التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

هو التفتح للحق ، والانقياد للهداية ، فإننا لو نزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس ـ كما اقترحوا ـ فشاهدوه بأعينهم وهو نازل عليك ولمسوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وباشروه بعد ذلك بجميع حواسهم بحيث يرتفع عنهم كل ارتياب ، ويزول كل إشكال. لو أننا فعلنا ذلك. استجابة لمقترحاتهم المتعنتة ، لقالوا بلغة العناد والجحود ما هذا الذي أبصرناه ولمسناه إلا سحر مبين.

فالآية الكريمة تصور مكابرتهم المتبجحة ، وعنادهم الصفيق ، وإدبارهم عن الحق مهما تكن قوة أدلته ، ونصاعة حجته.

قال الإمام الرازي «بين الله ـ تعالى ـ في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر. والمراد من قوله (فِي قِرْطاسٍ) أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر» (١).

و (لَوْ) في الآية الكريمة حرف امتناع ، أى : أنه ـ سبحانه ـ قد امتنع عن إجابة مقترحاتهم لأنه يعلم أن إجابتها لا ثمرة لها ، ولا فائدة من ورائها ، لأن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، وإنما الذي ينقصهم هو الاستجابة للحق والاتجاه السليم لطلبه ، والاستماع إليه بعناية وتفكير.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ). مع أن اللمس هو باليد غالبا ـ للتأكيد وزيادة التعيين ، ودفع احتمال المجاز. فالجملة الكريمة المقصود بها تصوير فرط جحودهم ومكابرتهم ، وإعراضهم عن الحق مهما تكن قوة الدليل وحسيته.

وفي قوله ـ تعالى ـ (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة إلى أن الكافرين وحدهم هم الذين بسبب كفرهم ـ ينتحلون الأعذار لضلالهم ، ويصفون الحق الواضح بأنه سحر مبين. أما المؤمنون فإنهم يقابلون الحق بالتصديق والإذعان.

وقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فأكدوا حكمهم الباطل بطريق النفي والإثبات ـ أى : أنه مقصور على أنه سحر ـ وبالإشارة إليه ، وبأنه بين واضح في كونه سحرا ، وذلك يدل على أن تبجحهم قد بلغ النهاية ، وأن مكابرتهم قد كذبت ما شهدت بصدقه حواسهم ، وإن قوما بهذه الدرجة من العناد لا تجدى فيهم معجزة ، ولا ينفع معهم دليل.

وفي معنى هذه الآية قد وردت آيات أخرى في القرآن الكريم منها قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ أَنَّنا

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٢.

٤١

نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١).

ومنها قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (٢).

ثم حكى القرآن بعض مقترحاتهم المتعنتة ورد عليها بما يدحضها فقال :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ).

أى : قال الكافرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه ، ونرى هيئته ، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.

قال محمد بن إسحاق «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قومه إلى الإسلام ، وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلده ، وعبد بن يغوث وأبى بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويروى معك».

فهم لا يريدون ملكا لا يرونه ، وإنما يريدون ملكا يمشى معه ويشاهدونه بأعينهم.

وأسند ـ سبحانه ـ القول إليهم مع أن القائل بعضهم ، لأنهم جميعا متعنتون جاحدون ، وما يصدر عن بعضهم إنما هو صادر في المعنى عن جميعهم لأن الباعث واحد ، ولو لا هنا للتحضيض فلا تحتاج إلى جواب.

أى : وقال الكافرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه ، ونرى هيئته ، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.

وقد رد الله تعالى ـ على قولهم هذا بردين حكيمين :

أما الرد الأول : فقال فيه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ).

أى : لو أنزلنا ملكا كما اقترح هؤلاء الكافرون وهم على ما هم عليه من الكفر والجحود ، لقضى الأمر بإهلاكهم ، ثم لا ينظرون ، أى : لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا ، بل يأخذهم العذاب عاجلا ، فقد مضت سنة الله فيمن قبلهم ، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم

__________________

(١) سورة الأنعام الآية : ١١١.

