التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات ، فإنكم لا تعجزون الله بل الله هو الذي يعجزكم ، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملكه وتحت سلطانه .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد هذا الإعلان فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...).

الأذان : الإعلام تقول : آذنته بالشيء إذا أعلمته به. ومنه الأذان للصلاة أى الإعلام بحلول وقتها. وهو بمعنى الإيذان كما أن العطاء بمعنى الإعطاء.

قال الجمل : وهو مرفوع بالابتداء. و (مِنَ اللهِ) إما صفته أو متعلق به (إِلَى النَّاسِ) الخبر ، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف. أى : وهذه ، أى : الآيات الآتي ذكرها إعلام من الله ورسوله ... (٢).

والمعنى : وهذه الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم ، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم.

وأسند ـ سبحانه ـ الأذان إلى الله ورسوله ، كما أسندت البراءة إليهما ، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره :

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.

فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس «من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث (٣)».

واختير يوم الحج الأكبر لهذا الإعلام ، لأنه اليوم الذي يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر عن طريقهم في جميع أنحاء البلاد.

وأصح ما قيل في يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر. وقيل : هو يوم عرفة ، وقيل : هو جميع أيام الحج.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٢٠.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٥.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٤.

٢٠١

وقد رجح ابن جرير ـ بعد أن بسط الأقوال في ذلك ـ أن المراد بيوم الحج الأكبر : يوم النحر فقال. وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا : قول من قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر ، لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين يوم النحر ، هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم النحر : «أتدرون أى يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر» (١).

وقال بعض العلماء : قال ابن القيم : والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة. وفي سنن أبى داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوم الحج الأكبر يوم النحر» ، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.

ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة .. ويكون فيه ذبح القرابين ، وحلق الرءوس ، ورمى الجمار ، ومعظم أفعال الحج (٢).

وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التي حكت ما كان ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال : كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادى ، فكان إذا صحل ناديت ـ أى كان إذا بح صوته وتعب من كثرة النداء ناديت ـ قلت : بأى شيء كنتم تنادون؟ قال : بأربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعهده إلى مدته (٣).

وسمى يوم النحر بالحج الأكبر ، لأن العمرة كانت تسمى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج ـ كما قال ابن القيم.

هذا ، وللعلماء أقوال في إعراب لفظ (وَرَسُولِهِ) من قوله ـ تعالى ـ (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ). وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال : قوله (وَرَسُولِهِ) بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة. أو على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضا بالنصب على أنه مفعول معه ، أو معطوف على لفظ الجلالة ، وفي الرفع ثلاثة

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ من ص ٦٧ إلى ص ٧٦.

(٢) تفسير القاسمى ـ بتصرف يسير ـ ج ٨ ص ٢٠٦٨ ، طبعة عيسى الحلبي الطبعة الأولى سنة ١٣٧٧ ه‍ سنة ١٩٥٨.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣٣.

٢٠٢

وجوه : أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أى : ورسوله برىء منهم ، وإنما حذف للدلالة عليه. والثاني أنه معطوف على الضمير المستتر في الخبر ... والثالث : أنه معطوف على محل اسم أن (١) ...».

ثم أردف ـ سبحانه ـ هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم في الإيمان وتحذيرهم من الكفر والعصيان فقال : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

أى : فإن تبتم أيها المشركون من كفركم ، ورجعتم إلى الإيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق (خَيْرٌ لَكُمْ) من التمادي في الكفر والضلال : (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم عن الإيمان ، وأبيتم إلا الإقامة على باطلكم (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أى : فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله ، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه ، لأنكم أينما كنتم فأنتم في قبضته وتحت قدرته.

وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولي والإعراض عن الحق.

أى : وبشر ـ يا محمد ـ هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم في الآخرة بعد إنزال الخزي والمذلة بهم في الدنيا.

ولفظ البشارة ورد هنا على سبيل الاستهزاء بهم ، كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشتم.

وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) استثناء من المشركين في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

والمعنى : اعلموا. أيها المؤمنون أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين بسبب نقضهم لها ، لكن الذين عاهدتموهم منهم ولم ينقضوا عهودهم ، ولم ينقصوكم شيئا من شروط العهد ، ولم يعاونوا عليكم أحدا من الأعداء ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ولا تعاملوهم معاملة الناكثين.

فالآية الكريمة تدل على أن المراد بالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة الأشهر ، هم أولئك الذين عرفوا بنقض العهود.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٤.

٢٠٣

أما الذين عاهدوا ووفوا بعهودهم ، فإن هؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم وفاء بوفاء ، وكرامة بكرامة.

وعبر ـ سبحانه ـ بثم في قوله : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادى المدة وتطاولها.

وقراءة الجمهور (يَنْقُصُوكُمْ) بالصاد المهملة ، وعليها يجوز أن يتعدى لواحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أى : لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا ، ويجوز أن يتعدى لاثنين فيكون شيئا مفعوله الثاني ، أى : لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد بل أدوها بتمامها.

وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وأبو زيد ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة وهي على حذف مضاف أى : ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

وفي تنكير كلمة «شيئا» وكلمة «أحدا» دلالة على أن انتقاص المعاهدة ولو شيئا يسيرا ، وأن معاونة الأعداء بأى وسيلة مهما قلت ... كل ذلك مبيح لنبذ العهد ، لأن الخيانة الصغيرة كثيرا ما تؤدى إلى الخيانة الكبيرة.

قالوا : والمراد بهؤلاء الذين أمر المسلمون بإتمام عهدهم معهم : بنو ضمرة وبنو مدلج وهم من قبائل بنى بكر وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر ، ولم ينقضوا مواثيقهم.

وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، والتنبيه على أن الوفاء بالعهد إلى نهايته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ويحبهم بسببها.

قال صاحب المنار : والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا ، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره.

فإن نقص شيئا ما من شروط العهد ، وأخل بغرض ما من أغراضه عد ناقضا ، لقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) ، ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي فيصدق بأدنى إخلال بالعهد.

ومن الضروري أن من شروطه التي ينتقض بالإخلال بها ، عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا ، وقد صرح بهذا للاهتمام به ، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله ، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر ، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر ، أى معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به ، كمباشرته للقتال بنفسه.

٢٠٤

يقال : ظاهره إذا عاونه ، وظاهره عليه إذا ساعده عليه ، وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة ، ومنه بعير ظهير أى قوى» (١).

وقال بعض العلماء : ويؤخذ من هذا أن الإسلام يقرر في حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ ، على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته.

وفي ذلك يقول الكمال بن الهمام الفقيه الحنفي ، وهو بصدد قوله ، تعالى. (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أنه لا يكفى مجرد إعلانهم ، بل لا بد من مضى مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته ، ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضى المدة.

وذلك كله أثر من آثار وجوب رعاية العهد والبعد عن النكث بكل ما يستطاع (٢).

وبعد أن قررت السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين ، وأمرت بالوفاء لمن وفي بعهده منهم .. بعد كل ذلك أخذت في بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء المهلة الممنوحة لهم فقال ـ تعالى ـ :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

وقوله : (انْسَلَخَ) من السلخ بمعنى الكشط ، يقال : سلخ الإهاب عن الشاة يسلخه ويسلخه سلخا إذا كشطه ونزعه عنها. أو بمعنى الإخراج من قولهم : سلخت الشاة عن الإهاب إذا أخرجتها منه ، ثم استعير للانقضاء والانتهاء فانسلاخ الأشهر استعارة لانقضائها والخروج منها.

قال الآلوسى : والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة ؛ وذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان ، وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين ، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه ، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ١٨٤.

(٢) تفسير القرآن الكريم ص ٦١٨ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت.

٢٠٥

بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدى المسلمين فنيط قتالهم بزوالها» (١).

والمراد بالأشهر الحرم : أشهر الأمان الأربعة التي سبق ذكرها في قوله ، تعالى ، (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، وعليه فتكون أل في قوله (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) للعهد الذكرى.

وسميت حرما لأنه. سبحانه. جعلها فترة أمان للمشركين ، ونهى المؤمنين عن التعرض لهم فيها.

