التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

أى : (وَما تُنْفِقُوا) ـ أيها المؤمنون ـ (مِنْ شَيْءٍ) قل أو كثر هذا المنفق (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى في وجوه الخيرات التي من أجلّها الجهاد لإعلاء كلمة الدين (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أى : يصل إليكم عوضه في الدنيا وأجره في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أى : لا تنقصون شيئا من العوض أو الأجر.

قالوا : والتعبير بالظلم ـ مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما ـ لبيان كمال نزاهته ـ سبحانه ـ عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه ـ تعالى ـ من القبائح ، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه ـ تعالى ـ» (١).

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ وجوب إعداد القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن وعن كل ما يجب الدفاع عنه ، لأن أعداء الإسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم ، وخافوا بأسهم ، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم.

قال القرطبي : وقوله ـ تعالى ـ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ). أمر الله المؤمنين بإعداد القوة للأعداء ، بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله ـ تعالى ـ لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم ، وبحفنة من تراب ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن أراد أن يبتلى بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ ...» (٢).

وقال بعض العلماء : دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه ، ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزا ، عظيما ، أبى الضيم ، قوى القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار.

أما اليوم فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف ، فأهملوا فرضا من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ، ولذا تعانى اليوم من غصته ما تعانى.

وكيف لا يطمع العدو في بلاد الإسلام ، وهو لا يرى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو؟

أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، فتعد العدة التي أمر الله بها لأعدائها ، وتتلافى ما فرطت قبل أن يداهم العدو ما بقي منها بخيله ورجله ..؟

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٥٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٥.

١٤١

إن القوة التي طلب الله من المؤمنين إعدادها لإرهاب الأعداء ، تتناول كل ما من شأنه أن يجعل المؤمنين أقوياء. كإعداد الجيوش المدربة ، والأسلحة المتنوعة التي تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة.

وما روى من تفسير القوة ـ التي وردت في الآية ـ بالرمي ، فإنما هو على سبيل المثال ، ولأن الرمي كان في ذلك الوقت أقوى ما يتقوى به (١).

قال الفخر الرازي عند تفسيره للآية ، والمراد بالقوة هنا ما يكون سببا لحصول القوة ، وذكروا فيه وجوها :

الأول : المراد من القوة أنواع الأسلحة.

الثاني : روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية على المنبر وقال : «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثا.

الثالث : قال بعضهم : القوة هي الحصون.

الرابع : قال أصحاب المعاني : الأولى أن يقال : هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو ، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القوة هي الرمي» لا ينفى كون غير الرمي معتبرا. كما أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحج عرفة» «والندم توبة» لا ينفى اعتبار غيره. بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا هنا.

وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل ، والسلاح ، وتعليم الفروسية ، والرمي فريضة إلا أنه من فروض الكفايات (٢).

إن رباط الخيل للجهاد في سبيل الله فضله عظيم ، وثوابه كبير ، فقد كانت الخيل هي خير ما عرف العرب من وسائل الانتقال في الحرب وأسرعها ، وما زالت الخيل لها قيمتها في بعض أنواع الحروب.

قال القرطبي ، فإن قيل : إن قوله (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) كان يكفى ، فلما ذا خص الخيل بالذكر؟.

قيل له : إن الخيل لما كانت أصل الحرب وأوزارها (٣) التي عقد الخير في نواصيها ، وهي

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠٢٥.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٨٥ المطبعة البهية.

(٣) أوزار الحرب : أثقالها من آلة حرب وسلاح وغيره.

١٤٢

أقوى القوة ، وأشد العدة ، وحصون الفرسان ، وبها يجال في الميدان ، لما كانت كذلك خصها بالذكر تشريفا ، وأقسم بغبارها تكريما ، فقال : «والعاديات ضبحا» (١).

وقال الإمام ابن العربي : وأما رباط الخيل فهو فضل عظيم ومنزلة شريفة.

روى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل ثلاثة ، لرجل ستر ، ولرجل أجر ، وعلى رجل وزر. فأما الذي هي عليه وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء لأهل الإسلام ـ أى : مناوأة ومعاداة ـ فهي عليه وزر.

وأما الذي هي عليه ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في ظهورها فهي عليه ستر.

وأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات ..».

وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلوى ناصية فرس بإصبعيه وهو يقول : «الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة» (٢).

٤ ـ أن المقصود من إعداد العدة في الإسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين ، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم ، وحتى يستطيعوا أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحدا سواه ـ عزوجل ..

وليس المقصود بإعداد العدة إرهاب المسالمين ، أو العدوان على الآمنين ، أو القهر والإذلال للناس واستغلالهم فيما يغضب الله ـ تعالى ـ ..

ولذلك وجدنا الآية صريحة في بيان المقصود من هذا الإعداد ، وهو ـ كما عبرت عنه (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ ...).

وهناك آيات أخرى صريحة في بيان سبب مشروعية القتال في الإسلام ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٧.

(٢) أحكام القرآن ـ القسم الثاني ص ٨٦٢ لابن العربي. طبعة عيسى الحلبي. الطبعة الأولى سنة ١٩٥٧.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩٠.

(٤) سورة البقرة : الآية ١٩٣.

١٤٣

والخلاصة : أن من تتبع آيات القرآن الواردة في القتال يجدها جميعها تقرر أن سبب القتال في الإسلام ينحصر في رد العدوان ، وحماية الدعوة الإسلامية من التطاول عليها وتثبيت حرية العقيدة ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان.

٥ ـ وجوب الإنفاق في سبيل الله ، ومن أشرف وجوه الإنفاق في سبيل الله أن يبذل المسلم ما يستطيع بذله في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام ، والذي ما تركه قوم إلا ذلوا ... وألقوا بأنفسهم في التهلكة.

ولقد بشرت الآية الكريمة المنفقين في سبيل الله ، بأنه ـ سبحانه ـ سيجازيهم على إنفاقهم جزاء وافيا لا نقص معه ولا ظلم.

قال ـ تعالى ـ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) وفي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن أبى يحيى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف» (١).

ثم أمر ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبول السلم والمصالحة ، إذا ما رغب أعداؤه في ذلك ، وكانت ظواهرهم وأفعالهم تدل على صدق نواياهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣)

وقوله (جَنَحُوا) من الجنوح بمعنى الميل ، يقال : جنح فلان للشيء وإليه ـ يجنح ـ مثلث النون ـ جنوحا. أى : مال إليه.

__________________

(١) رياض الصالحين للإمام النووي ص ٤٨٩ طبعة عيسى الحلبي.

١٤٤

قال القرطبي : والجنوح : الميل. وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه. ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة ـ بضم الحاء وكسرها ـ أى : الأمعاء.

وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير قال ذو الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه

بذكراك والعيس المراسيل جنح (١)

وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيص «للسلم» ـ بكسر السين ـ وقرأ الباقون بالفتح. وإنما قال (لَها) لأن السلم مؤنثة ـ تأنيث نقيضها وهي الحرب .. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة (٢).

والمعنى : عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين الناقضين لعهودهم في كل مرة ، وأن تهيئ ما استطعت من قوة لإرهابهم فإن مالوا بعد ذلك إلى السلم أى : المسالمة والمصالحة فوافقهم ومل إليها ما دامت المصلحة في هذه المسألة.

وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) معطوف على (فَاجْنَحْ لَها) لقصد التثبيت وبعث الطمأنينة في قلبه.

أى : اقبل المسالمة ما دام فيها مصلحتك ، وفوض أمرك إلى الله ـ تعالى ـ ولا تخش مكرهم وكيدهم وغدرهم ، إنه ـ سبحانه ـ (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأحوالهم ، فيجازيهم بما يستحقون ، ويرد كيدهم في نحورهم.

وعبر ـ سبحانه ـ عن جنوحهم إلى السلم بحرف (إِنْ) الذي يعبر به عن الشيء المشكوك في وقوعه ، للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها ، وإنما هم جنحوا إليها لحاجة في نفوسهم ، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائما على حذر منهم ، وألا يأمنوا مكرهم.

