التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

ثم عاتب الله : تعالى. نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتابا رقيقا لأنه أذن للمنافقين بالتخلف عن الجهاد حين طلبوا منه ذلك ، دون أن يتبين أحوالهم فقال. تعالى.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣)

قال ابن كثير. قال مجاهد. نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا. وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

والعفو : يطلق على التجاوز عن الذنب أو التقصير ، كما يطلق على ترك المؤاخذة على عدم فعل الأولى والأفضل ، وهو المراد هنا.

والمعنى : عفا الله عنك يا محمد ، وتجاوز عن مؤاخذتك فيما فعلته مع هؤلاء المنافقين من سماحك لهم بالتخلف عن الجهاد معك في غزوة تبوك ، حين اعتذروا إليك بالأعذار الكاذبة ، وكان الأولى بك أن تتريث وتتأنى في السماح لهم بالتخلف ، حتى يتبين لك الذين صدقوا في اعتذارهم من الذين كذبوا فيه ، فقد كانوا ـ إلا قليلا منهم ـ كاذبين في معاذيرهم ، وكانوا مصرين على القعود عن الجهاد حتى ولو لم تأذن لهم به.

وقدم سبحانه. العفو على العتاب. وهو قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ـ للإشارة إلى المكانة السامية التي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ربه.

قال بعض العلماء : هل سمعتم بعتاب أحسن من هذا؟ لقد خاطبه سبحانه بالعفو قبل أن يذكر المعفو عنه.

وقال العلامة أبو السعود ما ملخصه : وعبر ـ سبحانه ـ عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وبأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب.

وعبر عن ظهور الصدق بالتبين ، وعما يتعلق بالكذب بالعلم ، لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق ، والكذب احتمال عقلي ، فظهور صدق الخبر إنما هو تبين ذلك المدلول ، وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا. وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة

٣٠١

للخبر عليه في الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له ، بل نقيض لمدلوله. فما يتعلق به يكون علما مستأنفا .. (١).

هذا ، ومن الأمور التي تكلم عنها العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية ما يأتى :

١ ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحكم بمقتضى اجتهاده في بعض الوقائع. وقد بسط القول في هذه المسألة صاحب المنار فقال ما ملخصه :

وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهادا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لا نص فيه من الوحى ، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه ، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به ، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو أن يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل.

ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقحونها فقال : «ما أظن يغنى ذلك شيئا» فأخذوا بذلك فتركوه ظنا منهم أن قوله هذا من أمر الدين ، فنفضت النخل وسقط ثمرها. فأخبر بذلك فقال : «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإنى ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فانى لن أكذب على الله عزوجل».

وقد صرح علماء الأصول بجواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء. عليهم الصلاة والسلام ؛ قالوا : ولكن لا يقرهم الله على ذلك ، بل يبين لهم الصواب فيه ..» (٢).

٢ ـ أن من الواجب على المسلم التريث في الحكم على الأمور.

قال الفخر الرازي : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأنى ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد (٣).

٣ ـ أن المتتبع لآراء العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية يرى لهم ثلاثة أقوال :

أما القول الأول فهو لجمهور العلماء : وملخصه : أن المراد بالعفو في قوله سبحانه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) عدم مؤاخذته : صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تركه الأولى والأفضل ، لأنه كان من الأفضل له ألا يأذن للمنافقين في التخلف عن الجهاد حتى يتبين أمرهم.

وهذا القول هو الذي نختاره ونرجحه ، لأنه هو المناسب لسياق الآية ولما ورد في سبب نزولها :

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٢ ، طبعة صبيح.

(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٥٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٤.

٣٠٢

وأما القول الثاني فهو لصاحب الكشاف : وملخصه : أن العفو هنا كناية عن الجناية ، فقد قال : قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية لأن العفو مرادف لها ، ومعناه. أخطأت وبئس ما فعلت ، وقوله (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كنى عنه بالعفو (١).

ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن العفو هنا كناية عن الجناية ، ووصفوا ما ذهب إليه بالخطإ وإساءة الأدب.

قال أبو السعود : ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت.

هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العقاب؟ : (٢).

