما الله ، وألفين لعيالي.

قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت»؟! فقال رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمر ، صاعا لربي ، وصاعا لعيالي ، قال : فلمز المنافقون وقالوا : ما أعطى أبو عوف هذا إلا رياء!!

وقالوا : أو لم يكن الله غنيا عن صاع هذا!! فأنزل الله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ...) (٢).

وقال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدى ـ أخا بني عجلان ـ وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغب في الصدقة وحض عليها. فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدى وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما ، وقالوا : ما هذا إلا رياء. وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ـ أخا بني أنيف ـ أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل» (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٥.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٨٦. طبعة دار المعارف.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٥.

٣٦١

هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ، وهناك روايات أخرى ، قريبة في معناها بما ذكرناها.

وقوله : «يلمزون» من اللمز ، يقال : لمز فلان فلانا إذا عابه وتنقصه.

والمراد بالمطوعين : أغنياء المؤمنين الذين قدموا أموالهم عن طواعية واختيار ، من أجل إعلاء كلمة الله.

والمراد بالصدقات : صدقات التطوع التي يقدمها المسلم زيادة على الفريضة.

والمراد بالذين لا يجدون إلا جهدهم : فقراء المسلمين. الذين كانوا يقدمون أقصى ما يستطيعونه من مال مع قلته ، إذ الجهد : الطاقة ، وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان.

والمعنى : إن من الصفات القبيحة ـ أيضا ـ للمنافقين ، أنهم كانوا يعيبون على المؤمنين ، إذا ما بذلوا أموالهم لله ورسوله عن طواعية نفس ، ورضا قلب ، وسماحة ضمير ....

وذلك لأن هؤلاء المنافقين ـ لخلو قلوبهم من الإيمان ـ كانوا لا يدركون الدوافع السامية ، والمقاصد العالية من وراء هذا البذل ..

ومن أجل هذا كانوا يقولون عن المكثر : إنه يبذل رياء ، وكانوا يقولون عن المقل : إن الله غنى عن صدقته ، فهم ـ لسوء نواياهم وبخل نفوسهم ، وخبث قلوبهم ـ لا يرضيهم أن يروا المؤمنين يتنافسون في إرضاء الله ورسوله.

وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) معطوف على قوله : (الْمُطَّوِّعِينَ).

أى : أن هؤلاء المنافقين يلمزون الأغنياء المطوعين بالمال الكثير ، ويلمزون الفقراء الباذلين للمال القليل ؛ لأنه هو مبلغ جهدهم ، وآخر طاقتهم.

وقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) بيان لموقفهم الذميم من المؤمنين.

أى : إن هؤلاء المنافقين يستهزئون بالمؤمنين عند ما يلبون دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنفاق في سبيل الله.

وجاء عطف (فَيَسْخَرُونَ) على (يَلْمِزُونَ) بالفاء ، للإشعار بأنهم قوم يسارعون إلى الاستهزاء بالمؤمنين ، بمجرد أن يصدر عن المؤمنين أى عمل من الأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله.

وقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بيان لجزائهم وسوء عاقبتهم.

أى : إن هؤلاء الساخرين من المؤمنين جازاهم الله على سخريتهم في الدنيا ، بأن فضحهم وأخزاهم ، وجعلهم محل الاحتقار والازدراء ...

٣٦٢

أما جزاؤهم في الآخرة فهو العذاب الأليم الذي لا يخف ولا ينقطع.

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت جانبا من طبائع المنافقين وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ويبشرهم بالعذاب الأليم.

ثم عقب الله ـ تعالى ـ هذا الحكم عليهم بالعذاب الأليم ، بحكم آخر وهو عدم المغفرة لهم بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق ، فقال ـ تعالى ـ :

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٨٠)

قال الجمل : قال المفسرون : لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين ، وفي بيان نفاقهم ، وظهر أمرهم للمؤمنين ، جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه ، ويقولون : استغفر لنا فنزلت هذه الآية.

وهذا كلام خرج مخرج الأمر ومعناه الخبر ، والتقدير : استغفارك وعدمه لهم سواء (١).

وإنما جاء هذا الخبر هنا في صورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما.

وقد جاء هذا الحكم في صورة الخبر في موضع آخر هو قوله ـ تعالى ـ (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢).

والمقصود بذكر السبعين في قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) إرادة التكثير ، والمبالغة في كثرة الاستغفار ، فقد جرت عادة العرب في أساليبهم على استعمال هذا العدد للتكثير لا للتحديد ، فهو لا مفهوم له.

