التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

ثم نعى ـ سبحانه ـ على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم .. فقال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ..) والنسيء : مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشيء إذا أخره. ومنه نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه : أنسأ الله في أجل فلان ، أى : أخره والمراد به : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال :

«كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر ـ وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ـ حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ؛ فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين (١).

والمعنى : إنما النسيء الذي يفعله المشركون ، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر ، (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أى : زيادة في كفرهم ؛ لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر ، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع.

قال القرطبي : وقوله : (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر ، فإنها أنكرت وجود الباري ـ تعالى ـ فقالت : (وَمَا الرَّحْمنُ) في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ، وأنكرت بعثة الرسل فقالوا : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهوانها فأحلت ما حرمه الله : ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون» (٢).

وقوله (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.

أى : يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسيء في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم.

وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.

أى : يضل الله الذين كفروا ، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسيء.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٩.

٢٨١

ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسيء الذي هو لون من ألوان استحلال محارم الله.

وقوله : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) بيان وتفسير لكيفية ضلالهم.

والضمير المنصوب في (يُحِلُّونَهُ) و (يُحَرِّمُونَهُ) يعود إلى النسيء ، أى الشهر المؤخر عن موعده.

والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم ، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام ، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم ، وأنهم يحرمونه أى : يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر ، إذا كانت مصلحتهم في ذلك.

والمواطأة : الموافقة. يقال : واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته.

والمعنى : فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم ، ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم ، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله.

قال ابن عباس : ما أحل المشركون شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الأشهر الحلال. وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام ، لكي يكون عدد الأشهر الحرم أربعة. (١).

وقوله : (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) تفريع على ما تقدم.

أى : فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة ، ما حرمه الله في شرعه. فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله في عدد الشهور المحرمة ، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا ـ مثلا ـ يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر.

وقوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) ذم لهم على انتكاس بصائرهم ، وسوء تفكيرهم.

أى : زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا. وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين.

أى : والله تعالى. اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم ، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا طريق الغي على طريق الرشاد .. فكان أمرهم فرطا.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٥٨ ـ بتصرف يسير.

٢٨٢

١ ـ أن السنة اثنا عشر شهرا ، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة الشمسية.

قال الفخر الرازي ، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهرا من الشهور القمرية ، والدليل عليه هذه الآية (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) الآية ، وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ..) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر.

وأيضا قوله. تعالى : (يسألونك عن الأهلة ، قل هي مواقيت للناس والحج ..).

ثم قال ، واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية ، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل. عليهما‌السلام. فأما عند اليهود والنصارى ، فليس الأمر كذلك ..) (١).

وقال الجمل : قوله (اثنا عشر شهرا) هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل ، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم. وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما. والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة ، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما. وربع يوم. فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام ، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف) (٢).

هذا ، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية ، وعن سبب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت (٣).

٢ ـ وجوب التقيد بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها.

قال القرطبي ما ملخصه : وضع ـ سبحانه ـ هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة ، وهو معنى قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً). وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم في الاسم منها.

والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٥٨.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨.

(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٣٤.

٢٨٣

ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته في حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض».

ثم قال القرطبي ؛ كانوا يحرمون شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. فهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» (١).

٣ ـ أخذ بعضهم من قوله تعالى ـ (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعا.

قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها.

وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ ، بدليل أن الله ـ تعالى ـ بعد أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد بزمن فقال (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح.

وبدليل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة.

قال ابن كثير : ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم .. لجئوا إلى الطائف ، فعمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام ـ أى. في شهر ذي القعدة.

ثم قال ما ملخصه : وأما قوله ـ تعالى ـ (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم .. ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ـ. أى من الأعداء : كما قال : ـ تعالى ـ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) وكما قال ـ تعالى ـ (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ).

وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها ، فإنهم الذين بدءوا القتال للمسلمين .. فعند ذلك قصدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٧.

٢٨٤

من حصونهم فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة منهم .. واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوما ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر (١).

ومن كلام ابن كثير. رحمه‌الله ـ نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهي عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الأعداء ذلك وهو قريب من قول القائل : لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا.

وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه لم يثبت أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم ، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدءوا قتال المسلمين فيها ، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم :

٤ ـ ذكر المفسرون روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر ، فعن مجاهد قال : كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس : إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بنى كنانة يقال له «القلمس» وكان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام. يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده. فلما كان هو قال لقوله : اخرجوا بنا ـ أى للقتال ـ. فقالوا له : هذا المحرم. قال : ننسئه العام ، هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا .. جعلناهما محرمين.

قال : ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال : لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان» (٢).

وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسيء ، ومن ذلك قول شاعرهم :

ومنا ناسئ الشهر القلمس

قال آخر :

ألسنا الناسئين على معد

شهور الحل نجعلها حراما

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٥ بتصريف يسير.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٦.

٢٨٥

وقد أبطل الإسلام كل ذلك ، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها ـ سبحانه ـ عليه يوم خلق السموات والأرض.

وبعد : فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا ، نراها ـ في مجموعها كما سبق أن بينا ـ قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، كما نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر ، يقنع العقول ، ويشبع العواطف.

ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة .. وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة ، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين ، والتحذير منهم.

وقد بدأت السورة حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد ، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها

٢٨٦

وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤١)

قال الإمام ابن كثير : هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر ، وحمارة القيظ ، (١).

وتبوك : اسم لمكان معروف في أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب ، ويبعد عن المدينة المنورة من الجهة الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر.

وكانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة ، وهي آخر غزوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان السبب فيها أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن الروم قد جمعوا له جموعا كثيرة على أطراف الشام ، وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة.

فاستنفر صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى قتال الروم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سرا.

ولكنه في هذه الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهي قتال الروم ، وذلك لبعد المسافة ، وضيق الحال ، وشدة الحر ، وكثرة العدو.

وقد لبى المؤمنون دعوة رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتال الروم ، وصبروا على الشدائد ، والمتاعب وبذلوا الكثير من أموالهم ، ولم يتخلف منهم إلا القليل.

أما المنافقون وكثير من الأعراب ، فقد تخلفوا عنها ، وحرضوا غيرهم على ذلك ، وحكت السورة ـ في كثير من آياتها الآتية ـ ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال ، ومن تحريض لهم على القعود وعدم الخروج.

وبعد أن وصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إلى تبوك ، لم يجدوا جموعا للروم. فأقاموا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩ بتصرف وتلخيص.

٢٨٧

هناك بضع عشرة ليلة ، ثم عادوا إلى المدينة» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (انْفِرُوا) من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من الأسباب الداعية لذلك.

يقال : نفر فلان إلى الحرب ينفر وينفر نفرا ونفورا ، إذا خرج بسرعة ويقال : استنفر الإمام الناس ، إذا حرضهم على الخروج للجهاد. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإذا استنفرتم فانفروا أى : وإذا دعاكم الإمام إلى الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل.

واسم القوم الذين يخرجون للجهاد : النفير والنفرة والنفر.

ويقال : نفر فلان من الشيء ، إذا فزع منه ، وأدبر عنه ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٢).

وقوله : (اثَّاقَلْتُمْ) : من الثقل ضد الخفة. يقال : تثاقل فلان عن الشيء ، إذا تباطأ عنه ولم يهتم به .. ويقال : تثاقل القوم : إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير بهم. وأصل (اثَّاقَلْتُمْ) تثاقلتم ، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها ، ثم اجتلبت همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن.

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أى : ما الذي جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد ، حين دعاكم رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتال الروم ، وإلى النهوض لإعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه؟

وقد ناداهم ـ سبحانه ـ بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم ، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان الصادق من طاعة لله ولرسوله. والاستفهام في قوله : (ما لَكُمْ) لإنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم ، مع أن هذا يتنافى مع الإيمان والطاعة.

قال الجمل : و «ما» مبتدأ ، و «لكم» خبر ، وقوله «اثاقلتم» حال. وقوله : «إذا قيل لكم» ظرف لهذه الحال مقدم عليها.

والتقدير : أى شيء ثبت لكم من الأعذار. حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم : انفروا في سبيل الله (٣).

