التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقوله : (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) استدراك للرد عليهم فيما قالوه وأقسموا عليه كذبا وزورا.

وقوله : (يَفْرَقُونَ) من الفرق ، بمعنى الفزع الشديد من أمر يتوقع حصوله.

يقال : فرق فرقا إذا اشتد خوفه وهلعه.

أى : أن هؤلاء المنافقين لشدة خوفهم وهلعهم ـ أيها المؤمنون ـ يحلفون لكم كذبا وزورا بأنهم منكم ، والحق أنهم ما هم منكم ، ولكنهم قوم جبناء. لا يستطيعون مصارحتكم بالعداوة ، ولا يجرؤون على مجابهتكم بما تخفيه قلوبهم لكم من بغضاء.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ ...) تأكيد لما كان عليه أولئك المنافقون من جبن خالع.

والملجأ : اسم للمكان الذي يلجأ إليه الخائف ليحتمى به سواء أكان حصنا أو قلعة أو غيرهما.

والمغارات : جمع مغارة وهي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل. قال بعضهم : والغور ـ بفتح الغين ـ من كل شيء قعره. يقال : غار الرجل غورا إذا أتى الغور وهو المنخفض من الأرض (١).

والمدخل ـ بتشديد الدال اسم للموضع الذي يدخلون فيه ، بصعوبة ومشقة لضيقه ، كالنفق في الأرض.

وقوله : (يَجْمَحُونَ) أى : يسرعون أشد الإسراع مأخوذ من الجموح وهو أن يغلب الفرس صاحبه في سيره وجريه. يقال : جمح الفرس براكبه جموحا ، إذا استعصى عليه حتى غلبه.

والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لو يجدون حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يستخفون فيها. أو سردابا في الأرض ينجحرون فيه ، لأقبلوا نحوه مسرعين أشد الإسراع دون أن يردهم شيء ، كالفرس الجموح الذي عجز صاحبه عن منعه من النفور والعدو.

فالآية الكريمة تصوير معجز لما كان عليه أولئك المنافقون من خوف شديد من المؤمنين ،

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٩٠.

٣٢١

ومن بغض دفين لهم ، حتى إنهم لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة ـ التي هي منفور منها ـ لأسرعوا نحوها إسراعا شديدا.

ثم تمضى السورة بعد ذلك في الكشف عن الأقوال المنكرة ، والأفعال القبيحة التي كانت تصدر عن المنافقين فتقول.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩)

قال الإمام الرازي : اعلم أن المقصود من هذا ، شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم ، وهو طعنهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ، ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته ، وينسبونه إلى أنه لا يراعى العدل ، (١).

هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها :

ما أخرجه البخاري والنسائي عن أبى سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل»؟ ، فقال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ : ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية ...».

قال أبو سعيد ، فنزلت فيهم : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ..).

وروى ابن مردويه عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : «لما قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنائم حنين سمعت رجلا يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٥.

٣٢٢

فذكرت له ذلك فقال : «رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر». ونزل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) (١).

وقوله : (يَلْمِزُكَ) أى : يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وغيرها من الأموال ، مأخوذ من اللمز وهو العيب. يقال لمزة وهمزة يلمزه ويهمزه إذا عابه وطعن عليه ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).

وقيل : اللمز ما كان يحضره الملموز ، والهمز ما كان في غيابه.

والمعنى : ومن هؤلاء المنافقين ـ يا محمد ـ من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم ، زاعمين أنك لست عادلا في قسمتك.

وقوله : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ...) بيان لفساد لمزهم وطعنهم ، وأن الدافع إليه إنما هو الطمع والشره في حطام الدنيا ، وليس الغضب من أجل إحقاق الحق : أو من أجل نشر العدالة بين الناس.

أى : أن هؤلاء المنافقين إن أعطيتهم. يا محمد. من تلك الصدقات ، رضوا عنك ، وحكموا على هذا العطاء بأنه عدل حتى ولو كان ظلما ، وإن لم تعطهم منها سخطوا عليك ، واتهموك بأنك غير عادل ، حتى ولو كان عدم عطائهم هو الحق بعينه ، فهم لا يقولون ما يقولونه فيك غضبا للعدل ، ولا حماسة للحق ، ولا غيرة على الدين .. وإنما يقولون ما يقولون من أجل مطامعهم الشخصية ، ومنافعهم الذاتية.

قال الجمل. وقوله (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) إذا هنا فجائية ، قائمة مقام فاء الجزاء في الربط على حد قوله : «وتخلف الفاء إذا المفاجأة». والأصل. فهم يسخطون ، وغاير. سبحانه. بين جوابي الجملتين ، للاشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم (٢).