(٢) سورة الحجر الآيتان : ١٤ ، ١٥.

٤٢

يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك ، والله ـ تعالى ـ لا يريد أن يهلك هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب إجابة مقترحات أولئك المعاندين المستكبرين.

وأما الرد الثاني فقال فيه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ).

أى : لو جعلنا الرسول من الملائكة ـ كما اقترحوا ـ لكانت الحكمة تقتضي أن نجعله في صورة بشر ليتمكنوا من رؤيته ومن سماع كلامه الذي يبلغه عن الله ـ تعالى ـ وفي هذه الحالة سيقولون لهذا الملك المرسل إليهم في صورة بشر ـ : لست ملكا ، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها ، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا.

ومعنى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) لخلطنا عليهم مثل ما يخلطون على أنفسهم بسبب استبعادهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم.

قال الإمام القرطبي : قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ، فلو جعل الله تعالى ـ الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة ، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا : لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك ، وعادوا إلى مثل حالهم» (١).

وبهذين الجوابين الحكيمين يكون القرآن الكريم قد دحض شبهات أولئك الجاحدين ، وبين أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، قال تعالى : ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى).

ثم أخذ القرآن في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه فقال :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

والمعنى : لا تحزن يا محمد لما أصابك من قومك ، فإن من شأن الدعاة إلى الحق المجاهدين في سبيله أن ينالهم الأذى من أعدائهم ، ولقد أوذى من سبقك من الرسل الكرام ، وسخر الساخرون منهم ، فصبروا على ذلك ، وجاءهم في النهاية نصرنا الذي وعدناهم به. أما أعداؤهم الذين استهزءوا بهم ، فقد أخذناهم أخذ عزيز مقتدر (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٩٤.

(٢) سورة العنكبوت الآية : ٤٠.

٤٣

فالآية الكريمة تهدف إلى تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والترويح عن نفسه ، وتبشيره بحسن العاقبة وتثبيت قلبه حتى لا يتأثر أو يضعف أمام سفه المشركين وتطاولهم عليه.

والاستهزاء بالشيء : الاستهانة به ، والاستهزاء بالشخص احتقاره وعدم الاهتمام بأمره. وتنكير الرسل للتكثير والتعظيم ، والفاء في قوله (فَحاقَ) للسببية ، أى : بسبب هذا الاستهزاء برسل الله الكرام ، أحاط العذاب بأولئك المستهزئين فأهلكهم.

وقال ـ سبحانه ـ (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) ولم يقل بالساخرين ، للإشارة إلى أن ما أصابهم من عذاب لم يكن تجنبا عليهم ، وإنما كان بسبب سخريتهم برسل الله والاستخفاف بهم ؛ لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) مجاز علاقته السببية ، لأن الذي حاق بهم هو العذاب المسبب عن الاستهزاء ، ففيه إطلاق السبب وإرادة المسبب ، وذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه السخرية لا ينفك عنها ، فحيثما وجد التطاول على أولياء الله والدعاة إلى دينه ، وجد معه عذاب الله وسخطه على المتطاولين والمستهزئين.

ثم أمر القرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكرهم بحال من سبقوهم عن طريق التطلع إلى آثارهم ، والتدبر فيما أصابهم. والاتعاظ بما حل بهم فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

أى : قل ـ يا محمد ـ لأولئك المكذبين لك ، المستهزئين بدعوتك ، لا تغتروا بما أنتم فيه من قوة وجاه ، فإن ذلك لا دوام له ، وسيروا في فجاج الأرض متدبرين متأملين ، فسترون بأعينكم آثار أقوام كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا ، ولكن ذلك لم يمنع وقوع العذاب بهم حين بدلوا نعمة الله كفرا ، وحاربوا رسل الله والدعاة إلى دينه.

