التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

وقوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات المذكورة كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.

وقوله (بَلْ هُمْ أَضَلُ) تنقيص لهم عن رتبة الأنعام ، أى : بل هم أسوأ حالا من الأنعام ، إذ أن الأنعام ليس لها سوى الاستعدادات الفطرية التي تهديها أما الإنسان فقد زود إلى جانب الفطرة بالقلب الواعي ، والعقل المدرك ، والعين المبصرة ، وزود بالقدرة على اتباع الهدى أو اتباع الضلال ، فإذا لم يفتح بصره وقلبه وسمعه على الحق فإنه يكون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية.

وقوله (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أى أولئك المنعوتون بما ذكرهم الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم وخيرهم وسعادتهم ، بسبب استحواذ الهوى والشيطان عليهم ولا يظلم ربك أحدا.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حال المخلوقين لجهنم بسبب غفلتهم وإهمالهم لعقولهم وحواسهم ، أعقبه ببيان العلاج الذي يشفى من ذلك ، وبالنهى عن اتباع المائلين عن الحق فقال ـ تعالى ـ :

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أمر بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ومجانبة الملحدين والمشركين. قال مقاتل وغيره من المفسرين : نزلت الآية في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته : يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركي مكة : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فنزلت» (١).

والأسماء : جمع اسم ، وهو اللفظ الدال على الذات فقط أو على الذات مع صفة من صفاتها سواء كان مشتقا كالرحمن ، والرحيم ، أو مصدرا كالرب والسلام.

والحسنى : تأنيث الأحسن أفعل تفضيل ، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها ، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها.

والمعنى : ولله ـ تعالى ـ وحده جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات فادعوه أى سموه واذكروه ونادوه بها.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٢٥.

٤٤١

روى الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة والله وتر يحب الوتر».

قال الآلوسى : والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه ـ عزت أسماؤه ـ في التسعة والتسعين ، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إنى عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي في يدك ماضى فىّ حكمك ، عدل فىّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزنى ... إلخ» فهذا الحديث صريح في عدم الحصر.

وحكى النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة ، وهو لا ينافي أن له ـ تعالى ـ أسماء غيرها» (١).

ثم قال ـ تعالى ـ (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ذروا : فعل أمر لم يرد في اللغة استعمال ماضيه ولا مصدره ، وهو بمعنى الترك والإهمال.

ويلحدون من الإلحاد وهو الميل والانحراف ، يقال : ألحد إلحادا إذا مال عن القصد والاستقامة ، وألحد في دين الله : حاد عنه ؛ ومنه لحد القبر لأنه يمال بحفره إلى جانبه بخلاف الضريح فإنه يحفر في وسطه.

والمعنى : ولله ـ تعالى ـ أشرف الأسماء وأجلها فسموه بها أيها المؤمنون ، واتركوا جميع الذين يلحدون في أسمائه ـ سبحانه ـ بالميل بألفاظها أو معانيها عن الحق من تحريف أو تأويل أو تشبيه أو تعطيل أو ما ينافي وصفها بالحسنى اتركوا هؤلاء جميعا فإنهم سيلقون جزاء عملهم من الله رب العالمين.

ومن مظاهر إلحاد الملحدين في أسمائه ـ تعالى ـ تسمية أصنامهم بأسماء مشتقة منها ، كاللات : من الله ـ تعالى ـ ، والعزى : من العزيز ، ومناة : من المنان وتسميته ـ تعالى ـ بما بوهم معنى فاسدا ، كقولهم له ـ سبحانه ـ : يا أبيض الوجه كذلك من مظاهر الإلحاد في أسمائه ـ تعالى ـ ، تسميته بما لم يسم به نفسه في كتابه ، أو فيما صح من حديث رسوله ، إلى غير ذلك مما يفعله الجاهلون والضالون.

ثم تمضى السورة الكريمة في هديها وتوجيهها فتفصل صنوف الخلق ، وتمدح من يستحق المدح وتذم من يستحق الذم فتقول :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٢٣.

٤٤٢

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)

وقوله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) معطوف على قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) قبل ذلك ، لأن كلتيهما تفصيل لإجمال قوله ـ تعالى ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي).

أى : وممن خلقنا للجنة ـ لأنه في مقابلة (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) ـ أمة يهدون بالحق ، أى : يدعون إليه ويسيرون عليه ، وبه يعدلون أى : به يقضون وينصفون الناس.

وقد وردت آثار تفيد أن المراد بهذه الأمة : الأمة المحمدية ففي الصحيحين عن معاوية بن أبى سفيان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة ، وفي رواية : «حتى يأمر الله وهم على ذلك» :

وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذا الآية يقول : هذه لكم ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها.