وقال صاحب المنار. وقد عبر ـ سبحانه ـ عن رضاهم بصيغة الماضي : للدلالة على أنه كان يكون لأجل العطاء في وقته وينقضي ، فلا يعدونه نعمة يتمنون دوام الإسلام لدوامها ، وعبر عن سخطهم بإذا الفجائية وبالفعل المضارع ، للدلالة على سرعته واستمراره. وهذا دأب المنافقين وخلقهم في كل زمان ومكان ، كما نراه بالعيان حتى من مدعى كمال الإيمان ، والعلم والعرفان (٣).

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٥٦٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٩١.

(٣) تفسير المنار ج ١٠ ص ٥٦٧.

٣٢٣

ثم وضح ـ سبحانه ـ : المنهج الذي يليق بأصحاب العقيدة السليمة فقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ..).

أى. ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يلمزونك. يا محمد. في الصدقات ، رضوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء ، وقالوا ـ على سبيل الشكر والقناعة ـ «حسبنا الله» أى : كفانا فضله وما قسمه لنا ، «سيؤتينا الله من فضله ورسوله» أى : سيعطينا الله في المستقبل الكثير من فضله وإحسانه ، وسيعطينا رسوله من الصدقات وغيرها «إنا إلى الله راغبون» أى : إنا إلى الله راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقات وغيرها من أموال الناس ومن صلاتهم ، لأنه ـ سبحانه ـ له خزائن السموات والأرض.

وجواب «لو» محذوف. والتقدير : ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : والآية تدل على أن من طلب الدنيا ـ بطمع وشراهة ـ آل أمره في الدين إلى النفاق ، وأما من طلب الدنيا بتوسط وبغرض التوسل إلى مصالح الدين ، فهذا هو الطريق الحق ، والأصل في هذا الباب أن يكون راضيا بقضاء الله.

ألا ترى أنه ـ سبحانه ـ ذكر هنا في هذه الآية مراتب أربعة :

أولها : الرضا بما آتاهم الله ورسوله ، لعلمه بأنه ـ تعالى ـ حكم منزه عن العبث ، وكل ما كان حكما له وقضاء كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه.

وثانيها : أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم : «حسبنا الله» يعنى : أن غيرنا أخذ المال ، ونحن قد رضينا بحكم الله وقضائه. وفزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية.

وثالثها : وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ تلك الدرجة العالية التي عندها يقول : «حسبنا الله» ، نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول : «سيؤتينا الله من فضله ورسوله».

ورابعها : أن يقول : «إنا إلى الله راغبون» فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال ، وإنما نطلب اكتساب سعادات الآخرة .. (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ المنهج اللائق بأصحاب العقيدة السليمة في طلب الدنيا عقب ذلك ببيان المستحقين للصدقات فقال ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٦ طبعة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍ ـ الطبعة الثانية.

٣٢٤

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)

قال الإمام ابن كثير. لما ذكر الله ـ تعالى ـ اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات. بين ـ سبحانه ـ أنه هو الذي قسمها ، وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه أبو داود في سنته عن زياد بن الحارث الصدائى قال. أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال. أعطنى من الصدقة فقال له. «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره. في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» (١).

والمراد بالصدقات هنا ـ عند كثير من العلماء ـ الزكاة المفروضة.

ولفظ الصدقات. مبتدأ ، والخبر محذوف ، والتقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء والمساكين ... إلخ.

والفقراء. جمع فقير ، وهو من له أدنى شيء من المال. أو هو من لا يملك المال الذي يقوم بحاجاته الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.

يقال فقر الرجل يفقر ـ من باب تعب ـ إذا قل ماله.

قالوا : وأصل الفقير في اللغة : الشخص الذي كسر فقار ظهره ، ثم استعمل فيمن قل ماله لانكساره بسبب احتياجه إلى غيره.

أو هو من الفقرة بمعنى الحفرة ، ثم استعمل فيما ذكر لكونه أدنى حالا من أكثر الناس ، كما أن الحفرة أدنى من مستوى سطح الأرض المستوية.

والمساكين : جمع مسكين ، وهو من لا شيء له ، فيحتاج إلى سؤال الناس لسد حاجاته ومطالب حياته.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٤.

٣٢٥

وهو مأخوذ من السكون الذي هو ضد الحركة ، لأن احتياجه إلى غيره أسكنه وأذله.

وقيل. المسكين هو الذي له مال أو كسب ولكنه لا يكفيه ، وعلى هذا يكون قريب الشبه بالفقير.

وقوله : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) بيان للصنف الثالث من الأصناف الذين تجب لهم الزكاة.

