التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

والاعتذار معناه محاولة محو أثر الذنب ، مأخوذ من قولهم : اعتذرت المنازل إذا اندثرت وزالت ، لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب إجلاله واحترامه وتوقيره : قل لهم على سبيل التوبيخ والتجهيل أيضا ـ لا تشتغلوا بتلك المعاذير الكاذبة فإنها غير مقبولة ، لأنكم بهذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أى : قد ظهر كفركم وثبت ، بعد إظهاركم الإيمان على سبيل المخادعة ، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم معاملة المسلمين بمقتضى نطقكم بالشهادتين فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم بالله وآياته ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الاستهزاء بالدين. كما يقول الإمام الرازي. يعد من باب الكفر ، إذ أنه يدل على الاستخفاف ، والأساس الأول في الإيمان تعظيم الله ـ تعالى ـ بأقصى الإمكان ، والجمع بينهما محال (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) بيان لمظهر من مظاهر عدله ـ سبحانه ـ ورحمته.

أى : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) ـ أيها المنافقون ـ بسبب توبتهم وإقلاعهم عن النفاق ، (نُعَذِّبْ طائِفَةً) أخرى منكم بسبب إصرارهم على النفاق ، واستمرارهم في طريق الفسوق والعصيان.

هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها :

ما جاء عن زيد بن أسلم : أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا ، وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء!! فقال له عوف : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه.

قال زيد : قال عبد الله بن عمر : فنظرت إليه ـ أى إلى المنافق ـ متعلقا بحقب (٢) ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنكبه (٣) الحجارة يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، فيقول له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون» (٤).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٦٠.

(٢) الحقب ـ بفتحتين ـ حبل يشد به الرحل في بطن البعير ..

(٣) تنكبه الحجارة : تصيبه وتؤذيه.

(٤) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٣٣ طبعة دار المعارف.

٣٤١

وعن قتادة قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا : يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها!! هيهات هيهات!.

فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احبسوا على الركب» فأتاهم فقال لهم. قلتم كذا ، قلتم كذا. فقالوا : «يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب» فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون (١).

وقال ابن إسحاق : كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت .. ومنهم رجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له «مخشى بن حمير» يسيرون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو منطلق إلى تبوك ـ فقال بعضهم ـ أتحسبون جلاد بنى الأصفر ـ أى الروم ـ كقتال العرب بعضهم؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين.

فقال مخشى بن حمير : والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وأننا ننجو أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني ـ لعمار بن ياسر ـ أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار ؛ فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه.

فقال وديعة بن ثابت ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف على راحلته ـ يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب.

فقال مخشى بن حمير : يا رسول الله ، قعد بن اسمى واسم أبى ، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيدا ، لا يعلم مكانه. فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر (٢).

هذه بعض الآثار التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، وهي توضح ما كان عليه المنافقون من كذب في المقال ، وجبن عن مواجهة الحقائق.

ثم مضت السورة الكريمة بعد ذلك في تقرير حقيقة المنافقين ، وفي بيان جانب من صفاتهم ، والمصير السيئ الذي ينتظرهم فقال سبحانه وتعالى :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٣٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٧.

٣٤٢

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٦٨)

قال الإمام الرازي : اعلم أن هذا شرح لنوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم ، والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة ، والأفعال الخبيثة فقال : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أى : في صفة النفاق ، وذلك كما يقول إنسان لآخر : أنت منى وأنا منك. أى : أمرنا واحد لا مباينة فيه ولا مخالفة ... (١).

وقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) تفصيل لجانب من رذائلهم ، ومن مسالكهم الخبيثة.

أى : يأمرون غيرهم بكل ما تستنكره الشرائع ، وتستقبحه العقول ، وينهونه عن كل أمر دعت إليه الأديان ، وأحبته القلوب السليمة.

وقوله : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن بخلهم وشحهم ، لأن الإنسان السخي يبسط يده بالعطاء ، بخلاف الممسك القتور فإنه يقبض يده عن ذلك.

أى : أن من صفات هؤلاء المنافقين أنهم بخلاء أشحاء عن بذل المال في وجوهه المشروعة.

وقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) كناية عن رسوخهم في الكفر ، وانغماسهم في كل ما يبعدهم عن الله ـ تعالى ـ.

