التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

وأعجبتكم : من الإعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه. وسبب هذا الإعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعدد أعدائهم كان أربعة آلاف.

وقوله : (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) بيان للأثر السيئ الذي أعقب الإعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلا ، بل تبعه الحزن والهزيمة.

وقوله : (تُغْنِ) من الغناء بمعنى النفع. تقول : ما يغنى عنك هذا الشيء ، أى : ما يجزئ عنك وما ينفعك وقوله : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) بيان لشدة خوفهم وفزعهم.

قال القرطبي : والرحب ـ بضم الراء ـ السعة. تقول منه : فلان رحب الصدر.

والرحب ـ بالفتح ـ الواسع. تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة.

وقيل : الباء بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها. وقيل بمعنى على. أى : على رحبها. وقيل المعنى برحبها فتكون «ما» مصدرية (١).

والمعنى : اذكروا ـ أيها المؤمنون ـ نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه ـ سبحانه ـ قد نصركم على أعدائكم مع قلتكم. في مواقف حروب كثيرة ؛ كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير ... كما نصركم. أيضا. في يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم من قلة ...

ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئا من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر :

كأن بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل (٢)

وقوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم.

ووليتم : من التولي بمعنى الإعراض. ومدبرين : من الإدبار بمعنى الذهاب إلى الخلف.

أى : ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شيء.

وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويرا بديعا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠١.

(٢) الكفة. بالكسر. حبالة الصائد. والحابل : الذي ينصب الحبالة.

٢٤١

معجزا .. فهي تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقفل في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتمثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب.

وبعد هذا الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين في مبدأ لقائهم بأعدائهم في غزوة حنين ، يجيء نصر الله الذي عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ..).

والسكينة : الطمأنينة والرحمة والأمنة وهي فعيلة من السكون : وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.

أى : ثم أنزل الله ـ تعالى ـ على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين رحمته التي تسكن إليها القلوب ، وتطمئن بها اطمئنانا يستتبع النصر القريب.

وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حاجة إلى هذه السكينة ؛ لأنه مع شجاعته وثباته ووقوفه في وجه الأعداء كالطود الأشم. أصابه الحزن والأسى لفرار هذا العدد الكبير من أصحابه عنه.

وكان المؤمنون الذين ثبتوا من حوله في حاجة إلى هذه السكينة ؛ ليزدادوا ثباتا على ثباتهم ، وإيمانا على إيمانهم.

وكان الذين فروا في حاجة إلى هذه السكينة ، ليعود إليهم ثباتهم ، فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن دعاهم رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك.

وقوله : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) بيان لنعمة أخرى سوى إنزال السكينة.

أى : وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم ، ولكنكم وجدتم أثرها في قلوبكم ، حيث عاد إليكم ثباتكم وإقدامكم.

وقوله : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، بيان لنعمة ثالثة سوى السابقتين.

أى : أنزل سكينته وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا بأن سلطكم عليهم فقتلتم منهم من قتلتم ، وأسرتم من أسرتم.

وقوله (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أى وذلك الذي نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب جزاء لهم على كفرهم ، وصدهم عن سبيل الله.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته ورحمته بعباده فقال ـ تعالى ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٢٤٢

أى : ثم يتوب الله ـ تعالى ـ من بعد هذا التعذيب للذين كفروا في الدنيا ، على من يشاء أن يتوب عليه منهم ، بأن يوفقه للدخول في الإسلام ، والله ـ تعالى ـ واسع المغفرة ، عظيم الرحمة ، لا يحاسب الكافرين بعد إيمانهم على ما حصل منهم من كفر.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (١).

قال ابن كثير : وقوله : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ ...) قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا ، وقدموا عليه مسلمين ، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ، ما بين صبي وامرأة فرده عليهم : وقسم الأموال بين الغانمين ، ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطاهم مائة من الإبل مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه (٢).

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ذكرت المؤمنين بجانب من نعم الله عليهم. ومن رحمته بهم ، وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه ـ سبحانه ـ وإنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله سرائرهم وعلانيتهم. وباشروا الأسباب التي شرعها ـ سبحانه ـ للوصول إلى الفوز والظفر.

قال ابن القيم : افتتح الله ـ تعالى ـ غزوات العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، لهذا يقرن بين هاتين بالذكر ، فقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين .. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين. فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم ، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله (٣).

وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين .. وجه ـ سبحانه ـ إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام ، ووعدهم بالعطاء الذي يغنيهم ، فقال :

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٣٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٤٦.