وقد ذكر القرآن الكريم في سور متعددة أن آثار أولئك الأقوام المهلكين ، ما زال بعضها باقيا ، وإنها لتدعو العقلاء إلى الاتعاظ والاعتبار فقال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١).

وقال ـ تعالى ـ في شأن قوم لوط : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة هود الآية : ١٠٠.

(٢) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ، ١٣٨.

٤٤

وقد أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلب منهم السير في الأرض للتفكر والتدبر ، لأنهم كانوا يستهزئون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت المخاطبة منه لهم من قبيل النصيحة والتحذير.

وليس المراد مجرد النظر في قوله (ثُمَّ انْظُرُوا) ، بل المراد منه التفكر والتدبر والاعتبار الذي يهدى إلى الإيمان ، ويعين على اتباع الصراط المستقيم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين قوله (فَانْظُروا) وبين قوله (ثُمَّ انْظُرُوا)؟ قلت : جعل النظر مسببا عن السير في قوله (فَانْظُروا) فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح (١).

وقد علق الشيخ ابن المنير على عبارة صاحب الكشاف فقال : «وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحدا ، ليكون ذلك سببا في النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير وأن السير وسيلة إليه لا غير وشتان بين المقصود والوسيلة».

والذي نرجحه أن التعبير بثم هنا المفيدة للتراخي للإشارة إلى أن السير الذي هو وسيلة للتفكر مطلوب في ذاته كما أن النظر الذي يصحبه التفكر والاعتبار مطلوب أيضا ، وكأنه أمر بدهى نتيجة للسير ، أما التعبير بالفاء في قوله «فانظروا» فلإبراز كون النظر مسببا عن السير ، ومترتبا عليه ، وكلا الأسلوبين مناسب للمقام الذي سيق من أجله ، ومتناسق مع البلاغة القرآنية.

ثم ساق القرآن الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن على هذا الكون ، فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٨.

٤٥

وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦)

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ـ على سبيل التوبيخ والتنبيه ـ من الذي يملك السموات والأرض وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات ، إن الإجابة الصحيحة التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين. قال ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم ، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم.

قال الإمام الرازي : وقوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سؤال ، وقوله (قُلْ لِلَّهِ) جواب. فقد أمره الله ـ تعالى ـ بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا ، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع ، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته» (١).

ثم قال ـ تعالى ـ (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أى : أوجب ـ سبحانه ـ على نفسه رحمته التي وسعت كل شيء والتي من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه في الدنيا للطائعين والعصاة ، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

وفي الصحيحين عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تغلب غضبى».

وجملة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٤.

٤٦

أى : والله ليجمعنكم ، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب ، وإن تعلقت بما قبلها من حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة (ليجمعنكم) في محل نصب بدل من الرحمة ، وفسر (ليجمعنكم) بمعنى أمهلكم وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير الرحمة ، كما قال ـ تعالى ـ في السورة نفسها (كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) (١).

والمقصود بهذه الجملة الكريمة (ليجمعنكم) بيان عدل الله بين عباده. فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا ، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء.

ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله ـ تعالى ـ حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة ، وبتعدية الفعل بإلى دون في للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة ـ وبأنه يوم لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته.

ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال ـ تعالى ـ (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). أى : الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم ، وإصرارهم على العناد والجمود ، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت.

قال الآلوسى : (الفاء) في قوله (فهم لا يؤمنون) ـ للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان) (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يشهد بشمول علمه وقدرته فقال : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

قال القرطبي : (سكن معناه هدأ واستقر ، والمراد ما سكن وما تحرك ، فحذف لعلم السامع ، وقيل : خص الساكن بالذكر لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة ، وقيل : المعنى ، ما خلق ، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها ، فإنه يجرى عليه الليل والنهار ، وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق وهذا أحسن ما قيل لأنه يجمع شتات الأقوال) (٣).

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٣ ص ٩.