ونظيره قوله ـ تعالى ـ (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً ..) (٣).

أى : مهما استغفرت لهم يا محمد فلن يغفر الله لهم.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) بيان للأسباب التي أدت إلى عدم مغفرة الله لهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٤.

(٢) سورة «المنافقون» الآية ٦.

(٣) سورة الحاقة الآية ٣٢.

٣٦٣

واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى امتناع المغفرة لهم ، المفهوم من قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

أى : ذلك الحكم الذي أصدرناه عليهم بعدم مغفرة ذنوبهم مهما كثر استغفارك لهم ، سببه : أنهم قوم «كفروا بالله ورسوله» ومن كفر بالله ورسوله ، فلن يغفر الله له ، مهما استغفر له المستغفرون ، وشفع له الشافعون.

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل مؤكد لما قبله ، أى والله ـ تعالى ـ لا يهدى إلى طريق الخير أولئك الذين فسقوا عن أمره ، وخرجوا عن طاعته ، ولم يستمعوا إلى نصح الناصحين ، وإرشاد المرشدين ، وإنما آثروا الغواية على الهداية.

هذا ، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة ، شدة شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمته ، وحرصه على هدايتها ، وكثرة دعائه لها بالرحمة والمغفرة ، وأنه مع إيذاء المنافقين له كان يستغفر لهم ـ أملا في توبتهم ـ إلى أن نهاه الله عن ذلك.

روى ابن جرير عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فو الله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ، فلعل الله أن يغفر لهم ، فقال الله ـ تعالى ـ من شدة غضبه عليهم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...) (١).

وعن قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقد خيرنى ربي فلأزيدنهم على السبعين» فقال الله ـ تعالى ـ : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...) (٢).

وهكذا أصدر الله حكمه العادل في هؤلاء المنافقين ، بعدم المغفرة لهم ، بسبب كفرهم به وبرسوله ...

وبعد هذا الحديث الطويل المتنوع عن أحوال المنافقين ومسالكهم الخبيثة ، أخذت السورة الكريمة في الحديث عن حال المنافقين الذين تخلفوا في المدينة ، وأبوا أن يخرجوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ

__________________

(١ ، ٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٩٧.

٣٦٤

وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)(٨٣)

وقوله : «المخلفون» اسم مفعول مأخوذ من قولهم خلف فلان فلانا وراءه إذا تركه خلفه.

والمراد بهم : أولئك المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك بسبب ضعف إيمانهم ، وسقوط همتهم ، وسوء نيتهم ..

قال الجمل : وقوله (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر مدلول عليه بقوله «مقعدهم» لأنه في معنى تخلفوا أى : تخلفوا خلاف رسول الله. الثاني : أن خلاف مفعول لأجله والعامل فيه إما فرح وإما مقعد. أى : فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه. أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبري والزجاج ، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : «خلف رسول الله» ـ بضم الخاء واللام ، الثالث : أن ينتصب على الظرف. أى بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أى : تخلف بعد ذهابهم ، وخلاف يكون ظرفا ، وإليه ذهب أبو عبيدة وغيره ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، وأبى حيوه ، وعمرو بن ميمون ، «خلف رسول الله» ـ بفتح الخاء وسكون اللام (١).

والمعنى : فرح المخلفون : من هؤلاء المنافقين ، بسبب قعودهم في المدينة ، وعدم خروجهم إلى تبوك للجهاد مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وكرهوا أن يبذلوا شيئا من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٤.

٣٦٥

وإنما فرحوا بهذا القعود ، وكرهوا الجهاد ؛ لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالى الأمور ، وآثروا الدنيا وشهواتها الزائلة على الآخرة ونعيمها الباقي.

وفي التعبير بقوله : (الْمُخَلَّفُونَ) تحقير لهم ، وإهمال لشأنهم ، حتى لكأنهم شيء من سقط المتاع الذي يخلف ويترك ويهمل ؛ لأنه لا قيمة له ، أو لأن ضرره أكبر من نفعه.

قال الآلوسى : وإيثار ما في النظم الكريم على أن يقال ، وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه» (١).

وقوله : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) حكاية لأقوالهم التي تدل على ضعفهم وجبنهم ، وعلى أنهم قوم لا يصلحون للأعمال التي يصلح لها الرجال.