وقال الشيخ أحمد بن المنير : ليس له ـ أى الزمخشري : ـ أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير ، وهو بين أحد أمرين : إما أن لا يكون هو المراد وإما أن يكون هو المراد ، ولكن قد أحل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب ، وخصوصا في حق المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالزمخشرى على كلا التقديرين ذهل عما يجب في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد أحسن من قال في هذه الآية : إن من لطف الله ـ تعالى ـ بنبيه ، أن بدأه بالعفو قبل العتب ، ولو قال له ابتداء «لم أذنت لهم» لتفطر قلبه ـ عليه الصلاة والسلام. فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر ـ عليه الصلاة والسلام (٣).

وأما القول الثالث فهو للإمام الفخرى الرازي ، ولمن حذا حذوه كالقرطبى وغيره ، وملخص هذا القول أنه يجوز أن يكون المراد بالعفو هنا : المبالغة في تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره ، أو أن قوله ـ سبحانه ـ : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) افتتاح كلام.

قال الفخر الرازي ما ملخصه : لا نسلم أن قوله ـ تعالى ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يوجب الذنب ، ولم لا يجوز أن يقال : إن ذلك يدل على مبالغة الله ، تعالى في تعظيمه وتوقيره ، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده ، عفا الله عنك ما صنعت في أمرى .. فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل والتعظيم.

ويؤيد ذلك قول على بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :

عفا الله عنك ألا حرمة

تعوذ بعفوك أن أبعدا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٦٦.

(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٢.

(٣) حاشية تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٢.

٣٠٣

ألم تر عبدا عدا طوره

ومولى عفا ورشيدا هدى

أقلنى أقالك من لم يزل

يقيك ، ويصرف عنك الردى (١)

وقال القرطبي : قوله : ـ تعالى ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قيل : هو افتتاح كلام ؛ كما تقول : أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا .. (٢).

والذي نراه أن القول الأول هو الراجح لما سبق أن بيناه.

ثم بين ـ سبحانه ـ الصفات التي يتميز بها المؤمنون الصادقون ، عن غيرهم من ضعاف الإيمان ، فقال ـ تعالى ـ :

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(٤٥)

أى : ليس من شأن المؤمنين الصادقين أن يستأذنوك ـ يا محمد ـ في (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه .. وإنما الذي من شأنهم وعادتهم ـ كما أثبته واقعهم وتاريخهم ـ أن ينفروا خفافا وثقالا عند ما يدعو الداعي إلى الجهاد ، دون أن ينتظروا إذنا من أحد.

فهم لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، يسارعون إلى الجهاد بقلوب مشتاقة إليه ، وبنفوس تتمنى الموت عن طريقه.

وهم في ذلك ممتثلون لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه ، كلما سمع هيعة ـ أى صيحة ـ وفزعا طار على متنه يبتغى

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٣.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١٥٤.

٣٠٤

القتل أو الموت في مظانه» (١).

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) تحريض لهم على الاتصاف بهذه الصفة الكريمة ، وهي صفة التقوى.

والمراد بالعلم هنا لازمه ، وهو مجازاتهم بالثواب الجزيل على تقواهم.

أى : والله ـ تعالى ـ عليم بهؤلاء الذين ملأت خشيته قلوبهم. وسيثيبهم على ذلك ثوابا يرضيهم.

هذا ، وقد استنبط العلماء من هذه الآية أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بأداء الأعمال الحسنة ، والأفعال الجميلة بدون تردد أو استئذان.

قال صاحب الانتصاف عند تفسيره لهذه الآية : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدى له معروفا ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما ؛ فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره. وصلوات الله وسلامه على خليله إبراهيم ، فقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله ـ تعالى ـ : بهذه الخلة الجميلة ، فقال : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ..) أى : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به .. (٢).

وقال صاحب المنار : وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ، ولا في الفضائل والفواضل من العادات ، كقرى الضيف ، وإغاثة الملهوف ، وسائر عمل المعروف.

ويعجبني قول بعض العلماء ما معناه : من قال لك أتأكل؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة مثلا؟ فقل له : لا فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك (٣).

ثم بين سبحانه ـ الصفات التي يعرف بها المنافقون ، بعد بيانه للصفات التي يعرف بها المؤمنون الصادقون فقال : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ ..).

