التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

وقول خامس : قال عبد الله بن عباس : سألت على بن أبى طالب لما ذا لم يكتب في براءة بسم الله الرّحمن الرحيم؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان.

ـ وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.

ثم قال القرطبي والصحيح أن التسمية لم تكتب ، لأن جبريل ـ عليه‌السلام ـ ما نزل بها في هذه السورة ..» (١).

هذا ، وقول القرطبي : والصحيح أن التسمية لم تكتب ... إلخ ، هو القول الذي نعتمده ، وتطمئن إليه قلوبنا ، وقد رجحه المحققون من العلماء.

فقد قال الفخر الرازي ـ وقد ذكر ستة أوجه في سبب إسقاط التسمية من أولها ـ :

الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا ، وأنه حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا (٢).

وقال الجلال : ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر بذلك ، كما يؤكد من حديث رواه الحاكم.

أى أنه ـ كما يقول الجمل ـ لا مدخل لرأى أحد في الإثبات والترك ، وإنما المتبع في ذلك هو الوحى والتوقيف وحيث لم يبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك تعين ترك التسمية ، لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم» (٣).

وقال بعض العلماء : ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابتها ، إذ لم ينزل بها جبريل ـ عليه‌السلام ـ والأصل في ذلك التوقيف».

أما الأقوال الخمسة التي نقلناها عن القرطبي ـ منذ قليل ـ في سبب سقوط البسملة من أول سورة التوبة ، فإننا لا نرى واحدا منها يعتمد عليه في هذا الأمر. لأن القول الأول الذي حكاه بقوله : قيل كان من شأن العرب ... إلخ. إنما هو تعليل عقلي على سبيل الاجتهاد لبيان الحكمة في عدم كتابة البسملة في أولها. ومثل هذا التعليل يقال في القول الخامس الذي حكاه ابن عباس ، عن على بن أبى طالب.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٦١ طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٨٠ ه‍ سنة ١٩٦١ م.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢١٦. طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٣٥٧ ه‍ سنة ١٩٣٨ م.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين. ج ٢ ص ٢٦١. طبعة عيسى الحلبي.

١٨١

وأما القول الثاني ـ وهو الحديث الذي رواه النسائي والترمذي ـ فقد علق عليه أحد العلماء المحققين بقوله : «في إسناده نظر كثير ، بل هو عندي ضعيف جدا ، بل هو حديث لا أصل له. يدور إسناده في كل رواياته على «يزيد الفارسي» .. ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه : أهو يزيد بن هرمز أم غيره.

قال البخاري في التاريخ الكبير : «قال لي على : قال عبد الرحمن : يزيد الفارسي هو ابن هرمز. قال : فذكرته ليحيى فلم يعرفه ، قال : «وكان يكون مع الأمراء». وفي التهذيب : «قال ابن أبى حاتم : اختلفوا هل هو يعنى ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره ...

فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولا ، حتى شبه على مثل ابن مهدى وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره.

ويذكره البخاري في الضعفاء ، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به ، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي ، قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف. وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور ، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه ، وحاشاه من ذلك.

فلا علينا إذا قلنا إنه «حديث لا أصل له» تطبيقا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث.

قال السيوطي في تدريب الراوي في الكلام على أمارات الحديث الموضوع : أن «يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي» ... (١).

وأما القول الثالث الذي يقول «إنه لما سقط أولها سقط معه بسم الله الرحمن الرحيم ...» فهو قول ساقط لا يعتد به ، لأنه لا دليل عليه ولا سند له ، ويؤدى الالتفات إليه إلى المساس بقداسة القرآن الكريم ، حيث إن بعض سوره كانت طويلة ثم سقط منها ما سقط.

وأما القول الرابع الذي يزعم قائلوه أن بعض الصحابة قال : «براءة والأنفال سورة واحدة ...» فهو قول ضعيف ولا يعتد به ـ أيضا ـ كسابقه ، لأنه قد عرف واشتهر بأنهما سورتان مستقلتان منذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومنا هذا.