(٣) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٠٩٩.

٢٤٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٨)

وقوله : (نَجَسٌ) بالتحريك ـ مصدر نجس الشيء ينجس فهو نجس إذا كان قذرا غير نظيف ، وفعله من باب «تعب» وفي لغة من باب «قتل».

قال صاحب الكشاف : النجس : مصدر. يقال نجس نجسا وقذر قذرا ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها (١).

قيل : وجوز أن يكون لفظ «نجس» صفة مشبهة ـ وإليه ذهب الجوهري ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ، ليصح الإخبار به عن الجمع. أى جنس نجس ونحوه (٢).

وقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم ، حتى لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم : النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون ، ويتحاماه الأتقياء من الناس.

وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر عنه بالنهى عن القرب مبالغة في إبعادهم عن المسجد الحرام.

والنهى وإن كان موجها إلى المشركين ، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك ، والمراد بقوله : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) العام الذي حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين ، وبعدم طوافهم بالمسجد الحرام .. وهو العام التاسع من الهجرة.

قال ابن كثير : أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا ـ عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١ ص ٦٨.

٢٤٤

ولهذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما ـ عامئذ ، وأمره أن ينادى في المشركين : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا (١).

وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المشركين.

والعيلة : الفقر والفاقة : يقال : عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر ، ومنه قول الشاعر :

وما يدرى الفقير متى غناه

وما يدرى الغنى متى يعيل

وقرئ «عائلة» بمعنى المصدر كالعافية : اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى : حالا عائلة.

قال ابن جرير ـ بعد أن ساق روايات في سبب نزول الآية ـ : عن عطية العوفى قال : لما قيل «ولا يحج بعد العام مشرك» قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم ، قال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) الآية (٢).

والمعنى : لا تمكنوا أيها المؤمنون. المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة ، لأنهم نجس .. ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم ، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات والمبايعات .. لأن الله ـ تعالى ـ قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات التي تكفيكم أمر معاشكم ..

وقد أنجز الله ـ تعالى ـ لهم وعده ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وفتح لهم البلاد ، فكثرت بين أيديهم الغنائم وألوان الخيرات ، ودخل في دين الله من هم أيسر حالا وأغنى مالا من هؤلاء المشركين ..

قال صاحب الكشاف : قوله : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أى : من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل عليهم السماء مدرارا ، فأغزر بها خيرهم ، وأكثر مسيرهم. وأسلم أهل تبالة (٣) وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به : فكان أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته» (٤).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٨.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٠٧.

(٣) تبالة : بلد باليمن خصبة ومثلها جرس.

(٤) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٠.

٢٤٥

والتقييد بالمشيئة في قوله : (إِنْ شاءَ) ليس للتردد ، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله ـ تعالى ـ كما في قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ). ولبيان أن هذا الإغناء بإرادته ـ سبحانه ـ وحده ، فعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه ، وتضرعهم إليه لا إلى غيره ، وللتنبيه على أن عطاءه سبحانه لهم ، هو من باب التفضل لا الوجوب ، لأنه لو كان واجبا ما قيده بالمشيئة.

ولما كانت مشيئته ـ سبحانه ـ تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته ، فقد ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أى : إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم ، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم. فاستجيبوا له لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ أن المراد بالمشركين في الآية ما يتناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب. كما هو مقتضى ظاهر اللفظ ، وكما يدل عليه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ..) (١).

أى : لا يغفر أن يشرك به بأى لون من ألوان الشرك.

ويرى كثير من الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب ، لأن الحديث خاص بهم من أول السورة إلى هنا.

٢ ـ يرى جمهور الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله ـ تعالى ـ أما أبدانهم فطاهرة.

وقد بسط صاحب المنار القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : «قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل.

حكى هذا القول عن ابن عباس والحسن البصري .. وجمهور الظاهرية ..

ويرى جمهور السلف والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة. لأنه من المعلوم أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم. ومع هذا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم .. بل الثابت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ من مزادة مشركة ، وأكل من طعام اليهود ... وأطعم هو وأصحابه وفدا من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التي أكلوا وشربوا فيها ..

__________________

(١) سورة النساء الآية ٤٨.

٢٤٦

وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله ، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا ...» (١).

٣ ـ اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام في قوله ـ تعالى ـ (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...).

فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء : المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله. وعليه فالكافر يمنع من دخول الحرم كله ..

ويرى الشافعى أن المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ.

قال القرطبي : وقال الشافعى : الآية عامة في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد» (٢).

