التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)

قال الآلوسى : قوله تعالى (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً ...) تحريض على القتال بأبلغ وجه ، لأن الاستفهام فيه للإنكار ، والاستفهام الإنكارى في معنى النفي ، وقد دخل هنا على نفى ، ونفى النفي إثبات. وحيث كان الترك منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه ، فيفيد الحث والتحريض عليه. بأقوى الأدلة ، وأسمى الأساليب (١).

وقد ذكر ـ سبحانه ـ هنا ثلاثة أسباب كل واحد منها يحمل المؤمنين على قتال المشركين بغلظة وشجاعة.

أما السبب الأول فهو قوله تعالى : (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أى : نقضوا عهودهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لتأكيد هذه العهود.

ومن مظاهر ذلك أن هؤلاء المشركين الذين تعاهدوا معكم في صلح الحديبية على ترك القتال عشر سنين. قد نقضوا عهودهم بمساعدة حلفائهم بنى بكر على قتال حلفائكم بنى خزاعة عند أول فرصة سنحت لهم.

والسبب الثاني قوله. سبحانه. (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) والهم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه.

أى : وهموا بإخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة التي ولد فيها وعاش بها زمنا طويلا .. لكنهم لم يستطيعوا ذلك ، بل خرج باختيار. وبإذن الله له في الهجرة.

وقد فصل سبحانه. ما هموا به في قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٤ ـ بتصرف يسير.

٢٢١

يُخْرِجُوكَ ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١).

وإنما اقتصر ، سبحانه ، في الآية التي معنا على همهم بإخراجه. صلى‌الله‌عليه‌وسلم. من مكة ، مع أن آية الأنفال قد بينت أنهم قد هموا بأحد أمور ثلاثة ـ لأن الإخراج هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر ، أما القتل والحبس فلم يكن لهما أثر في الخارج.

وقيل : إنه. سبحانه. قد اقتصر على الأدنى وهو الهم بالإخراج ، ليعلم غيره بالطريق الأولى ، إذ الإخراج أهون من القتل والحبس.

وأما السبب الثالث فهو قوله. سبحانه. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى : وهم الذين كانوا بادئين بقتالكم في أول لقاء بينكم وبينهم وهو يوم بدر ، كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم في كل قتال بعد ذلك ، كما حدث منهم في أحد والخندق وكما حدث منهم مع حلفائكم من بنى خزاعة.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال. فهم البادئون بالقتال والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقابلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ (٢).

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد ذكرت ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بحمل المؤمنين على قتال المشركين .. فكيف وقد توفرت هذه الأمور الثلاثة في هؤلاء المشركين؟.

ولم تكتف الآية الكريمة بهذا التهييج والتحريض للمؤمنين على القتال ، بل أمرتهم بأن تكون خشيتهم من الله وحده ، فقال سبحانه (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أى : أتتركون ـ أيها المؤمنون ـ قتال هؤلاء المشركين الذين (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) خشية منهم ..؟ لا ، إن هذا لا يليق بكم ، وإنما الذي يليق بكم ـ إن كنتم مؤمنين حقا ـ أن تكون خشيتكم من الله وحده.

قال الإمام الرازي : وهذا الكلام يقوى داعية القتال من وجوه :

الأول : أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوى هذه الداعية.

الثاني : أنك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك؟ كان ذلك تحريكا لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه.

الثالث : أن قوله : (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) يفيد ذلك كأنه قيل : إن كنت تخشى أحدا

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٣٠.

(٢) الكشاف ج ٢ ص ٢٥٣.

٢٢٢

فالله أحق أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة ..

الرابع : أن قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا ، وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه : أنكم إذا لم تقدموا لا تكونوا كذلك ، فثبت أن هذا الكلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد (١).

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ أمرا صريحا قاطعا بمقاتلة المشركين. ورتب على هذه المقاتلة خمسة أنواع من الفوائد فقال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ).

أى : أقدموا على قتالهم وباشروه بشجاعة وإخلاص كما أمركم ربكم ، فإنكم متى فعلتم ذلك (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) بسبب ما تنزلونه بهم من قتل وأسر وجراحات بليغة ، واغتنام للأموال.

وأسند ـ سبحانه ـ التعذيب إليه ، لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب وما يفضيان إليه من القتل والجرح .. والأسر. تلك هي الفائدة الأولى من قتالهم.