ولأن الذي يقرأ السورتين بإمعان وتدبر ، يرى أن لكل منهما موضوعاتها الخاصة بها ، والتي اهتمت بها أكثر من غيرها ، فسورة الأنفال تحدثت باستفاضة عن غزوة بدر وما يتعلق بها .. بينما سورة التوبة قد تحدثت باستفاضة عن غزوة تبوك أى في السنة التاسعة.

__________________

(١) راجع «المسند للإمام أحمد» شرح وتحقيق الأستاذ الشيخ أحمد شاكر. ج ١ حديث رقم ٢٩٩ طبعة دار المعارف. الطبعة الثالثة سنة ١٩٤٩. فقد تكلم الأستاذ أحمد شاكر على هذا الحديث كلاما طويلا فانظره.

١٨٢

قال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان.

وقال أبو السعود : اشتهارها ـ أى سورة التوبة ـ بهذه الأسماء المتقدمة ـ براءة والفاضحة ... إلخ ـ يقضى بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ...» (١) :

وقال بعض العلماء : وهذه الأسماء وغيرها مما ثبت إطلاقه على السورة ـ أى سورة التوبة ـ من الصدر الأول ، لم يعرف إطلاق واحد منها على السورة التي قبلها وهي سورة الأنفال ، كما لم يعرف أنه أطلق اسم سورة الأنفال على هذه السورة. وبذلك احتفظت كل من السورتين منذ العهد الأول بما لها من اسم لم تشاركها فيه صاحبتها.

وكما احتفظت كل من السورتين بما لها من اسم ، احتفظت كل منهما بوقت نزولها ، فسورة الأنفال نزلت بعد غزوة بدر. أى : في السنة الثانية من الهجرة. وسورة التوبة نزلت بعد غزوة تبوك ، وبعد خروج أبى بكر على رأس المسلمين إلى الحج. أى : في أواخر السنة التاسعة.

وكما احتفظت كل منهما بهذا وذاك ، احتفظت كل منهما ـ أيضا ـ بهدفها الخاص.

فسورة التوبة عالجت شئونا حدثت بعد زمن طويل من نزول سورة الأنفال ، ومعرفتها باسم سورة الأنفال. وسورة الأنفال عالجت شئونا حدثت قبل نزول سورة التوبة ولم يرد لها ذكر فيها.

ولا شك أن كل هذه الاعتبارات الواضحة المبينة والمحققة في السورتين من الصدر الأول ، تدل دلالة واضحة على أنهما سورتان منفصلتان ، وأن عدهما سورة واحدة رأى لا قيمة له ، كما لا قيمة للاشتباه في استقلال كل منهما حتى يقال : تركت البسملة بينهما نظرا لاحتمال وحدتهما ، وتركت بينهما فرجة نظرا لاحتمال انفصالهما.

وقد عرف مع ترك التسمية بينهما أنهما سورتان مستقلتان من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومنا هذا.

وقد جاءتا كذلك في المصاحف الأولى : مصحف عثمان ، وعلى ، وابن عباس ، فلا معنى بعد هذا كله لإثارة شبهة قد تمس من قرب أو بعد قداسة تنظيم كتاب الله وترتيبه بناء على روايات ضعيفة أو موضوعة (٢).

والخلاصة أن القول بأنهما سورة واحدة ، قول لا وزن له ، ولا يعول عليه للأسباب التي ذكرناها آنفا.

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٥٠. طبعة محمد عبد اللطيف.

(٢) تفسير القرآن الكريم ص ٦٠٢ لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت. طبعة دار القلم. الطبعة الرابعة سنة ١٩٦٦.

١٨٣

٦ ـ مناسبتها لسورة الأنفال :

قال الآلوسى : ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت ، وفي هذه قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله.

وفي الأولى ـ أيضا ـ ذكر العهود وهنا نبذها. وأنه ـ سبحانه ـ أمر في الأولى بالإعداد فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً).

وأنه ـ سبحانه ـ ختم الأولى بإيجاب أن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، وصرح ـ جل شأنه ـ في هذه بهذا المعنى فقال : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ..).

إلى غير ذلك من وجوه المناسبة (١).

وقال صاحب المنار : وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض ، فهي ـ أى التوبة ـ كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وأحكام المعاهدات .. فما بدئ به في الأولى أتم في الثانية ، مثال ذلك.