ويرى الإمام مالك أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه ، لأن العلة ـ وهي النجاسة ـ موجودة في المشركين ، والحرمة موجودة في كل مسجد.

وعليه فلا يجوز تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد.

ويرى الأحناف أن المراد بالمسجد الحرم كله ، إلا أن النهى هنا ليس منصبا على دخوله وإنما هو منصب على المنع من الحج والعمرة. ومن الحج إليه أى : لا تمكنوا ـ أيها المؤمنون ـ المشركين من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا.

قال الآلوسى : ويؤيده قوله ـ تعالى ـ (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام. أى : لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة .. ويدل عليه نداء على ـ كرم الله وجهه ـ يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، وكذا قوله ـ سبحانه ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أى : فقرا بسبب منعهم ، لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى.

ثم قال : والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه ، ولا يمنعون عنده من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد» (٣).

__________________

(١) راجع تفسير المنار ج ١٠ ص ٣٢٢ وما بعدها.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٠٥.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٨.

٢٤٧

٤ ـ قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز ، وليس ذلك بمناف للتوكل ، وإن كان الرزق مقدرا ، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التي تتعلق بالأسباب ، من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا» (١) ـ أى : تغدو صباحا وهي جياع ، وتعود عشية وهي ممتلئة البطون ـ.

هذا ، وبتدبر آيات السورة الكريمة ـ من أولها إلى هنا ـ نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين المسلمين وعبدة الأوثان ، وفصلت كثيرا من الأحكام التي تخص الفريقين ، ومن ذلك أنها قررت :

١ ـ براءة الله ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق.

٢ ـ إعطاءهم مهلة مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم ، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء.

٣ ـ إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة ..

٤ ـ أمر المؤمنين بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده.

٥ ـ بيان ما يجب على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التي أعطيت للمشركين.

٦ ـ إرشاد المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله ، ويطلع على حقيقة الإسلام .. ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم.

٧ ـ بيان الأسباب التي تدعو إلى قتال المشركين ، وإلى وجوب البراءة منهم.

٨ ـ بيان بعض الحكم والأسرار التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام.

٩ ـ بيان أن المشركين ليسوا أهلا لعمارة مساجد الله .. وأن الذين هم أهل لذلك :

المؤمنون الصادقون.

١٠ ـ توجيه المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شيء آخر ، من الآباء والأبناء والإخوان.

١١ ـ تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم في مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين ، بعد أن هزموا في أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتهم التي أعجبوا بها.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٧ ـ بتصرف يسير ـ

٢٤٨

١٢ ـ نهيهم عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وإزالة الوساوس التي قد تخطر ببالهم بسبب هذا النهى ، بأن وعدهم ـ سبحانه ـ بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التي تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين في موسم الحج.

هذه أهم الموضوعات التي تعرضت لها سورة التوبة في ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا. وهي موضوعات وضحت. كما أسلفنا. الأحكام النهائية في علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب ، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، التي تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإسلام ، وقد بدئت هذه الآيات بقوله ـ تعالى ـ

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه لما ذكر ـ سبحانه ـ حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام .. ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد (١).

وقال ابن كثير ما ملخصه : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى. وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة. ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ حر. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٢٧.

٢٤٩

يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ....» (١).

وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ ....) أمر منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين بقتال أهل الكتاب ، وبيان للأسباب التي اقتضت هذا الأمر ، وهي أنهم :

أولا : (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيمانا صحيحا ، لاتبعوا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأن منهم من قال : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ومنهم من قال : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ).

وقولهم هذا كفر صريح ، لأنه ـ سبحانه ـ منزه عما يقولون.

قال ـ تعالى ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

وثانيا : أنهم «لا يؤمنون باليوم الآخر» على الوجه الذي أمر الله ـ تعالى ـ به ، ومن كان كذلك كان إيمانه. على فرض وجوده. كلا إيمان.

قال الجمل ما ملخصه : فإن قلت : اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف نفى الله عنهم ذلك؟

قلت : إن إيمانهم بهما باطل لا يفيد ، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم فصح نفيه في الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه ، والنصارى يعتقدون الحلول ، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك.

وأيضا فإن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك لأنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجساد ، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون ـ أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك. ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن (٢).

وثالثا : أنهم (لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أى : أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن والسنة ، وفضلا عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٧٥.

٢٥٠

شريعتهم على ألسنة رسلهم ، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم.

أى أنهم لا يحرمون ما حرمه الله لا في شريعتنا ولا في شريعتهم.