ووضع ـ سبحانه ـ المظهر موضع المضمر حيث لم يقل فإذا انسلخت ، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها.

وقيل المراد بالأشهر الحرم هنا : الأشهر المعروفة وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير.

قال ابن كثير : وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفى عنه وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، وابن إسحاق ، وقتادة والسدى وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر التيسير الأربعة المنصوص عليها بقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، ثم قال (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أى : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتى بيان حكمها في آية أخرى وهي قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ...) (٢).

والمراد بالمشركين في قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أولئك الخائنون الذين انتهت مدة الأمان لهم ، أما الذين لم يخونوا ولهم عهود مؤقتة بمدة معينة فلا يحل للمسلمين قتالهم ، إلا بعد انتهاء هذه المدة ، كما سبق أن بينا قبل قليل تفسير قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ...).

والمعنى : فإذا انتهت هذه الأشهر الأربعة التي جعلها الله مهلة للخائنين ، فاقتلوا ـ أيها المؤمنون ـ أعداءكم المشركين (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أى : في أى مكان تجدونهم فيه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٤٤. طبعة منير الدمشقي.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣٥ ـ بتصرف يسير ـ.

٢٠٦

(وَخُذُوهُمْ) وهو كناية عن الأسر ، وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ ، (وَاحْصُرُوهُمْ) أى : وامنعوهم من الخروج إذا كانت مصلحتكم في ذلك (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) والمرصد الموضع الذي يقعد فيه للعدو لمراقبته ، يقال : رصدت الشيء أرصده رصدا ورصدا إذا ترقبته.

والمعنى : واقعدوا لهم في كل موضع يجتازون منه في أسفارهم ، حتى تسد السبل في وجوههم ، وتضعف شوكتهم ، وتذهب ريحهم ، فيستسلموا لكم.

والمتدبر لهذه الآية الكريمة يرى أن هذه الوسائل الأربع ـ القتل والأسر والمحاصرة والمراقبة ـ هي الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء ، ولا يخلو عصر من العصور من استعمال بعضها أو كلها عند المهاجمة.

وهكذا نرى تعاليم الإسلام تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة لكيد أعدائهم ، والعمل على هزيمتهم .. ، ما دام هؤلاء الأعداء مستمرين في طغيانهم وعدوانهم وانتهاكهم لحدود الله ـ تعالى ـ.

أما إذا فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له ، فإن الآية الكريمة ترفع عنهم السيف ، وتأمر المؤمنين بإخلاء سبيلهم.

استمع إلى بقيتها حيث تقول : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أى : عليكم ـ أيها المؤمنون ـ إذا ما انتهت أشهر الأمان الأربعة أن تقتلوا المشركين الناكثين لعهودهم أينما وجدتموهم وأن تأسروهم وتحبسوهم وتراقبوهم على كل طريق حتى تضعف شوكتهم فينقادوا لكم .. (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك بأن دخلوا في الإسلام فاتركوا التعرض لهم ، وكفوا عن قتالهم ، وافتحوا المسالك والطرق في وجوههم.

واكتفى ـ سبحانه ـ بذكر الصلاة والزكاة عن ذكر بقية العبادات ، لكونهما الأساسين للعبادات البدنية والمالية.

وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل قصد به التعليل لوجوب إخلاء سبيلهم أى ، إن فعلوا ذلك فخلوا سبيلهم ، ولا تعاملوهم بما كان منهم من شرك ، فإن الإسلام يجب ما قبله ، وإن الله قد غفر لهم ما سلف من الكفر والغدر بفضله ورحمته.

قال الإمام ابن كثير : وقد اعتمد الصديق ـ رضى الله عنه ـ في قتال ما نعى الزكاة على هذه الآية وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته ، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي

٢٠٧

هي حق الله ـ تعالى ـ وبعدها الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله الصلاة والزكاة.

وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة».

وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» ورواه البخاري وغيره.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه (١).

وبذلك ترى هذه الآية قد جمعت في إرشادها بين الترغيب والترهيب ؛ فقد أمرت المؤمنين بأن يستعملوا مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإرهابهم ثم أمرتهم في الوقت نفسه بإخلاء سبيلهم متى تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ..