أى. وقال هؤلاء المنافقون المخلفون لغيرهم ، اقعدوا معنا في المدينة ، ولا تخرجوا للجهاد مع المؤمنين ، فإن الحر شديد ، والسفر طويل ، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب ، ويحمل غيرنا وغيركم على القعود معنا ومعكم ، وبذلك ننال بغيتنا من تثبيط همة المجاهدين عن الجهاد في سبيل الله.

وقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) رد على أقولهم القبيحة ، وأفعالهم الخبيثة ، أى ، قل يا محمد لهؤلاء المنافقين على سبيل التهكم بهم ، والتحقير من شأنهم : نار جهنم أشد حرا من هذا الحر الذي تخشونه وترونه مانعا من النفير بل هي أشد حرا من نار الدنيا ...

روى الإمام مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «نار بنى آدم التي توقدونها. جزء من سبعين جزءا من نار جهنم .. (٢).

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) استجهال لهم ، لأن من تصون مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل ، ولبعضهم :

مسرة أحقاب تلقيت بعدها

مساءة يوم أريها شبه الصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة

وراء تقضيها مساءة أحقاب (٣)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥١.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٦ فقد ساق هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى.

(٣) الأحقاب : الأزمان الطويلة. والأرى : السل والصاب نبات مر.

٣٦٦

أى : أن حزن يوم واحد يجعل المسرات الطويلة قبله تتحول إلى ما يشبه الصاب مرارة ، فكيف يكون الحال إذا كانت المسرات ساعة واحدة تعقبها أحقاب طويلة من المساءات؟!!.

وقوله : (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) تذييل قصد به الزيادة في توبيخهم وتحقيرهم.

أى : لو كانوا يفقهون أن نار جهنم أشد حرا ويعتبرون بذلك ، لما فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، ولما كرهوا الجهاد ، ولما قالوا ما قالوا ، بل لحزنوا واكتأبوا على ما صدر منهم ، ولبادروا بالتوبة والاستغفار ، كما فعل أصحاب القلوب والنفوس النقية من النفاق والشقاق.

وقوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ..) وعيد لهم بسوء مصيرهم ، وإخبار عن عاجل أمرهم وآجله ، من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الآخرة.

والمعنى : إنهم وإن فرحوا وضحكوا طوال أعمارهم في الدنيا ، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والمنقطع الفاني قليل بالنسبة إلى الدائم الباقي.

قال صاحب المنار : وفي معنى الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» متفق عليه ، بل رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث أنس ، ورواه الحاكم من حديث أبى هريرة بلفظ «لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا».

ثم قال : وإنما كان الأمر في الآية بمعنى الخبر ، لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف وقد قيل في فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإنشاء ، إنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته في احتمالها ، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب وهو حتم ..» (١).

وقوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تذييل قصد به بيان عدالته ، سبحانه ، في معاملة عباده.

أى : أننا ما ظلمناهم بتوعدنا لهم بالضحك القليل وبالبكاء الكثير ، وإنما هذا الوعيد جزاء لهم على ما اكتسبوه من فنون المعاصي ، وما اجترحوه من محاربة دائمة لدعوة الحق.

وقوله : (جَزاءً) مفعول للفعل الثاني. أى : ليبكوا جزاء ، ويجوز أن يكون مصدرا حذف ناصبه. أى : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء.

وجمع ـ سبحانه ـ في قوله (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بين صيغتي الماضي والمستقبل ، للدلالة على الاستمرار التجددي ماداموا في الدنيا.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يجب على الرسول نحو هؤلاء المخلفين الكارهين للجهاد ، فقال :

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٦٦٠.

٣٦٧

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ..).

قوله : (رَجَعَكَ) من الرجع بمعنى تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه أولا. والفعل رجع أحيانا يستعمل لازما كقوله ـ تعالى ـ : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً ..).

وفي هذه الحالة يكون مصدره الرجوع ، وأحيانا يستعمل متعديا كالآية التي معنا ، وكقوله ـ تعالى ـ : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ..) وفي هذه الحالة يكون مصدره الرجع لا الرجوع.

قال الآلوسى : و «رجع» هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع ، وقد يكون لازما ومصدره الرجوع ، وأوثر هنا استعمال المتعدى ـ وإن كان استعمال اللازم كثيرا ـ إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه إلى تأييد إلهى ، ولذا أوثرت كلمة «إن» على «إذا» (١).

