التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا : أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا. أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

والمعنى : ومثل ذلك الفتن. أى الابتلاء والاختبار ، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء في شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا! وقد رد الله عليهم بقوله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أى : أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.

والكاف في قوله (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير : ومثل ذلك الفتون المتقدم الذي فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض ، ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير ، والفقير بالغنى ، فكل واحد مبتلى بضده ، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم ، فامتنعوا عن الدخول في الإسلام لذلك ، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم. فكان ذلك فتنة لهم (١).

واللام في قوله (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) تعليلية لأنها هي للباعث على الاختبار أى : ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا.

والاستفهام في قوله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير ودقيق وجليل.

وكذلك تكون الآيات الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا ، ولكنه بمقدار شكر الله على ما أنعم ، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علما ليس فوقه علم.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٢ ص ٣٤.

٨١

بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٥٦)

السلام والسلامة مصدران من الثلاثي. يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاما وسلامة ومعناهما البراءة والعافية. ويستعمل السلام في التحية ، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل سوء ، فهو آية المودة والأمان والصفاء.

والمعنى : وإذا حضر إلى مجالسك يا محمد أولئك الذين يؤمنون بآياتنا ويعتقدون صحتها فقل لهم : تحية لكم من خالقكم وبشارة لكم بمغفرته ورضوانه مادمتم متبعين لهديه ، ومحافظين على فرائضه.

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أى أنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه وكرما.

ثم بين سبحانه أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة المكتوبة فقال (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أى أنه من عمل منكم عملا تسوء عاقبته متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد ثم تاب من بعد تلك الجهالة وأصلح خطأه وندم على ما بدر منه ، ورد المظالم إلى أهلها ، فالله سبحانه شأنه في معاملته لهذا التائب النادم أنه غفور رحيم».

ثم قال تعالى (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدى بها أهل النظر الصحيح والفقه الدقيق.

(وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أى ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين فيمتازوا بها عن جماعة المسلمين.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يصارح أعداءه ببراءته من شركهم ومن اتباع باطلهم فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ).

٨٢

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين. ذكر في هذه الآية أنه ـ تعالى ـ نهى عن سلوك سبيلهم فقال : إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ، وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد لا على سبيل الحجة والدليل ، لأنها جمادات وأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير. وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل ، وأيضا فالقوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها ، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه ، فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى ومضادة للهدى» (١).

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم : إن الله نهاني وصرفني بفضله ، وبما منحني من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله ، وقل ـ أيضا ـ لهم بكل صراحة وقوة : إنى لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من انقياد للأباطيل ، ولو أنى ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة المهتدين.

فالآية الكريمة قطعت بكل حسم ووضوح أطماعهم الفارغة في استمالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهوائهم ، ووصمتهم بأنهم في الضلال غارقون ، وعن الهدى مبتعدون.

وجاءت كلمة (نُهِيتُ) بالبناء للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهوره أى : نهاني الله ـ تعالى ـ عن ذلك. وأجرى على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكى اعتقادهم.

قال أبو حيان : و «تدعون» معناه تعبدون : وقيل معناه تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا أى سميته بهذا الإسم. وقيل تدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله تدعون من دون الله استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة ، ولفظة نهيت أبلغ من النفي بلا أعبد إذ ورد فيه ورود تكليف» (٢).

وجملة (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) مستأنفة ، وعدل بها عن العطف إلى الاستئناف لتكون غرضا مستقلا ، وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ألوان ضلالهم كطلبهم طرد المؤمنين من مجلسه ، وعبر بقوله (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) دون لا أتبعكم. للإشارة إلى أنهم في عبادتهم لغير الله تابعون

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٤ طبعة المطبعة الشرفية ١٣٢٤.

(٢) البحر المحيط لأبى حيان ج ٤ ص ١٤٢.

٨٣

للأهواء الباطلة ، نابذون للأدلة العقلية ، وفي هذا أكبر برهان على انطماس بصيرتهم ، وبنائهم لدينهم على الأوهام والأباطيل.

