التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

والذي نراه بعد هذا العرض لأقوال المفسرين : أن الآية الكريمة صريحة في أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم ، وأنه قد قال لهم ـ ما حكاه القرآن عنه : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) وأنه حين تراءى الجمعان كذب فعله قوله ، فقد (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) وقال للمشركين الذين وعدهم ومناهم بالنصر (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

ومن العسير علينا بعد ذلك أن نحدد تحديدا قاطعا كيفية هذا التزيين والقول والنكوص : أهو حسى أم غير حسى ؛ لأن التحديد القاطع لا بد أن يستند إلى نص صريح في دلالته على المعنى المراد ، وصحيح في نسبته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا النص غير موجود ، لأن الحديث الذي أخرجه الإمام مالك في موطئه ـ والذي سبق أن ذكرناه ـ قال عنه ابن كثير وابن حجر إنه حديث مرسل ، وزيادة على ذلك ففي بعض رجاله من هو ضعيف الحديث كابن الماجشون ، ولأن الروايات التي رويت في تمثيل الشيطان بصورة سراقة قد جاء معظمها عن ابن عباس ، وابن عباس ـ كما يقول صاحب المنار ـ كان سنه يوم بدر خمس سنين. فروايته لأخبارها منقطعة.

إذا فنحن نؤمن بما أثبته القرآن من أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم ، وأنه قد قال لهم ما قاله ـ مما حكاه القرآن عنه ـ ، وأنه قد نكص على عقبيه .. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد كيفية ذلك.

ويعجبني في هذا المقام قول بعض الكاتبين عند تفسيره لهذه الآية : «وفي هذا الحادث نص قرآنى يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج ... وأنه بعد ذلك «نكص على عقبيه ..» فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم.

ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم والتي قال لهم بها : لا غالب لكم اليوم من الناس ... والتي نكص بها كذلك.

الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ، ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء من أمره إلا بنص قرآنى أو حديث نبوي صحيح ، والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث.

فإلى هنا ينتهى اجتهادنا ، ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفى الحركة الحسية عن هذه العوالم ، وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ...) واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان

١٢١

لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ... إلخ ما ذكره الشيخ رشيد في تفسير الآية (١).

هذا ، وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ..) بيان لصنفين آخرين من أعداء المسلمين بعد بيان العدو الرئيسى وهم المشركون الذين خرجوا بطرا ورئاء الناس لمحاربة الإسلام وقد شجعهم الشيطان على ذلك.

قال الفخر الرازي : أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج ـ كانوا يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ولم يخرج منهم أحد إلى بدر سوى عبد الله بن أبى ـ وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا ولم يهاجروا.

ثم إن قريشا لما خرجوا لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أولئك : نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا ..

وعامل الإعراب في «إذ» فيه وجهان : الأول : التقدير ، والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون» ..

والثاني : اذكروا إذ يقول المنافقون ..» (٢).

وقوله : (غَرَّ) أى : خدع ، من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهرة وشيطان.

أى : اذكروا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم : أى خدعهم ، لأنكم أقدمتم على قتال قوم يفوقونكم عدة وعددا ، وهذا القتال ـ في زعمهم ـ لون من إلقاء النفس إلى التهلكة ، لأنهم قوم لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ، فهم لخراب بواطنهم من العقيدة السليمة ، لا يعرفون أثرها في الإقدام من أجل نصرة الحق ولا يقدرون ما عليه أصحابها من صلة طيبة بالله ـ عزوجل ـ الذي بيده النصر والهزيمة ..

وماداموا قد فقدوا تلك المعرفة ، وهذا التقدير ، فلا تستبعدوا منهم ـ أيها المؤمنون ـ أن يقولوا هذا القول عنكم ، فذلك مبلغهم من العلم ، وتلك موازينهم في قياس الأمور ...

والحق ، أن الإنسان عند ما يتدبر ما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض في حق المؤمنين عند ما أقدموا على حرب أعدائهم في بدر ...

__________________

(١) راجع تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٠ ص ٣٠ ـ للأستاذ سيد قطب ـ وقد نقلنا قبل ذلك جانبا من كلام صاحب المنار.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٧٦.

١٢٢

أقول : عند ما يتدبر ذلك ليرى أن هذا القول دأب كل المنافقين والذين في قلوبهم مرض في كل زمان ومكان.

إننا في عصرنا الحاضر رأينا كثيرين من أصحاب العقيدة السليمة ، والنفوس النقية ، والقلوب المضحية بكل شيء في سبيل نصرة الحق .. رأينا هؤلاء يبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه ويهاجمون الطغاة والمبطلين والفجار ، ليمكنوا لدين الله في الأرض ، حتى ولو أدت بهم هذه المهاجمة إلى بذل أرواحهم.

ورأينا في مقابل هؤلاء الصادقين أقواما ـ ممن آثروا شهوات الدنيا على كل شيء ـ لا يكتفون بالصمت وهم يشاهدون أصحاب العقيدة السليمة يصارعون الطغاة.