والمعنى : فإن ردك الله ـ تعالى ـ من سفرك هذا ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى طائفة من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى تبوك «فاستأذنوك للخروج» معك في غزوة أخرى بعد هذه الغزوة «فقل» لهم على سبيل الإهانة والتحقير «لن تخرجوا معى أبدا» مادمت على قيد الحياة «ولن تقاتلوا معى عدوا» من الأعداء الذين أمرنى الله بقتالهم ، والسبب في ذلك «إنكم» أيها المنافقون «رضيتم بالقعود» عن الخروج معى وفرحتم به في «أول مرة» دعيتم فيها إلى الجهاد ، فجزاؤكم وعقابكم أن تقعدوا «مع الخالفين» أى : مع الذين تخلفوا عن الغزو لعدم قدرتهم على تكاليفه كالمرضى والنساء والصبيان. أو مع الأشرار الفاسدين الذين يتشابهون معكم في الجبن والنفاق وسوء الأخلاق.

قال الإمام الرازي ما ملخصه ، ذكروا في تفسير الخالف وجوها :

الأول : قال أبو عبيدة الخالفون جمع ، واحدهم خالف ، وهو من يخلف الرجل في قومه ، ومعناه : فاقعدوا مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت فلا يبرحونه.

الثاني : أن الخالفين فسر بالمخالفين ، يقال : فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم ، وقوم خالفون أى : كثير والخلاف لغيرهم.

الثالث : أن الخالف هو الفاسد. قال الأصمعى : يقال : خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد ، وخلف اللبن إذا فسد.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٥٢.

٣٦٨

إذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها ، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات السيئة ...» (١).

وقال ـ سبحانه ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) ولم يقل فإن رجعك الله إليهم ، لأن جميع الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، لم يكونوا من المنافقين ، بل كان هناك من تخلف بأعذار مقبولة ، كالذين أتوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحملهم معه ، فقال لهم : «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا «وأعينهم تفيض من الدمع حزنا».

وسيأتى الحديث عنهم بعد قليل.

وقوله : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) إخبار في معنى النهى للمبالغة وجمع ـ سبحانه ـ بين الجملتين زيادة في تبكيتهم ، وفي إهمال شأنهم ، وفي كراهة مصاحبتهم ...

وذلك ، لأنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوهم إلا خبالا ، ولو قاتلوا معهم ، لكان قتالهم خاليا من الغاية السامية التي من أجلها قاتل المؤمنون وهي إعلاء كلمة الله ، وكل قتال خلا من تلك الغاية كان مآله إلى الهزيمة ..

هذا ، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على أسوأ صفات المنافقين ، كما اشتملت على أشد ألوان الوعيد لهم في الدنيا والآخرة «جزاء بما كانوا يكسبون».

قال الجمل : وفي قوله ـ تعالى ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) الآية دليل على أن الشخص إذا ظهر منه مكر وخداع وبدعة ، يجب الانقطاع عنه ، وترك مصاحبته ، لأنه ـ سبحانه ـ منع المنافقين من الخروج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجهاد ، وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما يجب أن يفعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم في حياتهم ، أتبع ذلك ببيان ما يجب أن يفعله معهم بعد مماتهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ)(٨٤)

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٨٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٥.

٣٦٩

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : «أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبرأ من المنافقين ، وأن لا يصلى على أحد منهم إذا مات ، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له ، أو يدعو له ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله ، وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين.

فقد روى البخاري عن ابن عمر قال : لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ، ثم سأله أن يصلى عليه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلى عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله ، تصلى عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلى عليه؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإنما خيرنى الله» فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وسأزيده على السبعين. قال : إنه منافق ـ قال : فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ..) الآية :

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفى عبد الله ابن أبى دعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة عليه ، فقام عليه «فلما وقف عليه ـ يريد الصلاة ـ تحولت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ، أعلى عدو الله : عبد الله بن أبى القائل يوم كذا ، كذا وكذا ، ـ وأخذ يعدد أيامه. قال : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال : تأخر عنى يا عمر. إنى خيرت فاخترت ، قد قيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...) الآية. لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غفر له لزدت ، قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه. قال : فعجبت من جرأتى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله ورسوله أعلم. قال : فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. قال : فما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله ـ عزوجل» (١).

والمعنى : «لا تصل» ـ أيها الرسول الكريم ـ «على أحد» من هؤلاء المنافقين «مات أبدا ولا تقم على قبره» أى : ولا تقف على قبره عند الدفن أو بعده بقصد الزيارة أو الدعاء له ، وذلك لأن صلاتك عليهم ، ووقوفك على قبورهم شفاعة لهم ، ورحمة بهم ، وتكريم لشأنهم. وهم ليسوا أهلا لذلك.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٨ ففيه جملة من الأحاديث في هذا المعنى.