والمراد بهم. من كلفهم الإمام بجمع الزكاة وتحصيلها ممن يملكون نصابها.

ويدخل فيهم العريف ، والحاسب ، والكاتب ، وحافظ المال ، وكل من كلفه الإمام أو نائبه بعمل يتعلق بجمع الزكاة أو حفظها ، أو توزيعها.

وقوله. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) بيان للصنف الرابع.

والمراد بهم الأشخاص الذين يرى الإمام دفع شيء من الزكاة إليهم تأليفا لقلوبهم ، واستمالة لنفوسهم نحو الإسلام ، لكف شرهم ، أو لرجاء نفعهم ، وهم أنواع :

منهم قوم من الكفار ، كصفوان بن أمية ، فقد أعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غنائم حنين ، وكان صفوان يومئذ كافرا ، ثم أسلم وقال : والله لقد أعطانى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أبغض الناس إلى ، فما زال يعطيني. حتى أسلمت وإنه لأحب الناس إلى.

ومنهم قوم كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا من ذوى الشرف في أقوامهم فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطيهم ، ليثبت إيمانهم ، وليدخل معهم في الإسلام أتباعهم.

ومن أمثلة ذلك ما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، والزبرقان بن بدر ، فقد أعطاهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكانتهم في عشيرتهم ، ولشرفهم في أقوامهم. وليدخل معهم في الإسلام غيرهم.

ومنهم قوم كانوا ضعاف الإيمان ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطيهم تأليفا لقلوبهم ، وتقوية لإيمانهم. لكي لا يسرى ضعف إيمانهم إلى غيرهم.

ومن أمثلة هذا الصنف العباس بن مرداس السلمى ، فقد أعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأليفا لقلبه ، وتثبيتا لإيمانه.

والخلاصة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتألف قلوب بعض الناس بالعطاء ، دفعا لشرهم ، أو أملا في نفعهم ، أو رجاء هدايتهم.

وقوله : (وَفِي الرِّقابِ) بيان لنوع خامس من مصارف الزكاة. وفي الكلام مجاز بالحذف ، والتقدير : وتصرف الصدقات أيضا في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها

٣٢٦

على أداء بدل الكتابة ؛ لكن يصيروا أحرارا. أو بأن يشترى بجزء منها عددا من العبيد لكي يعتقوا من الرق.

وذلك لأن الإسلام يحبب أتباعه في عتق الرقاب ، وفي مساعدة الأرقاء على أن يصيروا أحرارا.

وقوله : «والغارمين» من الغرم بمعنى الملازمة للشيء ومنه قوله. تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أى : عذاب جهنم كان ملازما لأهلها من الكافرين.

والمراد بالغارمين : من لزمتهم الديون في غير معصية لله ، ولا يجدون المال الذي يدفعونه لدائنيهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على سداد ديونهم.

وقوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) بيان لنوع سابع من مصارف الزكاة.

والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة ، وجمعه سبل. وأضيف إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه هو السبيل الحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وهو الذي يوصل السائر فيه إلى مرضاة الله ومثوبته.

أى : وتصرف الصدقات في سبيل الله ، يدفع جزء منها لمساعدة المجاهدين والغزاة والفقراء الذين خرجوا لإعلاء كلمة الله.

قال بعض العلماء ما ملخصه : قال أبو حنيفة ومالك والشافعى. يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة .. ، لأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله هو الغزو ، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك.

وقال الإمام أحمد : يجوز صرف سبيل الله إلى مريد الحج.

وقال بعضهم. يجوز صرف سبيل الله إلى طلبة العلم.

وفسره بعضهم بجميع القربات. فيدخل فيه جميع وجوه الخير ، مثل تكفين الموتى ، وبناء القناطر ، والحصون ، وعمارة المساجد «وفي سبيل الله» عام في الكل .. (١).

وقوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) بيان للصنف الثامن والأخير من الأصناف الذين هم مصارف الزكاة.

والمراد بابن السبيل : المسافر المنقطع عن ماله في سفره. ولو كان غنيا في بلده ، فيعطى من الزكاة ما يساعده على بلوغ موطنه.

وقد اشترط العلماء لابن السبيل الذي يعطى من الصدقة ، أن يكون سفره في غير معصية

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٤٢ لفضيلة الشيخ محمد على السائس.

٣٢٧

الله. فإن كان في معصية لم يعط : لأن إعطاءه يعتبر إعانة له على المعصية ، وهذا لا يجوز.

وقد ألحقوا بابن السبيل ، كل من غاب عن ماله ، ولو كان في بلده.

وقوله. فريضة من الله ، منصوب بفعل مقدر أى : فرض الله لهم هذه الصدقات فريضة ، فلا يصح لكم أن تبخلوا بها عنهم ، أو تتكاسلوا في إعطائها لمستحقيها.