بل هم ـ بسبب خلو نفوسهم من المثل العليا ـ يلقون باللوم على هؤلاء المؤمنين ، ويقولون ما حكاه القرآن من أقوال في أشباههم السابقين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم.

إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنونها بميزان الإيمان.

إن المؤمن يرى التضحية في سبيل الحق مؤدية إلى إحدى الحسنين النصر أو الشهادة.

أما هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، فلا يرون الحياة إلا متعة وشهوة وغنيمة (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) حض للمؤمنين على التمسك بما يدعوهم إليه إيمانهم من استقامة وقوة ..

أى : ومن يكل أمره إلى الله ، ويثق به ـ ينصره ـ سبحانه ـ على أعدائه ، فإنه ـ عزوجل ـ عزيز لا يغلبه شيء ، حكيم فيما يدبر من أمر خلقه.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد صورت تصويرا بديعا ما عليه الكافرون وأشباههم من بطر ومفاخرة وصد عن سبيل الله .. ومن طاعة للشيطان أوردتهم المهالك.

وحكت ما قالوه من أقوال تدل على جبنهم وجهلهم وانطماس بصيرتهم.

ونهت المؤمنين عن التشبه بهم ، لأن البطر والمفاخرة والبغي ، واتباع الشيطان : كل ذلك يؤدى إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

ولقد كان أبو جهل قمة في البغي والبطر والمراءاة عند ما قال ـ بعد أن نصحه الناصحون

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٥٨.

١٢٣

بالرجوع عن الحرب فقد نجت العير : «لا لن نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم ثلاثا ، ننحر الجزر ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبدا».

وعند ما بلغت مقالة أبى جهل أبا سفيان قال : «وا قوماه!! هذا عمل عمرو بن هشام «يعنى أبا جهل» كره أن يرجع ؛ لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم. إن أصاب محمد النفير ذللنا».

وصدقت فراسة أبى سفيان ، فقد أصاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النفير وتسر بل المشركون بالذل والهوان في بدر بسبب بطرهم وريائهم وصدهم عن سبيل الله ، واتباعهم لخطوات الشيطان.

فاللهم نسألك أن توفقنا إلى ما يرضيك ، وأن تجنبنا البطر والرياء وسوء الأخلاق.

وبعد هذا البيان لأحوال الكافرين في حياتهم ؛ انتقل القرآن لبيان أحوالهم عند مماتهم.

فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٥١)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى ..) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب و (لَوْ) شرطية ، وجوابها محذوف لتفظيع الأمر وتهويله.

والمراد بالذين كفروا : كل كافر ، وقيل المراد بهم قتلى غزوة بدر من المشركين.

قال ابن كثير : وهذا السياق وإن كان سببه غزوة بدر ، ولكنه علم في حق كل كافر. ولهذا لم يخصصه الله بأهل بدر بل قال ـ سبحانه ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ...) (١).

والفعل المضارع هنا وهو (تَرى) بمعنى الماضي ، لأن لو الامتناعية ترد المضارع ماضيا.

والفعل (يَتَوَفَّى) فاعله محذوف للعلم به وهو الله ـ عزوجل ـ وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول وعليه يكون : (الْمَلائِكَةُ) مبتدأ ، وجملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ...) خبر.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١٩.

١٢٤

والمعنى ولو عاينت وشاهدت أيها العاقل حال الذين كفروا حين يتوفى الله أرواحهم ، لعاينت وشاهدت منظرا مخيفا ، وأمرا فظيعا تقشعر من هوله الأبدان.

ثم فصل الله ـ سبحانه ـ هذا المنظر المخيف بجملة مستأنفة فقال : (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) والمراد بوجوههم : ما أقبل منهم وبأدبارهم : ما أدبر وهو كل الظهر.

أى : الملائكة عند ما يتوفى الله ـ تعالى ـ هؤلاء الكفرة يضربون ما أقبل منهم وما أدبر ، لإعراضهم عن الحق ، وإيثارهم الغي على الرشد.

ومنهم من يرى أن الفعل (يَتَوَفَّى) فاعله (الْمَلائِكَةُ) وأن قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول وقدم على الفاعل للاهتمام به.

وعليه تكون جملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ..) حال من الفاعل وهو الملائكة.

فيكون المعنى : ولو رأيت ـ أيها العاقل ـ حال الكافرين عند ما تتوفى الملائكة أرواحهم فتضرب منهم الوجوه والأدبار ، لرأيت عندئذ ما يؤلم النفس ، ويخيف الفؤاد.

ويبدو لنا أن التفسير الأول أبلغ ، لأن توضيح وتفصيل الرؤية بالجملة الاسمية المستأنفة خير منه بجملة الحال ، ولأن إسناد التوفي إلى الله أكثر مناسبة هنا ، إذ أن الله ـ تعالى ـ قد بين وظيفة الملائكة هنا فقال : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).