أما الفائدتان الثانية والثالثة فتتجليان في قوله. تعالى. (وَيُخْزِهِمْ ؛ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ).

أى : ويخزهم بسبب ما ينزل بهم من هزيمة وهوان وهم يتفاخرون بقواتهم وبأسهم ، وينصركم عليهم بأن يجعل كلمتكم هي العليا وكلمتهم هي السفلى.

قال الإمام الرازي : فإن قالوا : لما كان حصول ذلك الخزي مستلزما لحصول هذا النصر ، كان إفراده بالذكر عبثا؟

فتقول : ليس الأمر كذلك ، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلا أن المؤمنين قد تحصل لهم آفة لسبب آخر ، فلما قال : (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر» (٢).

والفائدة الرابعة بينها ـ سبحانه ـ في قوله. (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).

أى : أنكم بقتالكم لهم وانتصاركم عليهم ، تشفون قلوب جماعة من المؤمنين من غيظها المكظوم ، لأن هذه الجماعة قد لقيت ما لقيت من أذى المشركين وظلمهم وغدرهم .. فكان انتصاركم عليهم شفاء لصدورهم.

قالوا : والمراد بهؤلاء القوم بنو خزاعة الذين غدر بهم بنو بكر بمساعدة قريش.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٣٥ ـ بتصرف يسير.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٢ طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٩٣٨.

٢٢٣

والأولى أن تكون الجملة الكريمة عامة في كل من آذاهم المشركون.

أما الفائدة الخامسة فقد بينها ـ سبحانه. في قوله (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) : أى : ويذهب غيظ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين ويزيل كربها وغمها ، لأن الشخص الذي طال أذى خصمه له. ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإن هذا الشخص في هذه الحالة يعظم سروره ، ويفرح قلبه ، ويتحول غيظه السابق إلى غبطة وارتياح نفسي.

قال الآلوسى : «وظاهر العطف أن إذهاب الغيط غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء يكون بقتل الأعداء وخزيهم ، وإذهاب الغيظ يكون بالنصر عليهم ... وقيل ؛ إذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر ، وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله به عليهم من تعذيبه لأعدائهم ، ونصرته لهم عليهم ، ولعل إذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه ، فيكون ذكره من باب الترقي ...» (١).

وقوله : تعالى ـ (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كلام مستأنف لبيان شمول قدرة الله ـ تعالى ـ ، وواسع رحمته ، وبالغ حكمته.

أى : ويتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه من عباده فيوفقه للإيمان ، ويشرح صدره للإسلام ، والله ـ تعالى عليم بسائر شئون خلقه ، حكيم في كل أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته ، فامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله ـ تعالى ـ إيمانا حقيقيا ؛ لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة بالغضب وبالحمية من أجل الدين ، ومن أجل الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين الصادقين.

كما تدل على أنها من المعجزات ، لأنه ـ تعالى ـ أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت كما أخبر فقد انتصر المؤمنون ، وأسلم من المشركين أناس كثيرون ـ فيكون ذلك إخبارا عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجزة» (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض ، ببيان بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٥٥ ـ بتصرف وتلخيص.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤.

٢٢٤

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٦)

و «أم» هنا للاستفهام الإنكارى. وحسب ـ كما يقول الراغب ـ مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله ، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع ، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك. ويقارب ذلك الظن ، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما على الآخر (١).

والواو في قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ...) حالية ، و (لَمَّا) للنفي مع توقع الحصول ، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى التبيين والإظهار والتمييز.

وقوله : (وَلِيجَةً) أى ، بطانة ومداخلة. من الولوج في الشيء أى الدخول فيه.

يقال : ولج يلج ولوجا إذا دخل. وكل شيء أدخلته في شيء ولم يكن منه فهو وليجة.

والمراد بالوليجة هنا : البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرار المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم.

قال ابن جرير : قوله : (وَلِيجَةً) هو الشيء يدخل في آخر غيره. يقال منه : ولج فلان في كذا يلجه فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين ، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم (٢).

والمعنى : أحسبتم ـ أيها المؤمنون ـ أن تتركوا دون أن تؤمروا بقتال المشركين ، والحال أن الله ـ تعالى ـ لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائكم .. ممن جاهدوا منكم بدون إخلاص؟

لا. أيها المؤمنون ، إن كنتم حسبتم ذلك فهو حسبان باطل ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في جهاده من غيره ، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد الامتحان والتمحيص.

