التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

تحرج أو تردد ، فإن معاتبتهم على أخذ الفداء قبل ذلك جعلتهم يترددون في الانتفاع به وبما غنموه من أعدائهم.

ثم أمرت السورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر الأسرى بأنهم إذا ما فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له ، ـ سبحانه ـ سيعوضهم عما فقدوه خيرا منه ، أما إذا استمروا في كفرهم وعنادهم فإن الدائرة ستدور عليهم. استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور هذا المعنى بأسلوبها البليغ فتقول :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٧١)

قال : ابن كثير : عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا : بعثت قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا.

وقال العباس : يا رسول الله! قد كنت مسلما! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبى طالب ، وحليفك عتبة بن عمرو أخى بنى الحارث بن فهر».

قال العباس : ما ذاك عندي يا رسول الله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل ، فقلت لها : إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبنىّ : الفضل ، وعبد الله ، وقثم»؟

قال : والله يا رسول الله إنى لأعلم أنك رسول الله. إن هذا الشيء ما علمه أحد غيرى وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم منى : ـ عشرين أوقية من مال كان معى ـ.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك».

ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه. فأنزل الله ـ تعالى ـ فيه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) الآية.

١٦١

قال العباس : فأعطانى الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام ، عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به. مع ما أرجو من مغفرة الله ـ تعالى ـ (١).

وفي صحيح البخاري عن أنس : أن رجالا من الأنصار قالوا : يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا والله! لا تذرون منه درهما». هذا ، والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت في العباس إلا أنها عامة في جميع الأسرى ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولأن الخطاب فيها موجه إلى سائر الأسرى لا إلى فرد منهم دون آخر.

والمعنى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) أى : قل للذين تحت تصرف أيديكم (مِنَ الْأَسْرى) أى : من أسرى المشركين في بدر الذين أخذتم منهم الفداء لتطلقوا سراحهم.

قل لهم ـ أيها النبي الكريم ـ (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أى : إيمانا وتصديقا وعزما على اتباع الحق ونبذ الكفر والعناد .. إن يعلم الله ـ تعالى ـ منكم ذلك (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من فداء ، بأن يخلفه عليكم في الدنيا ، ويمنحكم الثواب الجزيل في الآخرة.

ولقد صدق الله ـ تعالى ـ وعده مع من آمن وعمل صالحا من هؤلاء الأسرى ، فأعطاهم الكثير من نعمه كما قال العباس ـ رضى الله عنه ـ وقوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) زيادة في حضهم على الدخول في الإيمان.

وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الوعد بالخير والمغفرة.

أى : والله ـ تعالى ـ واسع المغفرة ، والرحمة لمن استجاب للحق ، وقدم العمل الصالح.

والتعبير ، بقوله : (لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) للإشعار بأن هؤلاء الأسرى المشركين قد صاروا في قبضة المؤمنين وتحت تصرفهم ، حتى لكأن أيديهم قابضة عليهم.

وأسند وجود الخير في قلوبهم إلى علم الله ـ تعالى ـ للإشارة إلى أن ادعاء الإيمان باللسان فقط لا يكفل لهم الحصول على الخير الذي فقدوه ولا يوصلهم إلى مغفرة الله ـ تعالى ـ فعليهم أن يخلصوا لله في إيمانهم حتى ينالوا فضله وثوابه ، فهو ـ سبحانه ـ عليم بذات الصدور.

وقوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ). إنذار لهم بسوء المصير إذا ما لجوا في عنادهم وغدرهم ، وبشارة من الله ـ تعالى ـ لرسوله والمؤمنين بأن العاقبة ستكون لهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٨.

١٦٢

أى : وإن يرد هؤلاء الأسرى نقض عهودهم معك ـ يا محمد ـ والاستمرار في محاربتك ومعاداتك .. فلا تهتم بهم ، ولا تجزع من خيانتهم فهم قد خانوا الله ـ تعالى ـ من قبل هذه الغزوة بكفرهم وجحودهم لنعمه فكانت نتيجة ذلك أن أمكنك منهم ، وأظفرك بهم ، وسينصرك عليهم بعد ذلك كما نصرك عليهم في بدر ، والله ـ تعالى ـ عليم بما يسرونه وما يعلنونه ، حكيم في تدبيره وصنعه.