وخص ـ سبحانه ـ الضرب للوجوه والأدبار بالذكر ، لأن الوجوه أكرم الأعضاء ، ولأن الأدبار هي الأماكن التي يكره الناس التحدث عنها فضلا عن الضرب عليها. أو لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد وأعظم.

وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) معطوف على قوله (يَضْرِبُونَ) بتقدير القول. أى يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم : ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التي كنتم تكذبون بها في الدنيا.

والذوق حقيقة إدراك المطعومات. والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه.

والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم ، والاستهزاء بهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وهو أيضا يشعر بأن ما وقع عليهم من عذاب إنما هو بمنزلة المقدمة لما هو أشد منه ، كما أن الذوق عادة يكون كالمقدمة للمطعوم أو الشيء المذاق.

وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بيان للأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ. وأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بشؤم صنيعهم ، وانقيادهم للهوى والشيطان.

١٢٥

أى : ذلك الذي نزل بكم ـ أيها الكافرون ـ من الضرب وعذاب النار ، سببه ما قدمته أيديكم من عمل سىء ، وفعل قبيح ، وقول منكر ، وجحود للحق. وأن الله ـ تعالى ـ ليس بذي ظلم لكم ولا لغيركم ، لأن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت ألا يعذب أحدا إلا بسبب ذنب ارتكبه ، وجرم اقترفه.

فاسم الإشارة «ذلك» يعود إلى الضرب وعذاب الحريق ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).

والمراد بالأيدى : الأنفس والذوات. والتعبير بالأيدى عن ذلك من قبيل التعبير بالجزء عن الكل.

وخصت الأيدى بالذكر ، للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته ، وأن أكثر الأفعال يكون عن طريق البطش بالأيدى. ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به ، والاتصال بذاته.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله.

أى : ذلك الذي نزل بكم سببه ما قدمته أيديكم ، والأمر أن الله ـ تعالى ـ ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب جنوه.

ويجوز أن يكون معطوفا على (ما) المجرورة بالباء. أى : ذلك بسبب ما قدمته أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد.

قال بعض العلماء : فإن قيل ما سر التعبير بقوله (بِظَلَّامٍ) بالمبالغة ، مع أن نفى نفس الظلم أبلغ من نفى كثرته ، ونفى الكثرة لا ينفى أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد؟.

وأجيب بأجوبة :

منها : أنه نفى لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل ظالم لفلان ولفلان وهلم جرا ، فلما جمع هؤلاء عدل إلى (بِظَلَّامٍ) لذلك ، أى : لكثرة الكمية فيه.

ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم للانتفاع بالظلم ، فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا.

ومنها : أن «ظلاما» للنسب كعطار ، أى : لا ينسب إليه الظلم أصلا.

١٢٦

ومنها : أن كل صفة له ـ تعالى ـ في أكمل المراتب ، فلو كان ـ سبحانه ـ ظالما ، كان ظلاما ، فنفى اللازم نفى للملزوم.

ومنها : أن نفى الظلام لنفى الظالم ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفى المبالغة كناية عن نفى أصله ، انتقالا من اللازم إلى الملزوم.

ومنها : أن العذاب من العظم بحيث لو لا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه ، فالمراد تنزيهه ـ تعالى ـ وهو جدير بالمبالغة.

وفي صحيح مسلم عن أبى ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله ـ تعالى ـ يقول : «يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا» (١).

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد بينتا حالة المشركين عند قبض أرواحهم بيانا يحمل النفوس على الإيمان والطاعة لله ـ تعالى ـ فقد رسم القرآن صورة مفزعة لهم ، صورة الملائكة وهي تضرب وجوههم وأدبارهم بأمر من الله ـ تعالى ـ الذي ما ظلمهم ، ولكنهم هم الذين أحلوا بأنفسهم هذا المصير المؤلم المهين ، حيث كفروا بالحق ، وحاربوا أتباعه ، واستحبوا العمى على الهدى ثم بين سبحانه ـ أن هؤلاء الكافرين عادتهم في كفرهم وطغيانهم كعادة من سبقهم من الأمم الظالمة وإن من سنة الله تعالى ـ في خلقه ألا يعاقب إلا بذنب ، وألا يغير النعمة إلا لسبب. فقال ـ تعالى :

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(٥٤)

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٦.

١٢٧

والكاف في قوله : (كَدَأْبِ) ، للتشبيه ، والجار والمجرور في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف.

والدأب : أصله الدوام والاستمرار ، يقال : دأب فلان على كذا يدأب دأبا ـ بفتح الهمزة ـ ودأبا ـ بسكونها ـ ودؤوبا ، إذا داوم عليه وجد فيه ، ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة ، لأن الذي يستمر في عمل أمدا طويلا يصير هذا العمل عادة من عاداته ، وحالا من أحواله ، فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.

