التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢)

(لَوْ) شرطية ، حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب وذلك أبلغ من ذكره.

و (وُقِفُوا) بالبناء للمفعول بمعنى : وقفهم غيرهم. يقال : وقف على الأطلال أى : عندها مشرفا عليها ، ويقال وقف على الشيء عرفه وتبينه.

والمعنى : إنك أيها النبي الكريم ـ أو أيها الإنسان العاقل ـ لو اطلعت على هؤلاء المشركين عند ما يقفون على النار ويشاهدون لهيبها وسعيرها. لرأيت شيئا مروعا مخيفا يجعلهم يتحسرون على ما فرط منهم ، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليصدقوا بآيات الله التي طالما كذبوها. وليكونوا من المؤمنين.

وعبر ـ سبحانه ـ بإذ التي تدل على الماضي ـ مع أن الحديث عما سيحصل لهم في الآخرة فكان يناسبه إذا ـ لإفادة تحقق الوقوع وتأكده ، وليتصور المستقبل على أنه موجود لا على أنه سيوجد ، وعطف بالفاء في قوله : (فَقالُوا) للدلالة على أن أول شيء يقع في قلوبهم حينئذ إنما هو الندم على ما سلف منهم ، وتمنى الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا.

ثم يعقب ـ سبحانه ـ على قولتهم هذه فيما لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير فيقول : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

بل هنا للإضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته ، ولحقيقة الإيمان وحسن عاقبته.

٦١

والمعنى : ليس الأمر كما يوهمه كلامهم في التمني من أنهم يريدون العودة للهداية ، بل الحق أنهم تمنوا العودة إلى الدنيا بعد أن استقبلتهم النار بلهبها ، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا يخفونه في الدنيا من أعمال قبيحة ، ومن أفعال سيئة ، وبعد أن بدا لهم ما كانوا يكذبون به ، وينكرون تحققه ، ولو أنهم ردوا إلى الدنيا بمتعها وشهواتها وأهوائها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب بالآيات ، والسخرية من المؤمنين ، وإنهم لكاذبون في كل ما يدعون.

فالآية الكريمة تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء ، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء وللمصلحين.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مفترياتهم في الدنيا واغترارهم بها فقال ـ تعالى ـ (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

أى : أن هؤلاء الكافرين قد بلغ بهم الحب للدنيا والتعلق بها أنهم قالوا : ما الحياة التي تسمى حياة في نظرنا إلا هذه الدنيا التي نتمتع فيها بما نريد من شهوات وما نحن بمبعوثين ولا محاسبين بعد ذلك.

فالآية الكريمة تحكى عنهم أنهم ينكرون أى حياة سوى الحياة التي يعيشونها ، وينفون وقوع البعث والحساب والثواب والعقاب نفيا مؤكدا بالباء وبالجملة الاسمية.

ويرى جمهور المفسرين أن هذه الآية الكريمة تتمة للآية السابقة لها من حيث المعنى ، وأن قوله (وَقالُوا) معطوف على (لَعادُوا) والتقدير ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر وسيئ الأعمال وقالوا ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ويكون قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا ، إذ هي تكذيب لادعائهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يقفون ليستمعوا إلى ما يوجهه إليهم ربهم من توبيخ وتقريع بسبب كفرهم فقال :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ).

أى : قال لهم ـ سبحانه ـ أليس هذا البعث الذي تشاهدونه بأعينكم ثابتا بالحق؟ وهنا يجيبون خالقهم مصدقين لأن الواقع يحتم عليهم ذلك فيقولون ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (بَلى وَرَبِّنا) أى : قالوا : بلى يا ربنا إنه للحق الذي لا شك فيه ، ولا باطل يحوم من حوله ، وأكدوا اعترافهم بالقسم شاهدين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا.

٦٢

وهنا يحكم الله فيهم بحكمه العادل فيقول : (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أى : إذا كان الأمر كما ذكرتم وشهدتم على أنفسكم ، فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلامه وأهواله بسبب كفركم بآيات الله ، وإنكاركم لهذا اليوم العصيب.

والذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه.

ثم صور ـ سبحانه ـ عاقبتهم السيئة ، وخسارتهم التي ليس بعدها خسارة فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ).