٣٧٠

وقوله : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) تعليل للنهى عن الصلاة عليهم ، والوقوف على قبورهم.

أى : نهيناك ـ يا محمد ـ عن ذلك ، لأن هؤلاء المنافقين قد عاشوا حياتهم كافرين بالله ورسوله ، ومحاربين لدعوة الحق ، وماتوا وهم خارجون عن حظيرة الإيمان.

وجمع ـ سبحانه ـ بين وصفهم بالكفر ووصفهم بالفسق زيادة في تقبيح أمرهم ، وتحقير شأنهم ؛ فهم لم يكتفوا بالكفر وحده ، وإنما أضافوا إليه الفسق ، وهو الخروج عن كل قول طيب ، وخلق حسن ، وفعل كريم.

قال بعضهم : فإن قلت : الفسق أدنى حالا من الكفر ، فما الفائدة في وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر؟ قلت إن الكافر قد يكون عدلا بأن يؤدى الأمانة ، ولا يضمر لأحد سوءا ، وقد يكون خبيثا كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير ، وهذا أمر مستقبح عند كل أحد ، ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة ، وصفهم الله ـ تعالى ـ بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر» (١).

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له.

قال الإمام ابن كثير : ولما نهى الله ـ تعالى ـ عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم ، كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين ، فشرع ذلك وفي فعله الأجر الجزيل ، كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ، من شهدها حتى تدفن فله قيراطان ، قيل : وما القيراطان ، قال : «أصغرهما مثل أحد». وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات ، فروى أبو داود عن عثمان بن عفان قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من الميت وقف عليه وقال : «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل».

٢ ـ وجوب منع كل مظهر من مظاهر التكريم ـ في الحياة وبعد الممات عن الذين يحاربون دعوة الحق ، ويقفون في وجه انتشارها وظهورها :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٦ ـ بتصرف يسير.

٣٧١

أما منع تكريمهم في حياتهم فتراه في قوله ـ تعالى ـ في الآية السابقة :

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).

وأما منع تكريمهم بعد مماتهم فتراه في هذه الآية : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

ولا شك أن حجب كل تكريم عن أولئك المنافقين في العهد النبوي ، كان له أثره القوى في انهيار دولتهم ، وافتضاح أمرهم ، وذهاب ريحهم ، وتهوين شأنهم ..

هذا ، وما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عبد الله بن أبى من الصلاة عليه ، والقيام على قبره إنما كان قبل نزول هذه الآية ..

أو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك تطييبا لقلب ابنه الذي كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما.

فقد سبق أن ذكرنا ما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال : لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ثم سأله أن يصلى عليه .. الحديث.

ثم نهى الله ـ تعالى ـ كل من يصلح للخطاب عن الاغترار بما عند هؤلاء المنافقين من مال وولد ، فقال ـ تعالى :

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٨٥)

أى : عليك ـ أيها العاقل ـ أن لا تغتر بما عند هؤلاء المنافقين من أموال وأولاد ، وأن لا يداخل قلبك شيء من الإعجاب بما بين أيديهم من نعم ، فإن هذه النعم ـ التي من أعظمها الأموال والأولاد ـ إنما أعطاهم الله إياها ، ليعذبهم بسببها في الدنيا عن طريق التعب في تحصيلها ، والحزن عند فقدها وهلاكها.

وقوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان عذابهم في الدنيا ، وزهوق النفس : خروجها من الجسد بمشقة وتعب.

أى : أنهم في الدنيا تكون النعم التي بين أيديهم ، مصدر عذاب لهم ، وأما في الآخرة

٣٧٢

فعذابهم أشد وأبقى ، لأن أرواحهم قد خرجت من أبدانهم وهم مصرون على الكفر والضلال.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المنافقين بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة ، ومن كان مصيره كهذا المصير ، لا يستحق الإعجاب أو التكريم وإنما يستحق الاحتقار والإهمال.

وهذه الآية الكريمة ، قد سبقتها في السورة نفسها آية أخرى شبيهة بها. وهي قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (١).

وقد أشار صاحب الكشاف إلى سر هذا التكرار فقال : «وقد أعيد قوله (وَلا تُعْجِبْكَ ...) ؛ لأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف المنافقين وموقف المؤمنين بالنسبة للجهاد ، كما بين عاقبة كل فريق فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٨٩)

__________________

(١) الآية رقم ٥٥ وراجع تفسيرنا لها.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٩٩.

