التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

والضمير في قوله (اتَّخَذُوا) يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان.

والأحبار : علماء اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها ـ وهو الذي يحسن القول ويتقنه ، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن ، والرهبان : علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا ، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله ـ تعالى.

والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم ، وفيما حرموه عليهم ، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفا لشرع الله.

وهذا التفسير مأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فر إلى الشام : وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومها ، ثم منّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم عدى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عنق عدى صليب من فضة ، وكان الرسول يقرأ هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ..).

قال عدى : فقلت ، إنهم لم يعبدوهم ، فقال ، بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم.

قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية : أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.

وقال السدى : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم (١).

وقال الآلوسى : وقيل اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله ، تعالى ، وحينئذ فلا مجاز ، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله ، لكلام علمائهم ورؤسائهم ، والحق أحق بالاتباع ، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده» (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١ ص ٧٥.

٢٦١

وقوله : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) معطوف على قوله (أَحْبارَهُمْ) والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أى : اتخذوه ربا وإلها.

قال صاحب المنار ما ملخصه : جمع ـ سبحانه. بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حق التشريع فيهم : وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا ، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله ، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد» (١).

وقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة حالية أى : اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيما يحرمونه عليهم ولو كان ذلك مخالفا لشرع الله ؛ وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم ربا وإلها.

والحال أنهم جميعا ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده ، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا يكون الاعتماد إلا عليه ، وكل ما سواه فهو مخلوق له.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية لقوله (إِلهاً). أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده ، وأنه ـ سبحانه ـ هو المستحق لذلك شرعا وعقلا.

وقوله : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له.

أى : تنزه الله ـ عزوجل ـ وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، فهو رب العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين ..

قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : ومن النص القرآنى الواضح الدلالة ، ومن تفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للآية وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهي : أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعتقاد في ألوهيتهم ، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم ... ومع هذا فقد حكم الله ، سبحانه ، عليهم

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٢٦.

٢٦٢

بالشرك في هذه الآية ، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها ـ فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ، ويدخله في عداد الكافرين.

إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة ، ودعاواهم الباطلة فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

والمراد بنور الله : دين الإسلام الذي ارتضاه. سبحانه ـ لعباده دينا وبعث به رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه ، وعلى صحته ما جاء به مما يهدى القلوب ، ويشفى النفوس ، ويجعلها لا تدين بالعبادة والطاعة إلا لله الواحد القهار.

وقيل المراد بنور الله : حججه الدالة على وحدانيته ـ سبحانه ـ وقيل المراد به ، القرآن ، وقيل المراد به : نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلها معان متقاربة.

والمراد بإطفاء نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في وجهه ، وعلى محاربته.

والمراد بأفواههم. أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة.

والمعنى : يريد هؤلاء الكافرون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة ...

قال الآلوسى ما ملخصه : في الكلام استعارة تمثيلية ، حيث شبه ـ سبحانه ـ حال أهل

__________________

(١) راجع تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٠ ص ٢٠٣ للأستاذ سيد قطب. طبعة دار إحياء التراث العربي الطبعة الخامسة.

٢٦٣

الكتاب في محاولة إبطال نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق تكذيبهم له ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه ..

وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال والتكذيب بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ـ تعالى ـ العظيم الشأن.

ومن شأن النور المضاف إليه ـ سبحانه ـ أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم (١) ..؟!!

وقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بشارة منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين ، وتقرير لسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه.

والفعل (يَأْبَى) هنا بمعنى لا يريد أو لا يرضى ـ أى : أنه جار مجرى النفي ، ولذا صح الاستثناء منه.

قال أبو السعود : وإنما صح الاستثناء المفرغ ـ وهو قوله (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). من الموجب ، وهو قوله (وَيَأْبَى اللهُ) ـ لكونه بمعنى النفي ، ولوقوعه في مقابلة قوله : (يُرِيدُونَ) ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى الإرادة ، أى : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإطفاء.

وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره ـ سبحانه ـ زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشعار بعلة الحكم» (٢).

وجواب (لَوْ) في قوله (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) محذوف لدلالة ما قبله عليه.