فاليهود ـ بجانب كفرهم بشريعتنا ـ لم يطيعوا شريعتهم ، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل مع أنها. أى شريعتهم. نهتهم عن ذلك.

قال ـ تعالى ـ (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ...) (١).

والنصارى ـ بجانب كفرهم ـ أيضا ـ بشريعتنا ـ لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن شريعتهم لم تشرع لهم ذلك.

قال ـ تعالى ـ (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٢).

ورابعا : (لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ). وقوله : (يَدِينُونَ) بمعنى يعتقدون ويطيعون. يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه.

والمراد بدين الحق : دين الإسلام الناسخ لغيره من الأديان.

أى : أنهم لا يتخذون دين الإسلام دينا لهم ، مع أنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، والذي لا يقبل ـ سبحانه ـ دينا سواه. قال ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...) (٣).

وقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤).

ويصح أن يكون المراد بدين الحق. ما يشمل دين الإسلام وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء السابقون.

أى : ولا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه ، وشرعها لعباده ، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم.

__________________

(١) سورة النساء. الآية ١٦١.

(٢) سورة الحديد ٢٧.

(٣) سورة المائدة. الآية ٣.

(٤) سورة آل عمران الآية ٨٥.

٢٥١

وعبر عنهم في قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ..) بالاسم الموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال.

أى أن العلة في الأمر بقتالهم ، كونهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى ؛ لأن الحديث عنهم ، وعن الأسباب التي توجب قتالهم.

والمراد بالكتاب : جنسه الشامل للتوراة والإنجيل.

أى : قاتلوا من هذه صفاتهم ، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإنجيل ـ عن طريق موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم.

والمقصود بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم ، لأن حكم هؤلاء قتالهم حتى يسلموا ، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال ، أو الإسلام ، أو الجزية :

وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) غاية لإنهاء القتال.

أى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن طوع وانقياد ، فإن فعلوا ذلك فاتركوا قتالهم.

والجزية : ضرب من الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهي ـ كما يقول القرطبي :

ـ من جزى يجزى ـ مجازاة ـ إذا كافأ من أسدى إليه. فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

يجزيك أو يثنى عليك وإن من

أثنى عليك بما فعلت فقد جزى (١)

والمراد بإعطائها في قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك.

واليد هنا : يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد. أى : حتى يعطوا الجزية عن خضوع وانقياد.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١١٤

٢٥٢

ويحتمل أن تكون كناية و «عن» الدفع نقدا بدون تأجيل. أى : حتى يعطوها نقدا بدون تسويف أو تأخير.

ويحتمل أن تكون على معناها الحقيقي ، و «عن» بمعنى الباء أى : حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم.

وهذه المعاني لليد إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى. أى : يد الكتابي.

أما إذا أردنا بها اليد الآخذة ـ وهي يد الحاكم المسلم ـ ففي هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر والغلبة.

أى : حتى يعطوها عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : قوله : «عن يد» إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يده ، أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة ؛ إذ أن من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده ، إذا انقاد وأصحب ـ أى : سهل بعد صعوبة ـ ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه.

أو المعنى : حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة ، لا مبعوثا بها على يد أحد ، ولكن يد المعطى إلى يد الآخذ.

ومعناه على إرادة يد الآخذ : حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ـ وهي يد المسلمين ـ أو حتى يعطوها عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم ، نعمة عظيمة عليهم» (١).

وقوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ) من الصغار بمعنى الذل والهوان. يقال : صغر فلان يصغر صغرا وصغارا إذا ذل وهان وخضع لغيره.

والمعنى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد. وهم أذلاء خاضعون لولايتكم عليهم ... فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله. ولا يتخذون الدين الحق دينا لهم. يستحقون هذا الهوان في الدنيا ، أما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى.

هذا. ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ إن هذه الآية أصل في مشروعية الجزية ، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٤.

٢٥٣

كثير من الفقهاء ـ لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإسلام أو القتال أو الجزية ، أما غيرهم من مشركي العرب فلا يخيرون إلا بين الإسلام أو القتال.

قال القرطبي ما ملخصه : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة ، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية : فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم ، لقوله ـ تعالى ـ في شأن المشركين : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب.

وقال الشافعى : وتقبل من المجوس لحديث «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أى : في أخذ الجزية منهم.

وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب.

وكذلك مذهب مالك : فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجميا تغلبيا أو قرشيا ؛ كائنا من كان إلا المرتد ..» (١).