٣٧٣

والمراد بالسورة في قوله ـ سبحانه ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) : كل سورة ذكر الله ـ تعالى ـ فيها وجوب الإيمان به والجهاد في سبيله.

أى : أن من الصفات الذميمة لهؤلاء المنافقين ، أنهم كلما نزلت سورة قرآنية ، تدعو في بعض آياتها الناس إلى الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، ما كان منهم عند ذلك إلا الجبن والاستخذاء والتهرب من تكاليف الجهاد ...

وقوله : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ...) بيان لحال هؤلاء المنافقين عند نزول هذه السورة.

والطول ـ بفتح الطاء ـ يطلق على الغنى والثروة ، مأخوذ من مادة الطول بالضم التي هي ضد القصر.

والمراد بأولى الطول : رؤساء المنافقين وأغنياؤهم والقادرون على تكاليف الجهاد.

أى : عند نزول السورة الداعية إلى الجهاد ، يجيء هؤلاء المنافقون أصحاب الغنى والثروة ، إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستأذنوا في القعود وعدم الخروج ... وليقولوا له بجبن واستخذاء (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ).

أى : اتركنا يا محمد مع القاعدين في المدينة من العجزة والنساء والصبيان ، واذهب أنت وأصحابك إلى القتال.

وإنما خص ذوى الطول بالذكر ، تخليدا لمذمتهم واحتقارهم ؛ لأنه كان المتوقع منهم أن يتقدموا صفوف المجاهدين ، لأنهم يملكون وسائل الجهاد والبذل ، لا ليتخاذلوا ويعتذروا ، ويقولوا ما قالوا مما يدل على جبنهم والتوائهم.

وقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) زيادة في تحقيرهم وذمهم.

والخوالف : جمع خالفة ، ويطلق على المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال لضعفها ، كما يطلق لفظ الخالفة ـ أيضا ـ على كل من لا خير فيه.

والمعنى : رضى هؤلاء المنافقون لأنفسهم ، أن يبقوا في المدينة مع النساء ، ومع كل من لا خير فيه من الناس ، ولا يرضى بذلك إلا من هانت كرامته ، وسقطت مروءته ، وألف الذل والصغار.

وقوله (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) بيان لما ترتب على استمرارهم في النفاق ، وعدم رجوعهم إلى طريق الحق.

أى : أنه ترتب على رسوخهم في النفاق ، وإصرارهم على الفسوق والعصيان أن ختم الله

٣٧٤

على قلوبهم ، فصارت لا تفقه ما في الإيمان والجهاد من الخير والسعادة ، وما في النفاق والشقاق من الشقاء والهلاك.

وقوله ـ سبحانه ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) استدراك لبيان حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، بعد بيان حال المنافقين.

أى : إذا كان حال المنافقين كما وصفنا من جبن وتخاذل وهوان ... فإن حال المؤمنين ليس كذلك ، فإنهم قد وقفوا إلى جانب رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله ، وأطاعوه في السر والعلن ، وآثروا ما عند الله على كل شيء في هذه الحياة ...

وقد بين ـ سبحانه ـ جزاءهم الكريم فقال : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) أى : أولئك المؤمنون الصادقون لهم الخيرات التي تسر النفس ، وتشرح الصدر في الدنيا والآخرة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بسعادة الدارين.

«أعد الله» ـ تعالى ـ لهؤلاء المؤمنين الصادقين «جنات تجرى من» تحت ثمارها وأشجارها ومساكنها «الأنهار خالدين» في تلك الجنات خلودا أبديا ، و «ذلك» العطاء الجزيل ، هو «الفوز العظيم» الذي لا يدانيه فوز ، ولا تقاربه سعادة.

وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذمت المنافقين لجبنهم ، وسوء نيتهم ، وتخلفهم عن كل خير ... ومدحت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، الذين نهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا ما يجب عليهم نحو خالقهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمته ـ سبحانه.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أحوال المنافقين من سكان المدينة ، أتبع ذلك بالحديث عن المنافقين من الأعراب سكان البادية فقال ـ تعالى :

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٠)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قرأ الأعرج والضحاك المعذرون مخففا ، ورواها أبو كريب عن أبى بكر عن عاصم ... وهي من

٣٧٥

أعذر ، ومنه قد أعذر من أنذر ، أى : قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك ، وأما ، «المعذرون» بالتشديد ـ وهي قراءة الجمهور ـ ففيها قولان :

أحدهما : أنه يكون المحق ، فهو في المعنى المعتذر ، لأن له عذرا ، فيكون «المعذرون» على هذه أصله المعتذرون ، ثم أدغمت التاء في الذال ...