والمعنى : يريد أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله ـ تعالى ـ لا يريد إلا إتمام هذا النور ، ولو كره الكافرون هذا الإتمام لأتمه ـ سبحانه ـ دون أن يقيم لكراهتهم وزنا.

فالآية الكريمة وعد من الله ، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكي يمضوا قدما إلى تنفيذ ما كلفهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل ، وهي في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلاء الضالين وأمثالهم.

ـ ثم أكد ـ سبحانه ـ وعده بإتمام نوره ، وبين كيفية هذا الإتمام فقال : (هُوَ الَّذِي

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٧٦ ـ بتصرف وتلخيص.

(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٦٧. طبعة صبيح.

٢٦٤

أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

والمراد بالهدى : القرآن الكريم المشتمل على الإرشادات السامية ، والتوجيهات القويمة ، والأخبار الصادقة ، والتشريعات الحكيمة.

والمراد بدين الحق : دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.

وقوله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان ، والسيادة والسلطان.

والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.

والضمير في (لِيُظْهِرَهُ) يعود على الدين الحق أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : هو الله ـ سبحانه ـ الذي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الهادي للتي هي أقوم ، وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر ، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة ، ولإظهار رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الأديان كلها ، بما أوحى إليه ـ سبحانه ـ من هدايات ، وعبادات ، وتشريعات ، وآداب ... في اتباعها سعادة الدنيا والآخرة.

وختم ـ سبحانه ـ هذه الآية بقوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وختم التي قبلها بقوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) للإشعار بأن هؤلاء الذين قالوا : «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» قد جمعوا بسبب قولهم الباطل هذا ، بين رذيلتي الكفر والشرك ، وأنه ، سبحانه ، سيظهر أهل دينه على جميع أهل الأديان الأخرى.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك ، منها : ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله زوى لي الأرض من مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها».

وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة».

وروى أيضا عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين ، يعز عزيزا ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر». وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الشرف والخير والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.

٢٦٥

وأخرج أيضا عن عدى بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عدى أسلم تسلم» ، فقلت يا رسول الله : إنى من أهل دين. قال : «أنا أعلم بدينك منك ، فقلت : أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم ، ألست من الركوسية (١) ، وأنت تأكل مرباع قومك» (٢).

قلت : بلى. قال : «فإن هذا لا يحل لك في دينك».

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، ومن رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة»؟

قلت : لم أرها وقد سمعت بها.

قال : «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز».

قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : «نعم. كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد».

قال عدى بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد. ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قالها (٣).

وإلى هنا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد كذبت أهل الكتاب في قولهم «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» ، وأرشدتهم إلى الطريق الحق الواضح المستقيم ليسيروا عليه ، ووبختهم على تشبههم في هذه الأقوال الباطلة بمن سبقهم من الضالين ، وعلى انقيادهم لأحبارهم ورهبانهم بدون تعقل أو تدبر ، وبشرت المؤمنين بظهور دينهم الذي ارتضاه الله لهم على الأديان كلها.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن أهل الكتاب بتوجيه نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الرذائل التي انغمس فيها الأحبار والرهبان ، وكيف جمعوا بين ضلال أنفسهم وإضلال أتباعهم ، حيث أمروا هؤلاء الأتباع بالانقياد لهم فيما يأتون ويذرون ... فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) الركوسية «بفتح الراء المشددة» قوم لهم دين بين النصارى والصابئين.

(٢) المرباع بمعنى الربع ، كالمعشار بمعن العشر. وكان الناس في الجاهلية يعطون رئيسهم ربع ما يغنمونه خالصا له دون أن يشاركه فيه أحد. وكان عدى رئيسا لقومه.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٩.

٢٦٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣٥)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق ، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس ، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر ، أخذ أموال الناس بالباطل.

ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم ، وفي شرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا ، ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات ، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين ؛ حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ؛ ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله (١).

والمراد بالأكل في قوله ؛ (لَيَأْكُلُونَ) مطلق الأخذ والانتفاع.