هذا وقد اختلف العلماء فيمن عنى بهذه الآية. فمنهم من يرى أن المعنى بها أهل الكتاب ، ومنهم من يرى أن الآية عامة ، أى تشمل أهل الكتاب والمشركين. ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها منسوخة أولا؟

وقد حكى ابن جرير معظم هذه الخلافات ورجح أن المقصود بهذه الآية جماعة من أهل الكتاب ، وأن الآية ليست منسوخة فقال ما ملخصه :

عن قتادة أن قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ..) منسوخة بقوله في سورة براءة

__________________

(١) العيس : الإبل البيض. والمراسيل : سهلة السير وجنح : مائلة صدورها إلى الأرض.

(٢) تفسير القرطبي بتصرف يسير ج ٨ ص ٣٩.

١٤٥

(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١). وبقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (٢).

فقد كانت هذه ـ أى الآية التي معنا وهي قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ...) ـ قبل براءة. كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوادع القوم إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك بعد في براءة فقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

وعن عكرمة والحسن البصري قالا : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ...) نسختها الآية التي في براءة وهي قوله ـ تعالى ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) الآية (٣).

ثم قال ابن جرير : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا ثم قال ابن جرير : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.

لأن قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ..) إنما عنى به بنو قريظة ـ كما قال مجاهد ـ وكانوا يهودا أهل كتاب وقد أذن الله ـ جل ثناؤه ـ للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ، ومتاركتهم الحرب ، على أخذ الجزية منهم ، وأما قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ..) فإنما عنى به مشركو العرب من عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم ، فليس في إحدى الآيتين نفى حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه .. (٤).

هذا ما يراه ابن جرير. أما ابن كثير فقد وافقه على أن الآية ليست منسوخة ، وخالفه في أن المقصود بها بنو قريظة ، فهو يرى أن الآية عامة فقد قال ـ رحمه‌الله ـ :

قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا) أى : مالوا (لِلسَّلْمِ) أى المسالمة والمصالحة والمهادنة (فَاجْنَحْ لَها) أى : فمل إليها واقبل منهم ذلك. ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر ...

وقال مجاهد : نزلت في بنى قريظة ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله في موقعة بدر ، وذكرها مكتنف لها كله.

وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة : إن الآية منسوخة بآية السيف في براءة ، وهي قوله ـ تعالى ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).

__________________

(١) سورة براءة «التوبة» الآية ٥.

(٢) سورة براءة «التوبة» الآية ٣٦.

(٣) سورة براءة «التوبة» الآية ٢٩.

(٤) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٣٤.

١٤٦

وفيه نظر أيضا ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة (وَإِنْ جَنَحُوا ...) وكما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية. فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ..» (١).

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن كثير أرجح ، لأن الآية الكريمة تقرر مبدأ عاما في معاملة الأعداء ، وهو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ما دام ذلك في مصلحة المسلمين.

ولعل هذا هو ما قصده صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية ـ : «والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم. وليس يحتم أن يقاتلوا أبدا. أو يجابوا إلى الهدنة أبدا» (٢).

ثم أمن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خداع أعدائه ، إن هم أرادوا خيانته ، وبيتوا له الغدر من وراء الجنوح إلى السلم فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ).

أى : وإن يرد هؤلاء الأعداء الذين جنحوا إلى السلم في الظاهر أن يخدعوك ـ يا محمد ـ لتكف عنهم حتى يستعدوا لمقاتلتك فلا تبال بخداعهم ، بل صالحهم مع ذلك إذا كان في الصلح مصلحة للإسلام وأهله ، ولا تخف منهم ، فإن الله كافيك بنصره ومعونته ، فهو ـ سبحانه ـ الذي أمدك بما أمدك به من وسائل النصر الظاهرة والخافية ، وهو ـ سبحانه ـ الذي أيدك بالمؤمنين الذين هانت عليهم أنفسهم وأموالهم في سبيل إعزاز هذا الدين ، وإعلاء كلمته ..

فالآية الكريمة تشجيع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السير في طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإسلام وأهله ، وتبشير له بأن النصر سيكون له حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم المخادعة والمراوغة. وقوله : (حَسْبَكَ) صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. أى. بحسبك وكافيك.

قال الفخر الرازي : فإن قيل : أليس قد قال ـ تعالى ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ...) أى : أظهر نقض ذلك العهد ، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية؟

قلنا : قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها ، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير ، إلا أنه لم تظهر أمارات على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة ، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسالمة وترك المنازعة ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٣.