أى : أن أولئك الكفار الذين أنكروا البعث والحساب قد خسروا أعز شيء في هذه الحياة ، ومن مظاهر ذلك أنهم خسروا الرضا الذي سيناله المؤمنون من ربهم ، وخسروا العزاء الروحي الذي يغرس في قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء ، لأن المؤمن يعتقد أن ما عند الله خير وأبقى ، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله.

وإن هؤلاء الخاسرين سيستمرون في تكذيبهم بالحق وإعراضهم عنه (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا : يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها).

أى : حتى إذا جاءتهم الساعة مباغته مفاجئة وهم في طغيانهم يعمهون ، اعتراهم الهم ، وحل بهم البلاء وقالوا : بعد أن سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا يا حسرتنا أقبلى فهذا أوانك ، فإننا لم نستعد لهذا اليوم ، بل أهملناه ولم نلتفت إليه. وعلى ذلك يكون المراد بالساعة يوم القيامة وما فيه من حساب.

وقيل : المراد بالساعة وقت مقدمات الموت ، فالكلام على حذف المضاف ، أى : جاءتهم مقدمات الساعة وهي الموت وما فيه من الأهوال. فلما كان الموت من مبادئ الساعة سمى باسمها ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من مات فقد قامت قيامته».

وسميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها ، ولأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة : فانية وأخرى باقية.

وفي قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) إشارة إلى أنها تفاجئهم بأهوالها من غير أن يكونوا مستعدين لها أو متوقعين لحدوثها ، أما المؤمنين ـ فإنهم رغم عدم علمهم بمجيئها ـ فإنهم يكونون في حالة استعداد لها بالإيمان والعمل الصالح.

والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير إعداد له ، وكلمة (بَغْتَةً) يصح أن تكون مصدرا في موضع الحال من فاعل جاءتهم أى : جاءتهم مباغتة ، ويصح أن تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف من لفظها أى : تبغتهم بغتة ، والحسرة : شدة الغم والندم على ما فات وانقضى.

٦٣

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).

الأوزار جمع وزر وهو ـ بكسر الواو ـ الحمل الثقيل ، ويطلق على الإثم والذنب لأنهما أثقل الأحمال النفسية التي تنوء بها القوة.

والجملة الكريمة من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث شبهت حالهم وما يحملونه يوم القيامة من ذنوب ثقيلة مضنية ، بهيئة المثقل المجهد بحمل كبير يحمله على ظهره وينوء به. ثم حذفت الهيئة الدالة على المشبه به ورمز إليها بشيء من لوازمها.

وقيل إن الكلام على حقيقته وأنهم سيحملون ذنوبهم على ظهورهم فعلا ، حيث إن الذنوب والأعمال ستتجسم يوم القيامة ، وبهذا الرأى قال كثير من أهل السنة.

والمعنى : إن هؤلاء الكافرين يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم وآثامهم على ظهورهم ، ألا ما أسوأ ما حملوا ، وما أشد ما سيستقبلونه بعد ذلك من عذاب أليم.

ثم عقد ـ سبحانه ـ مقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة. بين فيها أن الحياة الآخرة هي الحياة العالية السامية الباقية ، أما الحياة الدنيا فهي إلى زوال وانتهاء فقال ـ تعالى ـ :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

اللعب : هو العمل الذي لا يقصد به مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، واللهو : هو طلب ما يشغل عن معالى الأمور وعما يهم الإنسان ويعنيه.

والمعنى : إن هذه الحياة التي نعتها الكفار بأنها لا حياة سواها ما هي إلا لهو ولعب لمن يطلبها بأنانية وشره من غير استعداد لما يكون وراءها من حياة أخرى فيها الحساب والجزاء ، وفيها النعيم الذي لا ينتهى ، وفيها السعادة التي لا تحد ، بالنسبة للذين اتقوا ربهم ، ونهوا أنفسهم عن الهوى.

فالحياة الدنيا لعب ولهو لمن اتخذوها فرصة للتكاثر والتفاخر وجمع الأموال من حلال وحرام ، ولم يقيموا وزنا للأعمال الصالحة التي كلفهم الله ـ تعالى ـ بها. أما بالنسبة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا. فإن الحياة الدنيا تعتبر وسيلة إلى رضا الله الذي يظفرون به يوم القيامة ، وإن ما يحصل عليه المؤمنون في هذا اليوم من ثواب جزيل ومن نعيم مقيم هو خير من الدنيا وما فيها من متعة زائلة ومن شهوات لا دوام لها.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) للحث على التدبر والتفكر والموازنة بين اللذات العاجلة الفانية التي تكون في الدنيا ، وبين النعيم الدائم الباقي الذي يكون في الآخرة.