فالجملة الكريمة زجر للمخاطبين عن مخالفة أحكامه. سبحانه.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل قصد به بيان الحكمة من فرضية الزكاة.

أى : والله ـ تعالى ـ عليم بأحوال عباده ، ولا تخفى عليه خافية من تصرفاتهم ، حكيم في كل أوامره ونواهيه ، فعليكم. أيها المؤمنون. أن تأتمروا بأوامره ، وأن تنتهوا عن نواهيه لتنالوا رضاه.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ أن المراد بالصدقات هنا ما يتناول الزكاة المفروضة وغيرها من الصدقات المندوبة ، وذلك لأن اللفظ عام فيشمل كل صدقة سواء أكانت واجبة أم مندوبة ، ولأن لفظ الصدقة في عرف الشرع وفي صدر الإسلام ، كان يشمل الزكاة المفروضة ، والصدقة المندوبة ، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

ومن العلماء من يرى أن المراد بالصدقات في الآية : الزكاة المفروضة ، لأن (أل) في الصدقات للعهد الذكرى والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار إليها القرآن. بقوله قبيل هذه الآية. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية كبناء المساجد والمدارس.

ويبدو لنا أن لفظ الصدقات في الآية عام بحيث يتناول كل صدقة ، إلا أن الزكاة المفروضة تدخل فيه دخولا أوليا.

٢ ـ قال بعض العلماء : ظاهر الآية يقضى بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان.

الأول. ما يقتضيه اللفظ اللغوي ، إن قلنا. الواو للجمع والتشريك.

والثاني. ما رواه أبو داود في سنته من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء».

وقد ذهب إلى هذا الشافعى وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدهما فتدفع إلى الآخرين بلا خلاف.

٣٢٨

وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد. منهم عمر وابن عباس وعطاء وابن جبير ومالك وأبو حنيفه.

قال في التهذيب : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر بوجوه :

الأول : أن الله ـ تعالى ـ قال في سورة البقرة : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (١) فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها.

الثاني : الخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم.

الثالث : حديث سلمة بن صخر. فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل له صدقة بنى زريق.

الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه (٢).

٣ ـ يرى جمهور العلماء أن الفقراء والمساكين صنفان من مصارف الزكاة لأن الله.

ـ تعالى ـ قد ذكر كل صنف منهما على حدة ، إلا أنهم اختلفوا في أيهما أسوأ حالا من الآخر.

فالشافعية يرون أن الفقير أسوأ حالا من المسكين.

ومن أدلتهم على ذلك ، أن الله. تعالى. بدأ في الآية بالفقراء ، وهذا البدء. يشير إلى أنهم أشد حاجة من غيرهم ، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.

ولأن لفظ الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره ؛ فلا يستطيع التكسب ، ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.

ولأن الله. تعالى. وصف بالمسكنة من كانت له سفينة من سفن البحر فقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ..) (٣).

أما الأحناف والمالكية فيرون أن المسكين أسوأ حالا من الفقير.

ومن أدلتهم على ذلك : أن علماء اللغة عرفوا المسكين بأنه أسوأ حالا من الفقير ، وإلى هذا ذهب يعقوب بن السكيت ، والقتبى ، ويونس بن حبيب.

ولأن الله ـ تعالى ـ وصف المسكين وصفا يدل على البؤس والفاقة فقال : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أى : مسكينا ذا حاجة شديدة ، حتى لكأنه قد لصق بالتراب من شدة الفاقة ، ولم يصف الفقير بذلك .. (٤).

__________________

(١) الآية ٢٧١.

(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٨٢.

(٣) سورة الكهف. الآية ٧٩.

(٤) راجع تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٦٨.

٣٢٩

قال بعض العلماء : وأنت إذا تأملت أدلة الطرفين وجدت أنها متعارضة ومحل نظر ، وأياما كان فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان.

وروى عن أبى يوسف ومحمد أنهما صنف واحد واختاره الجبائي ، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ؛ فمن قال إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به ، ومن قال إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك (١).

٤ ـ ظاهر الآية يدل على أن الزكاة يجوز دفعها لكل من يشمله اسم الفقير والمسكين ، إلا أن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد قيدت هذا الإطلاق.

قال القرطبي : اعلم أن قوله ـ تعالى ـ : (لِلْفُقَراءِ) مطلق ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء ، سواء أكانوا من بنى هاشم أم من غيرهم ، إلا أن السنة وردت باعتبار شروط ، منها : ألا يكونوا من بنى هاشم ، وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته ، وهذا لا خلاف فيه.