١٤٧

فإن قيل : لما قال : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) فأى حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال (وَبِالْمُؤْمِنِينَ)؟

قلنا : التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين : أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثاني ما يحصل بواسطة أسباب معلومة.

فالأول هو المراد من قوله (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) والثاني هو المراد من قوله : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال ـ تعالى ـ : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).

أى : أن من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك ـ سبحانه ـ بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله ـ تعالى ـ كالنفس الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة المتنازعة (وَلكِنَّ اللهَ) بفضله وقدرته هو وحده الذي (أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فصاروا إخوانا متحابين متصافين (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (عَزِيزٌ) أى : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن (حَكِيمٌ) في كل أفعاله وأحكامه ..

وهذه الآية الكريمة يؤيدها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب ـ وخصوصا الأوس والخزرج ـ كانوا قبل الإسلام في حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنازع والتحارب .. فلما دخلوا في الإسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ، وتفرقهم إلى اتحاد ... وصاروا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل ...

ولقد أجاد صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ في تصويره لهذه المعاني حيث قال : «التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات الباهرة ، لأن العرب ـ لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة .. ـ لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٨٨.

١٤٨

والتماقت ، وكلفهم من الحب ، في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد.

قيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم. ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى. وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس. وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر منه.

فأنساهم الله ـ تعالى ـ ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا ، وعادوا أعوانا ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته» (١). هذا ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم «حنين» قال لهم : يا معشر الأنصار!! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؛ وعالة فأغناكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا : الله ورسوله أمن» (٢).

وروى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم يقرأ قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ...) (٣).

ثم مضت السورة الكريمة في تثبيت الطمأنينة في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قلوب أصحابه ، فبينت لهم أن الله كافيهم وناصرهم ، وأن القلة منهم تغلب الكثرة من أعداء الله وأعدائهم فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٣.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٠٠ من «كتاب المغازي» طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٤٥ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٠٨ من «كتاب الزكاة».

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٣.

١٤٩

الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٦٦)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات ، وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار ؛ لأن المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم.

والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا.

وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ...» (١).

وقوله : (حَسْبُكَ) صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل ، والكاف في محل جر.

والواو في قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) بمعنى مع ، و (مَنِ) في محل نصب عطفا على الموضع ، فإن قوله (حَسْبُكَ) بمعنى كافيك في جميع أمورك.

والمعنى : يا أيها النبي كافيك الله وكافى متبعيك من المؤمنين فهو ـ سبحانه ـ ناصركم ومؤيدكم على أعدائكم وإن كثر عددهم وقل عددكم ، وما دام الأمر كذلك ، فاعتمدوا عليه وحده ، وأطيعوه في السر والعلن ؛ لكي يديم عليكم عونه وتأييده ونصره.

قال بعض العلماء : قال ابن القيم عند تفسيره لهذه الآية : أى : الله وحده كافيك وكافى أتباعك فلا يحتاجون معه إلى أحد. ثم قال : وهاهنا تقديران :

أحدهما : أن تكون الواو عاطفة للفظ «من» على الكاف المجرورة ..

والثاني : أن تكون الواو بمعنى «مع» وتكون «من» في محل نصب عطفا على الموضع ، فإن «حسبك» في معنى كافيك أى : الله يكفيك ويكفى من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال الشاعر :

وإذا كانت الهيجاء وانشقت العصا

فحسبك والضحاك سيف مهند

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٩١. طبعة عبد الرحمن محمد.

١٥٠

وهذا أصح التقديرين. وفيها تقدير ثالث ؛ أن تكون «من» في موضع رفع بالابتداء : أى ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله.

وفيها تقدير رابع وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون «من» في موضع رفع عطفا على اسم الله. ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك.

هذا وإن قال به بعض الناس فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة ...» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحريض المؤمنين على القتال من أجل إعلاء كلمة الحق ، فقال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ...).

وقوله : (حَرِّضِ) من التحريض بمعنى الحث على الشيء بكثرة التزيين له ، وتسهيل الأمر فيه حتى تقدم عليه النفس برغبة وحماس.