فالآية الكريمة إنذار للأسرى إذا ما استحبوا العمى على الهدى ، وتبشير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن خيانتهم ستكون وبالها عليهم.

قال الفخر الرازي : وقوله (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) قال الأزهرى : يقال أمكننى الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول الإمكان محذوف.

والمعنى : فأمكن المؤمنين منهم ، أى : أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر. فأمكن الله منهم قتلا وأسرا ، وذلك نهاية الإمكان والظفر. فنبه الله بذلك على أنهم قد ذاقوا وبال ما فعلوه ، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتا حاصلا ، وفيه بشارة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده» (١).

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي حدثت عن أسرى غزوة بدر ما يأتى :

١ ـ أن على المؤمنين في كل زمان ومكان أن يجعلوا جهادهم خالصا لوجه الله ومن أجل إعلاء كلمته ونصرة دينه ، وذلك بأن يبالغوا في قتال أعدائه وأعدائهم إذلالا للكفر وإعزازا للحق ، وأن يؤثروا كل ذلك على أعراض الدنيا ومتعها.

٢ ـ أن أخذ الفداء من الأسرى لا شيء فيه في ذاته ، وإنما عاتب الله المؤمنين على أخذه من أسرى بدر ، لأن هذه الغزوة كانت المعركة الأولى بين المؤمنين والمشركين ، وكان إذلال المشركين فيها عن طريق المبالغة في قتلهم أهم من أخذ الفداء منهم ، وأظهر في كسر شوكتهم ، وعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين.

قال ابن كثير. وقد استقر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل ـ كما فعل ببني قريظة ـ وإن شاء فادى بمال ـ كما فعل بأسرى بدر ـ أو بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبى سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٠٦.

١٦٣

هذا مذهب الإمام الشافعى وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه» (١).

٣ ـ أن الذين شهدوا بدرا من المسلمين كانت لهم مكانتهم السامية ، ومنزلتهم العالية ، عند الله ـ تعالى ـ.

ومما يدل على ذلك أنه ـ سبحانه ـ عفا عن خطئهم في أخذ الفداء من الأسرى ثم زادهم فضلا ومنة فجعل غنائم الحرب حلالا لهم ، بعد أن كانت محرمة على أتباع الرسل السابقين.

ففي البخاري عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (٢).

٤ ـ أن الإسلام لا يستبقى الأسرى لديه للإذلال والقهر والاستغلال ، وإنما يستبقيهم ليوقظ في فطرتهم نور الحق الذي باتباعه يعوضهم الله عما أخذ منهم في الدنيا ، ويمنحهم ثوابه ومغفرته في الآخرة.

أما إذا استمروا في عداوتهم للحق ، فإن الدائرة ستدور عليهم.

٥ ـ أن الإيمان لا يكون صحيحا إلا إذا صاحبه التصديق والإذعان.

قال ابن العربي : لما أسر من أسر من المشركين في بدر ، تكلم قوم منهم بالإسلام ، ولم يمضوا فيه عزيمة ، ولا اعترفوا به اعترافا جازما ، ويشبه أنهم أرادوا أن يتقربوا من المسلمين ولا يبعدوا عن المشركين فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ..) الآية.

قال علماؤنا : إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا ، وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها ، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.

وقد بين الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحقيقة فقال : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) أى إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك ، فأمكنك منهم. وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل ذلك منهم ، ويعوضهم خيرا مما

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٧.

(٢) صحيح البخاري «باب التيمم» ج ١ ص ٩١.

١٦٤

أخذ منهم ، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم (١).

ثم ختم الله ـ تعالى ـ سورة الأنفال بالحديث عن علاقة المسلمين بعضهم ببعض ، وعن علاقتهم بغيرهم من الكفار وعن الأحكام المنظمة لهذه العلاقات فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧٥)

هذه الآيات الكريمة التي ختم الله ـ تعالى ـ بها سورة الأنفال ، وضحت أن المؤمنين في العهد النبوي أقسام ، وذكرت حكم كل قسم منهم.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٧٨٤ طبعة عيسى الحلبي الطبعة الأولى سنة ١٩٥٧ م.

١٦٥

أما القسم الأول : فهم المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى.