١ ـ أن العهود ذكرت في سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء.

٢ ـ تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.

٣ ـ ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء في الثانية (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ...).

٤ ـ ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين ، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين ، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين. وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا (٢).

والحق أن الذي يقرأ السورتين بتأمل وتدبر يراهما تعطيانه ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهاده إلى أن أتم الله له نعمة النصر.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣٦.

(٢) تفسير المنار ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ١٠ ص ١٧٥. للسيد محمد رشيد رضا.

١٨٤

فمثلا عند ما نقرأ سورة الأنفال نراها تتحدث عن حالة المسلمين قبل الهجرة كما في قوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ...) الآية ٢٦.

كما تتحدث عن المكر السيئ الذي صدر عن المشركين والذي كان من أسباب الهجرة ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) الآية ٣٠.

ثم نراها تفيض في الحديث عن غزوة بدر ، وتشير إلى ما ظهر من المنافقين فيها (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ). الآية ٤٩. وإلى ما حدث من اليهود من نقض للعهود (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) الآية ٥٨.

أما سورة التوبة فنراها تذكر المسلمين بالنصر الذي منحه الله لهم في مواطن كثيرة قال ـ تعالى ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...) «الآية ٢٥» كما تصف بالتفصيل مواقف المنافقين في غزوة تبوك وغيرها.

ولعل قيام السورتين الكريمتين بإعطاء القارئ ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة للدعوة الإسلامية هو الحكمة في وضعهما مقترنتين وفي تسميتهما بالقرينتين.

قال القرطبي : كانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي. (١).

٧ ـ المقاصد الإجمالية لسورة التوبة :

عند ما نقرأ سورة التوبة بتأمل وتدبر نراها في مطلعها تحدد تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقتهم مع المشركين ، وتبين بوضوح وجلاء الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى التزام هذا المنهاج.

فهي في أولها تعلن براءة الله ورسوله من المشركين بسبب خيانتهم ، وتمنحهم الأمان لمدة أربعة أشهر لكي يدبروا فيها أمر أنفسهم ، وتعلن للناس عامة يوم الحج الأكبر أن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأنها قد نبذت إليهم ، وتستثني من هؤلاء المشركين أولئك الذين لم ينقضوا ، فتأمر المؤمنين بأن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، فإذا ما انتهت مدة الأمان فعلى المؤمنين أن يقتلوا المشركين الناكثين حيث وجدوهم ، وأن يؤمنوا من يطلب الأمان منهم حتى يسمع القرآن ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الإسلام. وبذلك لا يبقى له عذر.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٦٣.

١٨٥

استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ الحاسم فتقول : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

ثم تسوق السورة بعد ذلك الأسباب التي دعت إلى البراءة من المشركين. والتي أوجبت على المؤمنين قتالهم ، وحرضتهم على ذلك بأنواع من المشجعات فقالت :

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ثم توجه السورة الكريمة خطابها إلى الذين شق عليهم القتال من المؤمنين ، وتبين أن الحكمة في الأمر به ، إنما هي الامتحان والتمحيص فتقول :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

ثم تصرح السورة الكريمة بعد ذلك بأن المؤمنين وحدهم هم الذين من حقهم أن يعمروا مساجد الله ... أما المشركون فليس من حقهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.

قال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ* إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).

فإذا ما وصلنا إلى الرابع الثاني من سورة التوبة رأيناها في أوائله توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه أن يؤثروا محبة الله ورسوله على محبة الآباء والأبناء والأموال .. وتهدد من يخالف ذلك فتقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

١٨٦

ثم أخذت السورة الكريمة في تذكير المؤمنين بألوان من نعم الله عليهم ، حيث نصرهم. سبحانه : على أعدائهم في مواطن كثيرة ، وحيث أيدهم بعونه بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

ثم وجهت إليهم نداء ثانيا نهتهم فيه عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وبشرتهم بأن الله ـ تعالى ـ سيغنيهم من فضله متى تابوا إليه وأطاعوه.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الآية ٢٨).

وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حددت تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المشركين ، وأبرزت بصورة واضحة ومقنعة الأسباب المتنوعة التي أوجبت سلوك هذا المنهاج.