وشرط ثالث ألا يكون قويا على الاكتساب ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحل الصدقة لغنى ، ولا لذي مرة سوى».

ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا لبنى هاشم ولا لمواليهم .. (٢).

وكذلك لا يصح أن تعطى لغير المسلمين ، ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» فاقتضى ذلك ان الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين.

إلا أنه نقل عن أبى حنيفة جواز دفع صدقة الفطر إلى الذمي.

٥ ـ أخذ بعض العلماء من قوله ـ تعالى ـ (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) أنه يجب على الإمام أن يرسل من يراه أهلا لجمع الزكاة ممن تجب عليهم.

وقد تأكد هذا الوجوب بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ثبت في أحاديث متعددة أنه أرسل بعض الصحابة لجمع الزكاة.

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٣٤ للأستاذ محمد على السائس ـ بتصرف وتلخيص ـ

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٩١.

٣٣٠

روى البخاري عن أبى حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه (١).

٦ ـ أخذ بعض العلماء ـ أيضا ـ من قوله ـ تعالى ـ (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) أن حكمهم باق ، لأنهم قد ذكروا من بين مصارف الزكاة ، ولأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعطاهم ، فيعطون عند الحاجة.

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في بقاء المؤلفة قلوبهم.

فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره.

وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأى.

قال بعض علماء الحنفية. لما أعز الله الإسلام وأهله ، أجمع الصحابة في خلافة أبى بكر على سقوط سهمهم.

وقال جماعة من العلماء : هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.

وقال ابن العربي. الذي عندي أنه إن قوى الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطيهم ، فإن في الصحيح «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» (٢).

والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن العربي أقرب الأقوال إلى الصواب لأن مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم تختلف باختلاف الأحوال ؛ فإن كان الإمام يرى أن من مصلحة الإسلام إعطاءهم أعطاهم ، وإن كانت المصلحة في غير ذلك لم يعطهم.

٧ ـ دلت الآية الكريمة على أن الزكاة ركن من أركان الإسلام ، لقوله تعالى «فريضة من الله».

قال بعض العلماء ما ملخصه ، تلك هي فريضة الزكاة. ليست أمر الرسول وإنما هي أمر الله وفريضته وقسمته وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين.

وهذه الزكاة تؤخذ من الأغنياء على أنها فريضة من الله ، وترد على الفقراء على أنها فريضة من الله ، وهي محصورة في طوائف من الناس عينهم القرآن وليست متروكة لاختيار أحد حتى ولا اختيار الرسول نفسه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٧٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٨١.

٣٣١

وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة الله ، ومكانها في النظام الإسلامى ، لا تطوعا ولا تفضلا ممن فرضت عليهم ، فهي فريضة محتمة ، ولا منحة ولا جزافا من القاسم الموزع فهي فريضة معلومة. إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدى بها خدمة اجتماعية محدودة. وهي. ليست إحسانا من المعطى ، وليست شحاذة من الآخذ ، كلا فما قام النظام الاجتماعى في الإسلام على التسول ولن يقوم.

إن قوام الحياة في النظام الإسلامى هو العمل ـ بكل صنوفه وألوانه ـ على الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه.

والزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ، متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذا شريعة الله لا يبتغى له شرعا ولا منهجا سواه.

إن فريضة الزكاة تؤدى في صورة عبادة إسلامية ، ليطهر الله بها القلوب من الشح ، وليجعلها شرعة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة.

إنها فريضة من الله ، الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدير أمرها بالحكمة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١).

وبعد هذا الحديث عن الصدقات التي كان المنافقون يلمزون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، أخذت السورة في مواصلة حديثها عن رذائل المنافقين ، وعن سوء أدبهم .. فقال تعالى ـ :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦١)

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن السدى أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت ورفاعة ابن عبد المنذر ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٠.

٣٣٢

ووديعة بن ثابت وغيرهم ، قالوا مالا ينبغي في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقال رجل منهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا ما تقولونه فيقع فينا. فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا أذن (١).

فمرادهم بقولهم «هو أذن» أى : كثير الاستماع والتصديق لكل ما يقال له.

قال صاحب الكشاف : الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للربيئة ـ أى الطليعة ـ عين» (٢).

وقال بعضهم : «الأذن» الرجل المستمع القابل لما يقال له. وصفوا به الذكر والأنثى والواحد والجمع. فيقال : رجل أذن ، وامرأة أذن ورجال ونساء أذن ، فلا يثنى ولا يجمع. إنما سموه باسم العضو تهويلا وتشنيعا فهو مجاز مرسل أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته ـ لفرط استماعه ـ آلة السماع ، كما سمى الجاسوس عينا لذلك» (٣).