وثانيهما : أن المعذر قد يكون غير محق ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له.

والمعنى ، أنهم اعتذروا بالكذب ...

قال الجوهري : وكان ابن عباس يقول : لعن الله المعذرين ، كان الأمر عنده أن المعذر ـ بالتشديد ـ هو المظهر للعذر ، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر ...» (١).

ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن القرطبي يتبين لنا أن من المفسرين من يرى أن المقصود من المعذرين : أصحاب الأعذار المقبولة.

وقد رجح الإمام ابن كثير هذا الرأى فقال : بين الله ـ تعالى ـ حال ذوى الأعذار في ترك الجهاد ، وهم الذين جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه ، ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة.

قال الضحاك عن ابن عباس : إنه كان يقرأ «وجاء المعذرون» ـ بالتخفيف ، ويقول : هم أهل العذر ... وهذا القول أظهر في معنى الآية ؛ لأنه ـ سبحانه ـ قال بعد هذا : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

أى : لم يأتوا فيعتذروا ...» (٢).

وعلى هذا الرأى تكون الآية قد ذكرت قسمين من الأعراب : قسما جاء معتذرا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقسما لم يجئ ولم يعتذر ، وهذا القسم هو الذي توعده الله بسوء المصير.

ومنهم من يرى أن المقصود بالمعذرين : أصحاب الأعذار الباطلة ، وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف فقال : «المعذرون» من عذر في الأمر ، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد فيه ، وحقيقته أنه يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له.

أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ، وهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله ، يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ...

وقرئ «المعذرون» بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه. قيل هم أسد

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٢٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨١.

٣٧٦

وغطفان. قالوا : إن لنا عيالا ، وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف.

وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل ، قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سيغنيني الله عنكم» وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله ـ تعالى ـ وعن قتادة : اعتذروا بالكذب ... (١).

وعلى هذا الرأى تكون الآية الكريمة قد ذكرت قسمين ـ أيضا ـ من الأعراب ، إلا أن أولهما قد اعتذر بأعذار غير مقبولة ، وثانيهما لم يعتذر ، بل قعد في داره مصرا على كفره ، ولذا قال أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين كان سيئا : قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله ـ تعالى. بقوله (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) ، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله وهم المنافقون ، فتوعدهم الله بقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

والذي يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ؛ لتناسقه مع ما يفيده ظاهر الآية ، لأن الآية الكريمة ذكرت نوعين من الأعراب ، أحدهما : المعذرون.

أى أصحاب الأعذار ، وثانيهما : الذين قعدوا في بيوتهم مكذبين لله ولرسوله ، فتوعدهم ـ سبحانه ـ بالعذاب الأليم ، ولأنه لا توجد قرينة قوية تجعلنا نرجح أن المراد بالمعذرين هنا ، أصحاب الأعذار الباطلة ، لأن التفسير اللغوي للكلمة ـ كما نقلنا عن القرطبي ـ يجعلها صالحة للأعذار المقبولة ، فكان الحمل على حسن الظن أولى ، والله ، تعالى ، بعد ذلك هو العليم بأحوال العباد ، ما ظهر منها وما بطن.

وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة : وعند ما استنفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى غزوة تبوك ، جاءه أصحاب الأعذار من الأعراب ليستأذنوه في عدم الخروج معه ، فقبل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو حق منها.

وقوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بيان للفريق الثاني من الأعراب وهو الذي لم يجئ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتذرا.

أى : وقعد عن الخروج إلى تبوك ، وعن المجيء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للاعتذار ، أولئك الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإيمان ، وهم الراسخون في النفاق والعصيان من الأعراب سكان البادية.

وقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وعيد لهم بسوء العاقبة في الدارين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٠٠.

٣٧٧

أى : سيصيب الذين أصروا على كفرهم ونفاقهم من هؤلاء الأعراب ، عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، أما الذين رجعوا عن كفرهم ونفاقهم منهم ، وتابوا إلى الله ـ تعالى ـ توبة صادقة ، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله ، والتي تجعل صاحبها لا حرج عليه إذا ما قعد معها عن القتال ، فقال ، تعالى :

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)(٩٢)

ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات ، منها ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكنت أكتب «براءة» ، فإنى لواضع القلم على أذنى ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) الآية.