وأما القسم الثاني : فهم الأنصار من أهل المدينة.

والقسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا.

والقسم الرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.

وقد عبر ـ سبحانه ـ عن القسمين : الأول والثاني بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ...).

أى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان (وَهاجَرُوا) أى تركوا ديارهم وأوطانهم وكل نفيس من زينة الحياة الدنيا. من أجل الفرار بدينهم من فتنة المشركين ، ومن أجل نشر دين الله في الأرض (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : أنهم مع إيمانهم الصادق ، وسبقهم بالهجرة إرضاء لله ـ تعالى ـ ، قد بالغوا في إتعاب أنفسهم من أجل نصرة الحق ، فقدموا ما يملكون من أموال ، وقدموا نفوسهم رخيصة لا في سبيل عرض من أعراض الدنيا ، وإنما في سبيل مرضاة الله ونصرة دينه.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هذا القسم الأول من المؤمنين وهم الذين سبقوا إلى الهجرة. بأعظم الصفات وأكرمها.

فقد وصفهم بالإيمان الصادق ، وبالمهاجرة فرارا بدينهم من الفتن ، وبالمجاهدة بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله.

وقد جاءت هذه الأوصاف الجليلة مرتبة حسب الوقوع ، فإن أول ما حصل منهم هو الإيمان ، ثم جاءت من بعده الهجرة ، ثم الجهاد.

ولعل تقديم المجاهدة بالأموال هنا على المجاهدة بالأنفس ، لأن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا ، وأتم دفعا للحاجة ، حيث لا تتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالأموال.

وقوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلق بقوله (جاهَدُوا) لإبراز أن جهادهم لم يكن لأى غرض دنيوى ، وإنما كان من أجل نصرة الحق وإعلاء كلمته ـ سبحانه ـ وقوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) بيان للقسم الثاني من أقسام المؤمنين في العهد النبوي ، وهم الأنصار من أهل المدينة الذين فتحوا للمهاجرين قلوبهم ، واستقبلوهم أحسن استقبال ، حيث أسكنوهم منازلهم ، وبذلوا لهم أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، ونصروهم على أعدائهم.

فالآية الكريمة قد وصفت الأنصار بوصفين كريمين.

أولهما : الإيواء الذي يتضمن معنى التأمين من الخوف ، إذا المأوى هو الملجأ والمأمن مما

١٦٦

يخشى منه ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ...) (١) ، وقوله ـ تعالى ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ...) (٢).

ولقد كانت المدينة مأوى وملجأ للمهاجرين ، وكان أهلها مثالا للكرم والإيثار ...

ثانيهما : النصرة ، لأن أهل المدينة قد نصروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين بكل ما يملكون من وسائل التأييد والمؤازرة ، فقد قاتلوا من قاتلهم ، وعادوا من عاداهم ، ولذا جعل الله ـ تعالى ـ حكمهم وحكم المهاجرين واحدا فقال : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

فاسم الإشارة يعود إلى المهاجرين السابقين ، وإلى الأنصار.

وقوله : (أَوْلِياءُ) جمع ولى ويطلق على الناصر والمعين والصديق والقريب ...

والمراد بالولاية هنا : الولاية العامة التي تتناول التناصر والتعاون والتوارث ..

أى : أولئك المذكورون الموصوفون بهذه الصفات الفاضلة يتولى بعضهم بعضا في النصرة والمعاونة والتوارث .. وغير ذلك ، لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة.

قال الآلوسى ما ملخصه : «روى عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، فكان المهاجر يرثه أخوه الأنصارى ، إذا لم يكن له بالمدينة ولى مهاجرى وبالعكس ، واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة .. وعليه فالآية منسوخة بقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ..).

وقال الأصم : الآية محكمة ، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة (٣).

والذي نراه أن الولاية هنا عامة فهي تشمل كل ما يحتاج إليه المسلمون فيما بينهم من تعاون وتناصر وتكافل وتوارث وغير ذلك ..

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ..) بيان لحكم القسم الثالث من أقسام المؤمنين في العهد النبوي ..