قال ابن كثير : والحاصل أنه ـ تعالى ـ لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه ، وهو ـ تعالى ـ العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ١١٧ للراغب الأصفهاني.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٩٢.

٢٢٥

كان كيف كان يكون ، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه» (١).

وقوله تعالى. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) بيان لشمول علمه ـ سبحانه لجميع شئون خلقه.

أى : والله ـ تعالى ـ خبير بجميع أعمالكم ، مطلع على نياتكم ، فأخلصوا له العمل والطاعة ، لتنالوا ثوابه ورضاه وعونه.

وبذلك نرى السورة الكريمة من أولها إلى هنا قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين ، وأعطتهم مهلة يتدبرون خلالها أمرهم ، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة ـ أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم .. ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم ، والفوائد التي تترتب على هذه المجاهدة ، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة.

ثم أخذت السورة بعد ذلك في إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله ، فبينت أنه يحرم على المشركين أن يعمروا مساجد الله ، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنون الصادقون ، فقال ـ تعالى ـ :

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)

قال الجمل : وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر ، منهم العباس بن عبد المطلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيرونهم

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٠.

٢٢٦

بالشرك. وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطيعة الرحم.

فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له : وهل لكم محاسن؟ قال : نعم. ونحن أفضل منكم. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة ـ أى نخدمها ـ ، ونسقى الحجيج ، ونفك العاني ـ أى الأسير ـ فنزلت هذه الآية (١).

وقال صاحب المنار : والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين ، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم (٢).

وقوله : (يَعْمُرُوا) من العمارة التي هي نقيض الخراب. يقال : عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والإصلاح والزراعة.

والمراد بعمارة المساجد ، هنا : ما يشمل إقامة العبادة فيها ، وإصلاح بنائها وخدمتها ، ونظافتها ، واحترامها ، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي بنيت من أجله.

وقوله : (مَساجِدَ اللهِ) قرأ أبو عمرو وابن كثير مسجد الله بالإفراد ، فيكون المراد به المسجد الحرام : لأنه أشرف المساجد في الأرض ، ولأنه قبلة المساجد كلها .. فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه.

وقرأ الجمهور (مَساجِدَ اللهِ) بالجمع ، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جمع مضاف في سياق النفي فيعم سائر المساجد ، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أوليا ، لأن تعميره مناط افتخارهم ، وأهم مقاصدهم. وهذه القراءة آكد في النفي ، لأن نفى الجمع يدل على النفي عن كل فرد ، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.

قوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) حال من الواو في قوله (يَعْمُرُوا).

وفائدة المجيء بهذه الجملة : الإشعار بأن كفرهم كفر صريح ، وأنهم يعترفون به اعترافا لا يملكون إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره.

والمعنى : لا ينبغي ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التي بنيت لعبادته وحده

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٧٠.

(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٤٩.

٢٢٧

سبحانه. وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها ألسنتهم ، وأيدتها أعمالهم.

فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد ، وإنما ينطقون بالكفر والإشراك. وهم لا يعملون أعمال المؤمنين ، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التي تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة.

قال الفخر الرازي : وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها :

الأول ـ وهو الأصح : أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان ، وتكذيب القرآن ، وإنكار نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكل ذلك كفر ؛ فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر ، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة.

الثاني. قال السدى : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن.

الثالث : أنهم كانوا يطوفون عراة ؛ وكلما طافوا شوطا سجدوا للأصنام. وكانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك (١).

ثم بين ـ سبحانه : في ختام الآية سوء عاقبتهم فقال (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) :

أى : أولئك المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التي كانوا يفتخرون بها مثل العمارة والحجابة والسقاية لأنها مع الكفر لا قيمة لها ، (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم.

ثم بين. سبحانه. أن المؤمنين الصادقين هم الجديرون بعمارة مساجد الله ، فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ).

أى : ليس المشركون أهلا لعمارة مساجد الله ؛ وإنما الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وآمنوا بما فرضه الله عليهم من فرائض فأدوها بالكيفية التي أرشدهم إليها نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم في صلاتهم خاشعون ؛ وللزكاة معطون بسخاء وإخلاص.

