التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٦

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0532-2
الصفحات: ٤٤٤

وسمى يوم بدر بيوم الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شيء فعليهم أن يداوموا على طاعته وشكره ليزيدهم من عطائه وفضله.

هذا ، وقد ذكر العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :

١ ـ أن هذه الآية وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان.

قال ابن كثير : ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم (١).

وقال بعض العلماء : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله ـ تعالى ـ وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه. هكذا قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنائم عام خيبر.

ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان. والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين.

ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرئاسته ولا لنسبه ولا لفضله وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم»؟ (٢).

ذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بإيتاء لفظ الجلالة في قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له ـ سبحانه ـ.

وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله ـ تعالى ـ ، فإنه ـ سبحانه ـ له الدنيا والآخرة ، وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١١.

(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٢٩٩٧.

١٠١

وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل.

ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم الله ـ تعالى ـ يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة.

وقد رجح ابن جرير رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم. ولو كان لله فيه سهم ـ كما قال أبو العالية ـ لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها.

فأما على أكثر من ذلك فلا نعلم قائلا قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبى العالية. وفي إجماع من ذكرت ـ الدلالة الواضحة على ما اخترناه (١).

وسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جعله الله ـ تعالى ـ له في قوله (وَلِلرَّسُولِ) كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث يشاء.

روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم. فلما سلم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. ينجى الله به من الغم والهم ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم.

وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم (٢).

هذا بالنسبة لسهمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون لمن يلي الأمر من بعده. روى هذا عن أبى بكر وعلى وقتادة وجماعة .. ومنهم من يرى أن سهمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف في مصالح المسلمين. روى ابن جرير عن

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١١ ص ٤.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١١ ص ٨.

١٠٢

الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكراع والسلاح.

ومنهم من يرى صرفه لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما روى عن ابن عباس : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله ـ تعالى ـ أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم ..».

٤ ـ المراد بذي القربى ـ كما سبق أن أشرنا ـ بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح. وعليه فإن السهم المخصص لذي القربى لا يصرف إلا لهم.

قال القرطبي ما ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :

أولها : أن المراد بهم قريش كلها : قاله بعض السلف ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صعد الصفا جعل يهتف يا بنى فلان يا بنى عبد مناف .. أنقذوا أنفسكم من النار.

ثانيها : أن المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب. قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد .. لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب قال : «إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه. أخرجه البخاري والنسائي.

ثالثها : أن المراد بهم بنو هاشم خاصة. قاله مجاهد وعلى بن الحسين. وهو قول مالك والثوري والأوزاعى وغيرهم (١).

وقال الآلوسى : وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة أسهم سهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهم للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية.

وأما بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسقط سهمه .. وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة ...

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٢.

١٠٣

ثم قال : ومذهب المالكية أن الخمس لا يلزم تخميسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإمام.

ـ أى انهم يرون أن خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على من ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال ، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الأصناف من باب الخاص الذي قصد به الخاص.

ثم قال : ومذهب الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم الله ـ تعالى ـ ، وسهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهم ذوى القربى الكل للإمام القائم مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما الأسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم. رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر ..

ثم قال : والظاهر أن الأسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القائم مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته ..» (١).

هذا ، ومن كل ما سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو إلى ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده .. ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفروع.

٥ ـ ذكرنا عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ في مطلع السورة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا وهي قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ..) مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة.

أى أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الأنفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه.

وهذا أولى من قول بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين.

٦ ـ الآية الكريمة أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يجعلوا غايتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكي يكونوا مؤمنين حقا.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ـ بتصرف وتلخيص ج ١٩ ص ٣.

١٠٤

ويشعر بهذا الإرشاد تصديره ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ..) كما يشعر به قوله ـ تعالى ـ (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ ..) ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله ـ تعالى ـ والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم ـ سبحانه ـ هذه النعم بفضله وإحسانه.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) : قلت بمحذوف يدل عليه قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ..) والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة. وليس المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله ـ تعالى ـ ، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر (١).