أى : هذا الذي ذكرته لكم قبل ذلك في الآية هو حكم المهاجرين السابقين والأنصار الذي آووهم ونصروهم أما حكم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم. فإنهم ليس بينهم وبين المهاجرين والأنصار ولاية إرث (حَتَّى يُهاجِرُوا) إلى المدينة ، كما أنكم ـ أيها المؤمنون ـ لا تنتظروا منهم تعاونا أو مناصرة ، لأنهم

__________________

(١) سورة الكهف الآية ١٠.

(٢) سورة يوسف الآية ٦٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣٧.

١٦٧

بسبب إقامتهم في أرض الشرك وتحت سلطانه ـ أصبحوا لا يملكون وسائل المناصرة لكم.

ثم قال ـ تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ).

أى : وإن طلب منكم هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة على أعدائكم في الدين ، فيجب عليكم أن تنصروهم ، لأنهم إخوانكم في العقيدة ، بشرط ألا يكون بينكم وبين هؤلاء الأعداء عهد ومهادنة ، فإنكم في هذه الحالة يحظر عليكم نصرة هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا ، لأن في نصرتهم ـ على من بينكم وبينهم عهد ـ نقضا لهذا العهد.

أى : إن نصرتكم لهم إنما تكون على الكفار الحربيين لا على الكفار المعاهدين وهذا يدل على رعاية الإسلام للعهود ، واحترامه للشروط والعقود.

قال الجمل : أثبت الله ـ تعالى ـ للقسمين الأولين النصرة والإرث ، ونفى عن هذا القسم الإرث وأثبت له النصرة (١).

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تذييل قصد به الترغيب في طاعة الله ، والتحذير من معصيته.

أى : والله ـ تعالى ـ مطلع على كل أعمالكم فأطيعوه ، ولا تخالفوا أمره.

قبل أن تذكر السورة القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، تتحدث عن ولاية الكفار بعضهم لبعض فتقول : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ).

أى : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتالكم وإيذائكم ـ أيها المؤمنون ـ فهم وإن اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم يتفقون على عداوتكم وإنزال الاضرار بكم.

وقوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) تحذير شديد للمؤمنين عن مخالفة أمره ـ سبحانه ـ.

أى : إلا تفعلوا ـ أيها المؤمنون ـ ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة كبيرة في الأرض ، ومفسدة شديدة فيها ، لأنكم إذا لم تصيروا يدا واحدة على الشرك ، يضعف شأنكم ، وتذهب ريحكم ، وتسفك دماؤكم ويتطاول أعداؤكم عليكم ، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم .. وبذلك تعم الفتنة ، وينتشر الفساد.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٥٩.

١٦٨

وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ، أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ..) كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار.

إذ أن الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة قد ساقها الله ـ تعالى ـ لإيجاب التواصل بينهم ، أما هذه الآية فقد ساقها سبحانه ـ للثناء عليهم والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله ، بخلاف من أقام من المؤمنين بدار الشرك ، مع الحاجة إلى هجرته وجهاده.

قال الفخر الرازي : أثنى الله ـ تعالى ـ على المهاجرين والأنصار من ثلاثة أوجه :

أولها ـ قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فإن هذه الجملة تفيد المبالغة في مدحهم ، حيث وصفهم بكونهم محقين في طريق الدين.

وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال.

وثانيها ـ قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) والتنكير يدل على الكمال ، أى : مغفرة تامة كاملة.

وثالثها ـ قوله : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) والمراد منه الثواب الرفيع.

والحاصل : أنه ـ سبحانه ـ شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب.

أما دفع العقاب فهو المراد بقوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان القسم الرابع من أقسام المؤمنين في العهد النبوي فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ..).

أى : والذين آمنوا من بعد المؤمنين السابقين إلى الإيمان والهجرة ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا مع المهاجرين السابقين والأنصار من أجل إعلاء كلمة الله ، فأولئك الذين هذا شأنهم (مِنْكُمْ) أى : من جملتكم ـ أيها المهاجرون والأنصار في استحقاق الموالاة والنصرة ، واستحقاق الأجر من الله ، إلا أن هذا الأجر ينقص عن أجركم ، لأنه لا يتساوى السابق في الإيمان والهجرة والجهاد مع المتأخر في ذلك.

قالوا : والمراد بهذا القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، أهل الهجرة الثانية التي وقعت بعد

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢١٢.