وهم بجانب ذلك لا يخشون أحدا إلا الله في تبليغ ما كلفوا بتبليغه من أمور الدين ؛

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٨.

٢٢٨

ولا يقصرون في العمل بموجب أوامر الله ونواهيه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول. عليه الصلاة والسلام. لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين كأنهما شيء واحد .. انطوى تحت ذكر الإيمان بالله. تعالى. الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قلت : كيف قال : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.

قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف : وإذا اعترض أمران : أحدهما حق الله والآخر حق نفسه ، آثر حق الله على حق نفسه (١).

وقوله ـ تعالى ـ (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.

أى : فعسى أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة من الإيمان بالله واليوم الآخر .. أن يكونوا من المهتدين إلى الجنة وما أعد فيها من خير عميم ، ورزق كبير.

قال الآلوسى : وإبراز اهتدائهم لذلك ـ مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة ـ في معرض التوقع ، لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين. وهم من هم. إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فكيف يقطع المشركون. وهم بيت المخازي والقبائح. أنهم مهتدون؟!.

وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم ، وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء (٢).

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :

١ ـ أن أعمال البر الصادرة عن المشركين. كإطعام الطعام ، وإكرام الضيف .. إلخ. لا وزن لها عند الله ، لاقترانها بالكفر والإشراك به ـ سبحانه ـ.

قال. تعالى. : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٣).

٢ ـ أن عمارة مساجد الله من حق المؤمنين وحدهم ، أما المشركون فإنهم لا يصح منهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٥ ـ بتصريف يسير.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٥٩ ـ بتصريف وتلخيص.

(٣) سورة الفرقان الآية ٢٣.

٢٢٩

قال الجمل. لا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله بدخولها والقعود فيها. فإذا دخل الكافر المسجد بغير إذن من مسلم عزّر ، وإن دخل بإذنه لم يعزر لكن لا بد من حاجة. فيشترط للجواز الإذن والحاجة. ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سوارى المسجد وهو كافر (١).

٣ ـ التنويه بشأن بناء المساجد ، والتعبد فيها ، وإصلاحها ، وخدمتها ، وتنظيفها ، والسعى إليها ، واحترامها ، وصيانتها عن كل ما يتنافى مع الغرض الذي بنيت من أجله ، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى ، ومن ذلك : ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عثمان بن عفان. رضى الله عنه. قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة».

وروى الشيخان. أيضا. عن أبى هريرة. رضى الله عنه. قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من غدا إلى المسجد أو راح ـ أى سار قبل الزوال أو بعده لعبادة الله في المسجد ـ أعد الله له نزلا ـ أى مكانا طيبا في الجنة ـ كلما غدا أو راح».

وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» قال الله. تعالى ـ : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..) الآية.

وروى أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد ، وأن تنشد فيه ضالة ؛ أو ينشد فيه شعر». وروى مسلم في صحيحه عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله تعالى. وقراءة القرآن» (٢).

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بشأن المساجد.

ثم بين. سبحانه. بعد ذلك أنه لا يصلح أن يسوى بين هؤلاء المشركين ـ لمجرد سقايتهم الحجاج وعمارتهم المسجد الحرام. وبين المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته فقال ـ سبحانه ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٧٠.

(٢) من كتاب «رياض الصالحين» للإمام النووي ص ٤١٨ ، ص ٤١٩ ، ص ٦١٤ ، ٦١٥ طبعة عيسى الحلبي.

٢٣٠

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي. صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل : ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله. تعالى. : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..) الآية (١) وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..) : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام. ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقى الحاج فأنزل الله. تعالى. : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..) (٢).

وقال صاحب المنار ، بعد أن ساق عددا من الروايات في سبب نزول هذه الآيات. :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٠.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٩٦.

٢٣١

والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده ، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه. من أعمال البر الهينة المستلذة. وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات البدنية والمالية (١).

والسقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر. بتخفيف الميم.

والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان العباس. رضى الله عنه. هو الذي يتولى إدارة هذا العمل.

قال الجمل : السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم. كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقى للناس ، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاما ، وأقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له .. ويظهر أن المراد بها هنا المصدر. أى : إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم (٢).