والآل ـ كما يقول الراغب ـ مقلوب عن الأهل ، ويصغر على أهيل ، إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال : آل فلان ، ولا يقال : آل رجل ، ولا يقال : آل الحجام .. بل يضاف إلى الأشرف والأفضل يقال : آل الله ، وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل ، فيقال : أهل الله ، وأهل الحجام ، وأهل زمان كذا .. (١).

والمقصود بآل فرعون : هو وأعوانه وبطانته ، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا بالمضاف إليه.

والمعنى : شأن هؤلاء الكافرين الذين حاربوك يا محمد ، والذين هلك منهم من هلك في بدر ، شأنهم وحالهم وعادتهم فيما اقترفوه من الكفر والعصيان وفيما فعل بهم من عذاب وخذلان ، كشأن آل فرعون الذين استحبوا العمى على الهدى ، والذين زينوا له الكفر والطغيان حتى صار عادة له ولهم ، وقد أخذهم ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر ، بسبب كفرهم وفجورهم.

وقد خص ـ سبحانه ـ فرعون وآله بالذكر من بين الأمم الكافرة ، لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا ، وأكثرهم غرورا وبطرا ، وأكثرهم في الاستهانة بقومه وفي الاحتقار لعقولهم وكيانهم.

ألم يقل لهم ـ كما حكى القرآن عنه ـ (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢).

وألم يبلغ به غروره أن يقول لهم : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣)؟.

أما آله وبطانته وأعوانه ، فهم الذين زينوا له السوء ، وحرضوه على البطش بموسى لأنه

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٣٠.

(٢) سورة النازعات الآية ٢٤.

(٣) سورة الزخرف الآية ٥١.

١٢٨

جاءهم بالحق ، ولقد حكى الله عنهم نفاقهم وضلالهم وانغماسهم في الآثام في آيات كثيرة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١).

ولقد وصف الله ـ تعالى ـ قوم فرعون بهوان الشخصية ، وتفاهة العقل ، والخروج عن كل مكرمة فقال : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٢) وذلك لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض فسادا ، لا تستحق الحياة ، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران.

وقوله (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) تفسير لصنيعهم الباطل ، ودأبهم على الفساد والضلال.

والمراد بآيات الله : ما يعم المتلوة في كتب الله ـ تعالى ـ ، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم.

وفي إضافتها إلى الله : تعظيم لها وتشريف ، وتنبيه إلى قوة دلالتها على الحق والخير.

وقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) معطوف على قوله (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) لبيان ما ترتب على كفرهم من عقوبات أليمة.

وفي التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العذاب ، فهو ـ سبحانه ـ قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذي لا يستطيع الفكاك من آسره.

والباء في قوله : (بِذُنُوبِهِمْ) للسببية أى كفروا بآيات الله فعاقبهم ـ سبحانه ـ بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمره.

ويجوز أن تكون للملابسة ، أى : أخذهم وهم ملتبسون بذنوبهم دون أن يثوبوا منها ، أو يقلعوا عنها.

وعلى الوجهين فالجملة الكريمة تدل على كمال عدل الله ـ تعالى ـ لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم استحقوا العقاب.

والمراد بذنوبهم : كفرهم وما ترتب عليه من فسوق وعصيان ، وأصل الذنب : الأخذ بذنب الشيء أى بمؤخرته ، ثم أطلق على الجريمة ، لأن مرتكبها يعاقب بعدها.

وقوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ الشديد ، بسبب الكفر والمعاصي.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٢٧.

(٢) سورة الزخرف الآية ٥٤.

١٢٩

أى : إن الله ـ تعالى ـ قوى لا يغلبه غالب ، ولا يدفع قضاءه دافع ، شديد عقابه لمن كفر بآياته ، وفسق عن أمره.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...)

بيان لسنة من سننه ـ تعالى ـ في خلقه ، وتعليل لتعذيب أولئك الكفار ، ولسلب نعمه عنهم وعن أشباههم من العصاة والجاحدين واسم الإشارة : (ذلِكَ) يعود إلى تعذيب الكفرة المعبر عنه بقوله ـ تعالى ـ (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ).

وهو ، أى : اسم الإشارة مبتدأ ، وخبره قوله ـ سبحانه ـ (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً ..) إلخ.

والمعنى : ذلك الذي نزل بهؤلاء الكفرة من التعذيب والخذلان عدل إلهى ، فقد جرت سنته ـ سبحانه ـ في خلقه ، واقتضت حكمته في حكمه ألا يبدل نعمه بنقم إلا بسبب ارتكاب الذنوب ، واجتراح السيئات ، فإذا لم يتلق الناس نعمه ـ عزوجل ـ بالشكر والطاعة ، وقابلوها بالكفر والعصيان ، بدل نعمتهم بنقم جزاء وفاقا.

وشبيه بهذا قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١).

قال الفخر الرازي : قال القاضي : معنى الآية أنه ـ تعالى ـ أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل ، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر ، فقد غيروا نعمة الله ـ تعالى ـ على أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن.