وعن الربيع بن أنس ـ في هذه الآية ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل».

وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الإجماع حجة في كل عصر ، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ حال المكذبين فقال. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).

٤٤٣

الاستدراج : ـ كما قال القرطبي ـ هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة. والدرج لف الشيء ، يقال : أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل : هو من الدرجة ، فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة» (١).

وقال صاحب الكشاف : الاستدراج : استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ، ومنه : درج الصبى إذا قارب بين خطوه ، وأدرج الكتاب. طواه شيئا بعد شيء ، ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم. وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغي ، فكلما جدد عليهم نعمة ، ازدادوا بطرا وجددوا معصية ، فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ، ظانين أن متواترة النعم محبة من الله وتقريب. وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج من الله ـ تعالى ـ نعوذ بالله منه» (٢).

وقد قيل : إذا رأيت الله ـ تعالى ـ أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج.

وقوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الإملاء : الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير ، مشتق من الملاوة والملوة ، وهي الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان : الليل والنهار.

ويقال : أملى له إذا أمهله طويلا ، وأملى للبعير : إذ أرخى له في الزمام ووسع له في القيد ليتسع المرعى.

والكيد كالمكر ، وهو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهى إلى ما يسوءه من مخبره وغايته. وإضافته إلى الله ـ تعالى ـ يحمل على المعنى اللائق به ، كإبطال مكر أعدائه أو إمدادهم بالنعم ثم أخذهم بالعذاب.

ومتين : من المتانة بمعنى الشدة والقوة. ومنه المتن للظهر أو للحم الغليظ.

والمعنى. والذين كذبوا بآياتنا سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم بكثرة النعم بين أيديهم ، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج. وأمهل لهؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر ، وأمد لهم في أسباب الحياة الرغدة ، إن كيدي شديد متين لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن أبى موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٢٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٨٢.

٤٤٤

وقوله (وَأُمْلِي لَهُمْ) جوز بعضهم أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أى : وأنا أملى لهم. وقيل هو معطوف على قوله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) وقيل هو مستأنف.

ثم أمر ـ سبحانه ـ هؤلاء الظالمين بالتفكر والتدبر فقال : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ، ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

الهمزة للإنكار والتوبيخ ، وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من سياق القول ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام.

والجنة : مصدر كالجلسة بمعنى الجنون. وأصل الجن الستر عن الحاسة.

والمعنى : أكذب هؤلاء الظالمون رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يتفكروا في أنه ليس به أى شيء من الجنون ، بل هو أكمل الناس عقلا ، وأسدهم رأيا ، وأنقاهم نفسا.

والتعبير (بِصاحِبِهِمْ) للإيذان بأن طول مصاحبتهم له مما يطلعهم على نزاهته عما اتهموه به ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لبث فيهم قبل الرسالة أربعين سنة كانوا يلقبونه فيها بالصادق الأمين ، ويعرفون عنه أسمى ألوان الإدراك السليم والتفكير المستقيم.

قال الجمل : وجملة «ما بصاحبهم من جنة» في محل نصب معمولة ليتفكروا فهو عامل فيها محلا لا لفظا لوجود المعلق له عن العمل وهو ما النافية.

ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) ثم ابتدأ كلاما آخر إما استفهام إنكار وإما نفيا. ويجوز أن تكون «ما» استفهامية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم. والتقدير : أى شيء استقر بصاحبهم من الجنون» (١).

وقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيان لوظيفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : ليس بمجنون كما زعمتم أيها المشركون وإنما هو مبالغ في الإنذار ، مظهر له غاية الإظهار. فهو لا يقصر في تخويفكم من سوء عاقبة التكذيب ، ولا يتهاون في نصيحتكم وإرشادكم إلى ما يصلح من شأنكم.

ثم دعاهم القرآن إلى النظر والاستدلال العقلي فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ).

الملكوت : هو الملك العظيم زيدت فيه اللام والتاء للمبالغة كما في جبروت.

والجملة الكريمة مسوقة لتوبيخهم على إخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية إثر تقريعهم على عدم تفكرهم في أمر نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢١٥.

٤٤٥

أى : أكذبوا ولم يتفكروا في شأن رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما هو عليه من كمال العقل ، ولم ينظروا نظر تأمل واعتبار واستدلال في ملكوت السموات من الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، وفي ملكوت الأرض من البحار والجبال والدواب وغيرها ، ولم ينظروا كذلك فيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف مما يشهد بأن لهذا الكون خالقا قادرا هو المستحق وحده للعبادة والخضوع.

وقوله (مِنْ شَيْءٍ) بيان «لما» وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده.

وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) في محل جر معطوف على ما قبله ، و (أَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو (أَنْ يَكُونَ).

والمعنى : أو لم ينظروا ـ أيضا ـ في اقتراب آجالهم ، وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت لهم ونزول العذاب بهم وهم في أتعس حال.

إنهم لو تفكروا في أمر رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو نظروا فيما خلق الله من مخلوقات بعين التدبر والاتعاظ ، لآمنوا وهدوا إلى صراط العزيز الحميد.

وقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أى : إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو أكمل كتب الله بيانا ، وأقواها برهانا ، فبأى كلام بعده يؤمنون؟.

والجملة الكريمة مسوقة للتعجب من أحوالهم. ولقطع أى أمل في إيمانهم لأنهم ما داموا لم يؤمنوا بهذا الرسول المؤيد بالمعجزات ، وبهذا الكلام المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية ، فأحرى بهم ألا يؤمنوا بغير ذلك.

ثم عقب القرآن على هذا التوبيخ والتهديد للمشركين بقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

أى : من يرد الله إضلاله بسبب اختياره للضلالة ، وصممه عن الاستماع للحق فلا قدرة لأحد على هدايته ، وهو ـ سبحانه ـ يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم متحيرين مترددين.

ثم بينت السورة الكريمة أن أمر الساعة مرده إلى الله ـ تعالى ـ ، وأن السائلين عن وقتها من الأحسن لهم أن يستعدوا لها بدل أن يكثروا من السؤال عن زمن مجيئها فقالت :

٤٤٦

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨)

قال الآلوسى : عن ابن عباس أن قوما من اليهود قالوا : يا محمد ، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا. إنا نعلم متى هي ، وكان ذلك امتحانا منهم ، مع علمهم أن الله ـ تعالى ـ قد استأثر بعلمها. وأخرج ابن جرير عن قتادة أن جماعة من قريش قالوا : يا محمد أسر إلينا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة فنزلت» (١).

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) استئناف مسوق لبيان بعض أنواع ضلالهم وطغيانهم.

والساعة في الأصل اسم لمدار قليل من الزمان غير معين ، وتطلق في عرف الشرع على يوم القيامة وهو المراد بالسؤال هنا.

وأطلق على يوم القيامة ساعة إما لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله ـ تعالى ـ.

و (أَيَّانَ) ظرف زمان متضمن معنى متى. و (مُرْساها) مصدر ميمى من أرساها إذا أثبته وأقره ، ولا يكاد يستعمل الإرساء إلا في الشيء الثقيل كما في قوله ـ تعالى ـ (وَالْجِبالَ أَرْساها) ونسبته هنا إلى الساعة باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام. و (أَيَّانَ) خبر مقدم ومُرْساها) مبتدأ مؤخر.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٣٢.

٤٤٧

والمعنى : يسألك يا محمد هؤلاء القوم عن الساعة قائلين أيان مرساها؟.

أى متى إرساؤها واستقرارها ، أو متى زمن مجيئها وحصولها؟.

وقوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) جواب عن سؤالهم : أى : قل أيها الرسول الكريم : علم الساعة أو علم قيامها عند ربي وحده ليس عندي ولا عند غيرى من الخلق شيء منه.

والتعبير بإنما المفيد للحصر للاشعار بأنه ـ سبحانه ـ هو الذي استأثر بعلم ذلك ولم يخبر أحدا به من ملك مقرب أو نبي مرسل.

وقوله (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) بيان لاستمرار إخفائها إلى حين قيامها وإقناط كلى عن إظهار أمرها بطريق الإخبار.

والتجلية : الكشف والإظهار. يقال : جلى لي الأمر وانجلى وجلاه تجلية بمعنى : كشفه وأظهره أتم الإظهار.

والمعنى : لا يكشف الحجاب عن خفائها ، ولا يظهرها للناس في الوقت الذي يختاره إلا الله وحده.

قال بعضهم : والسبب في إخفاء الساعة عن العباد لكي يكونوا دائما على حذر ، فيكون ذلك أدعى للطاعة وأزجر عن المعصية ، فإنه متى علمها المكلف ربما تقاصر عن التوبة وأخرها.

ثم عظم ـ سبحانه ـ أمر الساعة فقال (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : كبرت أو شقت على أهلها لخوفهم من شدائدها وأهوالها وما فيها من محاسبة ومجازاة ، وعن السدى : أن من خفى عليه علم شيء كان ثقيلا عليه.

أو المعنى : ثقلت عند الوقوع على نفس السموات حتى انشقت وانتثرت نجومها وكورت شمسها ، وعلى نفس الأرض حتى سيرت جبالها ، وسجرت بحارها ، وقوله : «لا تأتيكم إلا بغتة» أى : لا تأتيكم إلا فجأة وعلى حين غفلة من غير توقع ولا انتظار.