والمعنى : ومن هؤلاء المنافقين قوم يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون عنه أنه كثير السماع والتصديق لكل ما يقال له بدون تمييز بين الحق والباطل.

وقوله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) رد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويكبت أنفسهم وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على سبيل المبالغة في المدح كقولهم رجل صدق أى قد بلغ النهاية في الصدق والاستقامة.

والمعنى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتبكيت : سلمنا. كما تزعمون. أنى كثير السماع والتصديق لما يقال ، لكن هذه الكثرة ليست للشر والخير بدون تمييز وإنما هي للخير ولما وافق الشرع فحسب.

ويجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى «في» ، أى هو أذن في الخير والحق ، وليس بأذن في غير ذلك من وجوه الباطل والشر.

وهذه الجملة الكريمة من أسمى الأساليب وأحكمها في الرد على المرجفين والفاسقين ، لأنه ـ سبحانه ـ صدقهم في كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذنا ، وذلك بما هو مدح له ، حيث وصفه بأنه أذن خير لا شر.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٢٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٤.

(٣) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٨٦.

٣٣٣

قال صاحب الإنصاف : لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه ، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة ثم كر على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس ، منه ، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه (١).

وقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) تفسير وتوضيح لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن خير لهم لا أذن شر عليهم.

أى : أن من مظاهر كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن خير ، أنه «يؤمن بالله» إيمانا حقا لا يحوم حوله شيء من الرياء ، أو الخداع أو غيرهما من ألوان السوء «ويؤمن للمؤمنين» أى : يصدقهم فيما يقولونه من أقوال توافق الشرع لأنهم أصحابه الذين أطاعوه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، فهم أهل للتصديق والقبول. دون غيرهم من المنافقين والفاسقين.

قال الفخر الرازي : فإن قيل لما ذا عدى الإيمان إلى الله بالباء ، وإلى المؤمنين باللام؟

قلنا : لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء. والإيمان المعدى إلى المؤمنين المراد منه الاستماع منهم ، والتسليم لقولهم فعدى باللام ، كما في قوله (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا). أى بمصدق لنا. وقوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وقوله : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) (٢).

وقوله : (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) معطوف على قوله : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ).

أى : أن هذا الرسول الكريم بجانب أنه أذن خير لكم هو رحمة للذين آمنوا منكم ـ أيها المنافقون ـ إيمانا صحيحا ، لأنه عن طريق إرشاده لهم إلى الخير ، واتباعهم لهذا الإرشاد يصلون إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.

وعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا من المنافقين : أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ، وأخلصوا لله قلوبهم ، وتركوا النفاق والرياء.

أو أن المراد بالذين آمنوا منهم : أولئك الذين أظهروا الإيمان ، فيكون المعنى :

أن هذا الرسول الكريم رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم ـ أيها المنافقون ـ حيث إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاملهم بحسب الظاهر ، دون أن يكشف أسرارهم ، أو يهتك أستارهم ؛ لأن الحكمة تقتضي ذلك.

وعلى هذا المعنى سار صاحب الكشاف فقد قال : وهو رحمة لمن آمن منكم ، أى : أظهر

__________________

(١) حاشية الكشاف لابن المنبر ج ٢ ص ١٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٦٥.

٣٣٤

الإيمان ـ أيها المنافقون ـ ، حيث يسمع منكم ، ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ، ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم ... (١).

وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم عن التعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأية إساءة.

أى : والذين يؤذون رسول الله بأى لون من ألوان الأذى ، لهم عذاب أليم في دنياهم وآخرتهم ؛ لأنهم بإيذائهم له يكونون قد استهانوا بمن أرسله الله رحمة للعالمين.

ثم حكى القرآن بعد ذلك لونا من جبنهم وعجزهم عن مصارحة المؤمنين بالحقائق ، فقال ـ سبحانه ـ :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣)

قال القرطبي : روى أن قوما من المنافقين اجتمعوا ، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه وتكلموا فقالوا : إن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحق ، ولأنتم شر من الحمير. ثم أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم فحلفوا إن عامرا كاذب.

فقال عامر : هم الكذبة ، وحلف على ذلك وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية (٢).

فقوله ـ سبحانه ـ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) خطاب للمؤمنين الذين كان المنافقون يذكرونهم بالسوء ، ثم يأتون إليهم بعد ذلك معتذرين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٩٣ ـ بتصرف يسير ـ

٣٣٥

أى : إن هؤلاء المنافقين يحلفون بالله لكم ـ أيها المؤمنون ـ ليرضوكم ، فتطمئنوا إليهم ، وتقبلوا معاذيرهم.