وقوله. «إلى الأرض» متعلق بقوله : «اثاقلتم» على تضمينه معنى الميل إلى الراحة ،

__________________

(١) لمعرفة تفاصيل غزوة تبوك : راجع «سيرة ابن هشام» ج ٤ ص ١٥٩. طبعة الحلبي.

(٢) سورة الإسراء. الآية ٤٦.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٢.

٢٨٨

والإخلاد إلى الأرض ، ولذا عدى بإلى.

أى : اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية ، وإلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإسلام.

وإن التعبير بقوله ، سبحانه ، (اثَّاقَلْتُمْ) لفي أسمى درجات البلاغة ، وأعلى مراتب التصوير الصادق ، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض .. والذي كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم ، وأخلد إلى الأرض.

وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها ، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها.

وقوله ، سبحانه ، : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد ، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك.

وقوله. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة الدائم.

والمعنى : أى شيء حال بينكم ، أيها المؤمنون ، وبين المسارعة إلى الجهاد عند ما دعاكم رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه. أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها الناقصة.

إن كان أمركم كذلك ، فقد أخطأتم الصواب ، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقي ، ونعيمها الخالد.

قال الآلوسى ما ملخصه : «في» من قوله (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) تسمى بفي القياسية. لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به. وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ، ويستدعى الرغبة فيها ، وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.

وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المستورد ، أخى بنى فهر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع» (١).

وقال الفخر الرازي : اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال ، لأنه ،

__________________

(١) الآلوسى تفسير ج ١٠ ص ٨٥.

٢٨٩

سبحانه ، نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا. وليس لقائل أن يقول : الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه ، لأنه عليه‌السلام ، ما كان يخاف هجوم الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم .. وأيضا هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. والخطاب في الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا في الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (١).

ثم هددهم ، سبحانه ، بالعذاب الأليم ، إن لم ينفروا للجهاد في سبيله فقال (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً).

أى : (إِلَّا تَنْفِرُوا) ، أيها المؤمنون ، للجهاد كما أمركم رسولكم (يُعَذِّبْكُمْ) الله (عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا بإنزال المصائب ، بكم ، وفي الآخرة بنار جهنم.

وقوله : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أى : ويستبدل بكم قوما يطيعون رسوله في العسر واليسر ، والمنشط والمكره .. كما قال ، : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

قال صاحب المنار : قيل المراد بهؤلاء القوم : أهل اليمن ، وقيل أهل فارس وليس في محله ، فإن الكلام للتهديد ، والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه.

وإنما المراد يطيعونه ـ سبحانه ـ ويطيعون رسوله ، لأنه قد وعده بالنصر ؛ وإظهار دينه ، فإن لم يكن هذا الإظهار بأيديكم. فلا بد أن يكون بأيدى غيركم (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ).

وقد مضت سنته ـ تعالى ـ بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها ، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام ، فكيف إذا كان الإمام والقائد هو النبي الموعود من ربه بالنصر .. (٢).

والضمير في قوله (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) يعود إلى الله ، تعالى.

أى : إن تباطأتم «أيها المؤمنون» عن الجهاد ، يعذبكم الله عذابا أليما ويستبدل بكم قوما سواكم لنصرة نبيه ، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب تقاعسكم. لأنكم أنتم الفقراء إليه ، وهو ، سبحانه ، الغنى الحميد.

وقيل : الضمير يعود للرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : ولا تضروا الرسول شيئا ما من الضرر بسبب تثاقلكم عن الجهاد ، لأن الله قد وعده بالنصر ووعده كائن لا محاله.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ١٦ ص ٦٠.

(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٥٩٥ ـ بتصرف وتلخيص.

٢٩٠

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مؤكد لما قبله.

أى : والله ، تعالى : على كل شيء من الأشياء قدير ، ولا يعجزه أمر ، ولا يحول دون نفاذ مشيئته حائل ، فامتثلوا أمره لتفوزوا برضوانه.

فأنت ترى أن هذه الآية وسابقتها قد اشتملت على أقوى الأساليب التي ترغب في الجهاد ، وترهب من النكوص عنه ، وتبعث على الطاعة لله ولرسوله.

ثم ذكرهم ، سبحانه ، بما يعرفونه من حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث نصره الله. تعالى ، على أعدائه بدون عون منهم ، وأيده بجنود لم يروها فقال ، (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ).