ثم أخذ القرآن الكريم في مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تسليته عما أصابه من قومه فقال :

٦٤

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦)

(قَدْ) هنا للتحقيق وتأكيد العلم وتكثيره ، والتحقيق هنا جاء من موضوعها لا من ذاتها كما أن التكثير راجع إلى متعلقات العلم ، لا إلى العلم نفسه ، لأن صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها. والحزن ألم يعترى النفس عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : يقول تعالى مسليا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أى : قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم وقوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أى : هم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبى إسحاق عن ناجية عن على قال : قال أبو جهل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). وعن أبى يزيد المدني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقى أبا جهل فصافحه فقال

٦٥

له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال : والله إنى لأعلم أنه لنبي ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (١).

فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يصيبه من المشركين ومما لا شك فيه أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان حريصا على إسلامهم ، فإذا ما رآهم معرضين عن دعوته حزن وأسف ، وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٢).

ومنها قوله ـ تعالى ـ (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣).

ومنها قوله ـ تعالى ـ (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٤).

قال الجمل : والفاء في قوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) للتعليل ، فإن قوله (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) بمعنى لا يحزنك ، كما يقال في مقام المنع والزجر نعلم ما تفعل. ووجه التعليل : أن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور ، فتخلق بأخلاقى. ويحتمل أن يكون المعنى : إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم (٥).

والمعنى : إن هؤلاء الكفار ـ يا محمد ـ لا ينسبونك إلى الكذب ، فهم قد لقبوك بالصادق الأمين ، ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها.

والجحود هو الإنكار مع العلم ، أى نفى ما في القلب ثبوته ، أو إثبات ما في القلب نفيه ، وفي التعبير بالجحود بعد نفى التكذيب إشارة إلى أن آيات الله واضحة بحيث يصدقها كل عاقل وأنه لا يصح إنكارها إلا عن طريق الجحود.

وقال ـ سبحانه ـ (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) ولم يقل (وَلكِنَّهُمْ) ، لبيان سبب جحودهم وهو الظلم الذي استقر في نفوسهم ، وفيه فوق ذلك تسجيل للظلم عليهم حتى يكونوا أهلا لما يصيبهم من عقاب.

ثم زاد القرآن في تعزية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عن طريق إخباره بما حدث للأنبياء من قبله فإن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٣٠.

(٢) سورة الكهف : الآية ٦.

(٣) سورة فاطر الآية ٨.

(٤) سورة يس الآية ٧٦.

(٥) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٣.

٦٦

عموم البلوى مما يخفف وقعها فقال : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا).

أى : أن الرسل من قبلك ـ يا محمد ـ قد كذبتهم أقوامهم وأنزلت بهم الأذى ، فليس بدعا أن يصيبك من أعدائك ما أصاب الأنبياء من قبلك ، ولقد صبر أولئك الأنبياء الكرام على التطاول والسفه فكانت نتيجة صبرهم أن آتاهم الله النصر والظفر ، فعليك ـ وأنت خاتمهم وإمامهم ـ أن تصبر كما صبروا حتى تنال ما نالوا من النصر ، فإن سنة الله لا تتخلف في أى زمان أو مكان.

وجاء قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) مؤكدا بقد وباللام ، للإشارة إلى تأكيد التسلية والتعزية ، وإلى تأكيد التمسك بفضيلة الصبر التي سيعقبها النصر الذي وعد الله به الصابرين.

و (ما) في قوله (عَلى ما كُذِّبُوا) مصدرية ، (وَأُوذُوا) معطوف على قوله (كُذِّبَتْ) أى : كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك.

وقوله (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) غاية للصبر ، أى : صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا وفيه بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤكدا للتسلية بأنه ـ سبحانه ـ سينصره على القوم الظالمين.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) معناه : لا مغير لكلمات الله وآياته التي وعد فيها عباده الصالحين بالنصر على أعدائه ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٢). وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٣). إلى غير ذلك من الآيات التي بشر فيها عباده المؤمنين بالفلاح وحسن العاقبة.