أى : إنما يستأذنك ـ يا محمد ـ في القعود عن الجهاد أولئك الذين من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بالله إيمانا كاملا ، ولا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب إيمانا يقينيا.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٠.

(٢) حاشية الكشاف ج ٣ ص ٢٧٤ ـ طبعة دار الكاتب العربي ببيروت.

(٣) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٥٤.

٣٠٥

قال الآلوسى : وتخصيص الإيمان بهما ـ أى بالله واليوم الآخر ـ في الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما ، فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه ، وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ، ومن لم يؤمن كان بمعزل عن ذلك. على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به» (١).

وقوله : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) صفة ثالثة من صفاتهم الذميمة.

أى : أنهم بجانب عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، رسخ الريب في قلوبهم فصاروا يشكون في صحة ما جئت به ـ أيها الرسول الكريم ـ ، ويقفون من تعاليمك وتوجيهاتك ، موقف المكذب المرتاب لا موقف المصدق المذعن.

وأضاف الشك والارتياب إلى القلوب ، لأنها محل المعرفة والإيمان. وأوثرت صيغة الماضي ـ ارتابت ، للدلالة على تحقق الريب وتوبيخهم. وأصل معنى التردد : الذهاب والمجيء. والمراد به هنا التحير على سبيل المجاز ، لأن المتحير لا يستقر في مكان ، ولا يثبت على حال.

أى : فهم في شكهم الذي حل بهم يتحيرون ، فنراهم كما وصفهم ـ سبحانه ـ في آية أخرى. (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ..) (٢).

أى : متحيرين بين الكفر وبين الإيمان.

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا السمات التي بها يتميز المؤمنون الصادقون عن ـ غيرهم من الذين قالوا آمنا وما هم بمؤمنين.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض المسالك الخبيثة التي كان يتبعها هؤلاء المنافقون لمحاربة الدعوة الإسلامية ، وكيف أنه ـ سبحانه ـ أحبط مكرهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٠.

(٢) سورة النساء الآية ١٤٣.

٣٠٦

الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)(٤٨)

وقوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ ..) كلام مستأنف لبيان المزيد من رذائل المنافقين. أو معطوف على قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ).

وقوله : (انْبِعاثَهُمْ) أى : نهوضهم وانطلاقهم للخروج بنشاط وهمة. من البعث وهو إثارة الإنسان أو الحيوان وتوجيهه إلى الشيء بقوة وخفة.

تقول : بعثت البعير فانبعث إذا أثرته للقيام والسير بسرعة.

وقوله : «فثبطهم» أى : فمنعهم وحبسهم ، من التثبيط «وهو رد الإنسان عن الفعل الذي هم به عن طريق تعويقه عنه ومنعه منه.

يقال : ثبطه تثبيطا ، أى : قعد به عن الأمر الذي يريده ومنعه منه بالتخذيل ونحوه.

والمعنى : ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك ـ يا محمد ـ إلى تبوك لأعدوا لهذا الخروج عدته اللازمة له من الزاد والراحلة ، وغير ذلك من الأشياء التي لا يستغنى عنها المجاهد في سفره الطويل ، والتي كانت في مقدورهم وطاقتهم.

وقوله. (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) استدراك على ما تقدم.

أى : ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ، ولكنهم لم يريدوا ذلك ، لأن الله ـ تعالى ـ كره خروجهم معك ، فحبسهم عنه ، لما يعلمه ـ سبحانه ـ من نفاقهم وقبح نواياهم ، وإشاعتهم للسوء في صفوف المؤمنين.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت. كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لما كان قوله (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطيا معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو ، قيل : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول. ما أحسن إلى زيد ولكن أساء إلى ، (١).

وقال الجمل. وهاهنا يتوجه سؤال ، وهو أن خروج المنافقين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٥.

٣٠٧

أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة ، فإن كان فيه مصلحة فلم قال : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) وإن كان فيه مفسدة فلما ذا عاتب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إذنه لهم في القعود؟

والجواب عن هذا السؤال : أن خروجهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فيه مفسدة عظيمة : بدليل أنه ـ سبحانه ـ أخبر بتلك المفسدة بقوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً).