هذه بعض المسائل والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام أخرى تتعلق بها ذكرها بعض المفسرين فارجع إليها إن شئت (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله وحكمه في غزوة بدر ، فبين الأماكن التي نزل فيها كل فريق ، كما بين الحكمة في لقاء المؤمنين والكافرين على غير ميعاد ، والحكمة في تقليل كل فريق منهما في عين الآخر ... فقال تعالى :

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٢.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٨ من ص ١ إلى ص ٢٠.

١٠٥

يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤٤)

قوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ..) بدل من قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ ..) أو معمول لفعل محذوف. والتقدير : اذكروا.

والعدوة ـ مثلثة العين ـ جانب الوادي وحافته. وهي من العدو بمعنى التجاوز سميت بذلك لأنها عدت .. ـ أى منعت ـ ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها.

والدنيا : تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب. والقصوى : تأنيث الأقصى بمعنى الأبعد. والركب : اسم جمع لراكب ، وهم العشرة فصاعدا من راكبي الإبل.

قال القرطبي : ولا تقول العرب : ركب إلا للجماعة الراكبى الإبل ..

والمراد بهذا الركب : أبو سفيان ومن معه من رجال قريش الذين كانوا قادمين بتجارتهم من بلاد الشام ومتجهين بها إلى مكة ، فلما بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرها ، أشار على أصحابه بالخروج لملاقاته ، كما سبق أن بينا عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ..).

والمعنى : اذكروا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن خرجتم إلى بدر ، فسرتم إلى أن كنتم (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أى : بجانب الوادي وحافته الأقرب إلى المدينة ، وكان أعداؤكم الذين قدموا لنجدة العير (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أى : بالجانب الآخر الأبعد من المدينة ، وكان أبو سفيان ومن معه من حراس العير (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أى : في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه ، بالقرب من ساحل البحر الأحمر ، على بعد ثلاثة أميال منكم.

قال الجمل : قوله (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الأحسن في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على (هُمْ) أن تكون عاطفة ما بعدها على (أَنْتُمْ) لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم ويجوز أن يكونا واو حال ، وأسفل منصوب على الظرف النائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف. أى : والركب في مكان أسفل من مكانكم وكان الركب على ثلاثة أميال من بدر ..» (١).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٦.

١٠٦

وقال الإمام الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم؟.

قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة الشأن للعدو ، وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في هذه الحال ليس إلا صنعا من الله ـ سبحانه ـ ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته.

وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار ـ أى أرض لينة رخوة ـ تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة.

وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم على بذل جهودهم في القتال.

وفيه تصوير ما دبر ـ سبحانه ـ من أمر غزوة بدر (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ومن إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وأقلق قريشا ما بلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم ، فنفروا ليمنعوا عيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب في ساق ، وكان ما كان» (١).

وقوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) بيان لتدبير الله الحكيم ، وإرادته النافذة.

أى : ولو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم ، لأن كل فريق منكم كان سيتهيب الإقدام على صاحبه ، ولكن الله ـ تعالى ـ بتدبيره الخفى شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد ، ليقضى ـ سبحانه ـ أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو : إعزاز الإسلام وأهله ، وخذلان الشرك وحزبه.

روى ابن جرير من حديث كعب بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : إنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وروى ـ أيضا ـ عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الكرب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة قال : ونظر الناس بعضهم إلى بعض» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٣.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١.

١٠٧

وقوله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل من قوله (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحروف ، أو هو متعلق بقوله (مَفْعُولاً).

والمراد بالهلاك والحياة هنا ما يشمل الحسى والمعنوي منهما.

والمراد بالبينة الحجة الظاهرة الدالة على حقية الإسلام وبطلان الكفر.

قال الآلوسى : أى : ليموت من يموت عن حجة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجّلة.

ويجوز أن يراد بالحياة : الإيمان ، وبالموت : الكفر على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل بأن يراد بالبينة : إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة.