وتلك عادة القرآن الكريم في تشريعاته ، لا تكاد تجد تشريعا من تشريعاته إلا وقد صاحبته الحكمة التي كان لأجلها هذا التشريع ، والتي من شأنها أن تدفع الناس إلى المسارعة في التنفيذ والامتثال.

ثم بدأت السورة بعد ذلك في تحديد المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المنحرفين من أهل الكتاب ، وأبرزت ، أيضا : الأسباب التي تدعو إلى التزام هذا المنهاج ، فأمرت باستمرار قتالهم ، وذكرت ما هم عليه من صفات سيئة تحمل المؤمنين على تأديبهم ، وأرشدت إلى ما كان عليه رؤساؤهم من أكل لأموال الناس بالباطل ، ومن صد عن سبيل الله ، استمع إلى الآيات الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ* وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ

١٨٧

وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

ثم وجهت السورة نداء رابعا إلى المؤمنين ، نعت فيه على المتثاقلين الذين دعوا إلى الجهاد فتكاسلوا عنه .. وحذرتهم من سوء عاقبة هذا التكاسل وذكرتهم بما كان من نصر الله ـ تعالى لنبيه وقت أن أحاط به المشركون وهو في الغار ، وأمرتهم بالخروج للجهاد في حالتي اليسر والعسر والمنشط والمكره.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وبعد هذه الدعوة الحارة للمؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والأموال بدأت السورة الكريمة في الحديث عن المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم ، ورسمت أحوالهم النفسية والعملية ، وفضحت مواقفهم في غزوة تبوك وما كان منهم قبلها وبعدها وأثناءها ، وأظهرت حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم عن القتال ، وأزاحت الستار عن أساليب نفاقهم وألوان فتنهم وتخذيلهم للمؤمنين ، وحكت ما كانوا ينطقون به من سوء في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حق أصحابه.

وقد استغرق الحديث عن المنافقين زهاء نصف سورة التوبة ـ أى من أواخر الربع الثالث منها إلى نهاية الربع السابع.

وقد تركتهم السورة الكريمة ـ بعد هذا الكشف السافر لأحوالهم : عراة من الخير أمام المؤمنين ، منبوذين من جماعة المسلمين ، مميزين بصفاتهم القبيحة التي فصلها القرآن تفصيلا يجعل العقلاء يعرفونهم ويحذرونهم.

فمن صفاتهم الذميمة ومسالكهم الخبيثة التي تحدثت السورة عنها :

(أ) الفرار من مواطن الجد والجهاد ، والتعلل بالأعذار الكاذبة ، والتستر بالأيمان الفاجرة ، وقد حكت السورة عنهم ذلك في مواضع كثيرة منها.

قال تعالى : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) :

وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ).

١٨٨

وقوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) :

وقوله تعالى : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).

(ب) إشاعة الفتنة في صفوف الجيش الإسلامى متى وجدوا فيه ، أى أن خلو الجيش منهم خير وبركة ووجودهم فيه شر وفتنة.

قال تعالى (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

(ج) كراهتهم الخير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ، ومحبتهم السوء لهم.

قال تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ).

(د) تكاسلهم عن أداء الشعائر الدينية بسبب فسوقهم وكفرهم :

قال تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ* وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).

(ه) تظاهرهم بالإسلام تقية وجبنهم عن التصريح بما هم عليه من كفر.

قال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ* لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).

(و) طعنهم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قسمة الأموال وفي توزيع الصدقات بقصد إشاعة التهم الباطلة حوله.

قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ).

(ز) وصفهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أذن ـ أى يصدق كل ما يقال له بدون تثبت ...

قال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ، يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

١٨٩

(ح) استهزاؤهم بتعاليم الإسلام فيما بينهم ، واعتذارهم عن ذلك بأنهم لم يكونوا جادين فيما ينطقون به من سوء ، وتكذيب الله لهم فيما اعتذروا عنه.

قال تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ* وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).

(ط) تعاطفهم فيما بينهم وتعاونهم على الإثم والعدوان لا على البر والتقوى.

قال تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

(ى) سخريتهم من فقراء المؤمنين ، لأنهم يتصدقون بالقليل الذي لا يملكون سواه.

قال تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(ك) نقضهم للعهود ، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله.

قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

(ل) اتخاذهم مسجدا لهم لا من أجل العبادة ، وإنما من أجل المضارة وإيذاء المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم ، وتشتيت وحدتهم.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

وهكذا نرى السورة الكريمة قد تتبعت المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم وأحوالهم .. بصورة تجعل المؤمنين الصادقين يعرفونهم ويحذرونهم.

بعد ذلك اتجهت السورة : في أواخرها بالحديث إلى المؤمنين الصادقين.

(أ) فذكرتهم بالتعاقد الذي بينهم وبين خالقهم : عزوجل وبشرتهم برضوانه ومحبته متى وفوا بعهودهم فقال ، تعالى :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

١٩٠

(ب) وأعلمتهم بأن إيمانهم يحتم عليهم عدم الاستغفار لمن خالفهم في الدين مهما بلغت درجة قرابته.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

(ج) وأمرتهم بأن يصحبوا رسولهم : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في جهاده للأعداء ، وأن يكابدوا معه الشدائد والأهوال برغبة ونشاط ؛ لأن كل تعب يلحقهم معه مكتوب لهم في سجل حسناتهم.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

(د) وأرشدتهم إلى أنه في حالة عدم خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم للجهاد ، عليهم أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين : قسم يخرج للجهاد وقسم آخر يبقى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتعلم منه العلم ويحفظ عنه ما تجدد من أحكام.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) :

(ه) ثم ختم. سبحانه. هذه السورة الكريمة بهاتين الآيتين الدالتين على سابغ رحمته بعباده ، حيث أرسل إليهم رسولا من أنفسهم حريصا على منفعتهم رحيما بهم ، فقال تعالى :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

أما بعد : فهذا عرض إجمالى لما اشتملت عليه سورة التوبة من موضوعات ومن هذا العرض يتبين لنا أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور معينة من أهمها ما يأتى :

١ ـ رسم المنهاج النهائى الذي يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع مشركي العرب ، ومع أهل الكتاب ، ومع المنافقين ، مع بيان الأسباب التي تدعو المسلمين إلى التزام هذا المنهاج.

٢ ـ كشف الغطاء عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم ، وعما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد ، وعما سلكوه من مسالك خبيثة لمحاربة الدعوة الإسلامية ، ومناوأة أتباعها الصادقين.

وقد أفاضت السورة في الحديث عن ذلك إفاضة لا توجد في غيرها من سور القرآن الكريم.

١٩١

٣ ـ حددت السورة الكريمة معالم المجتمع الإسلامى بعد أن تم فتح مكة ، وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا.

فأثنت على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووعدتهم بالفوز العظيم.

قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وحكمت على كل فريق من المتخلفين عن غزوة تبوك من أهل المدينة وما حولها بالحكم الذي يناسبه.

قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ).

وقال تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

وقال تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).

وهكذا نرى السورة الكريمة قد وضحت الطوائف المتنوعة التي كان المجتمع الإسلامى يتكون منها عند نزولها ، أى : بعد أن تم فتح مكة.

٤ ـ يؤخذ من الحديث المستفيض الذي ساقته السورة عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم .. أنهم بعد فتح مكة بدأت دولتهم تعود إلى الظهور في المجتمع الإسلامى بينما كانت قبيل الفتح قد أوشكت على التلاشى والاندثار.

ولعل السبب في ذلك : أن كثيرا من الناس قد دخل في الإسلام بعد أن فتحت مكة ، لأسباب دنيوية متنوعة ، دون أن يستقر الإيمان بالله في قلوبهم ، وإنما بقيت آثار الجاهلية لها وزنها في تحريك طباعهم واتجاهاتهم وأفكارهم.

قال بعض العلماء : سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح ، ويصف تكوينه العضوى ، ومن هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية ، كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال ، ومن النفاق والضعف ، والتردد في الواجبات والتكاليف ، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين

١٩٢

المعسكر الإسلامى والمعسكرات الأخرى ، وعدم المفاضلة الكاملة على أساس العقيدة ، وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار ، مما استدعى حملات مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير تفي بحاجة المجتمع إليها.

وإن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح ، لم تتم تربيتها ، ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامى الأصيل (١).