بقي أن يقال. فلم عاتب الله نبيه بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فنقول : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لهم قبل إتمام الفحص ، وإكمال التدبير والتأمل في حالهم ، فلهذا السبب قال ـ تعالى ـ (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في أمرهم بالقعود (١).

وقوله. (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) تذييل المقصود منه ذمهم ووصفهم بالجبن الخالع ، والهمة الساقطة ، لأنهم بقعودهم هذا سيكونون مع النساء والصبيان والمرضى والمستضعفين الذين لا قدرة لهم على خوض المعارك والحروب.

قال الآلوسى. وقوله : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) : تمثيل لخلق الله داعية القعود فيهم ، وإلقائه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة. ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض ؛ أو حكاية لإذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم في القعود ، فيكون القول على حقيقته (٢).

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية. أن الفعل يحسن بالنية ؛ ويقبح بها.

أيضا. ، وإن استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر. وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه. تعالى. أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل من إرادة المكر بالمسلمين.

ومنها : أن للإمام أن يمنع من يتهم بمضرة المسلمين من الخروج للجهاد ؛ حماية لهم من شروره ومفاسده.

ومنها : أن إعداد العدة للجهاد أمر واجب ، وقد قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ المفاسد المترتبة على خروج المنافقين في جيش المؤمنين فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) ، وأصل الخبال. الاضطراب والمرض الذي يؤثر في العقل كالجنون ونحوه. أو هو الاضطراب في الرأى.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١١. بتصرف يسير.

(٣) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٦٧.

٣٠٨

أى : لو خرج هؤلاء المنافقون معكم أيها المؤمنون إلى تبوك ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا اضطرابا في الرأى ؛ وفسادا في العمل ، وضعفا في القتال ، لأن هذا هو شأن النفوس المريضة التي تكره لكم الخير ، وتحب لكم الشر.

قال الآلوسى. والاستثناء مفرغ متصل ، والمستثنى منه محذوف ، ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه ؛ لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء.

وقال أبو حيان : إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال ، فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب (١).

وقوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) معطوف على قوله : «ما زادوكم». والإيضاع. كما يقول القرطبي. سرعة السير قال الراجز.

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع

يقال : وضع البعير. إذا أسرع في السير ، وأوضعته. حملته على العدو (٢).

والخلل الفرجة بين الشيئين. والجمع الخلال ، أى : الفرج التي تكون بين الصفوف وهو هنا ظرف مكان بمعنى بين ، ومفعول الإيضاع محذوف ، أى. ولأسرعوا بينكم ركائبهم بالوشايات والنمائم والإفساد.

ففي الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الراكب ، ثم استعير لها الإيضاع وهو الإبل وأصل الكلام ولأوضعوا ركائبهم ، ثم حذفت الركائب.

وجملة (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) في محل نصب على الحال من فاعل (أوضعوا).

أى : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا شرا وفسادا ، ولأسرعوا بينكم بالإشاعات الكاذبة ، والأقوال الخبيثة ، حال كونهم باغين وطالبين لكم الافتتان في دينكم ، والتشكيك في صحة عقائدكم ، والتثبيط عن القتال ، والتخويف من قوة أعدائكم ، ونشر الفرقة في صفوفكم.

فالمراد بالفتنة هنا : كل ما يؤدى إلى ضعف المسلمين في دينهم أو في دنياهم.

وقوله : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) بيان لأحوال المؤمنين في ذلك الوقت.

أى. وفيكم. في ذلك الوقت. يا معشر المؤمنين ، أناس كثير والسماع لهؤلاء المنافقين ، سريعو الطاعة لما يلقون إليهم من أباطيل.

قال ابن كثير. قوله : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أى : مطيعون لهم ، ومستحسنون

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٥٧.

٣٠٩

لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدى إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.

وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير ، (وفيكم سماعون لهم) أى : عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.

وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جمع الأحوال.

والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق. وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.

وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا ، فيما بلغني ، من ذوى الشرف ، منهم عبد الله بن أبى بن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده. وكان في جنده قوم أهل محبة لهم ، وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فقال : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (١).

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تذييل المقصود منه وعيد هؤلاء المنافقين وتهديدهم بسبب ما قدمت أيديهم من مفاسد.