قال : وهذا من أوكد ما يدل على أنه ـ تعالى ـ لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة (٢).

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم ، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة؟.

قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت ، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب (٣).

__________________

(١) سورة الرعد الآية ١١.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٨١ المطبعة البهية.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٠.

١٣٠

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) معطوف على قوله : (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً ..) إلخ.

أى : ذلك التعذيب بسبب جحودهم للنعم ، وبسبب أنه ـ سبحانه ـ سميع لما نطقوا به من سوء ، وعليم بما ارتكبوه من قبائح ومنكرات ، وقد عاقبهم على ذلك بما يستحقون من عذاب : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما عليه المشركون من جحود وغرور وعناد على سبيل التأكيد والتوبيخ فقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ).

أى : أن شأن هؤلاء المشركين الذين حاربوك يا محمد ، كشأن آل فرعون ومن تقدمهم من الأقوام السابقة ، كقوم نوح وقوم هود .. ، كذب أولئك جميعا بآيات ربهم التي أوجدها ـ سبحانه ـ لهدايتهم وسعادتهم .. فكانت نتيجة ذلك أن أهلكهم ـ سبحانه ـ بسبب ما ارتكبوه من ذنوب ، وبسبب استعمالهم النعم في غير ما خلقت له.

(وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) الذين زينوا له الكفر والبطر والطغيان.

(وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أى : وكل من الأقوام المذكورين ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال ، كانوا ظالمين لأنفسهم بكفرهم ، ولأنبيائهم بسبب محاربتهم لهم ، وإعراضهم عنهم مع أن الأنبياء ما جاءوا إلا لهدايتهم.

وجمع الضمير في (كانُوا) و (ظالِمِينَ) مراعاة لمعنى (كُلٌ) لأنها متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة ، ومراعاة معناها أخرى ، واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل.

قال الجمل : فإن قلت : ما الفائدة من تكرير هذه الآية مرة ثانية؟.

قلت : فيها فوائد منها : أن الكلام الثاني يجرى مجرى التفصيل للكلام الأول ، لأن الآية الأولى فيها ذكر أخذهم ، والثانية ذكر إغراقهم فذلك تفسير للأول.

ومنها : أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ، ففي الآية إشارة إلى أنهم كفروا بآيات الله وجحدوها ، وفي الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها ، وكفرهم بها.

ومنها : أن تكرير هذه القصة للتأكيد (١).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٥١.

١٣١

وبعد ، فإن المتدبر في هذه الآيات الكريمة ، يراها تصور تصويرا واضحا سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أنه ـ سبحانه ـ لا يسلب نعمه عن قوم إلا بسبب ذنوب اقترفوها ، وأنه ـ تعالى ـ لا ينزل عقوباته بهم إلا بعد لجاجهم في طغيانهم ، وإدبارهم عن نصح الناصحين.

ورحم الله الأستاذ الإمام محمد عبده فقد كتب مقالا جيدا صدره بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ..).

ومما جاء في هذا المقال قوله : تلك آيات الكتاب الحكيم ، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

أرشدنا ـ سبحانه ـ إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ، ولا بادت ومحى اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها ـ سبحانه ـ على أساس الحكمة البالغة ، إن الله لا يغير ما بقوم من عز وسلطان ، ورفاعة وخفض عيش ، وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل ، وصحة الفكر ، وإشراق البصيرة ، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة ، والتدبر في أحوال الذين حادوا عن صراط الله فهلكوا ، أو حل بهم الدمار. ثم لعدولهم عن سنة العدل ، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة ، حادوا عن الاستقامة في الرأى ، والصدق في القول ، والسلامة في الصدر ، والعفة عن الشهوات ، والحمية على الحق ، والقيام بنصرته والتعاون على حمايته .. خذلوا العدل ولم يجمعوا همهم على إعلاء كلمته ، واتبعوا الأهواء الباطلة ، وانكبوا على الشهوات الفانية .. فأخذهم بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.

هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها.

سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم ، ولا تتبدل بتبدل الأجيال ، كسنته ـ سبحانه ـ في الخلق والإيجاد ، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال ..» (١).

وبعد أن شرح ـ سبحانه ـ أحوال المهلكين من شرار الكفرة ، شرع في بيان أحوال الباقين منهم ، وتفصيل أحكامها ، فقال ـ تعالى :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ

__________________

(١) راجع تفسير المنار ج ٢ ص ٤٦ ففيه المقال بتمامه.

١٣٢

وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)(٥٩)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف كل الكفار بقوله : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :

الأولى : الكافر الذي يكون مستمرا على كفره مصرا عليه ...

الثانية : أن يكون ناقضا للعهد على الدوام ...

قال ابن عباس : هم بنو قريظة ، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ، ثم قالوا : أخطأنا ، فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق ... (١).

والدواب : جمع دابة. وهي كل ما يدب على الأرض قال ـ تعالى ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ..) (٢).