والمقصود بالنسيان هنا لازمه ، وهو الترك والإهمال ؛ لأن حقيقة النسيان محالة على الله ـ تعالى ـ ، كما أن النسيان الحقيقي لا يذم صاحبه عليه لعدم التكليف به.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٧٠.

٣٤٣

أى : تركوا طاعة الله وخشيته ومراقبته ، فتركهم ـ سبحانه ـ وحرمهم من هدايته ورحمته وفضله.

وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تذييل قصد به المبالغة في ذمهم.

أى : إن المنافقين هم الكاملون في الخروج عن طاعة الله ، وفي الانسلاخ عن فضائل الإيمان ، ومكارم الأخلاق.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ...) بيان لسوء مصيرهم ، بعد بيان جانب من صفاتهم الذميمة.

أى : وعد الله ـ تعالى ـ المنافقين والمنافقات والكفار المجاهرين بكفرهم «نار جهنم خالدين فيها» خلودا أبديا.

وقوله : (هِيَ حَسْبُهُمْ) أى : إن تلك العقوبة الشديدة كافية لإهانتهم وإذلالهم بسبب فسوقهم عن أمر ربهم.

وقوله : (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أى : طردهم وأبعدهم من رحمته ولطفه.

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أى : ولهم عذاب دائم لا ينقطع ؛ فهم في الدنيا يعيشون في عذاب القلق والحذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم ، وفي الآخرة يذوقون العذاب الذي هو أشد وأبقى ، بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان.

وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد بينتا جانبا من قبائح المنافقين ، ومن سوء مصيرهم في عاجلتهم وآجلتهم.

ثم ساقت السورة الكريمة ـ لهؤلاء المنافقين ـ نماذج لمن حبطت أعمالهم بسبب غرورهم ، وضربت لهم الأمثال بمن هلك من الطغاة السابقين بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا

٣٤٤

وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٧٠)

وقوله ـ تعالى ـ : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ...) جاء على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين ، وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ.

والكاف في قوله : (كَالَّذِينَ) للتشبيه ، وهي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.

والتقدير : أنتم ـ أيها المنافقون ـ حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة في الانحراف عن الحق ، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها ، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين ، يمتازون عنكم بأنهم «كانوا أشد منكم قوة» في أبدانهم ، وكانوا «أكثر» منكم «أموالا وأولادا».

وقوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله ـ تعالى ـ والخلاق : مشتق من الخلق بمعنى التقدير. وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه.

أى : كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه ، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم ، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الحياة الدنيا ، استمتاع الجاحدين الفاسقين.

والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب في قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا) ؛ للإشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم ، قد استعملوها في غير ما خلقت له ، وسخروها لإرضاء شهواتهم الخسيسة ، وملذاتهم الدنيئة.

وقوله : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم ؛ لانتهاجهم جميعا طريق الشر والبطر.

أى : فأنتم ـ أيها المنافقون ـ قد استمتعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا ، وشهواتها الباطلة ، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم في ذلك.

٣٤٥

وقوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) معطوف على ما قبله.

أى : وخضتم ـ أيها المنافقون ـ في حمأة الباطل وفي طريق الغرور والهوى ، كالخوض الذي خاضه السابقون من الأمم المهلكة.

قال الآلوسى قوله : «وخضتم» أى : دخلتم في الباطل «كالذي خاضوا».

أى : كالذين فحذفت نونه تخفيفا ، كما في قول الشاعر :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد

ويجوز أن يكون «الذي» صفة لمفرد اللفظ ، مجموع المعنى ، كالفوج والفريق ، فلوحظ في الصفة اللفظ. وفي الضمير المعنى ، أو هو صفة لمصدر محذوف ، أى : كالخوض الذي خاضوه ، ورجح بعدم التكلف فيه (١).

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فائدة في قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) وقوله : (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مغن عنه كما أغنى قوله : (كَالَّذِي خاضُوا) عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟

قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الرضا به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون : كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله.

وأما «وخضتم كالذي خاضوا» فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة» (٢).

وقوله : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الدارين.

واسما الإشارة يعودان على المتصفين بتلك الصفات القبيحة من السابقين واللاحقين.