أى : والله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين ، وسيعاقبهم بالعقاب المناسب لجرائمهم ورذائلهم.

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وضحت أن هناك ثلاث مفاسد كانت ستترتب على خروج هؤلاء المنافقين مع المؤمنين إلى تبوك.

أما المفسدة الأولى : فهي زيادة الاضطراب والفوضى في صفوف المجاهدين.

وأما المفسدة الثانية : فهي الإسراع بينهم بالوشايات والنمائم والإشاعات الكاذبة.

وأما المفسدة الثالثة : فهي الحرص على تفريق كلمتهم ، وتشكيكهم في عقيدتهم.

وهذه المفاسد الثلاث ما وجدت في جيش إلا وأدت إلى انهزامه وفشله.

ومن هنا كان تثبيط الله ـ تعالى ـ لهؤلاء المنافقين ، نعمة كبرى للمؤمنين.

ومن هنا ـ أيضا ـ كانت الكثرة العددية في الجيوش لا تؤتى ثمارها المرجوة منها ، إلا إذا كانت متحدة في عقيدتها ، وأهدافها ، واتجاهاتها .. أما إذا كانت هذه الكثرة مشتملة على عدد كبير من ضعاف الإيمان ، فإنها في هذه الحالة يكون ضررها أكبر من نفعها.

ثم ذكر الله تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطرف من الماضي المظلم لهؤلاء المنافقين فقال : (لَقَدِ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦١.

٣١٠

ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ).

أى : لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين ، من قبل ما حدث منهم في غزوة تبوك.

ومن مظاهر ذلك أنهم ساءهم انتصاركم في غزوة بدر ، وامتنعوا عن مناصرتكم في غزوة أحد ، متبعين في ذلك زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول ، ثم واصلوا حربهم لكم سرا وجهرا حتى كانت غزوة تبوك التي فضح الله فيها أحوالهم.

فالمراد بقوله : (مِنْ قَبْلُ) أى : من قبل هذه الغزوة التي كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى أن ما صدر عن هؤلاء المنافقين من مسالك خبيثة خلال غزوة تبوك ليس هو الأول من نوعه ، بل هم لهم في هذا المضمار تاريخ مظلم بدأ منذ أوائل عهد الدعوة الإسلامية بالمدينة.

وقوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) بيان لتفننهم في وجوه الأذى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقليب الأمر : تصريفه ، وترديده ، وإجالة الرأى فيه ، والنظر إليه من كل نواحيه : لمعرفة أى ناحية منه توصل إلى الهدف المنشود.

والمراد أن هؤلاء المنافقين قد ابتغوا الأذى للدعوة الإسلامية من قبل هذه الغزوة ، ودبروا لصاحبها صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكايد ، واستعملوا قصارى جهدهم ، ومنتهى اجتهادهم ، وخلاصة مكرهم ، من أجل صد الناس عن الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ ..) غاية لمحذوف ، والتقدير : أن هؤلاء المنافقين استمروا على حربهم للدعوة الإسلامية «حتى جاء الحق» أى : النصر الذي وعد الله عباده به «وظهر أمر الله» أى : دينه وشرعه «وهم» أى المنافقون وأشباههم «كارهون» لذلك ؛ لأنهم يكرهون انتصار دين الإسلام ، ويحبون هزيمته وخذلانه ، ولكن الله ـ تعالى ـ خيب آمالهم ، وأحبط مكرهم.

قال الإمام ابن كثير : عند ما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبى ، وأصحابه : هذا أمر قد توجه ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم وساءهم ، ولهذا قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦١.

٣١١

ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة ، ومن أقوالهم الخبيثة .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ(٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)(٥٢)

روى محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبى بكر ، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم وهو في جهازه ـ أى لغزوة تبوك ـ للجد بن قيس أخى بنى سلمة : «هل لك يا جد في جلاد بنى الأصفر»؟ ـ يعنى الروم ـ فقال الجد : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء منى ، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال قد أذنت لك».

ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) (١).

أى : ومن هؤلاء المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد «من يقول» لك ـ يا محمد ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٢.

٣١٢

«ائذن لي» في القعود بالمدينة ، «ولا تفتني» أى ولا توقعني في المعصية والإثم بسبب خروجي معك إلى تبوك ، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر.