وقد وردت أحاديث متعددة تؤيد وقوع الساعة فجأة ، ومنها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ـ أى ناقته ذات اللبن ـ فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه ـ أى يطليه بالجص أو الطين ـ فلا يسقى فيه. ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فمه فلا يطعمها».

ثم قال ـ تعالى ـ (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

٤٤٨

أى : يسألونك يا محمد هذا السؤال كأنك حفى عنها أى : كأنك حفى عنها أى : كأنك عالم بها. من حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله بتتبع واستقصاء ومن بحث عن شيء وسأل عنه استحكم علمه به ، وعدى (حَفِيٌ) بعن اعتبارا لأصل معناه ، وهو السؤال والبحث.

قال صاحب الكشاف : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) عالم بها. وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه. استحكم علمه فيه ورصن ـ أى ثبت وتمكن ـ ، وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، واحتفاء البقل ، استئصاله ، وأحفى في المسألة إذا ألحف ـ أى ألح وتشدد ـ وحفى بفلان وتحفى به : بالغ في البر به .. وقيل : إن قريشا قالت له إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة؟ فقيل : يسألونك عنها كأنك حفى تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى علمها عن غيرهم ، ولو أخبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في اخبارك به ، لكنت مبلغه للقريب والبعيد من غير تخصيص ، كسائر ما أوحى إليك.

ثم قال : فإن قلت : لم كرر يسألونك وإنما علمها عند الله؟ قلت : للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وعلى هذا تكرير العلماء والحذاق» (١).

وقال صاحب الانتصاف : وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلقى إلا في الكتاب العزيز ، وهو أجل من أن يشارك فيها. وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرار أن الكلام إذا بنى على مقصد واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده ، طرى بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته ، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ، وسيأتى ، وهذا منها فإنه لما ابتدأ الكلام. بقوله «يسألونك عن الساعة أيان مرساها» ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) إلى قوله (بَغْتَةً) أن يدمغ تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمن في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وهو شديد التعلق بالسؤال وقد بعد عهده ، فطري ذكره تطرية عامة ، ولا تراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما تقدم. فمن ثم قيل (يَسْئَلُونَكَ) ولم يذكر المسئول عنه وهو «الساعة» اكتفاء بما تقدم ، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه» (٢).

هذا ، وإذا كان علم الساعة مرده إلى الله وحده ، فإن هناك نصوصا من الكتاب والسنة تحدثت عن أماراتها وعلاماتها ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٨٥.

(٢) الانتصاف على الكشاف ج ٢ ص ١٨٤ لابن المنير.

٤٤٩

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ).

والأشراط : جمع شرط ـ بفتح الشين والراء ـ وهي العلامات الدالة على قربها ، وأعظم هذه العلامات بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ بها كمل الدين وما بعد الكمال إلا الزوال.

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ويفرج بين إصبعيه الوسطى والسبابة.

وفي حديث جبريل المشهور أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة ، فقال له ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها :

«إذا ولدت الأمة ربها ـ أى سيدها ـ ، وإذا تطاول رعاة الإبل في البنيان».

ومن علامات الساعة ـ كما صرحت بذلك الأحاديث ـ قبض العلم ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» ومنها ـ أى من علامات الساعة ـ كثرة الزلازل ، وتقارب الزمان ـ أى قلة البركة في الوقت بحيث يمر الشهر كأنه أسبوع ـ ، وظهور الفتن وكثرة الهرج ـ أى القتل إلى غير ذلك من العلامات التي وردت في الأحاديث النبوية ، وقد ساق بعض المفسرين وعلى رأسهم ابن كثير جملة منها (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين للناس أن كل الأمور بيد الله ـ تعالى ـ ، وأن علم الغيب كله مرجعه إليه ـ سبحانه ـ فقال :

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أى : لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما.

وقوله (لِنَفْسِي) متعلق بأملك. أو بمحذوف وقع حالا من (نَفْعاً) والمراد : لا أملك ذلك في وقت من الأوقات.

وقوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء متصل. أى لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله بأن يمكنني من ذلك ، فإننى حينئذ أملكه بمشيئته.

وقيل : الاستثناء منقطع ، أى لكن ما شاء الله من ذلك كائن.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٧١.

٤٥٠

وقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أى : لكانت حالي ـ كما قال الزمخشري ـ على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير ، واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ، ورابحا وخاسرا في التجارات ومصيبا ومخطئا في التدابير» (١).