قال أبو السعود : وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه ، وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما لم يكذبهم رفقا بهم ، وسترا لعيوبهم ، لا عن رضا بما فعلوا ، وقبول قلبي لما قالوا .. (١).

وقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) جملة حالية في محل نصب من ضمير «يحلفون» جيء بها لتوبيخهم على إيثارهم رضا الناس على رضا الله ورسوله.

أى : هم يحلفون لكم. والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء منكم لأن الله ـ تعالى ـ هو خالقهم ورازقهم ومالك أمرهم ، وهو العليم بما ظهر وبطن من أحوالهم. ولأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المبلغ لوحيه ـ عزوجل ـ قال صاحب المنار ما ملخصه : وكان الظاهر أن يقال : «يرضوهما» ونكتة العدول عنه إلى «يرضوه» : الإعلام بأن إرضاء رسوله عين إرضائه سبحانه ... وهذا من بلاغة القرآن في نفس الإيجاز. ولو قال «يرضوهما» لما أفاد هذا المعنى ؛ إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر ، وهو خلاف المراد هنا ، وكذلك لو قيل : «والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه» لا يفيد هذا المعنى أيضا وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل ...

وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم ... وأقرب الأقوال إلى قواعدهم قول سيبويه : إن الكلام جملتان حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه ، كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف.

فهذا لا تكلف فيه من ناحية التركيب العربي ، ولكن تفوت به النكتة التي ذكرناها ... (٢).

وقوله : (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به بيان أن الإيمان الحق لا يتم إلا بإرضاء الله ورسوله عن طريق طاعتهما والانقياد لأوامرهما.

أى : إن كانوا مؤمنين حقا ، فليعملوا على إرضاء الله ورسوله ، بأن يطيعوا أوامرهما ،

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٩.

٣٣٦

ويجتنبوا نواهيهما ، وإلا كانوا كاذبين في دعواهم الإيمان ثم توعدهم ـ سبحانه ـ بسوء المصير بسبب مخالفتهم لله ورسوله فقال :

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ...)

وقوله : (يُحادِدِ) من المحادة بمعنى المخالفة والمجانبة والمعاداة ، مأخوذة من الحد بمعنى الجانب ، كأن كل واحد من المتخاصمين في جانب غير جانب صاحبه. ويقال : حاد فلان فلانا ، إذا صار في غير حده وجهته بأن خالفه وعاداه.

والاستفهام في الآية الكريمة للتوبيخ والتأنيب وإقامة الحجة.

والمعنى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين مردوا على الفسوق والعصيان أنه من يخالف تعاليم الله ورسوله ، فجزاؤه نار جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها؟! إن كانوا لا يعلمون ذلك ـ على سبيل الفرض ـ فأعلمهم يا محمد بسوء مصيرهم إذا ما استمروا على نفاقهم ومعاداتهم لله ولرسوله.

قال الجمل ما ملخصه : «من» شرطية مبتدأ. وقوله : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) في موضع المبتدأ المحذوف الخبر ، والتقدير. فحق أن له نار جهنم ، أى : فكون نار جهنم له أمر حق ثابت. وهذه الجملة جواب من الشرطية ، والجملة الشرطية ، أى مجموع اسم الشرط وفعله والجزاء خبر أن الأولى ، وهي (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) وجملة أن الثانية واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي يعلم إن لم يكن بمعنى العرفان ، ومسد مفعوله أى الواحد إن كان بمعنى العرفان (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) يعود على ما ذكر من العذاب أى : ذلك الذي ذكرناه من خلودهم في النار يوم القيامة هو الذل العظيم ، الذي يتضاءل أمامه كل خزي وذل في الدنيا.

فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانبا من رذائل المنافقين وأكاذيبهم ، وتوعدتا كل مخالف لأوامر الله ورسوله بسوء المصير.

ثم واصلت السورة حملتها على المنافقين ، فكشفت عن خباياهم ، وهتكت أستارهم ، وأبطلت معاذيرهم ، وتوعدتهم بسوء المصير فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٩٥.

٣٣٧

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٦٦)

قال صاحب المنار : هذه الآيات في بيان شأن آخر من شئون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك. أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله ـ تعالى ـ : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) ...

قال : كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون : عسى أن لا يفشى علينا هذا.

وعن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة. فاضحة المنافقين ، وكان يقال لها المنبئة. أنبأت بمثالبهم وعوراتهم (١).