أى : أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم في الشهوات الخسيسة ، والخائضون في الشرور والآثام «حبطت أعمالهم» أى : فسدت وبطلت أعمالهم التي كانوا يرجون منفعتها «في الدنيا والآخرة» لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص ، وإنما كان معها الرياء

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٣٤.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٨.

٣٤٦

والنفاق ، والفسوق والعصيان ، والله ـ تعالى ـ لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أى : الكاملون في الخسران ، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك.

ثم ساق لهم ـ سبحانه ـ من أخبار السابقين ما فيه الكفاية للعظة والاعتبار لو كانوا يعقلون ، فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ...).

والاستفهام للتقرير والتحذير. والمراد بنبإ الذين من قبلهم : أخبارهم التي تتناول أقوالهم وأعمالهم ، كما تتناول ما حل بهم من عقوبات ، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم.

والمعنى : ألم يصل إلى أسماع هؤلاء المنافقين ، خبر أولئك المهلكين من الأقوام السابقين بسبب عصيانهم لرسلهم ، ومن هؤلاء الأقوام «قوم نوح» الذين أغرقوا بالطوفان ، وقوم «عاد» الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية ، وقوم «ثمود» الذين أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ، «وقوم إبراهيم» الذين سلب الله نعمه عنهم ، وأذل غرور زعيمهم الذي حاج إبراهيم في ربه ، «وأصحاب مدين» وهم قوم شعيب الذين أخذتهم الصيحة ، «والمؤتفكات» وهم أصحاب قرى قوم لوط ، التي جعل الله عاليها سافلها ...

والائتفاك : معناه الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله. يقال : أفكه يأفكه إذا قلبه رأسا على عقب.

وذكر ـ سبحانه ـ هنا هذه الطوائف الست ، لأن آثارهم باقية ، ومواطنهم هي الشام والعراق واليمن ، وهي مواطن قريبة من أرض العرب ، فكانوا يمرون عليها في أسفارهم ، كما كانوا يعرفون الكثير من أخبارهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

وقوله : (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كلام مستأنف لبيان أنبائهم وأخبارهم.

أى : أن هؤلاء الأقوام المهلكين السابقين ، قد أتتهم رسلهم بالحجج الواضحات الدالة على وحدانية الله وعلى وجوب إخلاص العبادة له ..

والفاء في قوله : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) للعطف على كلام مقدر يدل عليه المقام.

أى : أتتهم رسلهم بالبينات ، فكذبوا هؤلاء الرسل ، فعاقبهم الله ـ تعالى ـ على هذا التكذيب. وما كان من سنته ـ سبحانه ـ ليظلمهم ، لأنه لا يظلم الناس شيئا «ولكن كانوا

__________________

(١) سورة الصافات. الآيتان ١٣٧ ؛ ١٣٨.

٣٤٧

أنفسهم يظلمون» بسبب كفرهم وجحودهم ، واستحبابهم العمى على الهدى ، وإيثارهم الغي على الرشد.

هذا ، ومن هاتين الآيتين الكريمتين نرى بوضوح ، أن الغرور بالقوة ، والافتتان بالأموال والأولاد ، والانغماس في الشهوات والملذات الخسيسة. والخوض في طريق الباطل ، وعدم الاعتبار بما حل بالطغاة والعصاة ..

كل ذلك يؤدى إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى التعرض لسخط الله وعقابه.

كما نرى منهما أن من سنة الله في خلقه ، أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب إلا بذنب ، ولا يأخذ العصاة والطغاة أخذ عزيز مقتدر ، إلا بعد استمرارهم في طريق الغواية ، وإعراضهم عن نصح الناصحين ، وإرشاد المرشدين. وصدق الله إذ يقول : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن أحوال المنافقين ، وصفاتهم ، وسوء عاقبتهم ..

أتبعت ذلك بالحديث عن المؤمنين الصادقين ، وعما أعده الله لهم من نعيم مقيم ، فقال ـ سبحانه ـ :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٧٢)

قال الإمام ابن كثير : لما ذكر ـ سبحانه ـ صفات المنافقين الذميمة ، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

٣٤٨

أى : يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الحديث الصحيح : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». وفي الصحيح ـ أيضا ـ : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (١).