قال الراغب : الحرض ما لا يعتد به ولا خير فيه ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك حرض. قال ـ تعالى ـ (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) ..

والتحريض : الحث على الشيء .. فكأنه في الأصل إزالة الحرض نحو حرضته وقذيته أى : أزلت عنه الحرض والقذى ..» (٢).

والمعنى : يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين وإحمائهم على القتال بصبر وجلد ، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.

ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرض أصحابه على القتال عند صفهم ومواجهة الأعداء كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض». فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله : نعم. فقال عمير : بخ بخ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يحملك على قولك بخ بخ»؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإنك من أهلها» فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن» ثم ألقى بقيتهن من يده وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل ـ رضى الله عنه ـ (٣).

وقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠٣٠.

(٢) المفردات في غريب القرآن ص ١١٣.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٤.

١٥١

مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) بشارة من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ووعد لهم بالظفر على أعدائهم.

أى : قابلوا ـ أيها المؤمنون أعداءكم بقوة وإقدام ، فإنكم إن يوجد منكم عشرون رجلا صابرون يغلبوا ـ بسبب إيمانهم وصبرهم ـ مائتين من الكافرين ، وإن يوجد منكم مائة يغلبوا ألفا منهم ، وذلك بسبب أن هؤلاء الكافرين قوم جهلة بحقوق الله ـ تعالى ـ وبما يجب عليهم نحوه.

فهم ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ : «يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم» فيقل ثباتهم. ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ، ويستحقون الخذلان. بخلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله ـ تعالى ـ» (١).

وقال صاحب المنار : والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين وأفقه منهم بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم. وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين ...

وهكذا كان المؤمنون في قرونهم الأولى .. أما الآن فقد أصبح المسلمون غافلين عن هذه المعاني الجليلة ، فزال مجدهم .. (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله على المؤمنين ورحمته بهم فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ..).

وقوله (ضَعْفاً) قرأه بعضهم بفتح الضاد ، وقرأه آخرون بضمها ، وهما بمعنى واحد عند الجمهور ، والمراد به الضعف في البدن.

وقيل الضعف ـ بالفتح ـ يكون في الرأى والعقل ، وبالضم يكون في البدن.

والمعنى : لقد فرضنا عليكم ـ أيها المؤمنون ـ أول الأمر أن يثبت الواحد منكم أمام عشرة من الكافرين .. والآن وبعد أن شق عليكم الاستمرار على ذلك ، ولم تبق هناك ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عددكم .. شرعنا لكم التخفيف رحمة بكم ، ورعاية لأحوالكم ، فأوجبنا عليكم أن يثبت الواحد منكم أمام اثنين من أعدائكم بدلا من عشرة ، وبشرناكم بأنه إن يوجد منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من أعدائكم ، وإن يوجد منكم ألف يغلبوا ألفين منهم بإذن الله وتيسيره وتأييده.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٥.

(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٨٩ بتصريف وتلخيص.

١٥٢

وقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

أى : والله ـ تعالى ـ مع الصابرين بتأييده ورعايته ونصره ، فاحرصوا على أن تكونوا من المؤمنين الصادقين لتنالوا منه ـ سبحانه ـ ما يسعدكم في دنياكم وآخرتكم.

هذا ، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية قد نسخت الآية السابقة عليها ، ومنهم من يرى غير ذلك.

قال الآلوسى : قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ ..) شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة ، والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا ـ بعون الله وتأييده ـ فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى.

والمعنى : ليصبرن الواحد لعشرة ؛ وليست بخبر محض ...

وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ..) أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لما نزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ ..) شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف وهل يعد ذلك نسخا أولا؟ قولان : اختار بعضهم الثاني منهما وقال : إن الآية مخففة ، ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر.

وذهب الجمهور إلى الأول ، وقالوا : إن الآية الثانية ناسخة للأولى (١). وقال بعض العلماء : فرض الله على المؤمنين أول الأمر ألا يفر الواحد من المؤمنين من العشرة من الكفار ، وكان ذلك في وسعهم ، فأعز الله بهم الدين على قلتهم ، وخذل بأيديهم المشركين على كثرتهم ، وكانت السرايا تهزم من المشركين أكثر من عشر أمثالها تأييدا من الله لدينه.