١٦٩

الهجرة الأولى ، وقيل المراد بهذا القسم المهاجرون بعد صلح الحديبية ، أو بعد غزوة بدر ، أو بعد نزول هذه الآية ، فيكون الفعل الماضي (آمَنُوا) وما بعده بمعنى المستقبل.

وقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ..) بيان لحقوق الأقارب بالنسب والأرحام جمع رحم ، وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد في بطنها ، وسمى به الأقارب ، لأنهم في الغالب من رحم واحدة وأولو الأرحام في اصطلاح علماء الفرائض : هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب.

أى : وذوو القرابة بعضهم أولى في التوارث وفي غير ذلك مما تقتضيه مطالب الحياة من التكافل والتراحم.

وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) أى : في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام في هذه الآية وغيرها.

قال الآلوسى : «أخرج الطيالسي والطبراني وغيرهما عن ابن عباس قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه ، وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب» (١).

أى أن هذه الآية الكريمة نسخت ما كان بين المهاجرين والأنصار من التوارث بسبب الهجرة والمؤاخاة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل ختمت به السورة الكريمة لحض المؤمنين على التمسك بما اشتملت عليه من آداب وتشريعات وأحكام لينالوا رضاه وثوابه.

أى : إن الله ـ تعالى ـ مطلع على كل شيء مما يدور ويجرى في هذا الكون ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المهاجرين والأنصار مدحا عظيما ، كما مدحت المؤمنين من بعدهم ، وحضت على الجهاد في سبيل الله ، وأمرت بالوفاء بالعهود ، وبالوقوف صفا واحدا في وجه الكفار حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

وبعد : فهذا ما وفق الله إليه في تفسير سورة الأنفال ، أو سورة بدر ـ كما سماها ابن عباس ـ لأنها تحدثت باستفاضة عن أحداث هذه الغزوة وعن أحوال المشتركين فيها ، وعن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣٩.

١٧٠

بشارات النصر التي تقدمتها وصاحبتها وعن غنائمها وأسراها.

كما تحدثت عن صفات المؤمنين الصادقين ، وعن الأقوال والأعمال التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها لينالوا رضا الله ونصره ، وعن رذائل المشركين ومسالكهم القبيحة لمحاربة الدعوة الاسلامية ، وعن المبادئ التي يجب أن يسير عليها المسلمون في حربهم وسلمهم ، وعن سنن الله في خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل ، والتي من أهمها :

أنه ـ سبحانه ـ لا يسلب نعمة عن قوم إلا بسبب معاصيهم وتنكبهم الطريق القويم ، قال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

وأنه ـ سبحانه ـ قد جعل العاقبة الحسنة للمؤمنين ، والعاقبة السيئة للفاسقين ، وأخبر المنحرفين عن صراطه بأنه سيغفر لهم ما سلف من خطاياهم متى أقلعوا عنها ، وأخلصوا له العبادة.

قال ـ تعالى ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ، وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

وختاما : نسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا للمداومة على خدمة كتابه ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأن يتمم لنا نورنا ويغفر لنا إنه على كل شيء قدير.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

د. محمد سيد طنطاوى

١٧١
١٧٢

تفسير

سورة التّوبة

١٧٣
١٧٤

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة التوبة ، توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات شاملة ، وحكم جليلة ، وتراكيب بليغة ..

والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا عنده ـ سبحانه ـ يوم نلقاه ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

١٧٥
١٧٦

تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبة

نقصد بهذا التمهيد ـ كما سبق أن بينا في تفسير السور السابقة ـ إعطاء القارئ صورة واضحة عن السورة التي سنفسرها قبل أن نبدأ في تفسيرها آية آية. فنقول :

١ ـ سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال.

٢ ـ وعدد آياتها مائة وتسعة وعشرون آية عند الكوفيين. ومائة وثلاثون آية عند جمهور العلماء.

٣ ـ أسماؤها :

عرفت هذه السورة منذ العهد النبوي بجملة من الأسماء منها :

(ا) التوبة : وسميت بهذا الاسم لتكرار الحديث فيها عن التوبة والتائبين ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ...) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...) (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ...) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تكررت في هذه السورة عن التوبة والتائبين.

(ب) براءة : وسميت بذلك لافتتاحها بقوله ـ سبحانه ـ : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...).