والضمير في قوله : (عَلَيْهِمْ) وفي قوله : (تُنَبِّئُهُمْ) يعود على المنافقين. فيكون المعنى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) ويخافون من (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أى : في شأنهم وحالهم «سورة من سور القرآن الكريم» ، تنبئهم بما في قلوبهم. أى : تخبرهم بما انطوت عليه قلوبهم من أسرار خفية ، ومن أقوال كانوا يتناقلونها فيما بينهم ، ويحرصون على إخفائها عن المؤمنين.

وفي التعبير بقوله : (تُنَبِّئُهُمْ) مبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم ، حتى أنها تعلم من أحوالهم الباطنة مالا يعلمونه هم عن أنفسهم ، فتنبئهم بهذا الذي لا يعلمونه ، وتنعى عليهم قبائحهم ورذائلهم. وتذيع على الناس ما كانوا يخشون ظهوره من أقوال ذميمة ، وأفعال أثيمة.

__________________

(١) تفسير المنار ج ١ ص ٦١٠.

٣٣٨

ومنهم من يرى أن الضمير في قوله (عَلَيْهِمْ) وقوله : (تُنَبِّئُهُمْ) يعود على المؤمنين ، فيكون المعنى : يحذر المنافقون ويخشون من أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين من أضغان وأحقاد وفسوق عن أمر الله.

وقد ذكر هذين الوجهين صاحب الكشاف فقال : والضمير في «عليهم» و «تنبئهم» للمؤمنين ، و «في قلوبهم» للمنافقين. وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه.

ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين : لأن السورة إذا نزلت في معناهم ـ أى في شأنهم وأحوالهم ـ فهي نازلة عليهم. ومعنى «تنبئهم بما في قلوبهم» كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت : يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها» (١).

وقال الإمام الرازي. فإن قيل : المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحى على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلنا فيه وجوه؟

قال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر كل شيء ، ويدعى أنه عن الوحى ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، وفي قوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) دلالة على ما قلناه.

٢ ـ أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنهم شاهدوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.

٣ ـ قال الأصم. إنهم كانوا يعرفون كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا ، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا ...

٤ ـ معنى الحذر : الأمر بالحذر. أى : ليحذر المنافقون ذلك.

٥ ـ أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته ، وما كانوا قاطعين بفسادها ، والشاك خائف ، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم (٢). والذي نراه أن الرأى الخامس أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن المنافقين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر : فهم كما وصفهم الله ـ تعالى ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...).

ومن شأن هذا التذبذب أن يغرس الخوف والحذر في القلوب.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٨.

٣٣٩

أى أن هذا الحذر والإشفاق. كما يقول بعض العلماء. أثر طبيعي للشك والارتياب ، لأنهم لو كانوا موقنين بتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطر لهم هذا الخوف على بال ، ولو كانوا موقنين بتصديقه ، لما كان هناك محل لهذا الحذر «لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان» (١).

وقوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) تهديد ووعيد لهم على نفاقهم وسوء أدبهم.

أى : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المذبذبين بين الحق والباطل ، قل لهم ، على سبيل التهديد والتبكيت : افعلوا ما شئتم من الاستخفاف بتعاليم الإسلام إن الله ـ تعالى ـ مظهر ما تحذرونه من إنزال الآيات القرآنية التي تفضحكم على رءوس الأشهاد ، والتي تكشف عن أسراركم ، وتهتك أستاركم ، وتظهر للمؤمنين ما أردتم إخفاءه عنهم.

وأسند الإخراج إلى الله ـ تعالى ـ للإشارة إلى أنه ـ سبحانه ـ يخرج ما يحذرونه إخراجا لا مزيد عليه من الكشف والوضوح ، حتى يحترس منهم المؤمنون ولا يغتروا بأقوالهم المعسولة.

وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ..) بيان للون آخر من معاذيرهم الكاذبة ، وجبنهم عن مواجهة الحقائق.

وأصل الخوض ـ كما يقول الآلوسى ـ الدخول في مائع مثل الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وأذى (٢).

أى : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عن سبب استهزائهم بتعاليم الإسلام ليقولن لك على سبيل الاعتذار ، إنما كنا نفعل ذلك على سبيل الممازحة والمداعبة لا على سبيل الجد.

وقوله : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) إبطال لحجتهم ، وقطع لمعاذيرهم ، وتبكيت لهم على جهلهم وسوء أخلاقهم.

أى : قل لهم يا محمد ـ على سبيل التوبيخ والتجهيل ـ ألم تجدوا ما تستهزءون به في مزاحكم ولعبكم ـ كما تزعمون ـ سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟

فالاستفهام للإنكار والتوبيخ ، ودفع ما تذرعوا به من معاذير واهية.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) تأكيد لإبطال ما أظهروه من معاذير.

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٦١٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٣١.

٣٤٠