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حكم المصرين على الشرك وهو قتالهم وأخذهم ، وحكم الراجعين عنه وهو إخلاء سبيلهم. بعد ذلك بين ـ سبحانه ـ حكم المشركين الذين يطلبون الأمان لمعرفة شرائع الإسلام فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(٦)

وقوله : استجارك ، أى ، طلب جوارك وحمايتك من الاعتداء عليه ، وقد كان من الأخلاق الحميدة المتعارف عليها حماية الجار والدفاع عنه ، حتى سمى النصير جارا ، وعلى هذا المعنى جاء قوله ، تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) (٢) أى : نصير لكم.

و (إِنْ) شرطية و (أَحَدٌ) مرفوع بفعل مضمر يفسره الفعل الظاهر وهو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٥. بتصرف وتلخيص.

(٢) سورة الأنفال الآية ٤٨.

٢٠٨

(اسْتَجارَكَ) والمعنى : وإن استأمنك ـ يا محمد ـ أحد من المشركين ، وطلب جوارك وحمايتك بعد انقضاء مدة الأمان المحددة له ، (فَأَجِرْهُ) أى : فأمنه وأجبه إلى طلبه ، (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أى : لكي يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه من تعاليم مقنعة للعقول السليمة بأن الشرك ظلم عظيم ..

واقتصر على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم ، لأنهم من أهل الفصاحة والبلاغة ، وقد كان سماع بعضهم لشيء من كلام الله سببا في هدايته.

وقوله : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) بيان لما يجب على المسلمين نحو هذا المشرك المستجير إذا ما استمع إلى كلام الله ثم بقي على شركه.

أى : عليك ـ يا محمد ـ أن تجيره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ولا يبقى له عذر في الإصرار على شركه ، فإن آمن بعد سماعه صار من أتباعك ، وإن بقي على شركه وأراد الرجوع إلى جماعته ، فعليك أن تحافظ عليه حتى يصل إلى مكان أمنه واستقراره ، وهو ديار قومه : ثم بعد ذلك يصبح حكمه كحكم المصرين على الشرك ، ويعامل بما يعاملون به.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) يعود إلى الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن.

أى : ذلك الذي أمرناك به من إجارة المستجير من المشركين وإبلاغه مأمنه إذا لم يسلم ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإسلام ولا حقيقة ما تدعوهم إليه أى قوم يحتاجون إلى فترة من الوقت يسمعون كلام الله فيها وهم آمنون ، وبهذا السماع منك ومن أصحابك لا يبقى لهم عذر أصلا في استمرارهم على الباطل.

عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من المشركين إلى على بن أبى طالب فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة : قتل؟ فقال له على لا ، لأن الله يقول (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) الآية (١).

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من الآية ما يأتى :

١ ـ أن المستأمن لا يؤذى ، بل يجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله وعرضه مادام في دار الإسلام ، وقد حذر الإسلام أتباعه من الغدر أشد تحذير ، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا برىء من القاتل وإن كان المقتول كافرا».

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٨.

٢٠٩

وروى الشيخان وأحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» (١).

٢ ـ يلحق بالمستجير الطالب لسماع كلام الله ؛ من كان طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا ، ومن كان طالبا للجواب على الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام ، لأن هؤلاء وأمثالهم يطرقون باب الفهم والمعرفة ويبحثون عن الحق فعلينا أن نحميهم ، وأن نبذل أقصى الجهود في تعليمهم وإرشادهم وإزالة الشبهات عنهم ، لعل الله أن يشرح صدورهم للإسلام بسبب هذا التعليم والإرشاد.

قال ابن كثير : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطى الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود ، ومكرز بن حفص ، وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد ، يترددون في القضية بينه وبين المشركين ، فرأوا من إعظام المسلمين لرسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم ، وأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم (٢).

٣ ـ على الإمام أو من يقوم مقامه أن يعطى المستأمن المهلة التي يراها كافية لفهمه حقائق الإسلام وأن يبلغه مأمنه بعد انقضاء حاجته ، وأن لا يمكنه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته.