وقال ـ سبحانه ـ هنا (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بينما قال في المنافقين (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) للإشعار بأن المؤمنين في تناصرهم وتعاضدهم وتراحمهم مدفوعون بدافع العقيدة الدينية التي ألفت بين قلوبهم ، وجعلتهم أشبه ما يكونون بالجسد الواحد ، أما المنافقون فلا توجد بينهم هذه الروابط السامية ، وإنما الذي يوجد بينهم هو التقليد واتباع الهوى ، والسير وراء العصبية الممقوتة ، فهم لا ولاية بينهم ، وإنما الذي بينهم هو التقليد وكراهية ما أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ...) بيان للآثار التي تترتب على تلك الولاية الخالصة ، وتفصيل للصفات الحسنة التي تحلى بها المؤمنون والمؤمنات.

أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين جمعتهم العقيدة الدينية على التناصر والتراحم .. من صفاتهم أنهم (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أى يأمرون بكل خير دعا إليه الشرع ، وينهون عن كل شر تأباه تعاليم الإسلام الحنيف.

وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أى : يؤدونها في أوقاتها بإخلاص وخشوع ..

وقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أى : يعطونها لمستحقيها بدون منّ أو أذى ..

وقوله : (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى : في سائر الأحوال بدون ملل أو انقطاع أو تكاسل ..

وقوله : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بيان للجزاء الطيب الذي ادخره الله ـ تعالى ـ لهم.

أى : أولئك المؤمنون والمؤمنات المتصفون بتلك الصفات السامية ، سيرحمهم‌الله ـ تعالى ـ برحمته الواسعة ، إنه ـ سبحانه ـ «عزيز» لا يعجزه شيء «حكيم» في كل أفعاله وتصرفاته.

قال صاحب الكشاف : «والسين هنا مفيدة لوجود الرحمة ، فهي تؤكد الوعد ، كما تؤكد الوعيد كما في قولك : سأنتقم منك يوما ، تعنى أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونحوه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٢)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٩.

(٢) تفسير الكشاف ـ بتصرف يسير ـ ج ٢ ص ٢٨٩.

٣٤٩

ثم فصل ـ سبحانه ـ مظاهر رحمته للمؤمنين والمؤمنات أصحاب تلك الصفات السابقة فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

أى : (وَعَدَ اللهُ) بفضله وكرمه (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى : من تحت بساتينها وأشجارها وقصورها (خالِدِينَ فِيها) في تلك الجنات خلودا أبديا.

ووعدهم كذلك «مساكن طيبة» أى : منازل حسنة ، تنشرح لها الصدور وتستطيبها النفوس.

وقوله : «في جنات عدن» أى في جنات ثابتة مستقرة. يقال : فلان عدن بمكان كذا ، إذا استقر به وثبت فيه ، ومنه سمى المعدن معدنا لاستقراره في باطن الأرض.

وقيل : إن كلمه «عدن» علم على مكان مخصوص في الجنة ، أى في جنات المكان المسمى بهذا الاسم وهو «عدن».

ثم بشرهم ـ سبحانه ـ بما هو أعظم من كل ذلك فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).

أى أن المؤمنين والمؤمنات ليس لهم هذه الجنات والمساكن الطيبة فحسب وإنما لهم ما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو رضا الله ـ تعالى ـ عنهم ، وتجليه عليهم ، وتشرفهم بمشاهدة ذاته الكريمة ، وشعورهم بأنهم محل رعاية الله وكرمه.

والتنكير في قوله : (وَرِضْوانٌ) للتعظيم والتهويل ، وللإشارة إلى أن الشيء اليسير من هذا الرضا الإلهى على العبد ، أكبر من الجنات ومن المساكن الطيبة ، ومن كل حطام الدنيا.

روى الشيخان عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ـ عزوجل ـ يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

وروى البزار في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله ـ تعالى ـ : هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟

قالوا : يا ربنا وما خير مما أعطيتنا؟ قال : رضواني أكبر» (١).

وقوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أى : ذلك الذي وعد الله به المؤمنين والمؤمنات في جنات ومساكن طيبة ، ومن رضا من الله عنهم ، هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٧٠.

٣٥٠

نعيم ، ولا يسامى شرفه شرف ..

وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المؤمنين والمؤمنات بأعظم البشارات ، ووصفتهم بأشرف الصفات ، وقابلت بين جزائهم وبين جزاء الكفار والمنافقين ، بما يحمل العاقل على أن يسلك طريق المؤمنين ، وعلى أن ينهج نهجهم ، ويتحلى بأوصافهم ... وبذلك يفوز بنعيم الله ورضاه كما فازوا ، ويسعد كما سعدوا ، وينجو من العذاب الذي توعد الله به المنافقين والكافرين ، بسبب إصرارهم على الكفر والنفاق ، وإيثارهم الغىّ على الرشد.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجاهدة الكفار والمنافقين بكل وسيلة ، لأنهم جميعا لا يريدون الانتهاء عن المكر السيئ بالدعوة الإسلامية فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٣)

وقوله ـ سبحانه ـ (جاهِدِ) من المجاهدة ، بمعنى بذل الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء أكان ذلك بالقتال أم بغيره.

وقوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) من الغلظة التي هي نقيض الرقة والرأفة. يقال أغلظ فلان في الأمر إذا اشتد فيه ولم يترفق.

ونحن عند ما نقرأ السيرة النبوية ، نجد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هجرته إلى المدينة ، ظل فترة طويلة يلاين المنافقين ، ويغض الطرف عن رذائلهم. ويصفح عن مسيئهم .. إلا أن هذه المعاملة الحسنة لهم زادتهم رجسا إلى رجسهم .. لذا جاءت هذه السورة ـ وهي من أواخر ما نزل من القرآن لتقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد آن الأوان لإحلال الشدة والحزم ، محل اللين والرفق ، فإن للشدة مواضعها وللين مواضعه ..

والمعنى : عليك ـ أيها النبي الكريم ـ أن تجاهد الكفار بالسيف إذا كان لا يصلحهم سواه ، وأن تجاهد المنافقين ـ الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ـ بما تراه مناسبا لردهم وزجرهم وإرهابهم ، سواء أكان ذلك باليد أم باللسان أم بغيرهما ، حتى تأمن شرهم.

قال الإمام ابن كثير ، أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، كما أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين .. وقد تقدم عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة أسياف. سيف للمشركين (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) وسيف للكفار أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ

٣٥١

لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) وسيف للمنافقين (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وسيف للبغاة (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) وهذا يقتضى أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير.

وقال ابن مسعود في قوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قال : بيده ، فإن لم يستطع فليكشر في وجهه ـ أى فليلق المنافق بوجه عابس لا طلاقة فيه ولا انبساط.

وقال ابن عباس : أمره الله ـ تعالى ـ بجهاد المنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم.

وقد يقال أنه لا منافاة بين هذه الأقوال ، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا ، وتارة بهذا على حسب الأحوال ... (١).

والضمير المجرور في قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) يعود على الفريقين : الكفار والمنافقين أى : جاهدهم بكل ما تستطيع مجاهدتهم به ، مما يقتضيه الحال ، واشدد عليهم في هذه المجاهدة بحيث لا تدع مجالا معهم للترفق واللين ، فإنهم ليسوا أهلا لذلك ، بعد أن عموا وصموا عن النصيحة ، وبعد أن لجوا في طغيانهم.

وقوله : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل قصد به بيان سوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان ما يجب على المؤمنين نحوهم في الدنيا.

أى : عليك ـ أيها النبي ـ أن تجاهدهم وأن تغلظ عليهم في الدنيا ، أما في الآخرة فإن جهنم هي دارهم وقرارهم.

والمخصوص بالذم محذوف والتقدير : وبئس المصير مصيرهم ، فانه لا مصير أسوأ من الخلود في جهنم.

ومن هذه الآية الكريمة نرى أن على المؤمنين ـ في كل زمان ومكان ـ أن يجاهدوا أعداءهم من الكفار والمنافقين بالسلاح الذي يرونه كفيلا بأن يجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان عليه المنافقون من كذب وفجور ، ومن خيانة وغدر ، وفتح أمامهم باب التوبة ، وأنذرهم بالعذاب الأليم إذا ما استمروا في نفاقهم فقال ـ سبحانه ـ :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨١.

٣٥٢

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٧٤)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما رواه ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال : نزلت هذه الآية : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا). الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت. أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء. فقال الجلاس : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها!!

فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قلت : قال مصعب : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة .. فقلت يا رسول الله : أقبلت أنا والجلاس من قباء. فقال كذا وكذا ، ولو لا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك.