وجملة (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) جواب لشرط مقدر. أى : إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت إذا وما اهتديت.

وجملة (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) معطوفة على جملة (قَدْ ضَلَلْتُ) ومؤكدة لمضمونها أى : إنه إن فعل ذلك ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ خرج عن الحالة التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى كونه في زمرة الضالين.

والتعبير بقوله (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أبلغ من قوله وما أنا مهتد ، لأن التعريف في المهتدين تعريض للجنس ، وإخبار المتكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة التي تعرف عند الناس بفئة المهتدين ، فيفيد أنه مهتد بطريقة تشبه طريقة الاستدلال ، فهو من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه وهي أبلغ من التصريح. ولذا قال صاحب الكشاف : قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عالم ، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعرفة مساهمته معهم في العلم».

وبعد أن أمر الله ـ تعالى ـ نبيه بمصارحة المشركين بأنه لن يكون في يوم من الأيام متبعا لأهوائهم ، أمره أن يخبرهم بأنه على الحق الواضح الذي لا يضل متبعه ، وبأن الله وحده هو الذي سيقضي بينه وبينهم فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩)

٨٤

البينة : الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر ، أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أى الانفصال.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك اتباع أهوائهم كيف يتأتى لي ذلك وأنا على شريعة واضحة وملة صحيحة لا يعتريها شك ، ولا يخالطها زيغ لأنها كائنة من ربي الذي لا يضل ولا ينسى.

والتنوين في كلمة (بَيِّنَةٍ) للتفخيم والتعظيم ، وهي صفة لموصوف محذوف للعلم به في الكلام ، أى : على حجة بينة واضحة محقة للحق ومبطلة للباطل فأنا لن أتزحزح عنها أبدا.

وفي ذلك تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، وإنما هم قد اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

وجملة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في موضع الحال من (بَيِّنَةٍ) وهي تفيد التعجب منهم حيث كذبوا بما دلت عليه البينات ، واتفقت على صحته العقول السليمة.

والضمير في قوله (بِهِ) يعود على الله ـ تعالى ـ أى : وكذبتم بالله مع أن دلائل توحيده ظاهرة واضحة.

وقيل : يعود على البينة والتذكير باعتبار أنها بمعنى البيان.

وقيل : يعود على القرآن أى والحال أنكم كذبتم بالقرآن الذي هو بينتي من ربي.

وقوله : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أى : ليس في مقدوري أن أنزل بكم ما تستعجلونه من العذاب ، وإنما ذلك مرجعه إلى الله وحده.

وهذه الجملة الكريمة رد على المشركين الذين استعجلوا نزول العذاب عند ما أنذرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسوء المصير إذا ما استمروا في ضلالهم ، فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فكان رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بأن الذي يملك إنزال العذاب بهم إنما هو الله وحده ، وتأخير العذاب عنهم إنما هو لحكمة يعلمها الله ، فهو وحده الذي يقدر وقت نزوله.

وقوله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أى : ما الحكم في تعجيل العذاب أو تأخيره وفي كل شأن من شئون الخلق إلا لله وحده فهو ـ سبحانه ـ الذي ينزل قضاءه حسب سنته الحكيمة ، وموازينه الدقيقة.

وقرأ الكسائي وغيره «يقص الحق» ، أى : يقص ـ سبحانه ـ القضاء الحق في كل شأن من شئونه.

٨٥

وقوله (يَقُصُّ الْحَقَ) أى : يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أى : القاضين بين عباده.

قال ابن جرير : (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أى : وهو من ميز بين المحق والمبطل وأعدلهم ، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة إليه ولا لقرابة ولا مناسبة ، ولا في قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور ، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم فيما لو كان أمر إنزال العذاب عليهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام فقال : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أى : قل لهم يا محمد لو أن في قدرتي وإمكانى العذاب الذي تتعجلونه ، لقضى الأمر بيني وبينكم.

قال صاحب الكشاف أى : لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي. وامتعاضا من تكذيبكم به ، ولتخلصت منكم سريعا» (٢).

وجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) تذييل ، أى : والله أعلم منى ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله ، لأنه العليم. الخبير الذي عنده ما تستعجلون به.

والتعبير (بِالظَّالِمِينَ) إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون في شركهم وظالمون في تكذيبهم لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن كثير : فإن قيل : فكيف الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : «لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا بقرن الثعالب (٣) فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى فنظرت فيها فإذا جبريل فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا به عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال فناداني ملك الجبال وسلم على ثم قال يا محمد : إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرنى بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقلت له : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له».

فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٣٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٠ طبعة بيروت.

(٣) قرن الثعالب أو قرن المنازل : اسم مكان على بعد يوم وليلة من مكة وهو ميقات أهل نجد.

٨٦

قال ابن كثير : فالجواب على ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم» (١).

ثم يمضى السياق القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب ، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).

قال القرطبي : (مَفاتِحُ) جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، وهي قراءة ابن السميقع ، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقا محسوسا كان كالقفل على البيت ، أو معقولا كالنظر ، وروى ابن ماجة في سننه وأبى حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» ، وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان. ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول الناس افتح على كذا ، أى : أعطنى أو علمني ما أتوصل إليه به فالله ـ تعالى ـ عنده علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه» (٢).

والغيب : ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته ، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن ، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك. وقدم الظرف لإفادة الاختصاص ، أى : عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب ، وجملة «لا يعلمها إلا هو» في موضع الحال من مفاتح ، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها.

ومعنى (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أى : لا يعلم الغيوب علما تاما مستقلا إلا هو ـ سبحانه ـ فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم ، فكان في الأصل راجعا إلى علمه هو. قال ـ تعالى ـ (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن علمه ليس مقصورا على المغيبات ، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

قال الراغب : أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ، وقيل إن أصله الماء الملح

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١ طبعة دار الكتاب العربي.

٨٧

دون العذب وأطلق على النهر بالتوسع أو التغليب ، والبر ما يقابله من الأرض وهو ما يسمى باليابسة.

وهذه الجملة معطوفة على جملة ، وعنده مفاتح الغيب ، لإفادة تعميم علمه ـ سبحانه ـ بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.

وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقي من الأقل إلى الأعظم ، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم البر ، وخفاياه أكثر وأعظم ، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر.

ثم صرح ـ سبحانه ـ بشمول علمه لكل كلى وجزئى ، ولكل صغير وكبير ، ولكل دقيق وجليل ، فقال ـ تعالى ـ (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

أى : وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة في باطن الأرض وأجوافها ، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا ، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهى الثابت.

وجملة (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) معطوفة على جملة ، ويعلم ما في البر والبحر ، لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة.

والمراد بظلمات الأرض بطونها ، وكنّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما في الظلمة.

وقوله (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) تأكيد لقوله «لا يعلمها» لأن المراد بالكتاب المبين علم الله ـ تعالى ـ الذي وسع كل شيء ، أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته ـ عزوجل ـ.

قال الإمام الرازي : قال الزجاج : يجوز أن الله ـ تعالى ـ : أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال ـ تعالى ـ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها).

ثم قال الإمام الرازي : وفائدة هذا الكتاب أمور :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ : إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء ، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له.

٨٨

وثانيها : أنه يجوز أن يقال : أنه ـ تعالى ـ : ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ : علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع ـ أيضا ـ تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كتابة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا. تاما ، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (١).

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أمور من أهمها :

أن علم الله ـ تعالى ـ : محيط بالكليات والجزئيات ، وبكل شيء في هذا الكون ، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.

أن علم الغيب مرده إلى الله وحده ، قال الحاكم : دل قوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئا من الغيب».

وقال القاسمى : قال صاحب «فتح البيان» : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم. ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» قال ابن مسعود «أوتى نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب».

وروى البخاري بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله. ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يدرى أحد متى يجيء المطر» (٢).

وقال القرطبي : قال علماؤنا : أضاف ـ سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٧.

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٣٤٣.