وعبر عن ذلك بالأكل ، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، على سبيل المجاز المرسل ، بعلاقة العلية والمعلولية. وأكلهم أموال الناس بالباطل ، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو الفتاوى الباطلة. كما يتناول ما سوى ذلك مما كانوا يأخذونه بغير وجه حق.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤١.

٢٦٧

وأسند ـ سبحانه ـ هذه الجريمة ـ وهي أكل أموال الناس بالباطل ـ إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم يسندها إلى جميعهم ، إنصافا للعدد القليل منهم الذي لم يفعل ذلك ، فإن كل طائفة أو جماعة لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام ، ويقيدون أنفسهم بالحلال.

قال صاحب المنار : وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق في عبارات الكتاب العزيز ، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم ، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر ، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثنى منه.

فمن الأول قوله ـ تعالى ـ في اليهود : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١).

ومن الثاني قوله ـ تعالى ـ في اليهود أيضا : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) (٢).

ومن الثالث قوله ـ سبحانه ـ في شأن المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام من اليهود ـ أيضا ـ : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٣).

وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر وإنما نكرره لعظيم شأنه ...» (٤).

وقوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) جريمة من جرائمهم الكثيرة.

والصد : المنع والصرف عن الشيء .. وسبيل الله : دينه وشريعته.

أى ، أن هؤلاء الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل ، بل إنهم يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهي أنهم ينصرفون عن الدين الحق وهو دين الإسلام انقيادا لأحقادهم وشهواتهم ، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل ، كأن

__________________

(١) سورة المائدة الآيتان ٦٢ ، ٦٣.

(٢) سورة المائدة الآية ٥٩.

(٣) سورة النساء الآية ٤٦.

(٤) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٦٢ ـ بتصرف يسير.

٢٦٨

يصفوه لهم بأنه دين باطل ، أو بأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو الرسول الذي بشرت به الكتب السماوية السابقة ... إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة في صرف الناس عن الحق.

والاسم الموصول في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ..) يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان ، لأن الكلام مسوق في ذمهم ، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هي الحرص والبخل ، بعد ذمهم على رذيلتي أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.

ويرى آخرون أن المراد بهم البخلاء من المسلمين ، وأن الجملة مستأنفة لذم مانعي الزكاة بقرينة قوله : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب التحذير والوعيد والإشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله ، مصيرهم كمصير الأحبار والرهبان في استحقاق البشارة بالعذاب.

وترى طائفة ثالثة من العلماء أن المراد به كل من كنز المال ، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم ، لأن اللفظ مطلق ، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه ، إذ لم يرد ما يقيده أو يخصصه.

وقوله : (يَكْنِزُونَ) من الكنز ، وأصله في اللغة العربية : الضم والجمع.

يقال : كنزت التمر في الوعاء إذا جمعته فيه. وكل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها فهو كنز ، وجمعه كنوز.

وخص الذهب والفضة بالذكر ، لأنهما الأصل الغالب في الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما.

وقال الفخر الرازي ما ملخصه : ذكر ـ سبحانه ـ شيئين هما الذهب والفضة ثم قال : (وَلا يُنْفِقُونَها) ـ وكان الظاهر أن يقول «ولا ينفقونهما» والجواب من وجهين :

الأول : أن الضمير عائد إلى المعنى دون اللفظ ، لأن كل واحد منهما جملة وافية ؛ وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..)

أو أن يكون التقدير : والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله ، فيكون الضمير عائد إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل (يَكْنِزُونَ).

الثاني : أن يكون الضمير عائد إلى اللفظ ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر ،

٢٦٩

كقوله ـ تعالى ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (١) جعل الضمير للتجارة ... (٢).

وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر الموصول.

والتعبير بالبشارة من باب التهكم بهم ، والسخرية منهم ، فهو كقولهم : تحيتهم الضرب ؛ وإكرامهم الشتم.

وقوله : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ..) تفصيل لهذا العذاب الأليم ، وبيان لميقاته ، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم ، والأشحاء عن شحهم ...

والظرف (يَوْمَ) منصوب بقوله : (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ؛ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول.

أى : يعذبون يوم يحمى عليها ، أو بفعل مقدر ؛ أى : اذكر يوم يحمى عليها.