أى : ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح وبينة وإلى هذا ذهب قتادة وابن إسحاق. والظاهر أن (عَنْ) هنا بمعنى بعد كقوله ـ تعالى ـ (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ).

وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر ويعقوب حيي على وزن تعب ـ بفك الإدغام. وقرأ الباقون بإدغام الياء الأولى في الثانية على وزن شد ومد (١).

وقوله (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل قصد به الترغيب في الإيمان ـ والترهيب من الكفر ، أى : وإن الله لسميع لأقوال أهل الإيمان والكفر عليم بما تنطوى عليه قلوبهم وضمائرهم ، وسيجازى ـ سبحانه ـ كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب على حساب ما يعلم وما يسمع منه.

ثم يبين ـ سبحانه ـ بعض وجوه نعمه على المؤمنين ، وتدبيره الخفى لنصرهم وفوزهم فيقول : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

أى : اذكر يا محمد فضل الله عليك وعلى أصحابك ، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم ، ضئيلا وزنهم فأخبرت بذلك أتباعك فازدادوا ثباتا واطمئنانا وجرأة على عدوهم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) أى : ولو أراك الأعداء عددا كثيرا (لَفَشِلْتُمْ) أى : لتهيبتم الإقدام عليهم ، لكثرة عددهم ، من الفشل وهو ضعف مع جبن (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أى : في أمر الإقدام عليهم والإحجام عنهم. فمنكم من يرى هذا ومنكم من يرى ذلك.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٧ ـ بتصرف وتلخيص.

١٠٨

وقوله (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) بيان لمحل النعمة. أى : ولكن الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع وتفرق الآراء في شأن القتال : حيث ربط على قلوبكم ، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم.

وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل يدل على شمول علمه ـ سبحانه ـ.

أى : إنه ـ سبحانه ـ عليم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن. ومن صبر وجزع ولذلك دير ما دبر.

قال الفخر الرازي ، قال مجاهد : أرى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا : رؤيا النبي حق. القوم قليل ، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم.

فإن قيل : رؤية الكثير قليلا غلط ، فكيف يجوز من الله ـ تعالى ـ أن يفعل ذلك؟

قلنا : ذهبنا أنه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله ـ سبحانه ـ أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون (١).

ونستطيع أن نضيف إلى ما أجاب به الفخر الرازي أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة : الضعف وهوان الشأن ..

أى : أن المشركين وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف ـ أى أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين ـ إلا أنهم لا قوة لهم ولا وزن ، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة. لأنهم ينقصهم الإيمان الصحيح الذي يقوى القلوب ، ويدفع النفوس إلى الإقدام لنصرة الحق لكي تفوز برضا الله وحسن مثوبته.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : وقد تقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك ، ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا ، لا أنهم قليل في الواقع ، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا ، وأن كيدهم يكون ضعيفا ، فتجرءوا وقويت قلوبهم (٢).

هذا ، ونسب الى الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة ، وأن المراد من المنام العين التي هي موضع النوم. قال الزمخشري. وهذا تفسير فيه تعسف. وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن.

وقال الآلوسى : وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين ، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٦٩.

(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٢.

١٠٩

المنامة لأنها ينام فيها ، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية ، وإليه ذهب البلخي. ولا يخفى ما فيه ، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى. ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه .. على أن الروايات الجمة برؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم مناما ، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر .. ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة ، فإنه الفصيح العالم بكلام العرب (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ...) معطوف على ما قبله وهو قوله (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ....) وذلك لتأكيد الرؤيا المنامية بالرؤية في اليقظة.

والمعنى : واذكروا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن التقيتم مع أعدائكم وجها لوجه في بدر ، فكان من فضل الله عليكم قبل أن تلتحموا معهم أن جعل عددهم قليلا في أعينكم وجعل عددكم قليلا في أعينهم ، وذلك لإغرائهم على خوض المعركة.

أما أنتم فتخوضونها بدون مبالاة بهم لقلتهم في أعينكم ، ولثقتكم بنصر الله إياكم ..