والمراد بعمارة المسجد الحرام : ما يشمل العبادة فيه ، وإصلاح بنائه ، وخدمته ، وتنظيفه .. كما سبق أن بينا.

والهمزة في قوله. (أَجَعَلْتُمْ) للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى.

والكلام على حذف مضاف ، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى : أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله؟ ويؤيده قراءة أجعلتم سقاة الحاج بضم السين. جمع ساق. وعمرة المسجد الحرام بفتح العين والميم جمع عامر.

وعلى هذا المعنى يكون التقدير في جانب الصفة ، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى. أجعلتموهما ، أى السقاية والعمارة. كإيمان من آمن وجهاد من جاهد؟

والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان. كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام.

والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين. وقد جاء هذا الإنكار صريحا في قوله تعالى. (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ).

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٥٩.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٧١.

٢٣٢

أى : لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني في حكم الله ، إذ أن الفريق الثاني له بفضل إيمانه الصادق. وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله.

فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده ثم ختم ـ سبحانه. الآية الكريمة بقوله. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

أى. والله تعالى. لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق ، وتمييزه من الباطل ، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية.

وقوله. (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ..») استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد ، وتكميلا له.

أى : (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، (وَهاجَرُوا) من دار الكفر إلى دار الإيمان فرارا بدينهم ، (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمة الله (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أى : أعلى مقاما وأشرف منزلة في حكم الله وتقديره من أهل سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة الكريمة وهي : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال ، والجهاد بالنفس.

قال الفخر الرازي. فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين. كما جاء في بعض روايات أسباب النزول. فكيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة.

قلنا. الجواب عنه من وجوه. الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله. سبحانه (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

الثاني : أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات ، تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات ، فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.

الثالث : أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة. والمراد منه ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنما بطل ثوابها في حق الكفار بسبب كفرهم (٢).

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٥٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ١٤ وتلخيص يسير.

٢٣٣

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أى : وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، هم الفائزون ، بثواب الله الأعظم ، وبرضائه الأسمى الذي لا يصل إليه ، سواهم ممن لم يفعل فعلهم.

ثم فصل ـ سبحانه ـ هذا الفوز فقال : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

أى يبشرهم ربهم على لسان نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أى : برحمة واسعة منه ـ سبحانه ـ وبرضائه التام عنهم ، وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أى : ماكثين في تلك الجنات مكثا أبديا.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.

قال الآلوسى : ذكر أبو حيان أنه ـ تعالى ـ لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة ، والجهاد بالنفس والمال ، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث : الرحمة ، والرضوان ، والجنة.

وبدأ ـ سبحانه ـ بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق.

وثنى ـ سبحانه ـ بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي هو بذل الأنفس والأموال.

وثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان ، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها ـ في سبيله أعطاهم بدلها دارا عظيمة دائمة وهي الجنات.

وفي الحديث الصحيح يقول الله ـ سبحانه ـ : «يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك؟ فيقول ـ سبحانه ـ لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه : أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (١).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦٠ ص ٦٢.

٢٣٤

الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم ، ولم يجاهد جهادهم ...

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما أعده من عطاء عظيم للمؤمنين الصادقين ، الذين هاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم ... أتبع ذلك بتوجيه نداء إليهم ، حثهم فيه على أن يجردوا أنفسهم لعقيدتهم ، وأن يقاطعوا أعداءهم في الدين مهما بلغت درجة قرابتهم منهم ، وأن يؤثروا حب الله ورسوله على كل شيء من زينة الحياة الدنيا فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)

والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقا (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ) المشركين (أَوْلِياءَ) وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم ، وتطلعونهم على ما لا يجوز اطلاعهم عليه من شئونكم ، وتلقون إليهم بالمودة .. فإن ذلك يتنافى مع الإيمان الحق ، ومع الإخلاص للعقيدة وإيثارها على كل ما سواها من زينة الحياة.

والمراد النهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة أى فرد من أفراد المشركين ، لأن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩٢.

٢٣٥

قال القرطبي : وخص ـ سبحانه ـ الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.

ولم يذكر الأبناء في هذه الآية ، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء : يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال نعم. «صلى أمك» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) قيد في النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب : طلب المحبة : يقال : استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.