قال ابن جرير. هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه ، وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة (١).

والمعنى : إنكم ، أيها المؤمنون ، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده ، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه. فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة ، كما نصره ، وأنتم تعلمون ذلك ، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أى : أحد اثنين. والثاني : أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه.

يقال. فلان ثالث ثلاثة ، أو رابع أربعة .. أى : هو واحد من الثلاثة أو من الأربعة.

فإذا قيل : فلان رابع ثلاثة أو خامس أربعة ، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته إليهم ، أو صير الأربعة خمسة.

وأسند سبحانه الإخراج إلى المشركين مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خرج بنفسه بإذن من الله ، تعالى ، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك ، بعد أن تآمروا على قتله.

قيل : وجواب الشرط في قوله ، (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) محذوف وقوله (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) تعليل لهذا المحذوف.

والتقدير : إلا تنصروه ينصره الله في كل حال. (فَقَدْ نَصَرَهُ) سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بلده ولم يكن معه سوى رجل واحد.

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت. كيف يكون قوله (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) جوابا للشرط؟.

قلت «فيه وجهان» أحدهما : إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٣٥.

٢٩١

واحد. ولا أقل من الواحد ، فدل بقوله. (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت.

والثاني. أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده ، (١).

وقوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال من الهاء في قوله (أَخْرَجَهُ) أى أخرجه الذين كفروا حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ.

وقوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من قوله (إِذْ أَخْرَجَهُ).

والغار : النقب العظيم يكون في الجبل. والمراد به هنا : غار جبل ثور. وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.

وقوله : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بدل ثان من قوله (إِذْ أَخْرَجَهُ).

أى. إلا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار ، ووقت أن كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لصاحبه الصديق : لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته.

وذلك أن أبا بكر وهو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار ، أحس بحركة المشركين من فوق الغار ، فخاف خوفا شديدا لا على حياته هو ، وإنما على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ذلك ، أخذ في تسكين روعه وجزعه وجعل يقول له : لا تحزن إن الله معنا.

أخرج الشيخان عن أبى بكر قال. نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت. يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ، فقال : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا» (٢).

وقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ..) بيان لما أحاط الله به نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مظاهر الحفظ والرعاية.

والسكينة : من السكون ، وهو ثبوت الشيء ؛ بعد التحرك. أو من السكن ـ بالتحريك ـ وهو كل ما سكنت إليه نفسك ، واطمأنت به من أهل وغيرهم.

والمراد بها هنا : الطمأنينة التي استقرت في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار ، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٢.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة التوبة ج ٦ ص ٨٣ وأخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» ج ٧ ص ١٠٨.

٢٩٢

والمراد بالجنود المؤيدين له. الملائكة الذين أرسلهم ـ سبحانه ـ لهذا الغرض : والضمير في قوله : (عَلَيْهِ) يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى. فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم ، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه.

ويرى بعضهم أن الضمير في قوله (عَلَيْهِ) يعود إلى أبى بكر الصديق ، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة. وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر ، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف.

وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الضمير فيه لا يصح إلا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله (عَلَيْهِ) عائدا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يحصل تفكك في الكلام.

أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف ، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان ، وللدلالة على علو شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن كثير قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أى. تأييده ونصره عليه أى. على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أشهر القولين. وقيل. على أبى بكر.

قالوا : لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تزل معه سكينة. وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ، ولهذا قال : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أى : الملائكة (١).

وقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة.

والمراد بكلمة الذين كفروا. كلمة الشرك ، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهي اتفاقهم على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بكلمة الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، وما يترتب على اتباع هذا الدين من نصر وحسن عاقبة ، أى : كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة ، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى ، أى. المقهورة الذليلة. وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإسلام هي العليا أى : هي الثابتة الغالبة النافذة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٨.

٢٩٣

وقراءة الجمهور برفع. (كَلِمَةَ) على الابتداء. وقوله (هِيَ) مبتدأ ثان : وقوله : (الْعُلْيا) خبرها ، والجملة خبر المبتدأ الأول.

ويجوز أن يكون الضمير (هِيَ) ضمير فصل ، وقوله (الْعُلْيا) هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالنصب عطفا على مفعول جعل وهو (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

أى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وجعل كلمة الله هي العليا.