٨٩

كتابه إلا من اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، وكذلك من قال : إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ؛ والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). ثم قال : وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين ، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال ، واستخرجوا منهم الأموال ، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل (١) ، ومن أديانهم على الفساد والضلال ، وكل ذلك من الكبائر لحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما» والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعى علم الغيب (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ : شمول علمه لكل شيء ، أتبع ذلك بالحديث عن كمال قدرته ، ونفاذ إرادته فقال ـ تعالى ـ :

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ

__________________

(١) السراب : ما يراه الشخص في منتصف النهار ملتصقا بالأرض كأنه ماء جار وهو ليس بشيء ، الآل : ما يراه بالضحى كأنه الماء بين السماء والأرض.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣.

٩٠

لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (٦٤)

قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أى : ينيمكم فيه. والتوفي أخذ الشيء وافيا ، أى تاما كاملا. والتوفي يطلق حقيقة على الإماتة ، وإطلاقه على النوم ـ كما هنا ـ مجاز لشبه النوم بالموت في انقطاع الإدراك والعمل والإحساس قال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فهذه الآية صريحة في أن التوفي أعم من الموت ، فقد صرحت بأن الأنفس التي تتوفى في منامها غير ميتة ، فهناك وفاتان : وفاة كبرى وتكون بالموت ، ووفاة صغرى وتكون بالنوم. والمعنى : وهو ـ سبحانه ـ الذي يتوفى أنفسكم في حالة نومكم بالليل ، دون غيره لأن غيره لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.

(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أى : ما كسبتم وعملتم فيه من أعمال. وأصل الجرح تمزيق جلد الحي بشيء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإنسان بجوارحه من يد أو رجل أو لسان.

وتخصيص الليل بالنوم ، والنهار بالكسب جريا على المعتاد ، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا ، وأن يكون الكسب والعمل نهارا ، قال ـ تعالى ـ :

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً).

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أى : ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه في النهار ، لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى في علم الله ـ تعالى ـ ، والمقدر له في هذه الدنيا ، فقد جعل ـ سبحانه ـ لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها.

وجملة (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) معطوفة على (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) فتكون ثم للمهلة الحقيقية وهو الأظهر.

(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم في هذه الدنيا ، فيحاسبكم على أعمالكم التي اكتسبتموها فيها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

فالآية الكريمة تسوق للناس مظهرا من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث

٩١

والحساب يوم القيامة ، لأن النشأة الثانية ـ كما يقول القرطبي ـ منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى.

هذا ، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب في الآية للمؤمنين والكافرين ، ولكن الزمخشري خالف في ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الخطاب للكفرة ، أى : أنتم منسدحون الليل كله كالجيف ـ أى مسطحون على القفا ـ (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبتم من الآثام فيه (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم (١).

والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب في الآية للكافرين.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أى : وهو الغالب المتصرف في شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك ، والمراد بالفوقية فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة.

قال الإمام الرازي : وتقرير هذا القهر من وجوه :

الأول : أنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد.

والثاني : أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد ، فإنه ـ تعالى ـ هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى ، فلا وجود إلا بإيجاده ، ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات.

والثالث : أنه قهار لكل ضد بضده ، فيقهر النور بالظلمة ، والظلمة بالنور ، والنهار بالليل ، والليل بالنهار ، وتمام تقريره في قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

وقوله (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أى : ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما تعملونه من خير أو شر. قال : ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) وقال ـ تعالى ـ : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٨.

٩٢

وفي الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ؛ ثم يعرج بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون».

قال صاحب الكشاف : فإن قلت إن الله ـ تعالى ـ غنى بعلمه عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ قلت : فيها لطف للعباد ، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء) (١).

وجملة (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يجوز أن تكون معطوفة على اسم الفاعل الواقع صلة ل (أل) ، لأنه في معنى يقهر والتقدير وهو الذي يقهر عباده ويرسل ، فعطف الفعل على الإسم لأنه في تأويله.

وقوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أى : حتى إذا احتضر أحدكم وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا الموكلون بذلك حالة كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون في أداء مهمتهم.

قال الآلوسى : وحتى في قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها ، كأنه قيل : ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم ، حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاءت أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا الآخرون المفوض إليهم ذلك ، وانتهى هناك حفظ الحفظة. والمراد بالرسل ـ على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس ـ أعوان ملك الموت (٢).

وقال الجمل : فإن قلت : إن هناك آية تقول : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) وثانية تقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) والتي معنا تقول (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.

فالجواب على ذلك أن المتوفى في الحقيقة هو الله ، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه ، ولملك الموت أعوان من الملائكة فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده ، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه ، وقيل المراد من قوله (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له (٣).

__________________

(١) الكشاف ج ٢ ص ٣٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٧٦.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٠.

٩٣

ثم صرح ـ سبحانه ـ بأن مصير الخلق جميعا إليه فقال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أى : ثم رد الله ـ تعالى ـ هؤلاء الذين توفتهم الملائكة إلى مالكهم الحق الذي لا يشوب ملكه باطل ليتولى حسابهم وجزاءهم على أعمالهم.

فالضمير في (رُدُّوا) يعود على الخلائق الذين توفتهم الملائكة والمدلول عليهم بأحد. والسر في الإفراد أولا والجمع ثانيا وقوع التوفي على الأفراد والرد على الاجتماع. أى : ردوا بعد البعث فيحكم فيهم بعدله. قال ـ تعالى ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

وقيل إن الضمير في (رُدُّوا) يعود على الملائكة. أى : ثم ردوا أولئك الرسل بعد إتمام مهمتهم بإماتة جميع الناس فيموتون هم أيضا. وجملة (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ). تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر.

أى : ألا له الحكم النافذ لا لغيره وهو ـ سبحانه ـ أسرع الحاسبين لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب.

وبذلك تكون هذه الآيات الثلاث قد أقامت أقوى البراهين وأصحها على كمال قدرة الله ، ونفاذ إرادته ، ومحاسبته لعباده يوم القيامة على ما قدموا وأخروا.

ثم ساق القرآن لونا آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله وسابغ رحمته وفضله وإحسانه فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

قال صاحب الكشاف : ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما.

يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل» (١).

وقيل : حمله على الحقيقة أولى فظلمة البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل ومن ظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب ، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك.

والتضرع : المبالغة في الضراعة مع الذل والخضوع. والخفية ـ بالضم والكسر ـ الخفاء والاستتار. وللكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر. فالغم يثير النفس كما يثير الأرض كاربها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٣.

٩٤

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الغافلين من الذي ينجيكم من ظلمات البر والبحر عند ما تغشاكم بأهوالها المرعبة ، وشدائدها المدهشة ، إنكم في هذه الحالة تلجأون إلى الله وحده تدعونه إعلانا وإسرارا بذلة وخضوع وإخلاص قائلين له : لئن أنجيتنا يا ربنا من هذه الشدائد والدواهي المظلمة لنكونن لك من الراسخين في الشكر المداومين عليه (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أى قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي ينجيكم من هذه المخاوف والأهوال ومن كل غم يأخذ بنفوسكم ، ثم أنتم بعد هذه النجاة تشركون معه غيره ، مخلفين بذلك وعدكم حانثين في أيمانكم.

قال الإمام الرازي : «والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله ، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا ، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله ، وينقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، وهو المراد من قوله (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فبين ـ سبحانه ـ أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأن لا ملجأ إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص في كل الأحوال ، لكن الإنسان ليس كذلك فإنه بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك.

ولفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتى الإنسان بأمور :

أحدها : الدعاء.

وثانيها : التضرع.

وثالثها : الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله (خُفْيَةً).

ورابعها : التزام الاشتغال بالشكر. ونظير هذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ٦٢.

٩٥

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩)

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين ، إن الله ـ تعالى ـ وحده هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا عظيما من فوقكم أى : من جهة العلو كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ، أو من تحت أرجلكم أى من السفل كما حدث بالنسبة لفرعون وجنده من الغرق ، وبالنسبة لقارون حيث خسف به الأرض.