قال الإمام الرازي : ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ، ولعله لا يعرف مقدارها إلا بالعرف ، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه (٣).

٤ ـ أخذ العلماء من هذه الآية وجوب التفقه في الدين ، وعدم الاكتفاء بالظنون والتقليد للغير ، وقد وضح الإمام الرازي هذا المعنى فقال :

دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك ـ بل أمهل وأزيل الخوف عنه ووجب تبليغه مأمنه ـ علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل : فلذا أمهل ليحل له النظر والاستدلال» (٤).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٧٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٢٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٢٧.

٢١٠

٥ ـ تكلم العلماء عمن له حق إعطاء الأمان للمستأمن فقال القرطبي : «ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز ؛ لأنه مقدم النظر والمصلحة. نائب عن الجميع في جلب المصالح ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة ، فالحر يمضى أمانه عند كافة العلماء. وأما العبد فله الأمان في مشهور مذهب المالكية وبه قال الشافعى وأحمد.

وقال أبو حنيفة : لا أمان له. والأول أصح لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم».

قالوا : فلما قال «أدناهم» جاز أمان العبد ... (١).

وقال بعض العلماء : هذه الآية كانت أصلا عند الفقهاء في إباحة تأمين المشرك ، وقد توسع الإسلام في باب الأمان فقرر به عصمة المستأمن ، وأوجب على المسلمين حمايته مادام في دار الإسلام ، وجعل للمسلمين حق إعطاء ذلك الأمان ، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على المسلمين سلامتهم ، بأن لا تظهر على المستأمن مظاهر الركون إلى التجسس على المسلمين.

ولا ينسى الإسلام ـ وهو يعطى هذا الحق للأفراد ـ حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين ، بل جعل له بمقتضى هيمنته العامة ، وتقديره لوجوه المصلحة ، حق إبطال أى أمان لم يصادف محله ، أو لم يستوف شروطه ، كما له أن ينتزع ذلك الحق من الأفراد متى رأى المصلحة في ذلك.

والإسلام يبيح بهذا الأمان التبادل التجارى والصناعى والثقافى ، وفي سائر الشئون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة (٢).

٦ ـ هذه الآية الكريمة تشهد بسمو تعاليم الإسلام وسماحتها وحرصها على هداية الناس إلى الحق ، وعلى صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم من العدوان عليها .. حتى ولو كان هؤلاء الناس من أعداء الإسلام.

وقد بسط هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه : إن هذه الآية تعنى أن الإسلام حريص على كل قلب بشرى أن يهتدى وأن يثوب ، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه ، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين ، لعل قلوبهم أن تتفتح وتستجيب وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٨٦.

(٢) تفسير القرآن الكريم ص ٦٢٢ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت.

٢١١

ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام .. ولكن قمة القمم هذه الحراسة للمشرك ـ عدو الإسلام والمسلمين ـ حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام.

إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة ، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام.

إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون ، وإجارة لمن يستجيرون ، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه .. (١).

وبعد أن صرحت السورة الكريمة ببراءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين ، وأمرت المؤمنين بإعطائهم مهلة يسيحون فيها في الأرض ، ويتدبرون خلالها أمرهم ، ثم بعد ذلك على المؤمنين أن يقتلوهم حيث وجدوهم ، وأن يستعملوا معهم كل الوسائل المشروعة لإذلالهم ، وأن يؤمنوا المشرك الذي يريد أن يسمع كلام الله ، وأن يحافظوا عليه حتى يصل إلى مكان استقراره ..

بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان الأسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين ، والحكم التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال ـ تعالى ـ :

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ

__________________

(١) راجع تفسير (في ظلال القرآن) ج ١ ص ١٤٢ للأستاذ سيد قطب.

٢١٢

فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(١٢)

وقوله ـ سبحانه ـ : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الاستفهام فيه للإنكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد. وهو إنكار للوقوع لا للواقع. أى ؛ تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل.

والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم ، لأن البراءة إنما هي في شأنهم.