٥ ـ عرضت السورة لبيان كثير من الأحكام والإرشادات التي تحتاج إليها الدولة الناشئة ، كحديثها عن مصارف الزكاة ، وعن الجهاد وموجباته ، وعن العهود وأحكامها ، وعن الأشهر الحرم .. إلى غير ذلك من الأحكام.

هذا ، ولعلنا ، بعد هذا التمهيد الذي سقناه بين يدي تفسير سورة التوبة نكون قد أعطينا القارئ الكريم فكرة واضحة عن أسماء هذه السورة ، وعن زمان ومكان نزولها ، وعن السبب في عدم ذكر البسملة في أولها ، وعن مقاصدها وموضوعاتها الإجمالية.

والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجنبنا الزلل والانحراف عن الطريق القويم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) راجع تفسير «في ظلال القرآن» للأستاذ سيد قطب ص ٩٠ وما بعدها. طبعة دار إحياء التراث العربي ببيروت. الطبعة الخامسة سنة ١٣٨٦ ه‍ سنة ١٩٦٨ م.

١٩٣

تفسير سورة التوبة قال تعالى :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)

قال الإمام ابن كثير : أول هذه السورة نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة «تبوك» وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادى بالناس (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ..) ، فلما قفل أتبعه بعلى بن أبى طالب ، ليكون مبلغا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه عصبة له (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣١ طبعة عيسى الحلبي.

١٩٤

وقال محمد بن إسحاق : لما نزلت (بَراءَةٌ) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله ، لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال : «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتي».

ثم دعا على بن أبى طالب فقال له : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو له إلى مدته.

فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «العضباء» حتى أدرك أبا بكر بالطريق ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أم مأمور؟ فقال : بل مأمور. ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية.

حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو إلى مدته ، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقال الفخر الرازي : روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا الأراجيف ، جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العهد إليهم (٢).

هذه بعض الآثار التي ذكرها المفسرون في هذا المقام.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَراءَةٌ) مصدر برئ «كتعب» ، وأصل البراءة : التباعد عن الشيء والتخلص منه. تقول : برئت من هذا الشيء أبرأ براءة فأنا منه برىء ، إذا أزلته عن نفسك ، وقطعت الصلة بينك وبينه. ومنه قولهم : برئت من الدين أى تخلصت منه.

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٩٠ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٥٥ ه‍ سنة ١٩٣٦ م تحقيق مصطفى السقا.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢١٧ طبعة عبد الرحمن محمد.

١٩٥

ولفظ (بَراءَةٌ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والتنوين فيه للتفخيم و (مِنَ) لابتداء الغاية ، والعهد : العقد الموثق باليمين ، والخطاب في قوله (عاهَدْتُمْ) للمسلمين.

والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين بسبب نقضهم لعهودهم ، وإصرارهم على باطلهم ...

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟.

قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أولا ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله ـ تعالى ـ النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم : اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.

وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناسا منهم ، فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين ..» (١).

وقال بعض العلماء : والمعنى أن الله قطع ما بينه وبين المشركين من صلات فلا عهد ولا تعاهد ولا سلم ولا أمان ، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم. ولا يدخل في هذا التبري قطع رحمته العامة عنهم التي كتبها على نفسه من جهة أنه الخالق وأنهم المخلوقون ... فهو مع هذا التبري لا يزال من هذه الجهة يرحمهم بمنح الحياة وموارد الرزق ، والتمكين من العمل حسب تقديره العام وسنته الشاملة في خلقه ولو أن التبري كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين ، ولما استطاع كافر أن يقف في وجه مسلم.

فالآية تقرر حكما تكليفيا للمسلمين في شأن معاملة المشركين ..

واعتبار أن الآية تقرر حكما شرعيا والمشرع هو الله أضيف صدور البراءة إليه ـ سبحانه ـ وعطف عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المقام ، لأنه هو المبلغ عنه ، والمنفذ لما يبلغه ..

ولما كان التعاهد بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به ، وأصله حق لجماعتهم ، وإنما يقوم الإمام به نائبا عن الجماعة ، أضيف ـ أى التعاهد ـ إلى جماعة المسلمين ، فقيل : (عاهَدْتُمْ) .. وكثيرا ما ينسب القرآن الأحكام العامة لجماعة المؤمنين ...