(٢) تفسير روح المعاني للألوسى ج ٧ ص ١٢٢.

(٣) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٩١.

٤٧

والمعنى : ولله ـ سبحانه ـ جميع ما استقر وتحرك ووجد في كل زمان ومكان من إنسان وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات ، وهو ـ سبحانه ـ السميع لكل دقيق وجليل ، العليم بكل الظواهر والبواطن ، والتعبير بما في قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ) للدلالة على العموم والشمول.

ثم أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن ينفى عن نفسه بشدة ما تردوا فيه من جهالة وضلالة فقال :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).

أى : قل لهم ـ يا محمد ـ موبخا وزاجرا ، بأى عقل أبحتم لأنفسكم الإشراك بالله ، واتخذتم من دونه معبودا سواه ، مع أنه ـ سبحانه ـ باعترافكم هو الخالق لكم وللسموات والأرض ولكل شيء؟

وقد سلطت الهمزة على المفعول الأول لا على الفعل ، للإيذان بأن المستنكر إنما هو اتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولي مطلقا ، ونظير هذه الآية قوله ـ تعالى ـ (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ).

ثم دلل ـ سبحانه ـ على أنه هو وحده المستحق للعبادة بأمرين.

أولهما : قوله ـ تعالى ـ (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أى خالقهما ومنشئهما على غير مثال سبق ، فالفطر ـ كما قال اللغويون ـ الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال يحتذي.

وثانيهما : قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).

أى : أنه ـ سبحانه ـ هو الذي لا يحتاج إلى أحد وكل ما سواه محتاج إليه وهو الرزاق لغيره ، والمنافع كلها من عنده.

وقرأ أبو عمرو (وهو يطعم ولا يطعم) بفتح الياء في الثاني. أى : وهو يرزق غيره ويطعمه أما هو ـ سبحانه ـ فلا يتناول طعاما ولا شرابا.

وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولى سوى الله ، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام ، وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلق لهم هذا الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه.

ثم أمره ـ سبحانه ـ بأن يصرح أمامهم بأنه برىء من شركهم ومن أفعالهم القبيحة فقال ـ تعالى ـ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

أى : قل أيها الرسول الكريم بعد إيراد هذه الآيات والحج الدالة على وحدانية الله : إنى

٤٨

أمرت من خالقي أن أكون أول من يسلم له وجهه ويخصه بالعبادة ، كما أنى نهيت عن أن أكون من المشركين الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى.

وصح عطف الجملة الثانية الإنشائية على الأولى الخبرية لأن الأولى خبرية في اللفظ ولكنها إنشائية في المعنى فكانت في قوة الجملة الطلبية والتقدير : كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ، ويجوز عطفها على جملة (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) وهي إنشائية في اللفظ والمعنى.

ثم أمره ـ سبحانه ـ بأن يعلن أمامهم بأن خوفه من خالقه يحتم عليه أن يبتعد عن كل معصية فقال :

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

أى : قل لهم ـ يا محمد ـ على سبيل الإنذار والتحذير من الاستمرار في الكفر إنى أخاف إن عصيت خالقي عذاب يوم عظيم الأهوال تذهل فيه (كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

وفي هذا التحذير أسمى ألوان التعبير والتصوير لأنه إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أحب الخلق إلى الله سينا له العذاب إن كان ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ قد عصى ربه في الدنيا. فكيف بأولئك الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى؟ فمن الواجب عليهم أن يقتدوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عبادته وإخلاصه لربه.

وكلمة (عَذابَ) مفعول لأخاف ، وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن عصيت ربي استحققت العذاب العظيم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن النجاة من هول هذا اليوم غنيمة ليس بعدها غنيمة فقال : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

أى : من يصرف عنه عذاب هذا اليوم ، فإنه يكون ممن شملتهم رحمة الله ورعايته ، وذلك هو الفوز الذي ليس بعده فوز.