وقيل : من فوقكم أى من قبل سلاطينكم وأكابركم ، ومن تحت أرجلكم أى : من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل : هو حبس المطر والنبات.

وتصوير العذاب بأنه آت من أعلى أو من أسفل أشد وقعا في النفس من تصويره بأنه آت من جهة اليمين أو من جهة الشمال ، لأن الآتي من هاتين الجهتين قد يتوهم دفعه ، أما الآتي من أعلى أو من أسفل فهو عذاب قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه.

وقوله (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أى : يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء ، متباينة المشارب ، مضطربة الشئون ، كل فرقة تتبع إماما لها تقاتل معه غيرها ، فيزول الأمن ويعم الفساد.

و (شِيَعاً) جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، وقوله (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) معطوف على ما قبله ، أى : يسلط بعضكم على بعض بالعذاب

٩٦

والقتل ، لأن من عواقب ذلك اللبس التقاتل والتصارع. وفي هاتين الجملتين تصوير مؤثر للعذاب الذي يذوقه الناس بحواسهم إذ يجعلهم ـ سبحانه ـ شيعا وأحزابا غير منعزل بعضها عن بعض ، فهي أبدا في جدال وصراع وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك ، وذلك أشنع ما تصاب به الجماعة فيأكل بعضها بعضا.

ثم تختم الآية بهذا التعبير الحكيم (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

أى : انظر وتدبر ـ أيها الرسول الكريم ـ أو أيها العاقل كيف ننوع الآيات والعبر والعظات بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر ، فينصرفوا عن الجحود والمكابرة ، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم.

هذا ، وقد ساق ابن كثير عقب تفسير هذه الآية جملة (١) من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه أقبل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مر بمسجد بنى معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه. ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا فأعطانى ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها ، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».

بعد هذا التهديد الشديد للمعاندين اتجه القرآن إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يصارح قومه بسوء مصيرهم إذا ما استمروا في ضلالهم فقال :

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) أى : وكذب جمهور قومك بهذا العذاب الذي حدثناك عنه فظنوا أن الله لن يعذبهم بسبب إعراضهم عن دعوتك ، أو كذبوا بهذا القرآن الذي هو معجزتك الكبرى.

والتعبير عنهم بقومك تسجيل عليهم بسوء المعاملة لمن هو من أنفسهم وجملة (وَهُوَ الْحَقُ) مستأنفة لقصد تحقيق القدرة على بعث العذاب عليهم ، أو حال من الهاء في به ، أى : كذبوا حال كونه حقا ، وهو أعظم في القبح قل لهم ـ يا محمد ـ (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أى : لم يفوض إلى أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق ، فأنا لست بقيم عليكم وإنما أنا منذر وقد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكنكم لا تحبون الناصحين.

ثم ختم هذا التهديد بقوله ـ تعالى ـ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

قال الراغب : «النبأ : خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حق يتضمن هذه الأشياء الثلاثة».

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٤٠ وما بعدها.

٩٧

والمستقر : وقت الاستقرار.

أى : لكل خبر عظيم وقت استقرار وحصول لا بد منه ، وسوف تعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم متى شاء الله ذلك ، قال ـ تعالى ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من قدرة الله ، وهددت المعاندين في كل زمان ومكان بسوء المصير.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله وأتباعه بأن يهجروا المجالس التي لا توقر فيه آيات الله وشرائعه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ).

قال الراغب : الخوض هو الشروع في الماء والورود فيه ، ثم استعير للأخذ في الحديث فقيل : تخاوضوا في الحديث ، أى : أخذوا فيه على غير هدى ، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (١).

والمعنى : وإذا رأيت أيها النبي الكريم ، أو أيها المؤمن العاقل ، الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والطعن والاستهزاء فأعرض عنهم. وانصرف عن مجالسهم ، وأرهم من نفسك الاحتقار لتصرفاتهم ، ولا تعد إلى مجالسهم حتى يخوضوا في حديث آخر ، لأن آياتنا المنسوبة إلينا من حقها أن تعظم وأن تحترم لا أن تكون محل تهكم واستهزاء.

قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت هذه الآية فجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا : لا تستهزءوا فيقوم.

وإنما عبر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض ، لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى فيه ولا منفعة من ورائه غالبا.

وقوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى : وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة الخائضين على سبيل الفرض والتقدير فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها ، وقد جاء الشرط الأول بإذا لأن خوضهم في الآيات محقق ، وجاء الشرط الثاني بإن لأن إنساء الشيطان له قد يقع وقد لا يقع.

فإن قيل : النسيان فعل الله فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب بأن السبب من الشيطان وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر فأضيف إليه لذلك ، كما أن من ألقى غيره في النار فمات يقال : إنه القاتل وإن كان الإحراق فعل الله.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ١٦٠ للراغب الأصفهاني.

٩٨

هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أحكاما من أهمها ما يأتى :

١ ـ وجوب الإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله أو برسله ، وأن لا يقعد لأن في القعود إظهار عدم الكراهة ، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القرطبي : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجرته ، مؤمنا كان أو كافرا ، وقد منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم وبيعهم ، وكذلك منعوا مجالسة الكفار وأهل البدع. فقد قال بعض أهل البدع لأبى عمران النخعي : اسمع منى كلمة فأعرض عنه وقال : ولا نصف كلمة.

وروى الحاكم عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من وقر صاحب بدعة فقد أعانه على هدم الإسلام» (١).

وقال صاحب المنار : وسبب هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء لهم بالتمادى فيه وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر قال ـ تعالى ـ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (٢).

٢ ـ جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض. لأنه إنما أمرنا بالإعراض في حالة الخوض ، وأيضا فقد قال ـ تعالى ـ (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

قال بعض العلماء : «وحتى غاية الإعراض ، لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أو جبته رعاية المصلحة ، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هدايتهم وإرشادهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصلحة» (٣).

٣ ـ استدل بهذه الآية على أن الناسي غير مكلف ، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف فيعفى عما ارتكبه حال نسيانه ففي الحديث الشريف «إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا وإسناده صحيح.

٤ ـ قال القرطبي : قال بعضهم إن الخطاب في الآية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود أمته ، ذهبوا إلى

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١٣.

(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٥٠٦.

(٣) تفسير التحرير والتنوير ج ٧ ص ٢٨٨ للشيخ الفاضل بن عاشور.

٩٩

ذلك لتبرئته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النسيان. وقال آخرون إن الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنسيان جائز عليه فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخبرا عن نفسه : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» فأضاف النسيان إليه. واختلفوا بعد جواز النسيان عليه هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أولا؟ فذهب إلى الأول ـ فيما ذكره القاضي عياض ـ عامة العلماء والأئمة كما هو ظاهر القرآن والأحاديث ، لكن اشترط الأئمة أن الله ـ تعالى ـ ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية» (١).

قال الآلوسى : «وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا تبعة على المؤمنين ما داموا قد أعرضوا عن مجلس الخائضين فقال ـ تعالى ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

أى : وما على الذين يتقون الله شيء من حساب الخائضين على ما ارتكبوا من جرائم وآثام ما داموا قد أعرضوا عنهم ، ولكن عليهم أن يعرضوا عنهم ويذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير لعل أولئك الخائضين يجتنبون ذلك ، ويتقون الله في أقوالهم وأفعالهم.

وعليه يكون الضمير في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعود على الخائضين.

وقيل يجوز أن يكون الضمير في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) للذين اتقوا أى : عليهم أى يذكروا أولئك الخائضين ، لأن هذا التذكير يجعل المتقين يزدادون إيمانا على إيمانهم ، ويثبتون على تقواهم.

روى البغوي عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) .. إلخ قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعنى إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون ، وما عليكم نصيب من إثم ذلك الخوض.

قال الجمل : قوله (ولكن ذكرى) فيه أربعة أوجه :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ١٨٣.

١٠٠