قالوا : وقراءة الرفع أبلغ وأوجه ، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت ، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهي قوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) لأنها في ذاتها عالية ثابتة ، بدون جعلها كذلك في حادثة معينة. بخلاف علو غيرها فهو غير ذاتى ، وإنما هو علو مؤقت في حالة معينة ، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك.

وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

أى : والله ـ تعالى ـ (عَزِيزٌ) لا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر ، ولا ينصر من عاقبه ناصر ، (حَكِيمٌ) في تصريفه شأن خلقه ، لا قصور في تدبيره ، ولا نقص في أفعاله.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : الدلالة على فضل أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وعلى علو منزلته ، وقوة إيمانه ، وشدة إخلاصه لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومما يشهد لذلك ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما أذن الله له بالهجرة ، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة.

ولقد أظهر الصديق ـ رضى الله عنه ـ خلال مصاحبته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكثير من ألوان الوفاء والإخلاص وصدق العقيدة (١).

قال الآلوسى ما ملخصه : واستدل بالآية على فضل أبى بكر .. فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر .. فعن الحسن قال : عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) الآية.

__________________

(١) راجع قصة الهجرة في كتاب «السيرة النبوية» لابن هشام ج ٢ ص ٤٨٠ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٥٥.

٢٩٤

ولأن فيها النص على صحبته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة : لأنه هو المراد بالصاحب في قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) وهذا مما وقع عليه الإجماع.

ومن هنا قالوا : من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر ، لإنكار كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة (١).

وقد ساق الإمام الرازي ، والشيخ رشيد رضا ، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجها في فضل أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ ، فارجع إليهما إن شئت (٢).

وبعد هذا التذكير للمؤمنين بما كان منه ـ سبحانه ـ من تأييد لرسوله عند هجرته ، أمرهم ـ جل شأنه ـ بالنفير في كل حال فقال : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

قال الفخر الرازي ما ملخصه : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما توعد من لا ينفر مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضرب له من الأمثال ما وصفنا ، اتبعه بهذا الأمر الجازم فقال : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

والمراد : انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها ، أو على الصفة التي يثقل. وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة.

منها : (خِفافاً) في النفور لنشاطكم له ، و (ثِقالاً) عنه لمشقته عليكم.

ومنها : (خِفافاً) لقلة عيالكم ، و (ثِقالاً) لكثرتها.

ومنها : (خِفافاً) من السلاح ، و (ثِقالاً) منه.

والصحيح ما ذكرنا ، إذ الكل داخل فيه ، لأن الوصف المذكور وصف كلى يدخل فيه كل هذه الجزئيات» (٣).

والمعنى : (انْفِرُوا) ـ أيها المؤمنون ـ (خِفافاً وَثِقالاً) أى : في حال سهولة النفر عليكم ، وفي حال صعوبته ومشقته.

(وَجاهِدُوا) أعداءكم ببذل أموالكم. وببذل أنفسكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن استطاع منكم الجهاد بالمال والنفس وجب عليه الجهاد بهما. ومن قدر على أحدهما

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٨٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٦٣. تفسير المنار ج ١٠ ص ٤١٧.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٦٩.

٢٩٥

دون الآخر ، وجب عليه ما كان في قدرته منهما.

قال القرطبي روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.

وهذا وصف لأكمل ما يكون الجهاد وأنفعه عند الله ـ تعالى ـ فقد حض ـ سبحانه ـ على كمال الأوصاف.

وقدم الأموال في الذكر ، إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، فرتب الأمر كما هو في نفسه (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعود إلى المذكور من الأمرين السابقين وهما : النفور والجهاد.

أى : ذلكم الذي أمرتم به من النفور والجهاد في سبيل الله ، خير لكم في دنياكم وفي آخرتكم من التثاقل عنهما ، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم خالقكم ومربيكم على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد أدرك المؤمنون الصادقون هذا الخير فامتثلوا أمر ربهم ، ونفروا للجهاد في سبيله خفاقا وثقالا ، بدون تباطؤ أو تقاعس.

وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية كثيرا من الأمثلة التي تدل على محبة السلف الصالح للجهاد في سبيل الله ، ومن ذلك.