والضمير الذي يعتبر نائب فاعل ليصرف ، يعود على العذاب العظيم الذي سيحل بالمجرمين يوم القيامة.

وفي قراءة لحمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم (من يصرف) بفتح الياء فيكون الضمير عائدا على الله ـ ويكون المفعول محذوفا. والتقدير من يصرف الله عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد شملته رحمة الله ، وعلى كلتا القراءتين فالضمير في قوله (فقد رحمه) يعود على الله ـ تعالى ـ :

٤٩

هذا ، وفي هذه الآيات الخمس نجد القرآن قد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (قُل) خمس مرات وهو أسلوب إنذارى تلقيني كثر استعماله في هذه السورة ـ كما سبق أن قلنا في التمهيد لها ـ لأنه يلقن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين وتأتى على بنيانهم من القواعد. وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى أن يحتاج إليه المرشدون والدعاة. لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضى إلى السآمة والملل ، ومن هنا فقد لون القرآن أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها ، وصدق الله إذ يقول (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن نواصي العباد بيديه ، وأنه هو المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)

المس : أعم من اللمس في الاستعمال. يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب. أى : أصابه ذلك ونزل به.

«والضر : اسم للألم والحزن والخوف وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما كما أن النفع اسم للذة

٥٠

والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما» (١).

والخير : اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبله.

والمعنى : إن الناس جميعا تحت سلطان الله وقدرته ، فما يصيبهم من ضر كمرض وتعب وحزن اقتضته سنة الله في هذه الحياة ، فلا كاشف له إلا هو ، وما يصيبهم من خير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو ـ سبحانه ـ قادر على حفظه عليهم ، وإبقائه لهم ، لأنه على كل شيء قدير.

والخطاب في الآية يصح أن يكون موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقويته في دعوته ، وتثبيته أمام كيد الأعداء وأذاهم ، كما يصح أن يكون لكل من هو أهل للخطاب.

قال صاحب المنار : «ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة ، تجرى الحقائق بأوجز العبارات ، وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفته بعضها في بادئ الرأى لما هو الأصل في التعبير ، كالمقابلة هنا بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن الضر من الله ليس شرا في الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وأدبا وعلما وخبرة. وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله ، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم» (٢).

وقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) جوابه محذوف تقديره : فلا راد له غيره.

وقوله : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لكل من الجوابين المذكورين في الشرطية الأولى والمحذوف في الثانية.

وفي معنى هذه الآية جاءت آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣).

وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد».

ثم بين ـ سبحانه ـ كمال قدرته ، وعظيم سلطانه فقال : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

أى أنه ـ كما قال ابن كثير ـ «هو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجباه. وعنت له الوجوه ، وقهر كل شيء ، ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء ، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٨.

(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٣٣٥.

(٣) سورة فاطر : آية ٢.

٥١

ثم أمر الله : نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان رائع حكيم ، أن يسأل المشركين عن أى شيء في هذا الكون أعظم وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

روى بعض المفسرين أن أهل مكة قالوا : يا محمد ، أرنا من يشهد أنك رسول الله ، فإنا لا نرى أحدا نصدقه ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه : أى شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان؟ ثم أمره أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التي لا يمارى فيها عاقل وهي أن شهادة الله هي أكبر شهادة وأقواها وأزكاها ، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ ، وقد شهد ـ سبحانه ـ : بصدقى فيما أبلغه عنه فلما ذا تعرضون عن دعوتي ، وتتنكبون الطريق المستقيم؟

وصدرت الآية الكريمة بقل وبصيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد ، وإلى سلامة دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يدركوا ما فيها من حق وما هم فيه من ضلال.

وأوثرت كلمة «شيء» في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) لأنها تفيد الشمول والإحاطة والاستقصاء.