قال الجمل : فان قلت : قد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته فكيف نوفق بينه وبين قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) .. إلخ.؟ قلت : يحتمل أنه قاله على سبيل التواضع والأدب ، والمعنى : لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي.

ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله على علم الغيب. فلما أطلعه الله أخبر به كما قال ـ تعالى ـ (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ، ثم بعد ذلك أظهره ـ سبحانه ـ على أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته (٢).

ثم بين القرآن وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى : ما أنا إلا عبد أرسلنى الله نذيرا وبشيرا ، وليس من مهمتى أو وظيفتي معرفة علم الغيب.

وقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق بقوله (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) جميعا لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالإنذار والتبشير ، ويجوز أن يتعلق بقوله (بَشِيرٌ) وحده ، وعليه يكون متعلق النذير محذوف أى : للكافرين. وحذف للعلم به :

وبهذا الإعلان من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس عن وظيفته ، تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص التجريد المطلق من الشرك في أية صورة من صوره ، وتنفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها فيها بشر ولو كان هذا البشر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية ، ويقف العلم البشرى ، وتقف القدرة البشرية ، إذ علم الغيب إنما هو لله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن مظاهر قدرة الله وأدلة وحدانيته ، فذكرت الناس بمبدأ نشأتهم ، وكيف أن بعضهم قد انحرف عن طريق التوحيد إلى طريق الشرك ، وساقت ذلك في صورة القصة لضرب المثل من واقع الحياة فقالت :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٨٥.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢١٨.

٤٥١

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠)

قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) استئناف مسوق لبيان ما يقتضى التوحيد الذي هو المقصد الأعظم.

أى. إن الذي يستحق العبادة والخضوع ، والذي عنده مفاتح الغيب هو الله الذي خلقكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم ، وجعل من نوع هذه النفس وجنسها زوجها حواء ، ثم انتشر الناس منهما بعد ذلك كما قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

وقوله (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أى : ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر ، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس. وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه.

فالأصل في الحياة الزوجية هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار وهذه نظرة الإسلام إلى تلك الحياة قال ـ تعالى ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

والضمير المستكن في (لِيَسْكُنَ) يعود إلى النفس ، وكان الظاهر تأنيثه لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها وهي قوله (واحِدَةٍ) إلا أنه جاء مذكرا هنا باعتبار أن المراد من النفس هنا ـ آدم عليه‌السلام ـ «ولو أنث على حسب الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى ، فكان التذكير كما يقول الزمخشري ـ أحسن طباقا للمعنى.

وقوله (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ).

٤٥٢

الغشاء : غطاء الشيء الذي يستره من فوقه ، والغاشية ؛ الظلة التي تظل الإنسان من سحابة أو غيرها. والتغشى كناية عن الجماع. أى فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوجة التي هي الأنثى وتدثرها لقضاء شهوتهما (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً). أى : حملت منه محمولا خفيفا وهو الجنين في أول حملة لا تجد المرأة له ثقلا لأنه يكون نطفة ثم مضغة ، ولا ثقل له يذكر في تلك الأحوال (فَمَرَّتْ بِهِ) أى : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير نقصان ولا إسقاط. أو المعنى : فاستمرت به كما كانت من قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت من غير مشقة وتلك هي المرحلة الأولى من مراحل الحمل.

وتأمل معى ـ أيها القارئ الكريم ـ مرة أخرى قوله ـ تعالى : (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) لترى سمو القرآن في تعبيره ، وأدبه في عرض الحقائق. إن أسلوبه يلطف ويدق عند تصوير العلاقة بين الزوجين ، فهو يسوقها عن طريق كناية بديعة تتناسب مع جو السكن والمودة بين الزوجين وتتسق مع جو الستر الذي تدعو إليه الشريعة الإسلامية عند المباشرة بين الرجل والمرأة ، ولا نجد كلمة تؤدى هذه المعاني أفضل من كلمة (تَغَشَّاها).

ثم تأتى المرحلة الثانية من مراحل الحمل فيعبر عنها القرآن بقوله : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

أى : فحين صارت ذات ثقل يسبب نمو الحمل في بطنها ، فالهمزة للصيرورة كقولهم : أتمر فلان وألبن أى : صار ذا تمر ولبن.

أى : وحين صارت الأم كذلك وتبين الحمل ، وتعلق به قلب الزوجين ، توجها إلى ربهما يدعوانه بضراعة وطمع بقولهما : (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أى لئن أعطيتنا نسلا سويا تام الخلقة ، يصلح للأعمال الإنسانية النافعة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك على نعمائك التي من أجلها هذه النعمة واستجاب الله للزوجين دعاءهما ، فرزقهما الولد الصالح فماذا كانت النتيجة؟.