والعهد : ما يتفق شخصان أو طائفتان من الناس على التزامه بينهما ، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا ، لاشتقاقه من الوثاق ـ بفتح الواو ـ وهو الحبل أو القيد. وإن أكداه باليمين خاصة سمى يمينا.

وسمى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.

والمعنى : لا ينبغي ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية ، ولا لرسوله بالطاعة ، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة. وعادتهم الغدر ، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله.

قالوا : وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته ، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده ، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهاني. وتكرير كلمة (عِنْدَ) للإيذان بعدم الاعتداد بعهودهم عند كل من الله ـ تعالى ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حدة.

و (يَكُونُ) من الكون التام و (كَيْفَ) محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف. أو من الكون الناقص فيكون قوله (عَهْدٌ) اسمها ، وقوله (كَيْفَ) خبرها وهو واجب التقديم ، لأن الاستفهام له صدر الكلام (١).

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ..) استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله.

__________________

(١) تفسير الآلوسى. بتصرف وتلخيص. ج ١٠ ص ٤٩.

٢١٣

والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا : أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ..).

وهم ـ كما رجحه ابن جرير والخازن ـ بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة من قبائل بنى بكر ، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين (١).

وأعيد ذكر استثنائهم هنا ، لتأكيد هذا الحكم وتقريره.

والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم ، فيكون الكلام على حذف مضاف.

أى : عند قرب المسجد الحرام.

والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام ، لزيادة بيان أصحابها ، وللإشعار بسبب وجوب الوفاء بها.

والمعنى : لا ينبغي ولا يصح أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، لكن الذين عاهدتموهم ـ أيها المؤمنون ـ عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).

أى : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، فتكون ما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية.

ويصح أن تكون شرطية وعائدها محذوف فيكون المعنى : فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم ، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ، ويحبهم بسبب تمسكهم بها.

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية : ان العهد المعتد به في شريعة الإسلام ، هو عهد الأوفياء غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته ، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده.

وقوله ـ سبحانه ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ...) لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمراعاة ، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين.

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٨٢ ـ وحاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٦.

٢١٤

وفائدة هذا التكرار للفظ (كَيْفَ) : التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإغلاظ عليهم ، والحذر منهم.

قال الآلوسى : وحذف الفعل بعد كيف هنا لكونه معلوما من الآية السابقة ، وللإيذان بأن النفس مستحضرة له ، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره.

وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده. ومن ذلك قول كعب الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار :

وخبرتماني أنما الموت بالقرى

فكيف وماتا هضبة وقليب

يريد فكيف مات والحال ما ذكر.

والمراد هنا : كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) (١).

وقوله : (يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يظفروا بكم ويغلبوكم. يقال : ظهرت على فلان أى : غلبته ومنه قوله ـ تعالى ـ (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أى : غالبين.

وقوله : (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) أى : لا يراعوا في شأنكم. يقال : رقب فلان الشيء يرقبه إذا رعاه وحفظه .. ورقيب القوم حارسهم.

والإل : يطلق على العهد ، وعلى القرابة ، وعلى الحلف.

قال ابن جرير ـ بعد أن ساق أقوالا في معنى الإل ـ وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : والإل : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهي العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة .. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :

أفسد الناس خلوف خلفوا

قطعوا الإل وأعراق الرحم

أى قطعوا القرابة.

ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل :

وجدناهم كاذبا إلّهم

وذو الإل والعهد لا يكذب

وإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها ـ جل ثناؤه ـ معانيها الثلاثة ... (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ـ بتصرف يسير ـ ج ١٠ ص ٤٩.

(٢) تفسير ابن جرير ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ١٠ ص ٨٣.

٢١٥

والذمة : كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم.

والمعنى : بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، والحال المعهود منهم أنهم إن يظفروا بكم ويغلبوكم ، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق.

وقوله ـ تعالى ـ : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) زيادة بيان للأحوال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين.

أى : أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم ـ أيها المؤمنون ـ فعلوا بكم الأفاعيل ، وتفتنوا في إيذائكم من غير أن يقيموا ووزنا لما بينكم وبينهم من عهود ومواثيق ، وقرابات وصلات ... أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أى : يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم ، وهم في الوقت نفسه (تَأْبى قُلُوبُهُمْ) المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم ، فهم كما وصفهم ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (١).