ويرى المحققون من العلماء أن المراد بكلمات الله : شرائعه ، وصفاته ، وأحكامه ، وسننه في كونه ، ويدخل فيها دخولا أولياء ما وعد الله به أنبياءه وأولياءه من النصر والظفر. وهذا الرأى أرجح من سابقه لأنه أعم وأشمل.

وإضافة الكلمات إليه ـ سبحانه ـ للإشعار باستحالة تبديلها أو تغييرها لأنه ـ سبحانه ـ

__________________

(١) سورة المجادلة الآية ٢١.

(٢) سورة الصافات الآيات ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣.

(٣) سورة غافر الآية ٥١.

٦٧

لا يغالبه أحد في فعل من الأفعال ، ولا يقع منه خلف في قول من الأقوال ، فما دام المؤمنون يخلصون له العبادة والقول والعمل ويجتهدون في مباشرة الأسباب واتخاذ الوسائل النافعة ، فإنه ـ سبحانه ـ سيجعل العاقبة لهم.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) تأكيد وتقرير لما قبله أى : ولقد جاءك من أخبار المرسلين وأنبائهم ـ مما قصه عليك في كتابه ـ ما فيه العظات والعبر ، فلقد صبر المرسلون على الأذى فكافأهم الله ـ تعالى ـ على ذلك بالظفر على أعدائهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ).

كبر عليك : أى شق وعظم عليك. والنفق : السرب النافذ في الأرض الذي يخلص إلى مكان.

والمعنى : وإن كان ـ يا محمد ـ قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سببا في إيمانهم ، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقا في جوف الأرض ، أو مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد شيئا لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك ، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عنادا وجحودا.

ثم قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).

أى : لو شاء الله جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل ، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا ، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا ، فلا تكونن من الجاهلين بحكمة الله في خلقه ، وبسننه التي اقتضاها علمه.

ثم بين ـ سبحانه ـ من هم أهل للإيمان والاستجابة للحق فقال :

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أى : إنما يستجيب لك أيها الرسول الكريم أولئك الذين يسمعون توجيهك وأقوالك سماع تدبر وتفهم وتأثر ، أما هؤلاء الذين يعاندونك فقد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.

فالمراد بالاستجابة هنا ، الإجابة المقرونة بالتفكر والتأمل ، فهي إجابة محكمة دقيقة لأنها أنت بعد استقراء وتدبر وهذا ما تدل عليه السين.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال الكفار فقال : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أى : وموتى

٦٨

القلوب الذين لا يسمعون سماع تدبر وتقبل وهم المشركون ، سيبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة ويحاسبهم حسابا عسيرا على أقوالهم الباطلة وأعمالهم السيئة.

فالمراد بالموتى هنا الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم ـ سبحانه ـ بموتى الأجساد ، وهذا من باب التهكم بهم والتحقير من شأنهم.

وقيل : إن لفظ الموتى على حقيقته وأن الله ـ تعالى ـ بقدرته النافذة سيبعث الجميع يوم القيامة ويرجعهم إليه فيجازى الذين أساؤا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون تعنتا ، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم ، وبما يؤكد قدرته النافذة وعلمه المحيط فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩)

و (لَوْ لا) هنا تحضيضية بمعنى هلا. والمعنى : وقال أولئك الكافرون : هلا نزل عليك يا محمد معجزة حسية كتفجير الأنهار ، وفلق البحر ، ونزول الملائكة معك .. إلخ.

فهذه الآيات الكريمة تحكى عنهم أنهم لم يكتفوا بالقرآن معجزة خالدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما يريدون معجزات حسية من جنس معجزات الأنبياء السابقين.

وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، حتى لكأنه لم ينزل عليه شيء عنادا وجحودا منهم.

وفي قولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ببناء الفعل للمجهول وذكر لفظ الرب ، للإشارة إلى أنهم لا يوجهون الطلب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما يوجهونه إلى الله تعالى ، لأنه إذا كان رسولا من عنده ، فليجب له هذا الطلب الذي نتمناه ونكون من بعده مؤمنين.

٦٩

وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

أى : قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التوبيخ والتقريع إن الله ـ تعالى ـ قادر على تنزيل ما اقترحوا من آيات ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، ولكنه ـ سبحانه ـ ينزل ما تقتضيه حكمته ، إلا أنهم لجهلهم وعنادهم لا يعلمون شيئا من حكم الله في أفعاله ، ولا من سننه في خلقه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التي اقترحوها ، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص في الدليل ولكنه عن تكبر وجحود.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض الآيات الكونية المبثوثة في الأرض والجو والمعروضة على البصائر والأبصار فقال ـ تعالى ـ :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ).