وعبر ـ سبحانه ـ عن قول هذا المنافق بالفعل المضارع ، لاستحضار تلك الحال لغرابتها ، فإن مثله في نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذ لا يجد من دينه مانعا من غشيان الشهوات الحرام.

وقوله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) رد عليه فيما قال ، وذم له على ما تفوه به.

أى : ألا إن هذا وأمثاله في ذات الفتنة قد سقطوا ، لا في أى شيء آخر مغاير لها.

وبدأ ـ سبحانه ـ الجملة الكريمة بأداة التنبيه «ألا» ، لتأكيد الخبر ، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه من توبيخ لهؤلاء المنافقين.

وقدم الجار والمجرور على عامله ؛ للدلالة على الحصر. أى فيها لا في غيرها قد سقطوا وهووا إلى قاع سحيق.

قال الآلوسى : وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين (١).

وقال الفخرى الرازي ما ملخصه : «وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، فالله ـ تعالى ـ بيّن أنهم في عين الفتنة واقعون ، لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله ، والتمرد على قبول التكاليف التي كلفنا الله بها ..» (٢).

وقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم.

أى : وإن جهنم لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله ، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر.

وعبر عن إحاطتها بهم باسم الفاعل الدال على الحال ، لإفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد.

قالوا : ويحتمل أنها محيطة بهم الآن ، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق وغير ذلك من الرذائل التي سقطوا فيها.

وقوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ..) بيان لنوع آخر من خبث نواياهم ، وسوء بواطنهم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٨.

٣١٣

أى : «إن تصبك» يا محمد حسنة من نصر أو نعمة أو غنيمة ـ كما حدث يوم بدر ـ «تسؤهم» تلك الحسنة ، وتورثهم حزنا وغما ، بسبب شدة عداوتهم لك ولأصحابك.

«وإن تصبك مصيبة» من هزيمة أو شدة ـ كما حدث يوم أحد ـ «يقولوا» باختيال وعجب وشماتة «قد أخذنا أمرنا من قبل».

أى : قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحزم والتيقظ ، من قبل وقوع المصيبة التي حلت بالمسلمين ، ولم نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون.

وقوله : (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) تصوير لحالهم ، ولما جبلوا عليه من شماتة بالمسلمين.

أى : عند ما تصيب المسلمين مصيبة أو مكروه ، ينصرف هؤلاء المنافقون إلى أهليهم وشيعتهم ـ والفرح يملأ جوانحهم ـ ليبشروهم بما نزل بالمسلمين من مكروه.

قال الجمل : فإن قلت : فلم قابل الله الحسنة بالمصيبة ، ولم يقابلها بالسيئة كما قال في سورة آل عمران : «وإن تصيبكم سيئة يفرحوا بها»؟.

قلت : لأن الخطاب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي في حقه مصيبة يثاب عليها ، لا سيئة يعاتب عليها ، والتي في آل عمران خطاب للمؤمنين» (١).

وقوله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا ..) إرشاد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجواب الذي يكبتهم ويزيل فرحتهم.

أى : «قل» يا محمد ـ لهؤلاء المنافقين الذين يسرهم ما يصيبك من شر ، ويحزنهم ما يصيبك من خير ، والذين خلت قلوبهم من الإيمان بقضاء الله وقدره ، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت. لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وقدره علينا «هو مولانا» الذي يتولانا في كل أمورنا ، ونلجأ إليه في كل أحوالنا. وعليه وحده ـ سبحانه نكل أمورنا وليس على أحد سواه.

وقوله : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ..) إرشاد آخر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجواب الذي يخرس ألسنة هؤلاء المنافقين ويزيل فرحتهم.

وقوله : (تَرَبَّصُونَ) التربص بمعنى الانتظار في تمهل. يقال : فلان يتربص بفلان الدوائر ، إذا كان ينتظر وقوع مكروه به.

والحسنيان : مثنى الحسنى. والمراد بهما : النصر أو الشهادة.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٨.

٣١٤

أى : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين ـ أيضا ـ إنكم ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما أحسن من جميع العواقب ، وهما إما النصر على الأعداء ، وفي ذلك الأجر والمغنم والسلامة ، وإما أن نقتل بأيديهم وفي ذلك الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار.