وهذان الاسمان ـ التوبة وبراءة ـ هما أشهر أسماء هذه السورة الكريمة.

(ج) الفاضحة : وسميت بهذا الاسم لحديثها المستفيض عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم .. وفضيحتهم على رءوس الأشهاد.

__________________

(١) الآية ٣.

(٢) الآية ١١.

(٣) الآية ٢٧.

(٤) الآية ١٠٢.

(٥) الآية ١٠٦.

١٧٧

أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة التوبة قال : التوبة هي الفاضحة. ما زالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لن تبقى أحدا منهم إلا ذكر فيها (١).

(د) المنقرة : وسميت بذلك ، لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين والمشركين فكشفت عنه ، وأظهرته للناس.

(ه) المثيرة : وسميت بهذا الاسم ، لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم. أى : أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.

(و) المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم. أى بينتها وعرفتها للمؤمنين.

(ز) المدمرة : أى المهلكة لهم.

إلى غير ذلك من الأسماء التي اشتهرت بها هذه السورة الكريمة (٢).

هذا ، وليس في سور القرآن الكريم أكثر أسماء منها ومن سورة الفاتحة.

٤ ـ زمان ومكان نزولها :

قال ابن كثير : هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال البخاري ...» (٣).

وقال صاحب المنار : هي مدنية بالاتفاق. وقيل : إلا قوله ـ تعالى ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ...) الآية وذلك لما روى في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهى عن استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه أبى طالب ـ كما سيأتى تفصيله عند تفسيرها.

ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك ، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.

واستثنى ابن الفرس قوله ـ تعالى ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) إلى آخر الآيتين اللتين في آخرها ؛ فزعموا أنهما مكيتان.

ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين من آخر ما نزل من القرآن ، كما يرده أيضا قول الكثيرين من أن هذه السورة نزلت تامة.

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٦ ص ١٨٣ ـ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٤٥.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣٦. الطباعة المنيرية الطبعة الثانية.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣١. طبعة عيسى الحلبي.

١٧٨

وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روى في أسباب النزول ، كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا. أعنى أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال. وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة» (١).

وقال بعض العلماء : ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك .. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.

ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى منها : كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.

والمرحلة الثانية : كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.

والمرحلة الثالثة : كانت بعد العودة منها.

أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها ، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة.

وهذا ـ على الإجمال ـ هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه (٢).

والذي نراه أن هذا القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة ؛ لأن الذي يستعرض آياتها يراها ـ في مجموعها ـ ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه علاقاتهم مع المشركين ، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ؛ ومع غيرهم من الطوائف.

كما يراها ترسم لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساسا لدولتهم. ومنهاجا لحياتهم ، حتى تستمر عزتهم ، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح الله لهم مكة وأذل الشرك وأهله.

كما يراها ـ أيضا ـ تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها. وغزوة تبوك قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة.

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ١٧٤.

(٢) تفسير «في ظلال القرآن» للمرحوم سيد قطب. الطبعة الخامسة سنة ١٣٨٦ ه‍ وسنة ١٩٦٧ م.

١٧٩

٥ ـ لما ذا لم تذكر البسملة في أول سورة التوبة؟.

للإجابة على هذا السؤال ذكر العلماء أقوالا متعددة لخصها القرطبي تلخيصا حسنا فقال :

واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة :

الأول : ـ أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه ، كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة ؛ فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ، بعث بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بن أبى طالب فقرأها عليهم في الموسم ، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهود من ترك البسملة.

وقول ثان : ـ روى النسائي قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف ، قال : حدثنا يزيد الرقاشي ـ وفي صحيح الترمذي يزيد الفارسي ـ قال : قال لنا ابن عباس : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني ، وإلى «براءة» وهي من المئين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؛ فما حملكم على ذلك؟

قال عثمان : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وكانت «الأنفال» من أوائل ما أنزل ـ أى بعد الهجرة ، و «براءة» من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها. وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.

وقول ثالث : روى عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرّحيم معه.

وروى ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها : فلذلك لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم.

وقال سعيد بن جبير : كانت مثل سورة البقرة.

وقول رابع : ـ قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان معا ، وثبت حجتاهما في المصحف.

١٨٠