لقد كانت النتيجة عدم الوفاء لله فيما عاهداه عليه ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أى : فحين أعطاهما ـ سبحانه ـ الولد الصالح الذي كانا يتمنيانه ، جعلا لله ـ تعالى ـ شركاء في هذا العطاء ، وأخلا بالشكر في مقابلة هذه النعمة أسوأ إخلال ، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان ، أو إلى الطبيعة كما يزعم الطبعيون أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة والشكر.

وقوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه فيه معنى التعجب من أحوالهم. أى : تنزه ـ سبحانه ـ وتقدس عن شرك هؤلاء الأغبياء الجاحدين الذين يقابلون نعم الله بالإشراك والكفران.

٤٥٣

والضمير في (يُشْرِكُونَ) يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء : هذا والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله ـ تعالى ـ أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، وأعطاهم الذرية ، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم ، ولكنهم جحدوا نعمه وأشركوا معه في العبادة والشكر آلهة أخرى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ويرى بعض المفسرين أن المراد بهذا السياق آدم وحواء ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد ـ بسنده ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره.

وقد أثبت ابن كثير في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه ، ثم قال : قال الحسن : عنى الله ـ تعالى ـ بهذه الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا. قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ونحن على مذهب الحسن البصري في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

وقال صاحب الانتصاف : والأسلم والأقرب أن يكون المراد ـ والله أعلم ـ جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين. وكأن المعنى خلقكم جنسا واحدا ، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم : «بنو فلان قتلوا قتيلا» يعنى من نسبة البعض إلى الكل (٢).

والذي نراه أن الآيتين واردتان في توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله ـ تعالى ـ لأن الأحاديث والآثار التي وردت في أنهما وردتا في شأن آدم وحواء لتسميتهما ابنهما بعبد الحارث اتباعا لوسوسة الشيطان لهما ـ ليست صحيحة ، كما أثبت ذلك علماء الحديث.

ثم أخذت السورة بعد ذلك في توبيخ المشركين ، وفي إبطال شركهم بأسلوب منطقي حكيم فقالت :

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٧٤.

(٢) الانتصاف على الكشاف ج ٢ ص ١٨٦ لابن المنبر ـ بتصرف يسير ـ.

٤٥٤

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

قوله ـ تعالى ـ (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أى : أيشركون به ـ تعالى ـ وهو الخالق لهم ولكل شيء ، ما لا يخلق شيئا من الأشياء مهما يكن حقيرا ، بل إن هذه الأصنام التي تعبد من دون الله مخلوقة ومصنوعة ، فكيف يليق بسليم العقل أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر.

والاستفهام للإنكار والتجهيل. والمراد بما في قوله (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) أصنامهم ، ورجع الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها ، كما أن إرجاع ضمير الجمع إليها في قوله (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لرعاية معناها.

وجاء بضمير العقلاء في (يُخْلَقُونَ) مسايرة لهم في اعتقادهم أنها تضر وتنفع.

٤٥٥

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أى : أن هذه الأصنام فضلا عن كونها مخلوقة ، فإنها لا تستطيع أن تجلب لعابديها نصرا على أعدائهم ، بل إنها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شرا ، ومن هذه صفته كيف يعبد من دون الله؟ قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

ثم بين ـ سبحانه ـ عجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب فقال : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أى : وإن تدعو أيها المشركون هذه الأصنام إلى الهدى والرشاد لا يتبعوكم ، أى أنهم لا ينفعوكم بشيء ولا ينتفعون منكم بشيء.

وقوله (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله.

أى : مستو عندكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم على صمتكم ، فإنه لا يتغير حالكم في الحالين ، كما لا يتغير حالهم بحكم أنهم جماد.

ثم مضى القرآن في دعوته إياهم إلى التدبر والتعقل فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ).

أى : إن هذه الأصناف التي تعبدونها من دون الله ، أو تنادونها لدفع الضر أو جلب النفع (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أى : مماثلة لكم في كونها مملوكة لله مسخرة مذللة لقدرته كما أنكم أنتم كذلك فكيف تعبدونها أو تنادونها؟.

وأطلق عليها لفظ (عِبادٌ) ـ مع أنها جماد ـ وفق اعتقادهم فيها تبكيتا لهم وتوبيخا.

وقوله (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أى : فادعوهم في رفع ما يصيبكم من ضر ، أو في جلب ما أنتم في حاجة إليه من نفع (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أن هذه الأصنام قادرة على ذلك.

ثم تابع القرآن تقريعه لهذه الأصنام وعابديها فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها).