وأما هم فيخوضونها معتمدين على غرورهم وبطرهم وقلتكم في أعينهم ، فيترتب على ذلك أن يتركوا الاستعداد اللازم لقتالكم ، فتكون الدائرة عليهم ..

قال ابن مسعود ـ وهو ممن حضر بدرا ـ : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفا (٢).

وقال أبو جهل ـ في ذلك اليوم وقبل الالتحام ـ : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ـ أى هم قليل يشبعهم لحم ناقة واحدة ـ خذوهم أخذا أو اربطوهم بالحبال ..

وقد أجاد صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية حيث يقول : قوله (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الضميران مفعولان يعنى : وإذ يبصركم إياهم. و (قَلِيلاً) حال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا .. (٣) فإن قلت : الغرض من تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض من تقليل المؤمنين في أعينهم؟

قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترؤوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، وتقل شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٨.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٩ ص ١٣.

(٣) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٣.

١١٠

وتقديرهم ، وذلك قوله (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) (١) ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم فاستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا ، وكثرتهم آخرا.

ثم قال : فإن قلت : بأى طريق يبصرون الكثير قليلا؟

قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين.

قيل لبعضهم : إن الأحوال يرى الواحد اثنين ـ وكان بين يديه ديك واحد ـ فقال : ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بيان لحكمة تدبيره ، ونفاذ قدرته ، وشمول إرادته.

أى فعل ـ سبحانه ـ ما فعل من تقليل كل فريق في عين الآخر ، ليقضى أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو نشوب القتال المفضى إلى انتصار المؤمنين ، واندحار الكافرين وإلى الله وحده ترجع الأمور لا إلى أحد سواه ، فإن كل شيء عنده بمقدار ، ولأن كل شيء في هذا الكون بقضائه وقدره ، وما من شيء إلا مصيره ومرده إليه.

قال بعض العلماء : ولا يقال إن قوله ـ تعالى ـ : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مكرر مع ما سبق ، لأننا نقول : إن المقصود من ذكره أولا ـ في قوله : إذ أنتم بالعدوة الدنيا .. هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود منه هنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ثم تكثيرهم للحكم المتقدمة (٣).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة حكت لنا جانبا من أحداث غزوة بدر بأسلوب تصويري بديع في استحضار لمشاهدها ومواقفها ، وكشفت لنا عن جوانب من مظاهر قدرة الله ، ومن تدبيره المحكم الذي كان فوق تدبير البشر ، ومن تهيئة الأسباب الظاهرة والخفية التي أدت إلى نصر المؤمنين وخذلان الكافرين.

وبعد هذا التذكير النافع ، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر ، وجه ـ سبحانه ـ في هذه السورة إلى المؤمنين النداء السادس والأخير ، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالمداومة على ذكره وطاعته .. ، ونهاهم عن التنازع والاختلاف فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٥.

(٣) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠١٠.

١١١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٤٦)

وقوله : (لَقِيتُمْ) من اللقاء بمعنى المقابلة والمواجهة ، ويغلب استعماله في لقاء القتال وهو المراد هنا.

وقوله : (فِئَةً) أى : جماعة. مشتقة من الفيء بمعنى الرجوع ، لأن بعضهم يرجع إلى بعض.

والمراد بها هنا : جماعة المقاتلين من الكافرين وأشباههم.

والمتتبع لاستعمال القرآن لهذه الكلمة ، يراه يستعملها ـ في الأعم الأغلب ـ في الجماعة المقاتلة أو الناصرة أو ما يشبه ذلك.

قال ـ تعالى ـ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ...) (١).

وقال ـ تعالى ـ : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ ...) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (٣).

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان ، (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أى : حاربتم جماعة من أعدائكم ، فاثبتوا لقتالهم وأغلظوا عليهم في النزال ، ولا تولوهم الأدبار ، (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) لا سيما في مواطن الحرب ، فإن ذكر الله عن طريق القلب واللسان من أعظم وسائل النصر : لأن المؤمن متى استحضر عظمة الله في قلبه لا تهوله قوة عدوه ، ولا تخفيه كثرته ..

وقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى : لعلكم تظفرون بمرادكم من النصر وحسن الثواب ، متى فعلتم ذلك عن إخلاص.

وقوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) معطوف على ما قبله ، أى : اثبتوا عند لقاء الأعداء ، وأكثروا من ذكر الله ، وأطيعوا الله ورسوله في كل أقوالكم وأعمالكم ، وفي سركم وجهركم ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٤٩.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٣.

(٣) سورة الكهف الآية ٤٣.

١١٢

وفي كل ما تأتون وما تذرون.

وقوله (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) نهى لهم عن الاختلاف المؤدى إلى الفشل وضياع القوة بعد أمرهم بالثبات والمداومة على ذكر الله وطاعته.

وقوله (تَنازَعُوا) من النزع بمعنى الجذب وأخذ الشيء .. والتنازع والمنازعة المجاذبة كأن كل واحد من المتنازعين يريد أن ينزع ما عند الآخر ويلقى به.

والمراد بالتنازع هنا : الخصام والجدال والاختلاف المفضى إلى الفشل أى : الضعف.

قال الآلوسى : وقوله : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ، قال الأخفش : الريح مستعارة للدولة. لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه ، ومن كلامهم هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد. وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره. قال الشاعر :

إذا هبت رياحك فاغتنمها

فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها

فما تدرى السكون متى يكون (١).

والمعنى : كونوا ـ أيها المؤمنون ـ ثابتين ومستمرين على ذكر الله وطاعته عند لقاء الأعداء ، ولا تنازعوا وتختصموا وتختلفوا ، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الفشل أى الضعف ، وإلى ذهاب دولتكم ، وهوان كلمتكم ، وظهور عدوكم عليكم.

(وَاصْبِرُوا) على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهوائكم التي تحملكم على التنازع ، (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بتأييده ومعونته ونصره.

هذا والمتأمل في هاتين الآيتين يراهما قد رسمتا للمؤمنين في كل زمان ومكان الطريق التي توصلهم إلى الفلاح والظفر.

إنهما يأمران بالثبات ، والثبات من أعظم وسائل النجاح ، لأنه يعنى ترك اليأس والتراجع وأقرب الفريقين إلى النصر أكثرهما ثباتا.

ويأمران بمداومة ذكر الله ، لأن ذكر الله هو الصلة التي تربط الإنسان بخالقه الذي بيده كل شيء ، ومتى حسنت صلة الإنسان بخالقه ، صغرت في عينه قوة أعدائه مهما كبرت.

ويأمران بطاعة الله ورسوله ، حتى يدخل المؤمنون المعركة بقلوب نقية ، وبنفوس صافية ... لا مكان فيها للتنازع والاختلاف المؤدى إلى الفشل ، وذهاب القوة .. ويأمران بالصبر ، أى بتوطين النفس على ما يرضى الله ، واحتمال المكاره والمشاق في جلد. وهذه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٤.

١١٣

الصفة لا بد منها لمن يريد أن يصل إلى آماله وغاياته.

ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين الكريمتين : «هذا تعليم من الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين آداب اللقاء ، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء».

وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبى أوفى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقى فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال : يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قام وقال : اللهم منزل الكتاب ، ومجرى السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم».

وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله ـ تعالى ـ «إن عبدى كل عبدى الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أى : لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتى.

وعن قتادة في هذه الآية : «افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون. الضرب بالسيوف».

ثم قال : «وقد كان للصحابة ـ رضى الله عنهم ـ في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد من بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا ، في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس ... قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب» (١).

وبعد هذه التوجيهات السامية التي رسمت للمؤمنين طريق النصر ، نهاهم ـ سبحانه ـ عن التشبه بالكافرين الذين صدهم الشيطان عن السبيل الحق ، فقال تعالى :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦.

١١٤

النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٩)

قال الفخر الرازي عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا ....) المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير. خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف ، فلما وردوا الجحفة ، بعث خفاف الكناني ـ وكان صديقا لأبى جهل ـ بهدايا إليه مع ابن له ، فلما أتاه قال : إن أبى ينعمك صباحا ويقول لك : إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معى من قرابتي فعلت.

فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا. إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله طاقة. وإن كنا إنما نقاتل الناس ، فو الله إن بنا على الناس لقوة.

والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور ، وتعزف فيها القيان ، فإن بدرا موسم من مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم. وحتى تسمع العرب ـ بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد ـ.

قال المفسرون : فوردوا بدرا ، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان (١).

وقوله (بَطَراً) مصدر بطر ـ كفرح ـ ومعناه كما يقول الراغب : دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة ، وقلة القيام بحقها ، وصرفها إلى غير وجهها (٢).

أى أن البطر ضرب من التكبر والغرور واتخاذ نعم الله ـ تعالى ـ وسيلة إلى مالا يرضيه وهو مفعول لأجله ، أو حال ، أى : حال كونهم بطرين.

وقوله (وَرِئاءَ) مصدر رأى ومعناه : القول أو الفعل الذي لا يقصد معه الإخلاص ، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٧٢.

(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٥٠.

١١٥

والمعنى : كونوا أيها المؤمنون ـ ثابتين عند لقاء الأعداء ، ومكثرين من ذكر الله وطاعته ، وصابرين في كل المواطن .. واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) أى خرجوا غرورا وفخرا وتظاهرا بالشجاعة والحمية ... حتى ينالوا الثناء منهم ..

وقوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) معطوف على (بَطَراً) والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة. والمراد بسبيل الله : دينه. لأنه يوصل الناس إلى الخير والفلاح.

أى : خرجوا بطريق بما أوتوا من نعم ومرائين بها الناس ، وصادين إياهم عن دين الإسلام الذي باتباعه يصلون إلى السعادة والنجاح.

وعبر عن بطرهم وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت ، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث ، للإشعار بأنهم كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والرياء ، وأن هذه الصفات دأبهم وديدنهم ، أما الصد عن سبيل الله فلم يحصل منهم إلا بعد أن دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى الإسلام.

وقوله : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تذييل قصد به التحذير من الاتصاف بهذه الصفات الذميمة ، لأنه ـ سبحانه ـ محيط بكل صغيرة وكبيرة وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فعلى المؤمنين أن يخلصوا لله ـ تعالى ـ أعمالهم.

وقوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ..) تذكير للمؤمنين بما خدع به الشيطان الكافرين من وعود كاذبة ، وأمانى باطلة.

والمراد بهذا التذكير : حضهم على المداومة على طاعة الله وشكره ، حيث إنه ـ سبحانه ـ لم يجعلهم كأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان.

والمعنى : احذروا ـ أيها المؤمنون ـ أن تتشبهوا بأولئك الذين خرجوا من ديارهم بطرا ومفاخرة .. واذكروا وقت أن (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) في معاداتكم ، بأن وسوس لهم بأنهم على الحق وأنتم على الباطل ، وحسن لهم ما جبلوا عليه من غرور ومراءاة ، وأوهمهم بأن النصر سيكون لهم عند لقائكم ، بأن قال لهم (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أى : لن يغلبكم أحد من الناس ، لا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولا غيرهم من قبائل العرب ، وإنى مجير ومعين وناصر لكم ، إذ المراد بالجار هنا : الذي يجير غيره. أى : يؤمنه مما يخاف ويخشى.

قال الآلوسى : أى : ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم ، وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات ـ تجعله مجيرا لهم ، وحافظا إياهم عن السوء

١١٦

حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الدينين.

فالقول مجاز عن الوسوسة. والإسناد في قوله (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي. و (لَكُمُ) خبر (لا) أو صفة (غالِبَ) والخبر محذوف. أى : لا غالب كائنا لكم موجود. و (الْيَوْمَ) معمول الخبر. و (مِنَ النَّاسِ) حال من ضمير الخبر ...» (١).

وقوله : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) بيان لما فعله الشيطان وقاله بعد أن رأى ما رأى من قوة لا طاقة له بها ..