وتقييد الإرضاء بالأفواه ، للإشعار بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم.

وقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أى : خارجون عن حدود الحق ، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة ، إذ الفسق هو الخروج والانفصال. يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع.

وإنما وصف أكثرهم بالفسوق ، لأن هؤلاء الأكثرين منهم ، هم الناقضون لعهودهم ، الخارجون على حدود ربهم ، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم ، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا ، ولم يظاهروا عليهم أحدا.

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح ، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا وأسرفوا في الإيذاء ، نابذين كل عهد وقرابة وعرف ... أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم ، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة.

أى أن الغدر ملازم لهم في حالتي قوتهم وضعفهم ، لأنهم في حالة قوتهم (لا يَرْقُبُونَ فِي

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٦٧.

٢١٦

مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً). وفي حالة ضعفهم يخادعون ويداهنون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك السبب الأصيل الذي جعل الغدر ديدنهم ، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

والمراد بالاشتراء هنا الاستبدال والاستيعاض.

والمراد بآيات الله : كل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات قرآنية ، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير والفلاح.

والمعنى ؛ إن السبب الأصيل الذي حمل هؤلاء المشركين على الغدر ، وعلى الفجور والطغيان عند القوة وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف. هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير وفلاح ... ثمنا قليلا. أى : عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها.

وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات. بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات. لأن كل ثمن يؤخذ في مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا وزينتها.

وقوله : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا.

والصد : المنع والحيلولة بين الشيء وغيره ، ويستعمل لازما فيقال : صد فلان عن الشيء صدودا بمعنى أعرض عنه. ويستعمل متعديا فيقال : صده عنه إذا صرفه عن الشيء.

وهنا تصح إرادة المعنيين فيكون التقدير : أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها ، ومنعوه من الدخول فيها.

وقوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم ، وقبح أعمالهم.

أى : إنهم ساء وقبح عملهم الذي كانوا يعملونه من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا ، ومن صدودهم عن الحق وصدهم لغيرهم عنه .. وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن عداوة هؤلاء المشركين ليست خاصة بالمؤمنين الذين يقيمون معهم ، وإنما هي عداوة عامة شاملة لكل مؤمن مهما تباعد عنهم فقال ـ تعالى ـ : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).

٢١٧

أى : أن هؤلاء المشركين لا يراعون في أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر ، ولا قرابة تقتضي الود ، ولا ذمة توجب الوفاء خشية الذم ... وإنما يبيتون الحقد والغدر والأذى لكل مؤمن ، من غير أن يقيموا للعهود أو للفضائل وزنا.

وهذه الآية الكريمة أعم من قوله ـ تعالى : قبل ذلك : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) لأن هذه بينت أن عدوانهم على المؤمنين مقيد بظهورهم عليهم ، أما التي معنا فقد بينت أن عدوانهم ليس مقيدا بشيء ، فهم متى وجدوا الفرصة اهتبلوها في الاعتداء على المؤمنين ولأن التي معنا بينت أن عداوتهم قد شملت كل مؤمن مهما كان موضعه. أما الآية السابقة فهي تخاطب المؤمنين الذين كان بينهم وبين المشركين الكثير من الحروب والدماء.

وقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) تذييل قصد به ذمهم والتحقير من شأنهم.

أى : وأولئك المشركون الموصوفون بتلك الصفات السيئة هم المتجاوزون لحدود الله والخارجون على كل فضيلة ومكرمة.

وبعد أن وضحت السورة الكريمة طبيعة هؤلاء المشركين بالنسبة لكل مؤمن ، وبينت الأسباب التي جعلتهم بمعزل عن الحق والخير .. شرعت في بيان ما يجب أن يفعله المؤمنون معهم في حالتي إيمانهم وكفرهم فقال تعالى.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).

أى : فإن تابوا عن شركهم وما يتبعه من رذائل ومنكرات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، على الوجه الذي أمر الله به فهم في هذه الحالة (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وهذه الأخوة تجبّ ما قبلها من عداوات.