ولما شق على المؤمنين الاستمرار على ذلك ، وضعفوا عن تحمله ، ولم تبق ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عدد المسلمين ممن دخلوا في دين الله أفواجا نزل التخفيف ، ففرض على الواحد الثبات للاثنين من الكفار ، ورخص له في الفرار إذا كان العدو أكثر من اثنين.

وهو رخصة كالفطر للمسافر ، وذهب الجمهور إلى أنه نسخ» (٢).

وقال الشيخ القاسمى : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغنى عن كفاية مائة لألف. وكفاية مائة لمائتين تغنى عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية فما سر هذا التكرير؟

أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التقرير المفيد لزيادة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣١ بتصريف وتلخيص.

(٢) صفوة البيان لمعانى القرآن ص ٣٠٧ لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين مخلوف.

١٥٣

الاطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي.

وقيل في سر ذلك : إنه بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددهم العشرات والمئات إلى الألوف.

ثم قال : وقال في البحر : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة ، وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) مبالغة في شدة المطلوبية ، وإشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتما ، لأن من كان الله معه لا يغلب ...» (١).

وبعد هذا الحديث المستفيض عن القتال في سبيل الله .. عقب ـ سبحانه ـ ذلك بالحديث عن بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرى بمناسبة ما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أسرى غزوة بدر من الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ :

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٦٩)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب : أنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠٣٩.

١٥٤

فقتل المسلمون من المشركين يومئذ سبعين وأسروا سبعين.

قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى أن يهديهم الله إلى الإسلام.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال : قلت لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان ـ نسيب لعمر ـ فأضرب عنقه ، ـ حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين : فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده. فهوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت :

فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله. أخبرنى من أى شيء تبكى أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبكى على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة؟؟؟ لشجرة قريبة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...) إلخ الآيات (١).

وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تقولون في هؤلاء الأسارى»؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله! قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم.

وقال عمر : يا رسول الله! كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم.

وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت بواد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم فيه.

قال : فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد شيئا. ثم قال فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبى بكر. وقال ناس : يأخذ بقول عمر. وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة.

ثم خرج عليهم رسول الله فقال : «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين ؛ ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٥٦ من كتاب الجهاد والسير طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٦٠.

١٥٥

إبراهيم إذ قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) وكمثل عيسى إذ قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٣) ، وكمثل موسى إذ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٤).

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق».

قال ابن مسعود : فقلت يا رسول ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله ثم قال : «إلا سهيل بن بيضاء». وأنزل الله ـ عزوجل ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...) إلى آخر الآية (٥).

وقال ابن إسحاق ـ وهو يحكى أخبار غزوة بدر ـ : فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوشحا السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ، يخافون عليه الكرة. ورأى رسول الله ـ فيما ذكر لي ـ في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم»؟ فقال : أجل والله يا رسول الله : كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال (٦).

قوله : (أَسْرى) : جمع أسير كقتلى جمع قتيل. وهو مأخوذ من الأسر بمعنى الشد بالإسار أى : القيد الذي يقيد به حتى لا يهرب ، ثم صار لفظ الأسير يطلق على كل من يؤخذ من فئته في الحرب ولو لم يشد بالإسار.

وقوله (يُثْخِنَ) من الثخانة وهي في الأصل الغلظ والصلابة. يقال : ثخن الشيء يثخن ثخونة وثخانة وثخنا ، أى : غلظ وصلب فهو ثخين ، ثم استعمل في الكناية والمبالغة في قتل العدو فقيل : أثخن فلان في عدوه. أى : بالغ في قتله وإنزال الجراحة الشديدة به ، لأنه بذلك يمنعه من الحركة فيصير كالثخين الذي لا يسيل ولا يتحرك.

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٣٦.

(٢) سورة المائدة الآية ١١٨.

(٣) سورة نوح الآية ٢٦.

(٤) سورة يونس الآية ٨٨.

(٥) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٥.

(٦) الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام ج ٥ ص ١٠٦.

١٥٦

والمراد بالنبي في قوله (ما كانَ لِنَبِيٍ) : نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما جيء باللفظ منكرا تلطفا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يواجه بالعتاب.