الاستفهام للإنكار ، والمعنى : أن هذه الأصنام التي تزعمون أنها تقربكم إلى الله زلفى هي أقل منكم مستوى لفقدها الحواس التي هي مناط الكسب إنها ليس لها أرجل تسعى بها إلى دفع ضر أو جلب نفع ؛ وليس لها أيد : تبطش بها أى تأخذ بها ما تريد أخذه ، وليس لها أعين تبصر بها شئونكم وأحوالكم وليس لها آذان تسمع بها أقوالكم ، وتعرف بواسطتها مطالبكم ، فأنتم

٤٥٦

أيها الناس تفضلون هذه الأصنام بما منحكم الله ـ تعالى ـ من حواس السمع والبصر وغيرها فكيف يعبد الفاضل المفضول ، وكيف ينقاد الأقوى للأضعف؟.

ثم أمر الله ـ تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يناصبهم الحجة وان يكرر عليهم التوبيخ فقال : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين هبطوا بعقولهم إلى أحط المستويات نادوا شركاءكم الذين زعمتموهم أولياء ثم تعاونوا أنتم وهم على كيدي وإلحاق الضر بي من غير انتظار أو إمهال ، فإنى أنا معتز بالله ، وملتجئ إلى حماه ومن كان كذلك فلن يخشى شيئا من المخلوقين جميعا.

وهذا نهاية التحدي من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم والحط من شأنهم وشأن آلهتهم.

ثم بين لهم الأسباب التي دعته إلى تحديهم وتبكيتهم فقال (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).

أى : قل يا محمد لهؤلاء الضالين إننى ما تحديتكم وطلبت كيدكم وكيد أصنامكم ـ إن كنتم أنتم وهم تقدرون على ذلك على سبيل الفرض ـ إلا لأنى معتز بالله وحده ، فهو ناصري ومتولى أمرى ، وهو الذي نزل هذا القرآن لأخرجكم به من الظلمات إلى النور ، وقد جرت سنته ـ سبحانه ـ أن يتولى الصالحين وأن يجعل العاقبة لهم.

قال الحسن البصري : إن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآلهتهم فقال ـ تعالى ـ (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) الآية ـ ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلى بوجه من الوجوه. وهذا كما قال هود ـ عليه‌السلام ـ لقومه ردا على قولهم. (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ـ قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ).

ثم قال ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أى : والذين تعبدونهم من دون الله أو تنادونهم لدفع الضر أو جلب النفع لا يستطيعون نصركم في أى أمر من الأمور ، وفضلا عن ذلك فهم لا يستطيعون رفع الأذى عن أنفسهم إذا ما اعتدى عليهم معتد.

ثم قال ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) أى : إلى أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم من النصر على الأعداء أو غير ذلك (لا يَسْمَعُوا) أى : لا يسمعوا شيئا مما تطلبونه منهم ، ولو سمعوا ـ على سبيل الفرض ـ ما استجابوا لكم لعجزهم عن فعل أى شيء.

وقوله (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع ، أى : وترى هذه الأصنام كأنها تنظر إليك بواسطة تلك العيون الصناعية

٤٥٧

التي ركبت فيها ولكنها في الواقع لا تبصر لخلوها من الحياة.

وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد وبخت المشركين وآلهتهم أعظم توبيخ ، وأثبتت بالأدلة المنطقية الحكيمة ، وبوسائل الحس والمشاهدة أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، وأن الذين قالوا في شأنها (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) هم قوم غافلون جاهلون ، قد هبطوا بعقولهم إلى أحيط الدركات ، لأنهم يتقربون إلى الله زلفى عن طريق ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا ، بل لا يستطيع أن يدفع الأذى عن نفسه.

وفي الوقت نفسه فالآيات دعوة قوية لكل عاقل إلى أن يجعل عبادته وخضوعه لله الواحد. القهار.

ثم تتجه السورة الكريمة بعد ذلك إلى شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترسم له ولكل عاقل طريق معاملته للخلق على وجه يقيه شر الحرج والضيق فتقول.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩)

العفو : يطلق في اللغة على خالص الشيء وجيده ، وعلى الفضل الزائد فيه ، وعلى السهل الذي لا كلفة فيه.

أى : خذ ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس ، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة. ولا تطلب منهم ما يشق عليهم ويرهقهم حتى لا ينفروا ، وكن لينا رفيقا في معاملة أتباعك ، فإنك (لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أى : مر غيرك بالمعروف المستحسن من الأفعال ، وهو كل ما عرف حسنه في الشرع ، فإن ذلك أجدر بالقبول من غير نكير ، فإن النفوس حين تتعود الخير الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال ، يسلس قيادها ، ويسهل توجيهها.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الذين لا يدركون قيم الأشياء والأشخاص والكلمات فيما يبدر منهم من أنواع السفاهة والإيذاء لأن الرد على أمثال هؤلاء ومناقشتهم لا تؤدى إلى خير ، ولا تنتهي إلى نتيجة. والسكوت عنهم احتزام للنفس ، واحترام للقول ، وقد يؤدى الإعراض عنهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها.