وقوله : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) جملة معترضة ، جيء بها للحث والتحري على ما فصله ـ سبحانه ـ من أحكام المشركين ، وعلى الالتزام بها.

هذا ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة .. أما إن كانت الأخرى ، أى إذا لم يتوبوا وأصروا على عداوتهم ، فقد بين سبحانه. ما يجب على المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ).

أى : وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها.

وقوله : (نَكَثُوا) من النكث بمعنى النقض والحل. يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله

٢١٨

وحل خيوطه ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (١).

وقوله : (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) معطوف على ما قبله. أى : وعابوه وانتقصوه.

وقوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أى : فقاتلوهم فهم أئمة الكفر ، وحملة لوائه. فوضع ـ سبحانه ـ الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم.

وقيل : المراد بأئمة الكفر رؤساؤهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين ، ويقودونهم لقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

وعطف. سبحانه ـ قوله (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم ، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم.

وقوله : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة ، وقلوب ثابتة. لأنهم قوم لا أيمان ولا عهود لهم على الحقيقة ، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان.

وقرأ ابن عامر (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) ـ بكسر الهمزة. على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان. أى إنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم. أو المراد الإيمان الشرعي. أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم ، ومن كان كذلك فلا وفاء له.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ).

أى : ليكن مقصدكم من مقاتلتهم ـ بعد أن وجد منهم ما وجد من إيذائكم الرجاء في هدايتهم ، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم .. واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق ـ ما يأتى :

١ ـ أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، يقرر حقيقة واقعة ، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين ـ وخاصة مسلمي بغداد. سنة ٦٥٦. وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمي باكستان ، وما فعله الشيوعيون. في روسيا والصين وغيرها ـ مع المسلمين الذين كانوا يعيشون معهم (٢).

٢ ـ أن هؤلاء المشركين متى تابوا عن كفرهم ، وأقلعوا عن شركهم ، واندمجوا في جماعة المؤمنين .. صاروا إخوة لنا في الدين.

__________________

(١) سورة النحل الآية ٩٢.

(٢) لمعرفة ذلك بالتفصيل راجع تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٠ من ص ١٤١ إلى ص ١٤٥.

٢١٩

وهذه الأخوة الدينية ـ كما يقول صاحب المنار ـ مما يحسدنا جميع أهل الملل عليها فهي لا تزال أقوى فينا منها فيهم برا وتعاونا. وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية ، وأثرة المادية وغيرها ، على ما منيت به شعوبنا من الضعف واختلال النظام ، واختلاف الجنسيات والأحكام .. (١).

٣ ـ قال القرطبي : استدل بعض العلماء بهذه الآية (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) ـ على وجوب قتل كل من طعن في الدين ، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.

وقال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه القتل. وممن قال بذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق والشافعى (٢).

٤ ـ أخذ بعضهم من قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أن الكافر لا يمين له على الحقيقة.

قال الفخر الرازي : وبه تمسك أبو حنيفة. رحمه‌الله. في أن يمين الكافر لا يكون يمينا. وعند الشافعى. رحمه‌الله ـ يمينهم يمين. ومعنى الآية عنده : أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه ـ سبحانه ـ وصفها بالنكث في قوله (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ..) ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث (٣).

٥ ـ دل قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) على أن قتال المؤمنين للمشركين لا يراد به سلب أموالهم ولا هتك أعراضهم .. وإنما المراد به الرجاء في هدايتهم ، والأمل في انتهائهم عن الكفر وسوء الأخلاق.

قال صاحب الكشاف : قوله (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ).

أى : ليكن غرضكم في مقاتلتهم ـ بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم ـ أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد (٤).

وبعد أن بينت السورة الكريمة الأسباب الموجبة لقتال المشركين : شرعت في تحريض المؤمنين على مهاجمتهم ومقاتلتهم بأسلوب يثير الحمية في النفوس ، ويحمل على الإقدام وعدم المبالاة بهم .. فقال تعالى :

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٢٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٨٢.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٣٤.

(٤) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥١.

٢٢٠