والمعنى : ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) من أعدائه الذين يريدون به وبدعوته شرا (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أى : حتى يبالغ في قتلهم ، وإنزاله الضربات الشديدة عليهم إذلالا للكفر وإعزازا لدين الله.

وقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) استئناف مسوق للعتاب.

والعرض ؛ ما لا ثبات له ولا دوام من الأشياء ، فكأنها تعرض ثم تزول ، والمراد بعرض الدنيا هنا : الفداء الذي أخذوه من أسرى غزوة بدر حتى يطلقوا سراحهم.

تريدون ـ أيها المؤمنون ـ بأخذكم الفداء من أعدائكم الأسرى عرض الدنيا ومتاعها الزائل ، وحطامها الذي لا ثبات له ، والله ـ تعالى ـ يريد لكم ثواب الآخرة.

فالكلام في قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والإرادة هنا بمعنى الرضا أى : والله ـ تعالى ـ يرضى لكم العمل الذي يجعلكم تظفرون بثوابه في الآخرة ، وهو تفضيل إذلال الشرك على أخذ الفداء من أهله.

وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ (عَزِيزٌ) لا يغالب بل هو الغالب على أمره (حَكِيمٌ) في كل ما يأمر به أو ينهى عنه.

فالآية الكريمة تعتب على المؤمنين ، لأنهم آثروا الفداء على القتل والإثخان في الأرض ، وذلك لأن غزوة بدر كانت أول معركة حاسمة بين الشرك والإيمان ، وكان المسلمون فيها قلة والمشركون كثرة ، فلو أن المسلمين آثروا المبالغة في إذلال أعدائهم عن طريق القتل لكان ذلك أدعى لكسر شوكة الشرك وأهله ، وأظهر في إذلال قريش وحلفائها ، وأصرح في بيان أن العمل على إعلاء كلمة الله كان عند المؤمنين فوق متع الدنيا وأعراضها ، وأنهم لا يوادون من حارب الله ورسوله مهما بلغت درجة قرابته ، وهذا ما عبر عنه عمر ـ رضى الله عنه ـ بقوله : «وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين».

والخلاصة أن غزوة بدر ـ بظروفها وملابساتها التي سبق أن أشرنا إليها ـ كان الأولى بالمسلمين فيها أن يبالغوا في قتل أعدائهم لا أن يقبلوا منهم فداء حتى يذلوهم ويعجزوهم عن معاودة الكرة.

ورضى الله ـ تعالى ـ عن «سعد بن معاذ» فقد ظهرت الكراهية على وجهه بسبب أخذ الفداء من الأسرى ، وقال ـ كما سبق أن بينا ـ : «.. كانت غزوة بدر ـ أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إلىّ من استبقاء الرجال».

١٥٧

قال الفخر الرازي : قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوى سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (١).

ثم قال الرازي : وأقول : إن هذا الكلام يوهم أن قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها : وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض مظاهر رحمته بالمؤمنين : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

والمراد بالكتاب هنا : الحكم ، وأطلق عليه كتاب لأن هذا الحكم مكتوب في اللوح المحفوظ.

وللمفسرين أقوال في تفسير هذا الحكم السابق في علم الله ـ تعالى ـ :

فمنهم من يرى أن المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب المخطئ في اجتهاده.

وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره لهذه الآية بهذا الرأى فقال قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ). أى : لو لا حكم منه سبق إثباته في اللوح المحفوظ ، وهو أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب أحدا بخطإ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد ، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، وأفل لشوكتهم ..» (٣).

ومنهم من يرى أن المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب قوما إلا بعد تقديم النهى عن الفعل ولم يتقدم نهى عن أخذ الفداء.

ومنهم من يرى أن المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذبهم ما دام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم.

أو أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا.

وقد ساق الإمام الرازي هذه الأقوال وناقشها ثم اختار أن المراد بالكتاب الذي سبق : هو حكمه ـ سبحانه ـ في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه.

__________________

(١) سورة محمد ـ عليه‌السلام ـ الآية ٥.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٣ ص ٢٠٢.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٧.

١٥٨

أما الإمام ابن جرير فهو يرى : أن الآية خبر عام غير محصور على معنى دون معنى ، وأنه لا وجه لأن يخص من ذلك معنى دون معنى .. فقال : يقول الله ـ تعالى ـ لأهل بدر الذين أخذوا من الأسرى الفداء (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ..).