ما جاء عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فقال : أى بنى ، جهزوني جهزوني. فقال بنوه. يرحمك الله!! لقد غزوت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مات ، ومع أبى بكر حتى مات. ومع عمر حتى مات. فنحن نغزو عنك. فقال : لا ، جهزوني. فغزوا في البحر فمات في البحر ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ، ولم يتغير ـ رضى الله عنه.

وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع (٢).

وأخرج ابن جرير عن حيان بن زيد الشرعبى قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥٣.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥١.

٢٩٦

واليا على حمص ، فلقيت شيخا كبيرا هرما ، على راحلته فيمن نفر ، فأقبلت عليه فقلت : يا عماه لقد أعذر الله إليك.

قال : فرفع حاجبيه فقال. يا ابن أخى ، استنفرنا الله خفافا وثقالا ، من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلى الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله (١).

وعن أبى راشد الحبرانى قال. وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وهو يريد الغزو ـ وقد تقدمت به السن ـ فقلت له : لقد أعذر الله إليك.

فقال : أبت علينا سورة البعوث ذلك. يعنى هذه الآية : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (٢).

هذا ، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية تجعل الجهاد على الجميع حتى المريض والزمن والفقير .. وليس الأمر كذلك ، فما معنى هذا الأمر؟.

قلت. من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ بقوله ـ تعالى ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ..) (٣).

ومنهم من حمل هذا الأمر على الندب.

والصحيح أنها منسوخة ، لأن الجهاد من فروض الكفاية ، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال ، فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفايات ، وأنه ليس على الأعيان (٤).

ويرى بعض العلماء أن الآية ليست منسوخة ، فقد قال الإمام القرطبي ـ ما ملخصه ـ واختلف في هذه الآية ، فقيل إنها منسوخة بقوله ـ تعالى ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى).

والصحيح أنها ليست بمنسوخة.

روى ابن عباس عن أبى طلحة في قوله ـ تعالى ـ : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) قال : شبانا وكهولا. ما سمع الله عذر أحد. فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.

ثم قال ـ بعد أن ساق نماذج متعددة لمن خرجوا للجهاد خفافا وثقالا ـ فلهذا وما كان مثله مما روى عن الصحابة والتابعين قلنا. إن النسخ لا يصح.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٤٠ ـ بتصريف يسير.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٩٣ ـ بتصريف يسير.

(٣) سورة التوبة الآية ٩١.

(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٥.

٢٩٧

فقد تكون هناك حالة يجب فيها نفير الكل ، وذلك إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار الإسلامية ، أو بحلوله في العقر. ففي هذه الحالة يجب على جميع أهل الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا ؛ شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته. ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج.

فإن عجز أهل تلك البلدة عن صد عدوهم ؛ كان على من قاربهم أن يخرجوا معهم لصد العدو ، وكذلك الشأن بالنسبة لكل من علم بضعفهم عن عدوهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم.

حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها ، سقط الفرض عن الآخرين.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة ، وهو إخراج الإمام طائفة .. لإظهار القوة ، وإعزاز دين الله.

ثم قال : وقال ابن العربي ، ولقد نزل بنا العدو ـ قصمه الله. سنة سبع وعشرين وخمسمائة : فجاس ديارنا ، وأسر خيرتنا ، وتوسط بلادنا .. فقلت للوالي والمولى عليه : عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة ، فلتكن عندكم بركة ، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المعينة عليكم حركة ، فليخرج إليه جميع الناس .. فيحاط به فيهلك.

فغلبت الذنوب ، ورجفت القلوب بالمعاصي ، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوى إلى وجاره (١) ، وإن رأى المكيدة بجاره.

فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله (٢).

والذي نراه. أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي ، من أن الآية الكريمة ليست منسوخة ، أولى بالاتباع.

لأن الجهاد قد يكون فرض كفاية في بعض الحالات ، وقد يكون فرض عين في حالات أخرى والآية الكريمة التي معنا تدعو المؤمنين إلى النفير العام في تلك الحالات الأخرى التي يكون الجهاد فيها فرض عين وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التي تدعو إلى النفير العام. والآيات التي تعفى بعض الناس من مشاقه ومتاعبه.

ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن هذه الآيات الأربع قد عاتبت المؤمنين الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك عتابا شديدا ؛ وأنذرتهم بالعذاب الأليم إن لم ينفروا .. وذكرتهم بما كان من نصر الله لنبيه حين أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين .. وأمرتهم بالنفور إلى الجهاد خفافا وثقالا.

__________________

(١) الوجار بكسر الواو وفتحها ـ بيت الثعلب.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥٠.

٢٩٨

وبمجاهدة المشركين بأموالهم وأنفسهم ، فذلك هو الخير لهم في عاجلتهم وآجلتهم.

ثم أخذت السورة الكريمة في بيان قبائح المنافقين ، ومعاذيرهم الواهية ، ومسالكهم الخبيثة. وأيمانهم الفاجرة .. فقال ـ تعالى ـ :

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢)

قال الفخر الرازي هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. (١) والعرض. ما يعرض للإنسان من منافع الدنيا وشهواتها.

والسفر القاصد : هو السفر القريب السهل الذي لا يصاحبه ما يؤدى إلى التعب الشديد. من القصد بمعنى التوسط والاعتدال في الشيء.

والشقة : المسافة التي لا تقطع إلا بعد تكبد المشقة والتعب ، فهي مأخوذة من المشقة وشدة العناء.

قال القرطبي : حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة : السفر إلى أرض بعيدة. يقال : منه شقة شاقة. والمراد بذلك كله غزوة تبوك ..» (٢).

والمعنى : لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد ، متاعا من متع الحياة الدنيا ، وسفرا سهلا قريبا ، لاتبعوك فيما دعوتهم إليه ، لأنه يوافق أهواءهم ، ويشبع رغباتهم ، ولكنهم حين عرفوا أن ما دعوتهم إليه هو الجهاد في سبيل الله وما يصحبه من أسفار شاقة. وتضحيات جسيمة .. تعلّلوا لك بالمعاذير الكاذبة ، وتخلفوا عن الخروج معك ، جبنا منهم ، وحبا للراحة والسلام.

وشبيه بهذه الآية من حيث المعنى ، قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة «لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا ، أو مرماتين (٣) حسنتين لشهد العشاء».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٢ ـ المطبعة الشرقية سنة ١٣٢٤ ه‍ الطبعة الثانية.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥٤ طبعة دار الكاتب العربي سنة ١٩٤٧.

(٣) مرماتين : تثنية مرماة ، وهي ظلف الشاة ، أو ما بين ظلفها من اللحم.

٢٩٩

أى : لو يعلم أحد هؤلاء المتخلفين عن صلاة العشاء في جماعة ، أنه يجد عند حضور صلاتها في جماعة شيئا من اللحم لحضرها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من الجهاد فقال : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ).

أى. وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله ـ كذبا وزورا ـ قائلين. لو استطعنا أيها المؤمنون أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا : فاننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين ، فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف!!

وأتى ـ سبحانه ـ بالسين في قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ) لأنه من قبيل الإخبار بالغيب. فقد كان نزول هذه الآية قبل رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك. وحلفهم هذا كان بعد رجوعه منها.

قال الفخر الرازي : قالوا : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عنهم أنهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخبارا عن الغيب فكان معجزا ، (١).

والمراد بالاستطاعة في قوله : «لو استطعنا» : وجود وسائل للجهاد معهم ، من زاد وعدة وقوة في البدن ، وغير ذلك مما يستلزمه الجهاد في سبيل الله.

وقوله : (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابي القسم والشرط.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم بسبب كذبهم ونفاقهم فقال : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) :

أى. أن هؤلاء المتخلفين عن الجهاد يهلكون أنفسهم بسبب حلفهم الكاذب ، وجرأتهم على الله. تعالى. في اختلاق المعاذير الباطلة ، مع أنه. سبحانه. يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم ، وفيما انتحلوه من أعذار.

قال ابن جرير قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين ، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال ، مما يحتاج إليه الغازي في غزوة ، وصحة الأبدان ، وقوة الأجسام (٢).

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ، أن الأيمان الكاذبة تؤدى إلى الخسران والهلاك : وفي الحديث الشريف : «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع؟؟؟».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٣.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٢٧١ طبعة دار المعارف. تحقيق محمود شاكر.

٣٠٠