قال الجمل : وإطلاق الدابة على الإنسان إطلاق حقيقى ، لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا. وفي المصباح : «الدابة كل حيوان في الأرض مميزا وغير مميز» (٣).

والمعنى : إن شر ، ما يدب على الأرض (عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه وقضائه (الَّذِينَ كَفَرُوا) أى : الذين أصروا على الكفر ولجوا فيه.

وقد وصفهم ـ سبحانه ـ بأنهم شر الدواب لا شر الناس ، للإشعار بأنهم بمعزل عما يتحلى

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٨٢ المطبعة البهية.

(٢) سورة النور ، الآية ٤٥.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٣٦.

١٣٣

به الناس من تعقل وتدبر للأمور ، لأن لفظ الدواب وإن كان يطلق على الناس ، إلا أنه عند إطلاقه عليهم يلقى ظلا خاصا يجعل العقول تتجه إلى أن هؤلاء الذين أطلق عليهم اللفظ هم إلى الدواب التي لا تعقل أقرب منهم إلى الآدميين العقلاء ، وفي وصفه ـ سبحانه ـ لهم بأنهم شر الدواب زيادة توبيخ لهم ، لأنهم ليسوا دواب فحسب بل هم شرها وأخسها.

وقوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تذييل جيء به على وجه الاعتراض بالبيان أى : أنهم ـ بسبب إصرارهم على الكفر ـ صار الإيمان بعيدا عنهم ، وأنهم سواء أنذروا أو لم ينذروا مستمرون في الضلال والعناد.

وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ..) بدل من الموصول الأول وهو قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أو عطف بيان له.

أى : إن شر الدواب عند الله الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه ، الذين (عاهَدْتَ مِنْهُمْ) أى : أخذت منهم عهدهم ، ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون أن يفوا بعهودهم ولو مرة واحدة من المرات المتعددة.

فقوله : (عاهَدْتَ) مضمن معنى الأخذ ، ولذا عدى بمن.

قال الآلوسى : قوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ..) بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان ، أو نعت ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو نصب على الذم ، وعائد الموصول قيل : ضمير الجمع المجرور ، والمراد : عاهدتهم ، ومن للإيذان بأن المعاهدة ـ التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين ـ معتبرة هنا من حيث أخذه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض ، لا إعطاؤه ـ عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل : الذين أخذت منهم عهدهم ، وقال أبو حيان : تبعيضية ، لأن المباشر بعضهم لا كلهم ..» (١).

وقوله : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) معطوف على الصلة.

وكان العطف «بثم» المفيدة للتراخي ، للإيذان بالتفاوت الشديد بين ما أخذ عليهم من عهود ، وبين ما تردوا فيه من نقض لها ، واستهانة بها.

وجيء بصيغة المضارع (يَنْقُضُونَ) المفيدة للحال والاستقبال ، للدلالة على تعدد النقض وتجدده ، وأنهم على نيته في كل مرة يعاهدون فيها غيرهم.

وقوله : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) في موضع الحال من فاعل (يَنْقُضُونَ).

أى : أن هؤلاء القوم دأبهم نقض العهود والمواثيق في كل وقت ، ومع ذلك فحالهم وشأنهم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٢٢.

١٣٤

أنهم لا يشعرون خلال نقضهم للعهود بأى تحرج أو خجل ، بل يرتكبون ما يرتكبون من المنكرات دون أن يتقوا عارها ، أو يخشوا سوء عاقبتها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة بدون حياء أو تدبر للعواقب فقال : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فالفاء في قوله (فَإِمَّا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

وقوله : (تَثْقَفَنَّهُمْ) من الثقف بمعنى الحذق في إدراك الشيء وفعله.

قال الراغب : يقال ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ، ثم يتجوز فيه فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافته.

قال ـ تعالى ـ (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) (١).

وقوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ) التشريد وهو عبارة عن التفريق مع الاضطراب ، يقال شردت بنى فلان ، أى : قلعتهم عن مواطنهم وطردتهم عنها حتى فارقوها قال الشاعر :

أطوف في الأباطح كل يوم

مخافة أن يشرد بي حكيم

أى : مخافة أن يسمع بي ويطردنى حكيم ، وحكيم رجل من بنى سليم كانت قريش قد ولته الأخذ على أيدى السفهاء.

والمعنى : إنك يا محمد إذا ما أدركت في الحرب هؤلاء الكافرين الناقضين لعهودهم وظفرت بهم ـ وهم بنو قريظة ومن لف لفهم ـ .. فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يتفرق معه جمع كل ناقض للعهد ، ويفزع منه كل من كان على شاكلتهم في الكفر ونقض العهود ، ويعتبر به كل من سمعه من أهل مكة وغيرهم.

فالباء في قوله (فَشَرِّدْ بِهِمْ) للسببية ، وقوله (مَنْ خَلْفَهُمْ) مفعول شرد.

والمراد بمن خلفهم : كفار مكة وغيرهم من الضالين ، أى : افعل ببني قريظة ما يشرد غيرهم خوفا وفزعا.