أى : لو لا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله يحل لكم الغنيمة ، وأن الله قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، وأنه لا يعذب أحدا شهد هذا المشهد الذي شهدتموه ببدر .. لو لا كل ذلك لنالكم من الله بأخذكم الفداء عذاب عظيم» (١).

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير ـ من أن الآية خبر عام يشمل كل هذه المعاني ـ أولى بالقبول ، لأنه لم يوجد نص صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدد تفسير المراد من هذا الكتاب السابق في علمه ـ تعالى ـ.

ولعل الحكمة في هذا الإبهام لتذهب الأفهام فيه إلى كل ما يحتمله اللفظ ، ويدل عليه المقام ، ولكي يعرفوا أن أخذهم الفداء كان ذنبا يستحقون العقوبة عليه لو لا أن الله ـ تعالى ـ قدر في الأزل العفو عنهم بسبب وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، ولأنهم قد أخطئوا في اجتهادهم ، ولأنهم لم يتقدم لهم نهى عن ذلك ، ولأنهم قد شهدوا هذه الغزوة التي قال الرسول في شأن من حضرها على لسان ربه ـ عزوجل ـ : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

فقد روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر في قصة حاطب بن أبى بلتعة عند ما أخبر المشركين بأن الرسول سيغزوهم قبل فتح مكة وكان حاطب قد شهد بدرا : «وما يدريك لعل الله ـ تعالى ـ اطلع على أهل بدر وقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (٢).

والمعنى الإجمالى للآية الكريمة : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أى : لو لا حكم من الله ـ تعالى ـ سبق منه في الأزل ألا يعذب المخطئ على اجتهاده أو ألا يعذب قوما قبل تقديم البيان إليهم .. ولو لا كل ذلك (لَمَسَّكُمْ) أى لأصابكم (فِيما أَخَذْتُمْ) أى بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره في شدته وألمه.

قال ابن جرير : قال ابن زيد : لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب ، جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال : يا رسول الله مالنا

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٤٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣٥.

١٥٩

وللغنائم؟ نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك» ..

وقال ابن إسحاق : لما نزلت (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ...) الآية. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله : يا نبي الله ، كان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال» (١).

وقال بعض العلماء : قال القاضي ، وفي الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ، وأنه قد يكون خطأ ، ولكن لا يقرون عليه (٢).

ثم زاد ـ سبحانه ـ المؤمنين فضلا ومنه فقال : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال الآلوسى روى أنه لما نزلت الآية الأولى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ..) كف الصحابة أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية.

فالمراد بقوله (مِمَّا غَنِمْتُمْ) إما الفدية وإما مطلق الغنائم ، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية ، وإلا فحل الغنيمة مما عداها علم سابقا من قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) ..

وقيل المراد بقوله : (مِمَّا غَنِمْتُمْ) الغنائم من غير اندراج الفدية فيها ، لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدا منهم ، لا ظنا لحرمتها .. والفاء للعطف على سبب مقدر ، أى قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم (٣).

والمعنى : لقد عفوت عنكم ـ أيها المؤمنون ـ فيما وقعتم فيه من تفضيلكم أخذ الفداء من الأسرى على قتلهم ، وأبحت لكم الانتفاع بالغنائم فكلوا مما غنمتم من أعدائكم حلالا طيبا ، أى لذيذا هنيئا لا شبهة في أكله ولا ضرر (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل أحوالكم بأن تخشوه وتراقبوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولذا غفر لكم ما فرط منكم وأباح لكم ما أخذتموه من فداء. فسبحانه من إله واسع الرحمة والمغفرة ، لمن اتقاه وتاب إليه توبة صادقة.

وقوله (حَلالاً) حال من «ما» الموصولة في قوله : (مِمَّا غَنِمْتُمْ) أو صفة لمصدر محذوف ، أى : أكلا حلالا.

ووصف هذا المأمور بأكله بأنه حلال طيب ، تأكيدا للإباحة حتى يقبلوا على الأكل منه بدون

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٤٨.

(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٩٣٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣٦.

١٦٠