قال الآلوسى : والحاصل أن ما تنتظرونه بنا ـ أيها المنافقون ـ لا يخلو من أحد هذين الأمرين ، كل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء ، ولذلك سررتم به.

وصح من حديث أبى هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «تكفل الله ـ تعالى ـ لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة. أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة» (١).

وقوله : (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) بيان لما ينتظر المؤمنون وقوعه بالمنافقين.

أى : ونحن معشر المؤمنين نتربص بكم أيها المنافقون إحدى السوءيين من العواقب : إما أن يصيبكم الله بعذاب» كائن «من عنده» فيهلككم كما أهلك الذين من قبلكم ، وإما أن يصيبكم بعذاب كائن «بأيدينا» بأن يأذن لنا في قتالكم وقتلكم.

والفاء في قوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) للإفصاح.

أى إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا ، فإنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، وسترون أن عاقبتنا على كل حال هي الخير ، وأن عاقبتكم هي الشر.

وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة ، قد حكت طرفا من رذائل المنافقين ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية ، وردت عليهم بما يكبتهم ، ويفضحهم على رءوس الأشهاد.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة ، لأن قلوبهم خالية من الإيمان.

ولأن عباداتهم ليست خالصة لوجه الله ، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٦.

٣١٥

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٥٥)

روى أن بعض المنافقين قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما دعاهم إلى الخروج معه إلى تبوك : ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به ، فنزل قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ..).

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء ؛ أنفقوا ما شئتم من أموالكم في وجوه الخير حالة كونكم طائعين ، أى : من غير إجبار أحد لكم ، أو كارهين ، أى بأن تجبروا على هذا الإنفاق إجبارا ، فلن يقبل منكم ذلك الإنفاق.

والكلام وإن كان قد جاء في صورة الأمر ، إلا أن المراد به الخبر وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله.

فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)؟

قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله ـ تعالى ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله ـ تعالى ـ : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وقول الشاعر.

أسيئى بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

أى : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم .. أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك سواء أسأت إلينا أم أحسنت ... (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٩.

٣١٦

وجاء الكلام في صورة الأمر ، للمبالغة في تساوى الأمرين ، وعدم الاعتداد بنفقتهم سواء أقدموها عن طواعية أم عن كراهية.

وقوله : (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) بيان لثمرة إنفاقهم. أى : لن يتقبل منكم ما أنفقتموه ، ولن تنالوا عليه ثوابا.

وقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لعدم قبول نفقاتهم.

أى : لن تقبل منكم نفقاتكم بسبب عتوكم في الكفر ، وتمردكم على تعاليم الإسلام وخروجكم عن الطاعة والاستقامة.

قال القرطبي ما ملخصه. وفي الآية دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة ، وجبر الكسير ، وإغاثة الملهوف ، لا يثاب عليها ، ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا.

دليله ما رواه مسلم عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه؟

قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

وروى عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» (١).

وقال الجمل : وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين ، فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله ، بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ على سبيل التفصيل لمظاهر فسقهم ـ أن هناك ثلاثة أسباب أدت إلى عدم قبول نفقاتهم.

أما السبب الأول فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ..).

أى : وما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله ـ تعالى ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالاستثناء من أهم الأشياء. والضمير في «منعهم» هو المفعول الأول للفعل ، وقوله :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٦١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٩.

٣١٧

(أَنْ تُقْبَلَ) هو المفعول الثاني ، لأن الفعل «منع» يتعدى لمفعولين تارة بنفسه كما هنا ، وتارة يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف الجر وهو حرف «من» أو «عن».

والفاعل ما في حيز الاستثناء وهو قوله : (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا ..).

وأما السبب الثاني فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى).

ولفظ «كسالى». جمع كسلان ، مأخوذ من الكسل بمعنى التثاقل عن الشيء ، والفتور عن أدائه. وفعله بزنة فرح.

أى : ولا يأتون الصلاة التي كتبها الله عليهم في حال من الأحوال ، إلا في حال كونهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان ، فصاروا لا يرجون من وراء أدائها ثوابا ولا يخشون من وراء تركها عقابا ، وإنما يؤدونها رياء أو تقية للمسلمين.

وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وأما ، السبب الثالث فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).

أى. ولا ينفقون نفقة في سبيل الله إلا وهم كارهون لها لأنهم يعدونها مغرما ، ويعتبرون تركها مغنما ، وما حملهم على الإنفاق إلا الرياء أو المخادعة أو الخوف من انكشاف أمرهم ، وافتضاح حالهم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية ، وقد جعلهم الله ـ تعالى ـ طائعين في قوله «طوعا» ثم وصفهم هنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون فكيف ذلك؟

قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلون نفقتهم من غير إلزام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار (١).

أى : أن نفقتهم في جميع الأحوال لا يقصد بها الاستجابة لشرع الله ، وإنما يقصد بها الرياء أو المخادعة ، أو خدمة مصالحهم الخاصة.

ثم نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين في شخص نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التطلع إلى ما في أيدى هؤلاء المنافقين فقال. (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ..).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٠.

٣١٨

والإعجاب بالشيء معناه : أن تسر به سرورا يجعلك راضيا به ومتمنيا له ، والفاء في قوله : (فَلا تُعْجِبْكَ) للإفصاح.

أى إذا كان هذا هو شأن المنافقين ، فلا تستحسن. أيها العاقل. ما أعطيناهم إياه من أموال وأولاد ، فإنه نوع من الاستدراج.

وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) تعليل للنهى عن الإعجاب بما أعطاهم الله من أموال وأولاد.

أى : إنما يريد الله بعطائهم تلك الأموال والأولاد أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا ، وقد بسط الإمام الرازي مظاهر تعذيب المنافقين في الدنيا بالأموال والأولاد فقال ما ملخصه :

المنافقون يعذبهم الله بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا من وجوه :

أحدها : أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر ، علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، وبهذا العلم يفتر حبه للدنيا ، وأما المنافق فإنه لما اعتقد أنه لا سعادة له إلا في هذه الخيرات العاجلة ، عظمت رغبته فيها ، واشتد حبه لها ، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه .. فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب الأموال والأولاد.

وثانيا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ، ويكلفهم. إرسال أولادهم إلى الجهاد والغزو ، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل ، وهم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس صادقا في كونه رسول ، وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ، ولا شك أن هذا كله تعذيب لهم.

وثالثا : أنهم كانوا يبغضون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلوبهم ، ثم إنهم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم في خدمته. ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة عليهم.

ورابعا : أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما ، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار. وحينئذ يتعرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بالقتل وسبى الأولاد .. وكل ذلك يوجب ألمهم وقلقهم.

وخامسا : أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبى عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبى .. وكانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ، ويقدحون فيهم.

والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به ، واستيحاشه منه ، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم .. (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٣.

٣١٩

وقوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان عذابهم في الدنيا.

وزهوق النفس : خروجها من الجسد بصعوبة ومشقة. يقال : زهقت نفسه تزهق إذا خرجت ، وزهق الشيء إذا هلك واضمحل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ...).

والمعنى : لا تعجبك ـ أيها العاقل ـ أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، ويريد كذلك أن تخرج أرواحهم من أجسادهم وهم كافرون ، فيعذبهم بسبب كفرهم عذابا أليما.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت المنافقين بسوء المصير في الآخرة ولن يحسد إنسان مصيره كهذا المصير.

قال الإمام الرازي : ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه ، فإنه ـ سبحانه ـ لما بين قبائح أفعالهم ، وفضائح أعمالهم ، بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد ، وما لهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة ألبتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنونه من منافع الدنيا ، فهو في حقيقته سبب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم ، وعند ذلك يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدنيا والدين ، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا ...» (١).

وبعد أن بينت السورة الكريمة أن هؤلاء المنافقين قد خسروا الدنيا والآخرة ، أتبعت ذلك بالحديث عن رذائلهم وقبائحهم التي على رأسها الجبن والكذب فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)(٥٧)

أى : أن هؤلاء المنافقين يحلفون بالله لكم ـ أيها المؤمنون ـ «إنهم لمنكم» أى : في الدين والملة ، والحق أنهم ما هم منكم ، لأنهم يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ، فهم كما وصفهم ـ سبحانه ـ في قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٢.

٣٢٠