وهذه الآية على قصرها تشتمل ـ كما قال العلماء ـ على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان لأخيه الإنسان ، وهي طريق قويم لكل ما تطلبه الإنسانية الفاضلة لأبنائها الأبرار ، وقد جاءت في أعقاب حديث طويل عن أدلة وحدانية الله ـ تعالى ـ وأبطال الشرك والشركاء ، لكي

٤٥٨

تبين للناس في كل زمان ومكان أن التحلي بمكارم الأخلاق إنما هو نتيجة لإخلاص العبادة لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد.

قال القرطبي : هذه الآية من ثلاث كلمات ، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.

فقوله (خُذِ الْعَفْوَ) دخل فيه صلة القاطعين والعفو عن المذنبين ، والرفق بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) صلة الأرحام ، وتقوى الله في الحلال والحرام ، وغض الأبصار ، والاستعداد لدار القرار.

وفي قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الحض على التعلق بالعلم ، والإعراض عن أهل الظلم ، والتنزّه عن منازعة السفهاء ، ومساواة الجهلة الأغنياء ، وغير ذلك من الأخلاق المجيدة والأفعال الرشيدة» (١).

ثم يرشد القرآن المسلمين في شخص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يهدئ غضبهم ويطفئ ثورتهم فيقول :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢)

النزغ والنخس والغرز بمعنى واحد ، وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا ونحوها في الجلد.

أى : وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة تثير غضبك ، وتحملك على خلاف ما أمرت به من أخذ العفو والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين ، فالتجئ إلى الله ، واستعذ بحماه ، فإنه ـ سبحانه ـ سميع لدعائك ، عليم بكل أحوالك. وهو وحده الكفيل بصرف وسوسة الشياطين عنك ، وصيانتك من همزاتهم ونزغاتهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٤٤.

٤٥٩

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة المتقين فقال (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).

طائف من الطواف والطواف بالشيء أى : الاستدارة به أو حوله. يقال : طاف بالشيء إذا دار حوله. والمراد به هنا وسوسة الشيطان وهمزاته.

أى : إن الذين اتقوا الله ـ تعالى ـ وصانوا أنفسهم عن كل ما يغضبه إذا مسهم شيء من وسوسة الشيطان ونزغاته التي تلهيهم عن طاعة الله ومراقبته (تَذَكَّرُوا) أى : تذكروا أن المس إنما هو من عدوهم الشيطان فعادوا سريعا إلى طاعة الله ، وإلى خوف مقامه ونهوا أنفسهم عن اتباع همزات الشياطين.

والجملة الكريمة مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين ، وأن الإخلال بها من طبيعة الضالين.

وفي قوله (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) إشعار بعلو منزلتهم ، وقوة إيمانهم ، وسلامة يقينهم لأنهم بمجرد أن تطوف بهم وساوس الشيطان أو بمجرد أن يمسهم شيء منه فإنهم يتذكرون عداوته ، فيرجعون سريعا إلى حمى ربهم يستجيرون به ويتوبون إليه.

وفي التعبير عن الوسوسة بالطائف إشعار بأنها وإن مست هؤلاء المتقين فإنها لا تؤثر فيهم ، لأنها كأنها طافت حولهم دون أن تصل إليهم.

وقوله (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أى : فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ، وخطوات الشيطان ، فينتهون عنها.

وفي هذه الآية الكريمة ما يهدى العقول ، ويطب النفوس ، إذ هي تبين لنا أن مس الشيطان قد يغلق بصيرة الإنسان عن كل خير ، ولكن التقوى هي التي تفتح هذه البصيرة ، وهي التي تجعل الإنسان دائما يقظا متذكرا لما أمره الله به أو نهاه عنه ، فينتصر بذلك على وساوس الشيطان وهمزاته وتبقى لهم بصيرتهم على أحسن ما تكون صفاء ونقاء وكشفا.

أما الذين لم يتقوا الله ، ولم يلجئوا إلى حماه ، ولم يخالفوا الشيطان فقد عبر عنهم القرآن بقوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ).

يمدونهم من المد ، وهو الزيادة يقال : مده يمده أى : زاده. والغي : الضلال ، مصدر غوى يغوى غيا وغواية.

أى : وإخوان الشياطين من المشركين والغافلين تزيدهم الشياطين من الضلال عن طريق الوسوسة والإغراء بارتكاب المعاصي والموبقات (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أى : ثم لا يكف هؤلاء

٤٦٠