ويؤخذ من تقرير البراءة من المشركين في هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٢ طبعة دار الكتاب العربي ببيروت.

١٩٦

عهد متى رأى الإمام مصلحة الأمة في ذلك ، كأن خيف منهم خيانة ، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة ، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعي ، وذلك كله أخذا من هذا المقام ، ومن قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنفال : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ).

كما يؤخذ أن عقد المعاهدات إنما هو حق للجماعة ، يوافق عليه أصحاب الرأى والاختصاص في موضوع المعاهدة ، وما هو في مصلحة الجماعة ، ثم يباشرها الإمام بعد ذلك نيابة عن الجماعة (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ...) بيان للمهلة التي منحها ـ سبحانه ـ للمشركين ليدبروا فيها أمرهم.

والسياحة في الأصل : جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته ، ثم استعملت في الضرب في الأرض والاتساع في السير والتجوال. يقال : ساح فلان في الأرض سيحا وسياحة وسيوحا إذا تنقل بين أرجائها كما يشاء.

والخطاب للمؤمنين على تقدير القول. أى : فقولوا أيها المؤمنون للمشركين سيحوا في الأرض أربعة أشهر.

ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين أنفسهم على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور ، لقصد تهيئة خطابهم بالوعيد المذكور بعد ذلك في قوله ـ سبحانه ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ).

والمقصود بالأمر في قوله : (فَسِيحُوا) الإباحة والإعلام بحصول الأمان لهم في تلك المدة من أن يقتلوا أو يقاتلوا أو يعتدى عليهم ..

والمعنى : قولوا أيها المسلمون للمشركين ـ بعد هذه البراءة منهم ، سيحوا في الأرض ، أى : سيروا فيها مقبلين ومدبرين حيث شئتم وأنتم آمنون في هذه المدة.

وفي التعبير بقوله (فَسِيحُوا) من الدلالة على كمال التوسعة ، ما ليس في قوله (سِيرُوا) أو ما يشبهه ، لأن لفظ السياحة يدل على الاتساع في السير والبعد عن المدن ، وعن موضع العمارة.

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٦١٢ لفضيلة الإمام الأكبر محمود شلتوت.

١٩٧

والحكمة في إعطائهم هذه المدة تمكينهم من النظر والتدبر في أمر أنفسهم حتى يختاروا ما فيه مصلحتهم ، ويعلموا أنهم ليس أمامهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو السيف ، ولكي لا ينسب إلى المسلمين الغدر ونبذ العهد دون إعلام أو إنذار.

وهذا من سمو تعاليم الإسلام. تلك التعاليم التي لم تبح لأتباعها أن يأخذوا أعدى أعدائهم على غرة ، بل منحت هؤلاء الأعداء مهلة كافية يدبرون فيها أمر أنفسهم وهم آمنون من أن يتعرض لهم أحد من المسلمين بأذى.

ومتى كان ذلك؟ كان ذلك في الوقت الذي نقض فيه المشركون عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وفي الوقت الذي أرجف فيه المرجفون أن المسلمين لن يعودوا من تبوك سالمين ، بل إن الروم سيأخذونهم أسرى ، وفي الوقت الذي كانت المجتمعات فيه يغزو بعضها بعضا بدون إنذار أو إعلام ...

فإن قيل : وما الحكمة في تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر؟

فالجواب ـ كما يقول الجمل ـ اقتصر على الأربعة ـ هنا لقوة المسلمين إذ ذاك ، بخلاف صلح الحديبية فإنه كان لمدة عشر سنين لضعف المسلمين إذ ذاك ، والحاصل أن المقرر في الفروع أنه إذا كان بالمسلمين ضعف جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل ، وإذا لم يكن بهم ضعف لم تجز الزيادة على أربعة أشهر (١).

وقال بعض العلماء : ولعل الحكمة في تقدير تلك المدة بأربعة أشهر ، أنها هي المدة التي كانت تكفى ـ إذ ذاك بحسب ما يألفون ـ لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض ، والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأى الأخير ، وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهى في جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة.