أى : لا تتخذوهم أولياء إن اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا على شركهم وباطلهم .. أما إذا أقلعوا عن ذلك ودخلوا في دينكم ، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.

وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.

أى : ومن يتولهم منكم في حال استحبابهم الكفر على الإيمان ، فأولئك الموالون لهم هم الظالمون لأنفسهم ، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها ، وتجاوزوا حدود الله التي نهاهم عن تجاوزها ، وسيجازيهم ـ سبحانه ـ على ذلك بما يستحقونه من عقاب.

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن للناس هذه الحقيقة : وهي أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ) يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين : (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الذين أنتم بضعة منهم ، (وَأَبْناؤُكُمْ) الذين هم قطعة منكم (وَإِخْوانُكُمْ) الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم (وَأَزْواجُكُمْ) اللائي جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة (وَعَشِيرَتُكُمْ) أى : أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أى : اكتسبتموها فهي عزيزة عليكم.

وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب مطلقا :

(وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) أى : تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الإيمان.

يقال : كسد الشيء من باب نصر وكرم. كسادا وكسودا ، إذا قل رواجه وربحه. (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أى : ومنازل تعجبكم الإقامة فيها.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ الآية ٩٤.

٢٣٦

قل لهم يا محمد : إن كان كل ذلك ـ من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن ـ (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

أى : إن كانت هذه الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق ، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم ، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل.

فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الآباء والأبناء ... على محبة الله ورسوله ، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى : والله ـ تعالى ـ قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :

(١) تحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم ، واعتبار هذه الموالاة من الكبائر ، لوصف فاعلها بالظلم : قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

(٢) قوة إيمان الصحابة ، وسرعة امتثالهم لأوامر الله ، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم في الدين ، بل وحاربوهم وقتلوهم.

قال ابن كثير : روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر الجراح ، قصده ابنه أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ـ التي بآخر سورة المجادلة ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ ، أَوْ أَبْناءَهُمْ ، أَوْ إِخْوانَهُمْ ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

(٣) إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب ، وقد وردت عدة أحاديث في هذه المعنى ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبى عقيل

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٢.

٢٣٧

زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر : فأنت والله أحب إلى من نفسي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الآن يا عمر» (١).

(٤) في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا ، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما ، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء .. ولذا قال الإمام الزمخشري : وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه ، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته ، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ (٢).

(٥) قال بعض العلماء : وليس المطلوب. من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ...) إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة .. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة ، وهي المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.

ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج .. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق. في غير سرف ولا مخيلة.

بل إن المتاع حينئذ لمستحب ، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده. وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.

ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله .. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٧.

٢٣٨

الله عليهم. حيث نصرهم ـ سبحانه ـ في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال ـ تعالى ـ :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)

قال ابن كثير. هذه أول آية نزلت من براءة يذكر ـ تعالى ـ المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده ـ تعالى ـ : وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عنده سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم ... ثم أنزل الله نصره على رسوله والمؤمنين.

وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، ومعهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر.

فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين. فسار بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح.

٢٣٩

انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد .. فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثبت معه من أصحابه قريب من مائة.

ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة ـ أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه ـ فجعل ينادى بهم .. فجعلوا يقولون : لبيك لبيك.

وانعطف الناس فتراجعوا .. فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين ـ للمرة الأولى ـ جيش تعداده اثنا عشر ألفا ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة .. أصيبوا بالهزيمة في أول معركة .. ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئا إذا لم يكن عون الله معهم.

فقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداوموا على طاعته ومحبته. وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت.

والمواطن : جمع موطن. وهو المكان الذي يقيم فيه الإنسان. يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له.

والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم.

قال الآلوسى : وقوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز .. وأوجب الزمخشري كون (يَوْمَ) منصوبا بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة.

أى : «ونصركم يوم حنين ..» (٢).

وقوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له.

__________________

(١) تفسير ابن كثير. بتصرف وتلخيص. ج ٢ ص ٣٤٣. وراجع تفاصيل هذه الغزوة في السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ من ص ٨٠ إلى ص ١٤٣. طبعة الحلبي سنة ١٩٣٦ تحقيق مصطفى السقا وزميليه.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٥ ـ بتصرف وتلخيص :

٢٤٠