٢ ـ أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم ، وكفنا عن قتالهم ، ومساهمة منهم في رفع شأن الدولة الإسلامية التي أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم ، ومقدساتهم .. وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم ، ورعايتهم ، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة ..

وفي تاريخ الإسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى ، ومن ذلك ، ما جاء في كتاب الخراج لأبى يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد «وينبغي يا أمير المؤمنين ـ أيدك الله ـ أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ؛ فقد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من ظلم من أمتى معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه».

وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته : أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوفى بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم» (٢).

وجاء في كتاب «أشهر مشاهير الإسلام» أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٨ ه‍ ١٩٦١ م.

(٢) كتاب الخراج لأبى يوسف ص ١٤.

٢٥٤

شوكة التتار ، ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية ، أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من إطلاق جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له» (١).

وجاء في كتاب «الإسلام والنصرانية» للأستاذ الإمام محمد عبده ما ملخصه :

«... الإسلام كان يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين. ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة.

خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال.

جاءت السنة بالنهى عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» و «من آذى ذميا فليس منا».

واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام. ولست أبالى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عند ما بدأ الضعف في أبناء الإسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف.

ثم قال : أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله ، وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم ـ بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ـ طردتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا.

ولا يمنع غير المسيحي من تعدى المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد ، كما شهد التاريخ ، وكما يشهد كاتبوه.

ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفى من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٢.

٢٥٥

صفو الدولة ، ولا يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم» (١).

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال السيوطي : استدل بقوله ـ تعالى ـ (وَهُمْ صاغِرُونَ) من قال إنها تؤخذ بإهانة ، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ، ويحنى ظهره ، ويقبض الآخذ لحيته ... إلخ.

وقد رد الإمام ابن القيم على هذا القائل بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو من مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن أصحابه.

والصواب في الآية ، أن الصغار : هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك هو الصغار ، وبه قال الشافعى» (٢).

والذي نراه أن ما قاله الإمام ابن القيم في رده هو عين الصواب ، وأن ما نقله السيوطي عن بعضهم ... يتنافى مع سماحة الإسلام وعدله ورحمته بالناس.

هذا ، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا مجال لذكرها هنا ، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه والتفسير (٣).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض رذائل أهل الكتاب على سبيل الإجمال ، اتبع ذلك بتفصيل هذه الرذائل ، فحكى أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم الذميمة ، ونواياهم السيئة فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ

__________________

(١) الإسلام والنصرانية ص ٧٤.

(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٠٨.

(٣) راجع على سبيل المثال تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٩. وتفسير المنار ج ١٠ ص ٣٣١ وتفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٠٥.

٢٥٦

مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣)

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى. وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك ـ يا محمد ـ وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ..) الآية (١).

و «عزير» كاهن يهودي سكن بابل سنة ٤٥٧ ق م تقريبا ، ومن أعماله أنه جمع أسفار التوراة ؛ وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا عن العبرانية القديمة ، وألف أسفار : الأيام ، وعزرا ، ونحميا.

وقد قدسه اليهود من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة ، وأطلقوا عليه لقب «ابن الله».

قال البيضاوي : وإنما قالوا ذلك ـ أى : عزير ابن الله ـ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة «بختنصر» ـ سنة ٥٨٦ ق م ه من يحفظ التوراة. وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا لأنه ابن الله» (٢).

وقال صاحب المنار ما ملخصه : جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية ـ طبعة ١٩٠٣ ـ أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره ، وعبق شذا

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١٠.

(٢) تفسير البيضاوي ص ٢٢٣.

٢٥٧

ورده. وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة ..» (١).

وقد ذكر المفسرون هنا أقوالا متعددة في الأسباب التي حملت اليهود على أن يقولوا «عزير ابن الله» وأغلب هذه الأقوال لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولذا فقد ضربنا عنها صفحا (٢).

وقد نسب ـ سبحانه ـ القول إلى جميع اليهود مع أن القائل بعضهم ، لأن الذين لم يقولوا ذلك لم ينكروا على غيرهم قولهم ، فكانوا مشاركين لهم في الإثم والضلال ، وفيما يترتب على ذلك من عقاب.

وأما قول النصارى «المسيح ابن الله» فهو شائع مشهور ، ومن أسبابه أن الله ـ تعالى ـ قد خلق عيسى بدون أب على خلاف ما جرت به سنته في التوالد والتناسل ، فقالوا عنه «ابن الله».