وقوله (تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أى : تقاربتا بحيث صارت كل فئة ترى الأخرى رؤية واضحة.

ومنهم من جعل (تَراءَتِ) بمعنى التقت وقوله (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أى : ولى هاربا ورجع القهقرى. وأبطل كيده وذهب ما مناهم به من النصرة والعون يقال : نكص عن الأمر نكوصا ونكصا أى : تراجع عنه وأحجم. والعقب : مؤخر القدم.

والمعنى : لقد حرض الشيطان جنوده من الكافرين على حربكم ـ أيها المؤمنون ـ ، ومناهم بالنصر عليكم ... ولكنه حينما تراءت الفئتان : فئتكم وفئته ، ورأى ما أمدكم الله به من الملائكة ، ولى مدبرا وقال للكافرين : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) أى : من عهدكم وجواركم ونصرتكم ، (إِنِّي أَرى) من الملائكة النازلة لتأييد المؤمنين مالا ترونه أنتم (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يعذبني قبل يوم القيامة ، أو إنى أخاف الله أن يصيبني بمكروه من قبل ملائكته.

وقوله (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يحتمل أنه من كلام إبليس الذي حكاه الله ـ تعالى ـ عنه ، ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عزوجل.

أى : والله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره.

هذا ، وهناك قولان في كيفية تزيين الشيطان للمشركين :

أحدهما : أن هذا التزيين لم يكن حسيا ، وإنما كان معنويا عن طريق الوسوسة دون أن يتحول الشيطان إلى صورة إنسان.

وعليه يكون قوله (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ...) مجازا عن الوسوسة. وقوله (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) استعارة لبطلان كيده ، شبه بطلان كيده بعد وسوسته بمن رجع القهقرى عما يخافه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥.

١١٧

وثانيهما : أن هذا التزيين كان حسيا بمعنى أن الشيطان تمثل لهم في صورة إنسان ، وقال لهم ما قال مما حكاه الله ـ تعالى ـ عنه.

وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين في تفسير الآية فقال : واذكر (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي عملوها في معاداة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أى : بطل كيده حين نزلت جنود الله.

وكذا عن الحسن ـ رحمه‌الله ـ قال : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم.

وقيل : لما اجتمعت قريش على السير ـ لحرب المسلمين في بدر ـ ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب ، فكاد ذلك يثنيهم عن حرب المسلمين ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة ابن مالك بن جعشم الشاعر الكناني ـ وكان من أشرفهم ـ في جند من الشياطين معه راية وقال : لا غالب لكم اليوم وإنى مجيركم من بنى كنانة. فلما رأى الملائكة تنزل ، نكص.

وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال : إنى أرى ما لا ترون ، ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا.

فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.

وفي الحديث ـ الذي أخرجه مالك في الموطأ ـ : «وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة. إلا ما رئي يوم بدر» (١).

وقد ذكر ابن جرير وابن كثير روايات أخرى تتفق في جملتها مع ما ذكره صاحب الكشاف ، وإن كانت تختلف عنها في التفصيل ، ومن ذلك قول ابن جرير :

«وكان تزيينه ذلك لهم كما حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجل من بنى مدلج ، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما اصطف الناس ، أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا الأدبار.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٧ وقوله : «ولا ادحر» الدحور : الطرد والإبعاد قال ابن حجر : والحديث أخرجه مالك في الموطأ من رواية طلحة ابن عبيد الله ابن كريز مرسلا ، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق والطبري والبيهقي في الشعب ، وانفرد أبو النضر بن إسماعيل بن إبراهيم العجلى عن مالك فقال : عن طلحة عن أبيه : قال ابن عبد البر : الصواب مرسل ، حاشية الكشاف ج ٢ ص ٢٢٨.

١١٨

وأقبل جبريل إلى إبليس ، فلما رآه ـ وكانت يده في يد رجل من المشركين ـ انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته.

فقال الرجل : يا سراقة تزعم أنك لنا جار؟ قال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وذلك حين رأى الملائكة.