وقوله (يُحْمى) يجوز أن يكون من حميت وأحميت ـ ثلاثيا ورباعيا ـ يقال : حميت الحديدة وأحميتها ، أى : أوقدت عليها لتحمى.

وقوله : (عَلَيْها) جار ومجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا ، أى : يحمى الوقود أو الجمر عليها.

قال الآلوسى : وأصله تحمى بالنار من قولك : حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة ؛ لأن النار في ذاتها ذات حمى ، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها. ثم حذفت النار ، وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير. فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت : رفع إلى الأمير ، وقرأ ابن عامر تحمى بالتاء بإسناده إلى النار كأصله» (٣). والمعنى : بشر ـ يا محمد ـ أولئك الذين يكنزون الأموال في الدنيا ولا ينفقونها في سبيل الله ، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) أى : فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس ، والتي طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز ، وتحرق بها ـ أيضا ـ «جنوبهم» التي كثيرا ما انتفخت من شدة الشبع وغيرها جائع ، وتحرق بها كذلك «ظهورهم» التي نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر ...

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ١١.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤٧ ـ بتصرف وتلخيص.

(٣) تفسير الآلوسى : ج ١٠ ص ٧٨.

٢٧٠

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خصت هذه الأعضاء بالكي؟

قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم ـ حيث لم ينفقوها في سبيل الله ـ إلا الأغراض الدنيوية ، من وجاهة عند الناس ، وتقدم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم ، يتلقون بالجميل ويحيون بالإكرام ، ويبجلون ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك ، هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم ، لا يخطر ببالهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذهب أهل الدثور بالأجر كله».

وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوه ظهورهم ..» (١).

وقوله : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) مقول لقول محذوف.

والتفسير : تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ ، وهي تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم : هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه. فذوقوا وحدكم وبال كنزكم. وتجرعوا غصصه ، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم ، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال. بل استعملتموها في غير ما خلقت له.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.

١ ـ التحذير من الانقياد لدعاة السوء ، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإسلام من تعاليم وتشريعات ...

ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى : والمقصود التحذير من علماء السوء ، وعباد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى.

وفي الحديث الصحيح : «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا : اليهود والنصارى؟ قال : «فمن»؟ وفي رواية : فارس والروم؟ قال : «فمن الناس إلا هؤلاء» والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم (٢).

هذا ، ونص الحديث الصحيح الذي ذكره الإمام ابن كثير ـ كما رواه الشيخان ـ هكذا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٥٠.

٢٧١

عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟ (١).

أما الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة ، فقد أخرجه الإمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه : «ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم. أهل الكتاب ، حذو القذة بالقذة» (٢).

٢ ـ يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز في قوله ، تعالى ، (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) .. ألخ المال الذي لم تؤد زكاته ، أما إذا أديت زكاته فلا يسمى كنزا ، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية.

وقد وضح الإمام القرطبي هذه المسألة فقال : واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا؟.

فقال قوم : نعم. رواه أبو الضحى عن جعدة بن هبيرة عن على قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته ، ، ، ، ولا يصح.

وقال قوم : ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز ، قال ابن عمر : ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.

ومثله عن جابر ، وهو الصحيح.

وروى البخاري عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعنى شدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ..».

وفيه أيضا عن أبى ذر قال : انتهيت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «والذي نفسي بيده ، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم ، لا يؤدى حقها ، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس».

فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى. قال له أعرابى : أخبرنى عن قول الله. تعالى ـ (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في باب ما ذكر عن بنى إسرائيل ، ج ٤ ص ٢٠٦ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٤٥ ه‍.

(٢) راجع المسند ج ٤ ص ١٢٥ ، طبعة عيسى الحلبي. تحقيق الأستاذ أحمد شاكر.

٢٧٢

الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ..) الآية فقال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.

وروى أبو داود عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ..) كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق فقال : يا نبي الله ، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» قال : فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته» (١).

٣ ـ أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإنسان الضرورية.

قال ابن كثير : كان من مذهب أبى ذر ـ رضى الله عنه ـ تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة ـ وهي بلدة قريبة من المدينة ـ وبها مات ـ رضى الله عنه ـ في خلافة عثمان.

وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبى ذر ، فقلت له : ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال : كنا بالشام فقرأت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). فقال معاوية : ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال : قلت : إنها لفينا وفيهم.

ثم قال ابن كثير : وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبى ذر : «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر على ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» فهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا» (٢).

وقال الشيخ القاسمى : قال ابن عبد البر : وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٢٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٢ ـ بتصرف وتلخيص.

٢٧٣

وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال : هل على غيرها؟ قال : لا ، إلا أن تطوع» (١).

وحديث طلحة الذي أشار إليه ابن عبد البر ، قد جاء في صحيح البخاري ونصه : عن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل على غيرها؟ :

قال : «لا .. إلا أن تطوع» ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وصيام رمضان» قال : هل على غيره؟ قال : «لا إلا أن تطوع» ، قال. وذكر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزكاة ، قال. هل على غيرها؟ قال «لا إلا أن تطوع».

قال ، فأدبر الرجل وهو يقول. والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفلح إن صدق» (٢).

هذا ؛ ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض عن الحاجة ـ مادام قد أدى حق الله فيها ـ ما يأتى :

(أ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك ، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة ، لما كان لمشروعية المواريث فائدة.

(ب) ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن أبى وقاص عند ما كان مريضا ، وزاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا رسول الله : أأوصى بمالي كله؟ قال : «لا. قال سعد : فالشطر؟ قال : لا. قال سعد : فالثلث؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فالثلث والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ...» (٣).

ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما ، لأقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعدا على التصدق بجميع ماله ، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد ، ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفعل ذلك ، بل قال لسعد : «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ..».

وقد كان في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال ـ كعثمان بن

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٣٧.

(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ١٨ باب : الزكاة من الإسلام. من كتاب الإيمان.

(٣) صحيح البخاري ج ٤ ص ٣ باب «أن يترك ورثته أغنياء». من كتاب الوصايا.

٢٧٤

عفان ، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما ـ ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية.

قال القرطبي : قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها ، ولو كان ضبط المال ممنوعا ، لكان حقه أن يخرج كله ، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم ـ رضوان الله عليهم ـ وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له (١).

(ج) ما ورد من آثار في ذم الكنز والكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء حق الله في ماله.

قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما تصنع في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها».

قلت. كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرضيتها ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه ، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه.

ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل ، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، ولكل شيء حد (٢)».

٤ ـ أن الإسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال ـ بعد أداء حق الله فيه ـ إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء ، حتى لا يشغلهم حب المال عن طاعة الله.

ورحم الله الإمام الرازي ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه ، اعلم أن الطريق الحق أن يقال ، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع. فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى.

أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها :

أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب ، والحرص متعب للروح والنفس والقلب .. والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه. وأن كسب المال شاق شديد ؛ وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب ، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل ؛ وأخرى

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٨.

٢٧٥

في تعب الحفظ وأن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١).

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث في ذم التكثر من الذهب والفضة ، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حسان بن عطية قال :

كان شداد بن أوس ـ رضى الله عنه ـ في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالسفرة نعبث بها ، فأنكرت عليه ذلك. فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كنز الناس الذهب والفضة ، فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ؛ وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، واسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم. إنك أنت علام الغيوب (٢).

وبعد : فهذه سبع آيات عن أهل الكتاب ، بدأت ـ بقوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وانتهت بقوله تعالى : (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ).

وقد بينت هذه الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم ، وكشفت عن أقوالهم الباطلة ، وعن جحود رؤسائهم للحق ، وعن انقياد : عامتهم للضلال ، وعن استحلال كثير من أحبارهم ورهبانهم لمحارم الله ...

ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكلمة الحديث عن أحوال المشركين السيئة ، وعن وجوب مقاتلتهم ، فقال تعالى.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥١.

٢٧٦

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧)

قال صاحب المنار ، هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين ـ في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم ، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية ، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعا ..» (١).