الدابة : كل ما يدب على الأرض من حيوان. والطائر : كل ذي جناح يسبح في الهواء ، والأمم : جمع أمة وهي جماعة يجمعهم أمر ما.

والمعنى : إنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم في أن الله خلقهم وتكفل بأرزاقهم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما الغرض من ذكر ذلك؟ قلت : الدلالة عن عظم قدرة الله. وسعة سلطانه ، وتدبير تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها ، وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» (١) وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى بديع صنعه ـ سبحانه ـ وحسن خلقه.

قال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (٢).

ثم قال ـ تعالى ـ : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).

التفريط في الأمر : التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ وقيل المراد به القرآن.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢١.

(٢) سورة الملك : الآية ١٩.

٧٠

والمعنى : ما تركنا في الكتاب شيئا لم نحصه ولم نثبته ، وإنما أحطنا بكل شيء علما ، وليس من مخلوق صغر أو كبر في هذا الوجود إلا وسيجمع يوم القيامة أمام خالقه.

فالآية الكريمة مسوقة لبيان سعة علم الله ـ تعالى ـ وكمال قدرته ، لتكون كالدليل على أنه ـ سبحانه ـ قادر على تنزيل الآية التي اقترحوها ، وإنما لم ينزلها لأن حكمته تقتضي ذلك.

وجملة (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) معترضة لتقرير مضمون ما قبلها.

والتعبير بثم في قوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) للإشارة إلى أنهم أعداد لا يحصيها العد ، وجمعهم ليس يسيرا في ذاته ، وإن كان بالنسبة لقدرته ـ تعالى ـ أمرا هينا.

ويرى بعض العلماء أن المراد بحشر البهائم موتها. ويرى آخرون أن المراد بعثها يوم القيامة لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ). وفي الحديث الشريف عن أبى ذر الغفاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شاتين تتناطحان فقال : يا أبا ذر هل تدرى فيم تتناطحان؟ قال : لا. قال : ولكن الله يدرى وسيقضي بينهما.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ).

أى : مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل الأصم الذي لا يسمع ، والأبكم الذي لا يتكلم وهو مع ذلك في ظلمات لا يبصر ، فكيف يهتدى مثل هذا إلى الطريق القويم أو يخرج مما هو فيه من ضلال.

ففي التعبير القرآنى استعارة تمثيلية إذ شبهت حال الجاحدين المعرضين عن كل دليل وبرهان بحال الصم البكم الذين يعيشون في الظلام من حيث لا نور يهديهم.

ثم قال ـ تعالى ـ : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أى : من يشأ الله له الضلالة أضله بأن يجعله يسير في طريق هواه بسبب إعراضه عن طريق الخير ، وإيثاره العمى على الهدى ، ومن يشأ الله له الهداية يهده ، لأنه قد خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فالهداية والضلالة ليسا إجباريين لا اختيار للعبد فيهما ، وإنما الحق أن للعبد اختيارا في الطريق الذي يسلكه ، فإن كان خيرا خطا فيه إلى النهاية ، وإن كان شرا سار فيه إلى الهاوية.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المشركين عند ما تحيط بهم المصائب والأهوال لا يتوجهون بالضراعة والدعاء إلا إلى الله ، وأنهم مع ذلك لا يخصونه بالعبادة كما يخصونه بالدعاء لكشف الضر ، فقال ـ تعالى ـ :

٧١

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥)

(أَرَأَيْتَكُمْ) المقصود به أخبرونى ، وكلمة أرأيت في القرآن تستعمل للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل ، فهو استفهام للتنبيه مؤداه : أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره وتأمله.

والمعنى : قل ـ يا محمد ـ لهؤلاء المشركين : أخبرونى عن حالكم عند ما يداهمكم عذاب الله الدنيوي كزلزال مدمر ، أو ريح صرصر عاتية ، أو تفاجئكم الساعة بأهوالها وشدائدها ألستم في هذه الأحوال تلتجئون إلى الله وحده وتنسون آلهتكم الباطلة ، لأن الفطرة حينئذ هي التي تنطق على ألسنتكم بدون شعور منكم؟ وما دام الأمر كذلك فلما ذا تشركون مع الله آلهة أخرى؟ إن أحوالكم هذه لتدعو إلى الدهشة والغرابة ، لأنكم تلجأون إليه وحده عند الشدائد والكروب ومع ذلك تعبدن غيره ومن لا يملك ضرا ولا نفعا.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) للتوبيخ والتقريع والتعجب من حالهم.

وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.

٧٢

ثم أكد ـ سبحانه ـ أنهم عند الشدائد والكروب لا يلجئون إلا إلى الله فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ).

بل للإضراب الانتقالى عن تفكيرهم وأوهامهم ، أى : بل تخصونه وحده بالدعاء دون الآلهة ، فيكشف ما تلتمسون كشفه إن شاء ذلك ، لأنه هو القادر على كل شيء (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أى : تغيب عن ذاكرتكم عند الشدائد والأهوال تلك الأصنام الزائفة والمعبودات الباطلة.

وقدم ـ سبحانه ـ المفعول على الفعل في قوله : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) لإفادة الاختصاص ، أى : لا تدعون إلا إياه ، وذلك يدل على أن المشركين مهما بلغ ضلالهم فإنهم عند الشدائد يتجهون بتفكيرهم إلى القوة الخفية الخالقة لهذا الكون.

وفي قوله : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ) استعارة حيث شبه حال إزالة الشر بحال كشف غطاء غامر مؤلم بجامع إزالة الضر في كل وإحلال السلامة محله.

والمقصود فيكشف الضر الذي تدعونه أن يكشفه : فالكلام على تقدير حذف مضاف.

وجواب الشرط لقوله : (إِنْ شاءَ) محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه ، أى إن شاء أن يكشف الضر كشفه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يسأل عما يفعل.

ثم أخذ القرآن في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي بيان أحوال الأمم الماضية فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).

البأساء : تطلق على المشقة والفقر الشديد ، وعلى ما يصيب الأمم من أزمات تجتاحها بسبب الحروب والنكبات. والضراء. تطلق على الأمراض والأسقام التي تصيب الأمم والأفراد.

والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى أقوامهم ، فكان هؤلاء الأقوام أعتى من قومك في الشرك والجحود ، فعاقبناهم بالفقر الشديد والبلاء المؤلم ، لعلهم يخضعون ويرجعون عن كفرهم وشركهم.

فالآية الكريمة تصور لونا من ألوان العلاج النفسي الذي عالج الله به الأمم التي تكفر بأنعمه ، وتكذب أنبياءه ورسله ، إذ أن الآلام والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا ومتعها إن كانت صالحة للعلاج.

ولقد بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك. أن تلك الأمم لم تعتبر بما أصابها من شدائد فقال : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ولو لا هنا للنفي ، أى أنهم ما خشعوا ولا تضرعوا وقت أن جاءهم بأسنا.

٧٣

وقيل إنها للحث والتحضيض بمعنى هلا ، أى : فهلا تضرعوا تائبين إلينا وقت أن جاءهم بأسنا.

وقد اختار صاحب الكشاف أنها للنفي فقال : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) معناه : نفى التضرع ، كأنه قيل. فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن أمرين حالا بينهم وبين التوبة والتضرع عند نزول الشدائد بهم.

أما الأمر الأول : فهو قسوة قلوبهم ، وقد عبر ـ سبحانه ـ عن هذا الأمر الأول بقوله : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أى : غلظت وجمدت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة.

وأما الأمر الثاني : فهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة ، بأن يوحى إليهم بأن ما هم عليه من كفر وشرك وعصيان هو عين الصواب ، وأن ما أتاهم به أنبياؤهم ليس خيرا لأنه يتنافى مع ما كان عليه آباؤهم.

هذان هما الأمران اللذان حالا بينهم وبين التضرع إلى الله والتوبة إليه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه قد ابتلاهم بالنعم بعد أن عالجهم بالشدائد فلم يرتدعوا فقال ـ تعالى ـ :

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ).

والمعنى : فلما أعرضوا عن النذر والعظات التي وجهها إليهم الرسل ، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق وأسباب القوة والجاه. حتى إذا اغتروا وبطروا بما أوتوا من ذلك أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من النجاة.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا نَسُوا) لتفصيل ما كان منهم. وبيان ما ترتب على كفرهم من عواقب قريبة وأخرى بعيدة.