وقد حاجهم ـ سبحانه ـ في سورة آل عمران بأن آدم قد خلقه الله من غير أب أو أم ، فكان أولى بنسبة البنوة إليه ، لكنهم لم ينسبوا إليه ذلك ، فينبغي أن يكون عيسى كآدم.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

وقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ذم لهم على ما نطقوا به من سوء يمجه العقل السليم ، والفكر القويم.

أى : ذلك الذي قالوه في شأن «عزير والمسيح» قول تلوكه ألسنتهم في أفواههم بدون تعقل ، ولا مستند لهم فيما زعموه سوى افترائهم واختلاقهم ، فهو من الألفاظ الساقطة التي لا وزن لها ولا قيمة ، فقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد أو والد أو صاحبة أو شريك.

قال ـ تعالى ـ (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٣).

ولقد أنذر ، سبحانه ، الذين نسبوا إليه الولد بالعقاب الشديد فقال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٤).

__________________

(١) راجع تفسير المنار ص ٣٧٧ وما بعدها ففيه كلام مفيد عن عقيدة اليهود والنصارى.

(٢) راجع ـ على سبيل المثال ـ تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١١. وتفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٧٢.

(٣) سورة مريم الآيات : ٩٢ ـ ٩٥.

(٤) سورة الكهف الآيتان ٤ ، ٥.

٢٥٨

وأسند ، سبحانه ، القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها ، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية ، حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع ، وإنما هو قول لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام ، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا القول إليهم ، أى : أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم.

قال صاحب الكشاف ، فإن قلت : كل القول يقال بالفم فما معنى قوله (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)؟.

قلت : فيه وجهان : أحدهما ـ أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من أى معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان. وذلك أن القول الدال على معنى ، لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير.

والثاني ـ أن يراد بالقول : المذهب ، كقولهم «قول أبى حنيفة» يريدون مذهبه وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب ، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد» (١).

وقوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر.

قال الجمل ما ملخصه : قرأ العامة (يُضاهِؤُنَ) بضم الهاء بعدها واو ـ. وقرأ عاصم «يضاهئون» بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة ـ فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة ، وفيه لغتان : ضاهأت وضاهيت ...» (٢).

والمراد بالذين كفروا من قبل : قيل ، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا ، الملائكة بنات الله وقيل ، المراد بهم قدماء أهل الكتاب ، أى ، أن اليهود والنصارى المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشابه قولهم في العزير وعيسى قول آبائهم الأقدمين ، ـ أى المعاصرين للعهد النبوي ـ قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر.

والأولى من هذين الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل. جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق ، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى.

قال صاحب المنار ، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٧٧.

٢٥٩

الابن لله والحلول والتثليث ، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفي الصين واليابان وقدماء المصريين وقدماء الفرس.

وهذه الحقيقة التاريخية ـ والتي بينها القرآن في هذه الآية ـ من معجزاته لأنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم ، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان» (١).

والمعنى. أن هؤلاء الضالين الذين قال بعضهم «عزير ابن الله» وقال البعض الآخر «المسيح ابن الله» ليس لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان ، ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم «فهم على آثارهم يهرعون» (٢).

وقوله. (قاتَلَهُمُ اللهُ) تعجيب من شناعة قولهم ، ودعاء عليهم بالهلاك فإن من قاتله الله لا بد أن يقتل ، ومن غالبه لا بد أن يغلب.

وعن ابن عباس ، أن معنى (قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن (٣).

وقوله : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعجيب آخر من انصرافهم الشديد عن الحق الواضح إلى الباطل المظلم المعقد.

و (أَنَّى) بمعنى كيف. و (يُؤْفَكُونَ) من الإفك بمنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه ، يقال ، أفكه عن الشيء يأفكه أفكا ، أى ، صرفه عنه وقلبه. ويقال ، أفكت الأرض أفكا ، أى : صرف ، عنها المطر.

والمعنى : قاتل الله هؤلاء الذين قالوا (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) والذين قالوا (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) لأنهم بقولهم هذا محل مقت العقلاء وعجبهم ، إذ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له ـ تعالى ـ ولد أو والد أو صاحبة أو شريك ..؟!.

إن ما قالوه ظاهر البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم.

وقوله ـ سبحانه (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل ، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة ، وأفعال ذميمة.

__________________

(١) تفسير المنار ـ بتصرف وتلخيص ج ١٠ ص ٣٩٩ وراجع تفسير في ظلال القرآن ج ١٠ ص ٢٠٠.

(٢) سورة الصافات. الآية ٧٠.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١٣.

٢٦٠