وقوله (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أى : لعل أولئك المشردين يتعظون بهذا القتل والتنكيل الذي نزل بهؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة ، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد.

هذا ، وإن تلك الآية الكريمة لمن أحكم الآيات التي ترشد المؤمنين إلى وجوب أخذ المستمرين على كفرهم وعنادهم ونقضهم العهود أخذا شديدا رادعا .. حتى يبقى للمجتمع الإسلامى أمانه واستقراره وهيبته أمام أعدائه.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٧٩.

١٣٥

إن الآية الكريمة ترسم صورة بديعة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفى السماع به للهرب والشرود ، فما بال من يحل به هذا الأخذ الشديد؟

إنها الضربة المروعة ، يأمر الله ـ تعالى ـ رسوله أن ينزلها على رأس كل مستحق لها بسبب كفره وتلاعبه بالعهود .. وبذلك تبقى لدين الله هيبته وسطوته.

هذا هو حكم المصرين على كفرهم الناقضين لعهودهم .. أما الذين تخشى منهم الخيانة فقد بين ـ سبحانه ـ حكمهم بقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ).

وقوله : (تَخافَنَ) من الخوف والمراد به هنا العلم.

وقوله : (فَانْبِذْ) من النبذ بمعنى الطرح ، وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد لهم بعد اليوم ، فشبه ـ سبحانه ـ العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه ، وثبت النبذ له على سبيل التخييل ، ومفعول «فانبذ» محذوف أى : فانبذ إليهم عهودهم.

قال الجمل : وقوله : (عَلى سَواءٍ) حال من الفاعل والمفعول معا ، أى : فاعل الفعل وهو ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفعوله وهو المجرور بإلى.

أى : حال كونكم مستوين في العلم بطرح العهد. فعلمك أنت به لأنه فعل نفسك ، وعلمهم به بإعلامك إياهم ، فكأنه قيل في الآية : فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه ، ولا تقاتلهم بغتة لئلا يتهموك بالغدر وليس هذا من شأنك ولا من صفاتك» (١).

والمعنى : وإما تعلمن ـ يا محمد ـ من قوم بينك وبينهم عهد أنهم على وشك نقضه منهم ، بأمارات تلوح لك تدل على غدرهم ، فاطرح إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر : بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم ، حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء ، لأن الله ـ تعالى ـ لا يحب الخائنين وإن من مظاهر الخيانة التي يبغضها الله ـ تعالى ـ أن يحارب أحد المتعاهد معه دون أن بعلمه بإنهاء عهده.

قال ابن كثير : قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن أبى الفيض عن سليم بن عامر قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب منها ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر الله أكبر ، وفاء لا غدرا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ، ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء».

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٥٢.

١٣٦

قال : فبلغ ذلك معاوية فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عيسة.

ثم قال ابن كثير ، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة ، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة به ، وقال الترمذي حسن صحيح.

وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم فهداني الله إلى الإسلام ؛ فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ، يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله» (١).

وقال الفخر الرازي : قال أهل العلم : آثار نقض العهد إذا ظهرت ، فإما أن تظهر ظهورا محتملا ، أو ظهورا مقطوعا به.

فإن كان الأول : وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية ، وذلك لأن بنى قريظة عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله ، فحصل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوف الغدر منهم به وأصحابه ، فهنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.

أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به ، فهنا لا حاجة إلى نبذ العهد ، وذلك كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل مكة ، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة (٢).

أى : أنهم لم يعلموا بجيش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جاء لمحاربتهم إلا بعد وصوله إلى هذا المكان.

وبذلك ترى أن تعاليم الإسلام ترتفع بالبشرية إلى أسمى آفاق الوفاء والشرف والأمان .. وتحقر من شأن الخيانة والخائنين ، وتتوعدهم بالطرد من رحمة الله ، وبالبعد عن رضوانه ومحبته.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٠.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٣٢٠.

١٣٧

وقوله (يَحْسَبَنَ) من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة «يحسبن» بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء.

وقوله : (يُعْجِزُونَ) من العجز ، وأصله ـ كما يقول الراغب ـ : التأخر عن الشيء .. ثم صار في التعارف اسما للقصور عن فعل الشيء ، وهو ضد القدرة ... والعجوز سميت بذلك لعجزها في كثير من الأمور ..» (١).

والمعنى ـ على القراءة بالياء ـ : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه ، وخلصوا من عذابه .. كلا إن حسبانهم هذا باطل ـ لأنهم لا يعجزون الله ، بل هو ـ سبحانه ـ قادر على إهلاكهم وتعذيبهم في كل وقت ...

وأن نجاتهم من القتل أو الأسر في الدنيا لن تنفعهم شيئا من العذاب المهين في الآخرة.

وعلى هذه القراءة يكون فاعل (يَحْسَبَنَ) قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، والمفعول الثاني جملة (سَبَقُوا).