والمراد بالنسيان هنا : الإعراض والترك. أى : تركوا الاهتداء بما جاء به الرسل حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم ، وجمودهم على تقليد من قبلهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣.

٧٤

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) يرسم صورة بليغة لإقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها بجميع ألوان نعمها ، وبكل قوتها وإغرائها ، فهو اختبار لهم بالنعمة بعد أن ابتلاهم بالبأساء والضراء.

وعبر ـ سبحانه ـ عن إعطائهم النعمة بقوله : (بِما أُوتُوا) بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم ، كما قال قارون من قبل (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي).

وأضاف ـ سبحانه ـ الأخذ إلى ذاته في قوله (فَأَخَذْناهُمْ) لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك ، بل كانوا ينسبون الخلق والإيجاد إلى الله ـ تعالى ـ.

وكان الأخذ بغتة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا ، أى أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم. أو حال كونهم مبغوتين ، فقد فجأهم العذاب على غرة بدون إمهال.

وإذا في قوله (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) فجائية ، والمبلس : الباهت الحزين البائس من الخير ، الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.

روى الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وإذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ). الآية.

ثم قال ـ تعالى ـ : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

الدابر : الآخر ، والمعنى : فأهلك الله ـ تعالى ـ أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم ، والحمد لله رب العالمين الذي نصر رسله وأولياءه على أعدائهم ، وفي ختام هذه الآية بقوله (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعليم لنا ، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله ـ تعالى ـ.

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمه عليهم في خلقهم وتكوينهم ، وبين لهم إذا سلبهم شيئا من حواسهم فإنهم لا يتجهون إلا إليه فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ

٧٥

بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين : أخبرونى إن سلب الله عنكم نعمتي السمع والبصر فأصبحتم لا تسمعون ولا تبصرون ، وختم على قلوبكم فصرتم لا تفقهون شيئا ، من إله غيره يقدر على رد ما سلب منكم وأنتم تعرفون ذلك ولا تنكرونه فلما ذا تشركون معه آلهة أخرى؟ ثم التفت عنهم إلى التعجيب من حالهم فقال ـ تعالى ـ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أى : انظر كيف ننوع الآيات والحجج والبراهين فنجعلها على وجوه شتى ليتعظوا ويعتبروا ثم هم بعد ذلك يعرضون عن الحق ، وينأون عن طريق الرشاد.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (أَرَأَيْتُمْ) للتنبيه أى : إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فتبينوه وتأملوا ما يدل عليه.

والضمير في (بِهِ) يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد.

وفي قوله (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) تعجيب من عدم تأثرهم رغم كثرة الدلائل وتنوعها من أسلوب إلى أسلوب.

وجملة (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) معطوفة على جملة نصرف الآيات وداخلة في حكمها ، وكان العطف بثم لإفادة الاستبعاد المعنوي ، لأن تصريف الآيات والدلائل يدعو إلى الإقبال ، فكان من المستبعد في العقول والأفهام أن يترتب عليه الإعراض والابتعاد.

قال القرطبي : (يَصْدِفُونَ) أى : يعرضون. يقال : صدف عن الشيء إذا أعرض صدفا وصدوفا فهو صادف. فهم مائلون معرضون عن الحجج والدلالات (١).

ثم وجه عقولهم إلى لون آخر من ألوان الإقناع فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ، هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ). بغتة : أى مفاجأة ، وجهرة : أى جهارا عيانا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٤٢٨.

٧٦

والمعنى : قل لهم أيها الرسول الكريم أخبرونى عن مصيركم إن أتاكم عذاب الله مباغتا ومفاجئا لكم من غير ترقب ولا انتظار ، أو أتاكم ظاهرا واضحا بحيث ترون مقدماته ومباديه ، هل يهلك به إلا القوم الظالمون؟.

والاستفهام في قوله (هَلْ يُهْلَكُ) بمعنى النفي ، أى : ما يهلك به إلا القوم الظالمون ، الذين أصروا على الشرك والجحود ، فهلاكهم سببه السخط عليهم والعقوبة لهم ، لأنهم عموا وصموا عن الهداية.

ثم بين ـ سبحانه ـ وظيفة الرسل فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، أى : تلك سنتنا وطريقتنا في إهلاك المكذبين للرسل ، والمعرضين عن دعوتهم ، فإننا ما نرسل المرسلين إليهم إلا بوظيفة معينة محددة هي تقديم البشارة لمن آمن وعمل صالحا ، وسوق الإنذار لمن كذب وعمل سيئا.

فالجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لبيان وظيفة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ولإظهار أن ما يقترحه المشركون عليهم من مقترحات باطلة ليس من وظائف المرسلين أصلا.

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة من آمن وعاقبة من كفر فقال : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

والمعنى : فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأصلح في عمله. فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين ، ولا من عذاب الآخرة الذي يحل بالمكذبين ، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم.

والمس اللمس باليد ، ويطلق على ما يصيب المرء من ضر أو شر ـ في الغالب ـ وفي قوله (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) استعارة تبعية ، فكأن العذاب كائن حي يفعل بهم ما يريد من الآلام والعذاب.

ثم لقن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأجوبة الحاسمة التي تدمغ شبهات الكافرين ، وتبين ضلال مقترحاتهم فقال :

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ

٧٧

أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣)

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم : ليس عندي خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون ، وإنما ذلك لله ـ تعالى ـ فهو الذي له خزائن السموات والأرض ، وقد كان المشركون يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا ، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فأخبركم بما مضى وبما سيقع في المستقبل ، وإنما علم ذلك عند الله ، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا في المستقبل. حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار ، وقل لهم : إنى لست ملكا فأطلع على ما لا يطلع عليه الناس وأقدر على مالا يقدرون عليه. وقد كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل طعاما ويمشى في الأسواق ثم يتزوج النساء.

ثم بين لهم وظيفته فقال : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أى إن وظيفتي اتباع ما يوحى إلى من ربي. فأنا عبده وممتثل لأمره ، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التي اقترحتموها على. فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لإظهار تبريه عما يقترحونه عليه.

ثم بين لهم ـ سبحانه ـ الفرق بين المهتدى والضال فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

أى : قل لهم : هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه ، وذو البصيرة المنيرة التي اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته؟

فالمراد بالأعمى الكافر الذي لم يستجب للحق ، وبالبصير المؤمن الذي انقاد له.

٧٨

والاستفهام للإنكار ونفى الوقوع ، أى : كما أنه لا يتساوى أعمى العينين وبصيرهما ، فكذلك لا يتساوى المهتدى والضال والرشيد والسفيه ، بل إن الفرق بين المهتدى والضال أقوى وأظهر ، لأنه كم من أعمى العينين وبصير القلب هو من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء وكم من بصير العينين أعمى القلب هو أضل من الأنعام ، ولذا قرعهم الله ـ تعالى ـ بقوله : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)؟ أى : أفلا تتفكرون في ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الإسلام ، وبين صفات الرب وصفات الإنسان. والاستفهام هنا للتحريض على التفكر والتدبر.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجتهد في إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق ، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

والمعنى : عظ وخوف يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب ، وتعتريهم الرهبة عند ما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة ، فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر.

فالمراد بهم المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولذا قال ابن كثير : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى : يوم القيامة ، (لَيْسَ لَهُمْ) يومئذ (مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أى : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه) (١).

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء. فقال تعالى :

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).

أى : لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين.

وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢٤.

٧٩

أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟ لا .. اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك. فنزلت هذه الآية (١) :

ففي الآية الكريمة نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه. لأنه وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للإسلام لينال بقوتهم قوة ، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة في الإيمان والعمل الصالح ، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه في كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله ، فكيف يطردون من مجالس الخير؟.

ثم قال تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).

أى : إن الله تعالى هو الذي سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شيء ، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شيء ، فهم مجزيون بأعمالهم ، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك ، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الظالمين. إذ أنهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك ، وحاشا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرد قوما تلك هي صفاتهم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كفى قوله (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حتى ضم إليه (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.

وقيل : الضمير للمشركين. والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين) (٢).

وهنا تخريج آخر لقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بأن المعنى : ما عليك شيء من حساب رزقهم ان كانوا فقراء ، وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء ، أى أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعا سواء منهم الفقير والغنى ، فكيف تطرد فقيرا لفقره ، وتقرب غنيا لغناه؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين ، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.

وقوله (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب للنهى عن الطرد ، وقوله (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب لنفى الحساب.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١٠٤.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣.

٨٠