قال مصعب : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجلاس فقال له : أقلت الذي قال مصعب؟ فحلف الجلاس بأنه ما قال ذلك. فأنزل الله الآية» (١).

وأخرج ابن إسحاق وابن أبى حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن وفيه ذكر المنافقين قال الجلاس بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير. فسمعه عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلى. وأحسنهم عندي أثرا. ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ، ولئن سكت عنها هلكت ، ولإحداهما أشد على من الأخرى.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٦٢ بتصرف يسير. طبعة دار المعارف.

٣٥٣

فمشى عمير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ما قال الجلاس. فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجلاس عما قاله عمير ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وزعم أن عميرا كذب عليه فنزلت هذه الآية (١).

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبى الطفيل.

قال : لما أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك أمر مناديه فنادى إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ طريق العقبة ـ وهو مكان مرتفع ضيق ـ فلا يأخذها أحد.

قال : فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقود ركابه حذيفة ويسوقه عمار ، إذا أقبل رهط ملثمون على الرواحل ، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحذيفة : «قد ، قد». أى حسبك حسبك. حتى هبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجع عمار.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عمار : «هل عرفت القوم»؟ فقال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون. قال : «هل تدرى ما أرادوا»؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : «أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راحلته فيطرحوه» .. (٢).

هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية وهي تكشف عن كذب المنافقين وغدرهم.

وقوله. سبحانه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ...) استئناف مسوق لبيان جانب مما صدر عنهم من جرائم تستدعى جهادهم والإغلاظ عليهم.

أى : يحلف هؤلاء المنافقون بالله كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول القبيح الذي بلغك عنهم يا محمد.

والحق أنهم قد قالوا «كلمة الكفر» وهي تشمل كل ما نطقوا به من أقوال يقصدون بها إيذاءه. صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كقولهم : «هو أذن» وقولهم. «لئن كان ما جاء به حقا فنحن أشر من حمرنا ...» وغير ذلك من الكلمات القبيحة التي نطقوا بها.

وأنهم قد «كفروا بعد إسلامهم» أى : أظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام.

وأنهم قد «هموا بما لم ينالوا» أى : حاولوا إلحاق الأذى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ، لأن الله تعالى. عصمه من شرورهم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٣٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٢. بتصرف وتلخيص.

٣٥٤

وقوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) توبيخ لهم على جحودهم وكنودهم ومقابلتهم الحسنة بالسيئة.

ومعنى : نقموا : كرهوا وعابوا وأنكروا ، يقال نقم منه الشيء إذا أنكره ، وكرهه وعابه ، وكذا إذا عاقبه عليه.

أى : وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام شيئا ، إلا أنهم بسببه أغناهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من وجوه الخيرات التي كانوا لا يجدونها قبل حلول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بينهم.

وهذه الجملة الكريمة جاءت على الأسلوب الذي يسميه علماء البلاغة : تأكيد المدح بما يشبه الذم.

قال الجمل : كأنه قال ـ سبحانه ـ ليس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة تكره وتعاب ، سوى أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته عندهم ، إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة ، وهذه ليست صفة ذم ـ بل هي صفة مدح ـ فحينئذ ليس له صفة تذم أصلا» (١).

وشبيه بهذا الأسلوب قول الشاعر يمدح قوما بالشجاعة والإقدام.

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بترغيبهم وترهيبهم فقال : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ..)

أى : فإن يتب هؤلاء المنافقون عن نفاقهم وشقاقهم وقبائح أقوالهم وأفعالهم ، يكن المتاب خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم. «وإن يتولوا» ويعرضوا عن الحق : ويستمروا في ضلالهم «يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة».

أما عذاب الدنيا فمن مظاهره : حذرهم وخوفهم من أن يطلع المؤمنون على أسرارهم وجبنهم عن مجابهة الحقائق ، وشعورهم بالضعف أمام قوة المسلمين ، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب المؤمنين ومعاقبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بالعقوبة المناسبة لجرمهم ..

وأما عذاب الآخرة ، فهو أشد وأبقى ، بسبب إصرارهم على النفاق ، وإعراضهم عن دعوة الحق.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٠ ـ بتصرف يسير ـ

٣٥٥

وقوله : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) تذييل قصد به تيئيسهم من كل معين أو ناصر.