على أنا نجد في القرآن جعل الأربعة الأشهر أمدا في غير هذا فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر ـ وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.

ولعل ذلك ـ وراء ما يعلم الله ـ أنها المدة التي تكفى بحسب طبيعة الإنسان لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر ، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٣. طبعة عيسى الحلبي.

١٩٨

ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء في هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح في الإسلام ، طلبها العدو أم تقدم بها المسلمون ، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذه قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنفال .. (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإمام وأرباب الشورى المقررة في قوله ـ تعالى ـ (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (١).

وقد اختلف المفسرون في ابتداء هذه الأشهر الأربعة فقال مجاهد والسدى وغيرهما : كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر من السنة التاسعة ونهايتها في العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة ، وذلك لأن المشركين قد أعلموا بهذه المهلة يوم النحر من السنة التاسعة على لسان على بن أبى طالب ـ كما سبق أن بينا.

وقيل كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم النحر لعشر من ذي القعدة من السنة التاسعة ونهايتها في اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة ، وذلك لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي ابتدعه المشركون.

والرأى الأول أرجح وعليه الأكثرون ، لأن معظم الآثار تؤيده. وكذلك اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فيمن تنطبق عليهم هذه المهلة ، فقال مجاهد ؛ هذا تأجيل للمشركين مطلقا ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، ومن كان عهده بغير أجل حد بها. ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ، ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن (٢).

وقال آخرون : كانت هذه الأربعة الأشهر مهلة لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت هذه المدة لقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

وهذا القول قد اختاره ابن جرير وغيره ، فقد قال ابن جرير ـ بعد أن ذكر عدة أقوال في ذلك :

«وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأجل الذي جعله الله إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته ، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ، ولم يظاهروا عليه ، فإن الله ـ تعالى ـ أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، ثم قال : وبعد ففي

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٦١٦ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت. طبعة دار القلم. الطبعة الرابعة سنة ١٩٦٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٣.

١٩٩

الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حين بعث عليا ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادى به فيهم «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته». وهو أوضح دليل على صحة ما قلنا.

وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل ، فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه ، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل ، أو كان له عهد إلى أجل غير محدود ، فأما من كان أجل عهده محدودا ، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا ، وبذلك بعث مناديه في أهل الموسم من العرب ..» (١).

والذي يبدو لنا بعد مراجعة الأقوال المتعددة في شأن من تنطبق عليهم هذه المهلة من المشركين ـ أن ما اختاره ابن جرير هو خير الأقوال وأقواها ، لأن النصوص من الكتاب والسنة تؤيده.

ومن أراد معرفة هذه الأقوال بالتفصيل فليراجع ما كتبه المفسرون في ذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا الإمهال للمشركين لن ينجيهم من إنزال العقوبة بهم متى استمروا على كفرهم فقال ـ تعالى ـ : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ).

أى : واعلموا ـ أيها المشركون ـ أنكم بسياحتكم في الأرض خلال تلك المهلة لن تعجزوا الله ـ تعالى ـ في طلبكم ، فأنتم حيثما كنتم تحت سلطانه وقدرته ، واعلموا كذلك أنه ـ سبحانه ـ مذل للكافرين ، في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالعذاب المهين.

فالآية الكريمة قد ذيلت بما يزلزل قلوب المشركين بالحقيقة الواقعة ، وهي أن ذلك الإمهال لهم ، وتلك السياحة في الأرض منهم ، كل هذا لن يجعلهم في مأمن من عقاب الله ، ومن إنزال الهزيمة بهم ، لأنهم في قبضته.

ومهما أعدوا خلال تلك المهلة من عدد وعدد لقتال المؤمنين ، فإن ذلك لن ينفعهم ، لأن سنته ـ سبحانه ـ قد اقتضت أن يجعل النصر والفوز للمؤمنين والخزي والسوء على الكافرين.

قال الفخر الرازي ما ملخصه ، وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ). المقصود منه : أنى أمهلتكم ـ أيها المشركون ـ وأطلقت لكم السياحة في الأرض ـ فافعلوا كل ما

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٦٢ طبعة مصطفى الحلبي الطبعة الثانية سنة ١٣٧٣.

٢٠٠