والعدة ـ في قوله. إن عدة الشهور ـ : على وزن فعله من العدد وهي بمعنى المعدود. قال الراغب : العدة : هي الشيء المعدود ، قال ـ تعالى (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أى : وما جعلنا عددهم إلا فتنة للذين كفروا ..

والشهور : جمع شهر. والمراد بها هنا : الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهي شهور. المحرم. وصفر. وربيع الأول .. إلخ.

وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية ، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم.

والمراد بقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : الوقت الذي خلقهما فيه ، وهو ستة أيام كما جاء في كثير من الآيات ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٨.

(٢) سورة الأعراف الآية ٥٤.

٢٧٧

والمعنى : إن عدد الشهور «عند الله» أى : في حكمه وقضائه (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية.

وقوله (فِي كِتابِ اللهِ) ، أى : في اللوح المحفوظ.

قال القرطبي : وأعاده بعد أن قال (عِنْدَ اللهِ) لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله ، كقوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١).

وقيل معنى «في كتاب الله» أى فيما كتبه ـ سبحانه ـ وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السموات والأرض.

قال الجمل : وقوله. (فِي كِتابِ اللهِ) صفة لاثنى عشر ، وقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار ، أو بالكتاب ، إن جعل مصدرا.

والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة (٢) أى : أن المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته ـ سبحانه ـ في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم ، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع .. فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور ، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها ، أو انتهاك حرمة المحرم منها.

وقوله ، (حُرُمٌ) جمع حرام ـ كسحب جمع سحاب ـ مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى ـ أوجب على الناس احترام هذه الشهور ، ونهى عن القتال فيها :

وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقد أخرج البخاري عن أبى بكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (٣).

وسماه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجب مضر ، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٢.

(٢) حاشية الجمل ج ٢ ص ٢٨٠.

(٣) صحيح البخاري ج ٦ ص ٨٣ ـ كتاب التفسير.

٢٧٨

رجبا وكانت قبيلة مضر تحرم رجبا نفسه ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

قال ابن كثير. وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد. وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهرا وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ، ويشتغلون بأداء المناسك ، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم ، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) يعود إلى ما شرعه الله ـ تعالى من أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا ، ومن أن منها أربعة حرم.

والقيم : القائم الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى : ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك ، ومن كون منها أربعة حرم : هو الدين القويم ، والشرع الثابت الحكيم ، الذي لا يقبل التغيير أو التبديل .. لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم ، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم.

والضمير المؤنث في قوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى : فلا تظلموا في الشهور الاثنى عشر أنفسكم ، بأن تفعلوا فيها شيئا مما نهى الله عن فعله ، ويدخل في هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا.

ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم ، لأنه إليها أقرب ؛ لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها.

وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظم حرمتها.

وعن قتادة : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم .. فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٤.

٢٧٩

قيل : ليس ذلك كذلك ، بل ذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة : فخص الذنب فيهن ، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله ـ تعالى ـ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ،) ولكنه تعالى ـ زادها تعظيما ، وعلى المحافظة عليها توكيدا ، وفي تضييعها تشديدا ، فكذلك في قوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن ، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه (١).

وقال القرطبي : لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول : للباري ـ تعالى ـ أن يفعل ما شاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة ، ولا عليه حجر ، بل يفعل ما يريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى (٢).

وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعة ، وعزيمة صادقة.

وكلمة (كَافَّةً) مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في (قاتِلُوا) أو من المفعول وهو لفظ المشركين ، ومعناها : جميعا.

وقالوا : وهذه الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهي ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل : عامة وخاصة (٣).

أى : قاتلوا ـ أيها المؤمنون ـ المشركين جميعا ، كما يقاتلونكم هم جميعا ، بأن تكونوا في قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين ، لا مختلفين ولا متخاذلين.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به.

أى : واعلموا ـ أيها المؤمنون أن الله تعالى ـ مع عباده المتقين بالعون والنصر والتأييد ، ومن كان الله معه فلن يغلبه شيء فكونوا ـ أيها المؤمنون من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه ؛ لتنالوا عونه وتأييده.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٢٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٦.

(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٨٢. وتفسير المنار ج ١٠ ص ٤٨٤.

٢٨٠