أى : أن هؤلاء المنافقين ليس لهم أحد في الأرض يدفع عنهم عذاب الله ، أو يحميهم من عقابه ، لأن عقاب الله لن يدفعه دافع إلا هو ، فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى ربهم قبل أن يحل بهم عذابه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك نماذج أخرى من جحودهم ، ونقضهم لعهودهم ، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله فقال ـ سبحانه ـ.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(٧٨)

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري ، أن سبب نزول هذه الآيات أن ثعلبة بن حاطب الأنصارى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال له مرة أخرى : «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تصير الجبال معى ذهبا وفضة لصارت».

فقال ثعلبة ، والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم ارزق ثعلبة مالا».

٣٥٦

فاتخذ ثعلبة غنما فنمت ، ثم ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، ثم ترك الجمعة ..

وأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين .. وقال لهما : «مرا على ثعلبة وعلى فلان. رجل من بنى سليم. فخذا صدقاتهما».

فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله. فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدرى ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلى.

فانطلقا وسمع بهما السلمى «فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة. ثم استقبلهم بها. فلما رأوها قالوا له : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال : بل خذوها فإن نفسي بذلك طيبة ، فأخذاها منه ومرا على ثعلبة فقال لهما : أرونى كتابكما فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية ... انطلقا حتى أرى رأيى.

فانطلقا حتى أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رآهما قال : «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمى بالبركة. فأخبراه بالذي صنعه ثعلبة معهما ..

فأنزل الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ..) الآيات.

فسمع رجل من أقارب ثعلبة هذه الآيات فذهب إليه وأخبره بما أنزل فيه من قرآن.

فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله أن يقبل منه صدقته فقال له : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ..

ثم لم يقبلها منه بعد ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان (١).

هذا ، وقد ضعف بعض العلماء هذا الحديث ، لأسباب تتعلق بسنده ، وبصاحب القصة وهو ثعلبة بن حاطب.

والذي نراه أن هذه الآيات الكريمة تحكى صورة حقيقية وواقعية لبعض المنافقين المعاصرين للعهد النبوي. والذين عاهدوا الله فنقضوا عهودهم معه ، وقابلوا ما أعطاهم من نعم بالبخل والجحود ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٤ ـ بتصرف وتلخيص.

٣٥٧

وتلك الصورة قد تكون لثعلبة بن حاطب وقد تكون لغيره ، لأن المهم هو حصولها فعلا من بعض المنافقين.

وهذه الآيات ـ أيضا ـ تنطبق في كل زمان ومكان على من يقابل نعم الله بالكفران ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق ، ويوجد مثلهم في كل زمان ، وهم الذين يلجئون إلى الله ـ تعالى ـ في وقت العسرة والفقر ، أو الشدة والضر ، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له ، والطاعة لشرعه ، إذا هو كشف ضرهم ، وأغنى فقرهم. فإذا استجاب لهم نكسوا على رءوسهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وكفروا النعمة ، وبطروا الحق ، وهضموا حقوق الخلق وهذا مثل من شر أمثالهم» (١).

ومعنى الآيات الكريمة : ومن المنافقين قوم «عاهدوا الله» وأكدوا عهودهم بالأيمان المغلظة فقالوا : «لئن آتانا» الله ـ تعالى ـ من فضله مالا وفيرا ، لنصدقن منه على المحتاجين ، ولنعطين كل ذي حق حقه ولنكونن من عباده «الصالحين» الذين يؤدون واجبهم نحو الله والناس ، والذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.

قال الجمل وقوله : (مَنْ عاهَدَ اللهَ) فيه معنى القسم ، وقوله : (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) تفسير لقوله : عاهد الله. واللام موطئة لقسم مقدر. وقد اجتمع هنا قسم وشرط ، فالمذكور وهو قوله : «لنصدقن» .. جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف ... واللام في قوله «لنصدقن» ... واقعة في جواب القسم (٢).

وقوله : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) ... بيان لموقفهم الجحودى من عطاء الله وكرمه.

أى : فلما أعطى الله ـ تعالى ـ من فضله هؤلاء المنافقين ما تمنوه من مال وفير «بخلوا به» أى : بخلوا بهذا المال ، فلم ينفقوا منه شيئا في وجوهه المشروعة ، ولم يعترفوا فيه بحقوق الله أو حقوق الناس ، ولم يكتفوا بذلك بل «تولوا وهم معرضون».