وروى العوفى عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه. فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مقرن المزني ، فقالوا : يا رسول الله ، احملنا. فقال لهم : «والله لا أجد ما أحملكم عليه» ، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه فقال : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) ... الآية.

وقال محمد بن إسحاق ـ في سياق غزوة تبوك ـ : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ... فاستحملوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا أهل حاجة فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.»

٣٧٨

والضعفاء : جمع ضعيف ، وهو من ليس عنده القوة على القيام بتكاليف الجهاد ، كالشيوخ والنساء والصبيان ...

والمرضى : جمع مريض ، وهم الذين عرضت لهم أمراض حالت بينهم وبين الاشتراك في القتال ، وهؤلاء عذرهم ينتهى بزوال أمراضهم.

والمعنى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة أقعدتهم ، (وَلا عَلَى الْمَرْضى) الذين حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) وهم الفقراء القادرون على الحرب ، ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه في مطالب الجهاد ، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها إلى أرض المعركة ، ليس على هؤلاء جميعا (حَرَجٌ) أى : إثم أو ذنب بسبب عدم خروجهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك لقتال الكافرين ...

وقوله : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) : بيان لما يجب عليهم في حال قعودهم.

قال الجمل : ومعنى النصح ـ هنا ـ أن يقيموا في البلد ، ويحترزوا عن إنشاء الأراجيف ، وإثارة الفتن ، ويسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو ، ويقوموا بمصالح بيوتهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ؛ ويتابعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجملة هذه الأمور تجرى مجرى النصح لله ورسوله ، (١).

وقوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله.

والمحسنون. جمع محسن ، وهو الذي يؤدى ما كلفه الله به على وجه حسن.

والسبيل : الطريق السهل الممهد الموصل إلى البغية. ومن ، زائدة لتأكيد النفي.

أى : ليس لأحد أى طريق يسلكها لمؤاخذة هؤلاء المحسنين ، بسبب تخلفهم عن الجهاد ، بعد أن نصحوا لله ولرسوله ، وبعد أن حالت الموانع الحقيقية بينهم وبين الخروج للجهاد.

قال الآلوسى : والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه : وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه : لا سبيل لعاتب عليهم ، أى : لا يمر بهم العاتب ، ولا يجوز في أرضهم ، فما أبعد العتاب عنهم ، وهو جار مجرى المثل.

ويحتمل أن يكون تعليلا لنفى الحرج عنهم و (الْمُحْسِنِينَ) على عمومه. أى : ليس عليهم حرج ، لأنه ما على جنس المحسنين سبيل ، وهم من جملتهم (٢).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥٨.

٣٧٩

وقال صاحب المنار : «والشرع الإلهى يجازى المحسن بأضعاف إحسانه ، ولا يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته ، فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور. انقطعت طرق المؤاخذة دونهم والإحسان أعم من النصح المذكور فالجملة الكريمة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم مقرونا بالدليل ، فكل ناصح لله ورسوله محسن ، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج ، وهذه المبالغة في أعلى مكانة من أساليب البلاغة (١).

وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : والله تعالى ـ واسع المغفرة ، كثير الرحمة ، يستر على عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية.

وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ...) معطوف على ما قبله ، من عطف الخاص على العام ، اعتناء بشأنهم ، وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر ، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك «لا يجدون ما ينفقون».

أى : لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، إذا ما تخلفوا عن الجهاد ، وكذلك لا حرج ولا إثم ـ أيضا ـ على فقراء المؤمنين ، الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل التي يركبونها لكي يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل قلت لهم يا محمد «لا أجد ما أحملكم عليه».

وفي هذا التعبير ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لهم إن ما تطلبونه أنا أسأل عنه ، وأفتش عليه فلا أجده ، ولو وجدته لقدمته إليكم.

وقوله : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) بيان للآثار التي ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل : لكي يخرجوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك.

أى : أن هؤلاء المؤمنين الفقراء ، عند ما اعتذرت لهم بقولك : «لا أجد ما أحملكم عليه» انصرفوا من مجلسك ، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجهاد ، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك.

فالجملة الكريمة تعطى صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد ، وللألم الشديد للحرمان من نعمة أدائه.

وبمثل هذه الروح ارتفعت راية الإسلام ، وعزت كلمته ، وانتشرت دعوته.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي نستطيع أن نأخذها من هاتين الآيتين ما يأتى :

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ١٥٨.

٣٨٠