قال صاحب الكشاف : ما ملخصه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أراد : أى شهيد أكبر شهادة ، فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ في التعميم ، ويحتمل أن يكون تمام الجواب عنه قوله : (قُلِ اللهُ) بمعنى : الله أكبر شهادة ، ثم ابتدأ (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أى : هو شهيد بيني وبينكم. وأن يكون (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هو الجواب ، لدلالته على أن الله ـ تعالى ـ : (إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة من هو شهيد له) (١).

والمراد بشهادة الله ما جاء في آياته القرآنية من أنه ـ سبحانه ـ : قد أرسل رسوله محمدا (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

ثم بين ـ سبحانه ـ : أن القرآن هو المعجزة الخالدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

أى : أن الله ـ تعالى ـ : قد أنزل هذا القرآن عن طريق وحيه الصادق ، لأنذركم به يا أهل

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١.

٥٢

مكة ، ولأنذر به ـ أيضا ـ جميع من بلغه هذا الكتاب الكريم ووصلت إليه دعوته من العرب والعجم في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة.

فهذه الجملة تدل على عموم بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ، وتعم ـ أيضا ـ الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته. ولم يروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي الحديث الشريف : «بلغوا عن الله ـ تعالى ـ فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» (١).

وعن محمد بن كعب قال : «من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه ، كان من بلغه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط ، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان ، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة ، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين ، وإثمه يكون في أعناق الذين قصروا في تبليغ دعوة الإسلام إليه.

ثم أمره ـ سبحانه ـ أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم فقال ـ تعالى ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ، قُلْ : لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم. وترديتم في مهاوي الشرك والضلال ، وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى ، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة ، ومحال أن أشهد بما شهدتم به ، وإنما الذي أشهد به وأعتقده ، أن الله ـ تعالى ـ واحد لا شريك له ، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم.

والاستفهام في قوله (أَإِنَّكُمْ) إنكارى ، جيء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك ، وأكد قوله (لَتَشْهَدُونَ) للإشارة إلى تغلغل الضلال في نفوسهم ، واستيلاء الجحود على قلوبهم.

وعبر عن أوثانهم بأنها (آلِهَةً أُخْرى) مجاراة لهم في زعمهم الباطل ومبالغة في توبيخهم والتهكم بهم.

وفي أمره ـ سبحانه ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم «قل : لا أشهد» توبيخ لهم على جهالتهم ، وتوجيه لأتباعه إلى الاقتداء به في شجاعته أمام الباطل ، وفي ثباته على مبدئه.

وقد تضمن قوله ـ تعالى : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) اعتراف كامل بوحدانية الله ، وقصرها عليه ـ سبحانه ـ ، وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها ، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢٦.

٥٣

وبذلك تكون الآية الكريمة قد تضمنت شهادة من الله ـ تعالى ـ بأن رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق في رسالته ، وشهادة من هذا الرسول الكريم بأن الله واحد لا شريك له ، وأنه برىء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين.

ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي شهادة أهل الكتاب فقال (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : قال الجمل في حاشيته على الجلالين : «روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى با بنى!! فقال عمر : كيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقّا ولا أدرى ما تصنع النساء» (١).

والمعنى : إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهي معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته.

والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه في قوله (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أو على التوحيد لدلالة قوله (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ).

والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما في كتابهم يتناول كل ذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

قال صاحب الكشاف : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به (٢) جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) وقالوا (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وقالوا : «الملائكة بنات الله» ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) حاشية الجمل : ج ٢ ص ١٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢.

٥٤

وهذه الآية الكريمة من الآيات التي قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذي سقناه عن عمر ـ رضى الله عنه ـ فقد قال لعبد الله بن سلام : «إن الله أنزل على نبيه بمكة» إلخ.

ويؤكد كونها مكية ـ أيضا ـ سياق الآيات قبلها ، فالآية التي قبلها وهي قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً). إلخ. فيها شهادة من الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التي معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة.

قال بعض العلماء : ويظهر أنهم ـ أى القائلون بأن الآية مدنية ـ لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهي قوله ـ تعالى ـ : في سورة البقرة (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الآية ١٤٦ ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفي المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهادا حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح (١).

ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال ـ تعالى ـ في شأنهم : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

أى : لا أحد أشد ظلما من أولئك المشركين الذين كذبوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وإن هؤلاء الذين سقطوا في أقصى دركات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا ، والاستفهام في الآية الكريمة إنكارى للنفي ، وفيه توبيخ للمشركين.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض أحوالهم عند ما يحشرون يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى

__________________

(١) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص ٥ لفضيلة الأستاذ محمد المدني.

٥٥

قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦)

الحشر : الجمع ، والمراد به جمعهم يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم الدنيوية.

والمعنى : واذكر لهم أيها الرسول الكريم ـ ليعتبروا ويتعظوا ـ حالهم يوم نجمعهم جميعا في الآخرة لنحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم ، ثم نسألهم سؤال إفضاح لا إيضاح ـ كما يقول القرطبي ـ : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء لكي يدافعوا عنكم في هذا اليوم العصيب.

و (يَوْمَ) منصوب على الظرفية بفعل مضمر بعده أى : ويوم نحشرهم كان كذا وكذا ، وحذف هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل ، وقيل إنه منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف قبله والتقدير ، واذكر يوم نحشرهم ، أى : اذكر هذا اليوم من حيث ما يقع فيه ، والضمير في (نَحْشُرُهُمْ) للذين افتروا على الله كذبا ، أو كذبوا بآياته.

وفائدة كلمة (جَمِيعاً) رفع احتمال التخصيص ، أى : أن جميع المشركين ومعبوداتهم سيحشرون أمام الله للحساب.

وكان العطف بثم لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين ، إذ قبل ذلك سيكون قيامهم من قبورهم ، ويكون هول الموقف ، ويكون إحصاء الأعمال وقراءة كل امرئ لكتابه ... إلخ ، ثم يقول الله ـ تعالى ـ (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)؟

ووبخهم ـ سبحانه ـ بقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) مع أنهم محشورون معهم ، لأنهم لا نفع يرجى من وجودهم معهم ، فلما كانوا كذلك نزلوا منزلة الغائب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين فلان؟ فتجعله لعدم نفعه ـ وإن كان حاضرا ـ كالغائب (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ٣ ص ١٢١.

٥٦

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عما يكون منهم من تخبط وحسرة فقال :

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

الفتنة مأخوذة من الفتن ، وهو إدخال الذهب في النار لتعرف جودته من رداءته ، ثم استعمل في معان أخرى كالاختبار ، والعذاب ، والبلاء ، والكفر.

والمعنى : ثم لم تكن عاقبة كفرهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق ، وارتفعت الدعاوى إلا أن قالوا مؤكدين ما قالوا بالقسم الكاذب والله يا ربنا ما كنا مشركين. ظنا منهم أن تبرأهم من الشرك في الآخرة سينجيهم من عذاب الله كما نجا المؤمنين بفضله ورضوانه.

قال ابن عباس : يغفر الله ـ تعالى ـ لأهل الإخلاص ذنوبهم. ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك ، فتعالوا نقول : إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين. فقال الله ـ تعالى ـ : أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم ، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، فعندئذ يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا ، فذلك قوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (١).

ثم قال ـ تعالى ـ (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

والمراد بالنظر هنا : التدبر والتفكير.

والمعنى : انظر ـ أيها العاقل ـ وتأمل كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم في قولهم والله ربنا ما كنا مشركين ، وغاب عن عملهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من الأقوال الباطلة ، وما كانوا يفعلونه من جعلهم لله شركاء.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور مع أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا : ألا تراهم يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) وقد علموا أنه لا يقضى عليهم» (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس من إيمان بعضهم فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).

قال ابن عباس : إن أبا سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٤٠١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٣.

٥٧

وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية بن خلف. استمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول ، إلا أنى أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله هذه الآية» (١).