ثم قال : وحدثنا أحمد بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ، قال : حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبى عبلة ، عن طلحة بن عبد بن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحر من يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر» قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر؟ قال : أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة أى : يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب» (١).

وقد سار ـ ابن جرير وابن كثير ـ في تفسيرهما للآية على أن التزيين من الشيطان كان حسيا.

فابن جرير يقول. بعد أن ذكر بضع روايات في تفسير الآية : فتأويل : وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال ، وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم. أيها المؤمنون لحربكم وقتالكم ، وحسن ذلك لهم ، وحثهم عليكم وقال لا غالب لكم اليوم ، من بنى آدم ، فاطمئنوا وأبشروا وإنى جار لكم من كنانة أن تأتيكم من ورائكم ... واجعلوا جدكم وبأسكم على محمد وأصحابه (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) يقول : فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين ، وجنود الشيطان من الكافرين ، ونظر بعضهم إلى بعض (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أى : رجع القهقرى على قفاه هاربا .. وقال للمشركين (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعنى أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين ، والمشركون لا يرونهم (٢).

وابن كثير يقول : وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ...) الآية.

أى : حسن لهم ـ لعنه الله ـ ما جاءوا له ، وما هموا به. وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بنى مدلج .. ثم قال : فلما رأى إبليس الملائكة (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) وقال إنى برىء منكم إنى أرى ما لا ترون ، وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحض أصحابه ويقول لهم : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ..» (٣).

ومن هذا يتضح أن هذين الإمامين الجليلين يسيران في تفسيرهما للآية الكريمة ، على أن

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٨ ، وتفسير ابن كثير ج ـ ٢ ص ٣١٧.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٢٠.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١٧ ، ص ٣١٨.

١١٩

التزيين كان حسيا ، ويهملان القول بغير ذلك وممن تابعهما في هذا الإمام القرطبي ، فقد ذكر بعض الروايات التي وردت في معنى الآية ، والتي صرحت بأن الشيطان قد تمثل للمشركين في صورة إنسان ، وبنى تفسيره للآية على ذلك .. (١).

وقد خالف صاحب المنار هؤلاء الأئمة ، فرجح القول الأول وهو أن التزيين لم يكن حسيا ، أى أن ما قاله الشيطان لهم من قبيل الوسوسة ، وأنه لم يتمثل لهم في صورة إنسان.

فقد قال ـ رحمه‌الله ـ قوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ...) أى : واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم لا غالب لكم اليوم من الناس.

(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أى : فلما قرب كل من الفريقين من الآخر. نكص ، أى : رجع القهقرى .. والمراد أنه كف عن تزيينه لهم ، وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ، وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره ، ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم ، وتركه إياهم وشأنهم ، وهو (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أى : تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة.

ثم قال ـ بعد أن ضعف الروايات التي أوردها ابن جرير وابن كثير ـ والمختار عندنا في تفسير الآية أن الشيطان ألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم .. (٢).

والخلاصة : أننا بمراجعتنا لأقوال المفسرين في كيفية تزيين الشيطان للمشركين ، تراهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

(أ) قسم منهم ذكر القولين السابقين في كيفية التزيين دون أن يرجح أحدهما على الآخر ، وممن فعل ذلك الزمخشري ، والفخر الرازي والآلوسى.

(ب) وقسم منهم سار في تفسيره على أن التزيين كان حسيا ، بمعنى أن الشيطان تمثل للمشركين في صورة إنسان وقال لهم ما قال ، وأهمل القول بأن التزيين لم يكن حسيا ، وممن فعل ذلك ابن جرير ، وابن كثير ، والقرطبي.

(ج) وقسم منهم رجح أن التزيين لم يكن حسيا ، بل كان عن طريق الوسوسة ، وأن الشيطان ما تمثل للمشركين في صورة إنسان ، وقد سار في هذا الاتجاه صاحب المنار مشككا في صحة ما سواه.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٦.

(٢) راجع تفسير المنار ج ١٠ ص ٣١ للشيخ رشيد رضا.

١٢٠