وأما على القراءة الثانية ولا تحسبن فيكون قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول الأول. وجملة (سَبَقُوا) هي المفعول الثاني.

أى : ولا تحسبن ـ أيها الرسول الكريم ـ أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا بخيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا في مأمن منا ... كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم في أى وقت نريده فنحن لا يعجزنا شيء ..

وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين في النجاة ، وإقناطهم من الخلاص ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك مادام قد استحب الكفر على الإيمان ، أما المؤمنون فلهم من الله ـ تعالى ـ التأييد والنصر وحسن العاقبة.

ثم أمر ـ سبحانه ـ المؤمنين باعداد وسائل القوة التي بها يصلون إلى النصر ، وإلى بعث الرعب في قلوب أعدائهم .. فقال ـ عزوجل ـ :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ج ٣٢٢.

١٣٨

لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٦٠)

وقوله : (وَأَعِدُّوا ..) معطوف على ما قبله ، وهو من الإعداد بمعنى تهيئة الشيء للمستقبل ، والخطاب لكافة المؤمنين.

والرباط في الأصل مصدر ربط ، أى شد ، ويطلق ، بمعنى المربوط مطلقا ، وكثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله. فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلى ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركا بين معان أخر كملازمة الثغور ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان.

قال صاحب الكشاف : والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ـ يقال نعم الربيط هذا ، لما يرتبط من الخيل (١).

والمعنى : عليكم ـ أيها المؤمنون ـ أن تعدوا لقتال أعدائكم ما تستطيعون إعداده من وسائل القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها.

وجاء ـ سبحانه ـ بلفظ (قُوَّةٍ) منكرا ، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان.

قال الجمل : وقوله (مِنْ قُوَّةٍ) في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنه الموصول. والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقدير ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوز أن تكون (مِنْ) لبيان الجنس (٢).

وقوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام.

أى : أعدوا لقتال أعدائكم ، ما أمكنكم من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب ، من نحو : حصون وقلاع وسلاح. ومن رباط الخيل للغزو والجهاد في سبيل الله.

وخص رباط الخيل بالذكر من بين ما يتقوى به ، لمزيد فضلها وغنائها في الحرب ، ولأن الخيل كانت الأداة الرئيسية في القتال في العهد النبوي ، وقوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) بيان للمقصود من الأمر بإعداد ما يمكنهم إعداده من قوة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٥٣.

١٣٩

وقوله : (تُرْهِبُونَ) من الرهبة وهي مخافة مع تحرز واضطراب.

والضمير المجرور ـ وهو قوله (بِهِ) ـ يعود إلى الإعداد المأخوذ من قوله (وَأَعِدُّوا).

أى : أعدوا ما استطعتم من قوة ، حالة كونكم مرهبين بهذا الإعداد عدو الله وعدوكم ، من كل كافر ومشرك ومنحرف عن طريق الحق ، وعلى رأس هؤلاء جميعا. كفار مكة الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق ، ويهود المدينة الذين لم يتركوا وسيلة للإضرار بكم إلا فعلوها.

وقوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) معطوف على ما قبله.

أى : ترهبون بهذا الإعداد أعداء معروفين لكم ـ كمشركي مكة ويهود المدينة ، وترهبون به أيضا أعداء آخرين غيرهم أنتم لا تعرفونهم لأنهم يخفون عداوتهم لكم ، ولكن الله ـ تعالى ـ الذي لا يخفى عليه شيء يعلمهم ، وسيحبط أعمالهم.

وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء الأعداء الذين عبر الله عنهم بقوله لا تعلمونهم الله يعلمهم ، فمنهم من قال : المراد بهم بنو قريظة ومنهم من قال : المراد بهم أهل فارس والروم.

ورجح ابن جرير أن المراد بهم : كفار الجن .. لأن المؤمنين كانوا عالمين بمداراة بنى قريظة وفارس والروم لهم ... والمعنى ترهبون بذلك الإعداد عدو الله وعدوكم من بنى آدم الذين علمتم عداوتهم ، وترهبون به جنسا آخر من غير بنى آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم ، الله يعلمهم دونكم ، لأن بنى آدم لا يرونهم» (١).

ورجح الفخر الرازي أن المراد بهم المنافقون ، قال : لأن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ، ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق بين المسلمين ـ بطرق قد لا تعرف ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك الأفعال المذمومة» (٢).

ولعل ما رجحه الفخر الرازي هو الأقرب إلى الصواب ، لأن عداوة المنافقين للمؤمنين كثيرا ما تكون خافية ، ويشهد لهذا قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٣).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بالدعوة إلى الإنفاق في سبيله ، وبشر المنفقين بحسن الجزاء فقال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٣٢ طبعة مصطفى الحلبي ـ الطبعة الثانية سنة ١٩٧٣ ه‍ ، سنة ١٩٥٤ م.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٨٦ المطبعة البهية.

(٣) سورة التوبة الآية ١٠١.

١٤٠