أى : أدبروا عن طاعة الله وعن فعل الخير ، وهم قوم دأبهم التولي عن سماع الحق ، وشأنهم الانقياد للهوى والشيطان.

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٦٤٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠١.

٣٥٨

وقوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ...) تصوير للآثار الذميمة التي ترتبت على بخلهم وإعراضهم عن الحق والخير.

أى : فجعل الله ـ تعالى ـ عاقبة فعلهم نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم إلى يوم يلقونه للحساب ، فيجازيهم بما يستحقون على بخلهم وإعراضهم عن الحق.

فالضمير المستتر في «أعقب» لله ـ تعالى ـ وكذا الضمير المنصوب في قوله : «يلقونه».

ويصح أن يكون الضمير في «أعقب» يعود على البخل والتولي والإعراض ، فيكون المعنى : فأعقبهم وأورثهم ذلك البخل والتولي والإعراض عن الحق والخير ، نفاقا راسخا في قلوبهم ، وممتدا في نفوسهم إلى اليوم الذي يلقون فيه ربهم ، فيعاقبهم عقابا أليما على سوء أعمالهم.

والباء في قوله : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) للسببية.

أى : أن النفاق قد باض وفرخ في قلوبهم إلى يوم يلقون الله ـ تعالى ـ ، بسبب إخلافهم لوعودهم مع خالقهم ، وبسبب استمرارهم على الكذب ، ومداومتهم عليه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة ، بتوبيخهم على إصرارهم على المعاصي ، مع علمهم بأنه ـ عزوجل ـ عليم رقيب عليهم ، ومطلع على أحوالهم فقال : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

أى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله ـ تعالى ـ يعلم ما يسرونه في أنفسهم من نفاق ، وما يتناجون به فيما بينهم من أقوال فاسدة ، وأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ بلى إنهم ليعلمون ذلك علم اليقين ، ولكنهم لاستيلاء الهوى والشيطان عليهم ، لم ينتفعوا بعلمهم.

فالاستفهام في قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا ..) للتوبيخ والتهديد والتقرير ، وتنبيهم إلى أن الله عليم بأحوالهم ، وسيجازيهم عليها.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهود ، فإن نقض العهود ، وخلف الوعد ، والكذب كل ذلك يورث النفاق ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.

ومذهب الحسن البصري ـ رحمه‌الله ـ أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية

٣٥٩

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» (١).

٢ ـ أن للإمام أن يمتنع عن قبول الصدقة من صاحبها إذا رأى المصلحة في ذلك ، اقتداء بما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ثعلبة ، فإنه لم يقبل منه الصدقة بعد أن جاء بها.

قال الإمام الرازي : فإن قيل إن الله ـ تعالى ـ أمره ـ أى ثعلبة ـ بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يقبلها منه؟

قلنا : لا يبعد أن يقال أنه ـ تعالى ـ منع رسوله عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له ، ليعتبر غيره به ، فلا يمتنع عن أداء الصدقات.

ولا يبعد ـ أيضا ـ أنه إنما أتى بها على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله رسوله بذلك ، فلم يقبل تلك الصدقة لهذا السبب.

ويحتمل ـ أيضا ـ أنه ـ تعالى ـ لما قال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقة ، فلهذا السبب امتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أخذ تلك الصدقة (٢).

٣ ـ أن النفس البشرية ضعيفة شحيحة ـ إلا من عصم الله.

وأن مما يعين الإنسان على التغلب على هذا الضعف والشح ، أن يوطن نفسه على طاعة الله ، وأن يجبرها إجبارا على مخالفة الهوى والشيطان ، وأن يؤثر ما عند الله على كل شيء من حطام الدنيا ...

أما إذا ترك لنفسه أن تسير على هواها ، فإنها ستورده المهالك ، التي لن ينفع معها الندم ، وستجعله أسير شهواته وأطماعه ونفاقه إلى أن يلقى الله ، وصدق ـ سبحانه ـ حيث يقول : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ، بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

ثم حكى ـ سبحانه ـ موقف هؤلاء المنافقين من المؤمنين الصادقين الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل الله ، فقال ـ سبحانه :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٧٨. طبعة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٧٦. طبعة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍.

٣٦٠