والأكنة : جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى والوقر ـ بالفتح ـ الثقل في السمع.

والمعنى : ومن هؤلاء المشركين يا محمد من يستمع إليك حين تقرأ القرآن وقد جعلنا ـ بسبب عنادهم وجحودهم ـ على قلوبهم أغطية تحول بينهم وبين فقهه ، كما جعلنا في أسماعهم صمما يمنع من سماعه بتدبر وتعقل.

قال صاحب المنار : «وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية ؛ فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء. والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم ، لأن سمعها وعدمه سواء (٢).

وقال بعض العلماء : «وهنا يسأل سائل : إذا كان منع الهداية من الله ـ تعالى ـ بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم؟

والجواب عن ذلك أن الله ـ سبحانه ـ يسير الأمور وفق حكمته العلياء فمن يسلك سبيل الهداية يرشده وينير طريقه ويثيبه ، ومن يقصد إلى الغواية ويسير في طريقها تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار ، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر. ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا ولم تبصره من عمى فقد وضع الله ـ تعالى ـ على قلبه غشاوة وفي آذانه وقرا» (٣).

ثم صور ـ سبحانه ـ عنادهم وإعراضهم عن الحق مهما وضحت براهينه فقال : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها).

أى : وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك فلن يؤمنوا بها لاستحواذ الغرور والعناد على قلوبهم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ١٢٥.

(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٣٤٧.

(٣) مجلة لواء الإسلام لسنة ٢٣ العدد ٩ تفسير الآيات الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.

٥٨

والمراد من الرؤية هنا البصرية ، ومن الآيات المعجزات الحسية كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة.

وهذه الجملة الكريمة المقصود بها ذمهم لعدم انتفاعهم بحاسة البصر بعد ذمهم لعدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم.

وجيء بكلمة (كُلَ) لعموم النفي ، أى : أنهم لا يؤمنون بأية معجزة يرونها مهما وضحت براهينها ، ومهما كانت دلالتها ظاهرة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان يجرى منهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

الأساطير جمع إسطارة أو أسطورة ومعناها الخرافات والترهات.

أى : حتى إذا ما صاروا إليك أيها الرسول ليخاصموك وينازعوك في دعوتك فإنهم يقولون لك بسبب كفرهم وجحودهم ، ما هذا القرآن الذي نسمعه منك إلا أقاصيص الأولين المشتملة على خرافاتهم وأوهامهم.

وفي قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) إشارة إلى أن مجيئهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما كان من أجل المجادلة المتعنتة مع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية ، بل هم لفجورهم ـ يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ، وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ).

النهى : الزجر ، والنأى : البعد ، والضمير «هم» يعود على المشركين.

والمعنى : إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق ، بل يزجرون الناس عن اتباعه ، ويبعدونهم عن الاستماع إليه. فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين : محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه.

وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم.

وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين في قرارة أنفسهم بأن القرآن حق ، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين ـ كما زعموا ـ لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام ، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه ، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى

٥٩

لا يؤمن به وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا في دين الإسلام ، ولقد حكى الله عنهم هذا المعنى في قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (١).

والضمير في قوله ـ تعالى ـ (عَنْهُ) يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من آيات.

ويرى بعض المفسرين أن الضمير «هم» يرجع إلى عشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون المعنى : وهم ـ أى أعمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء ، ولكنهم في الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها ، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب ، فقد كان يدافع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه لم يدخل في الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق.

ومما روى عنه في هذا المعنى قوله :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي

فلقد صدقت وكنت قبل أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك يقينا

والذي تطمئن إليه النفس أن الرأى الأول هو الأرجح. لأن الكلام مسوق في بيان موقف المشركين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض عن الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم ، وأنهم كانوا يحرضون الناس على إيذائه وعلى الابتعاد عنه.

ثم يصور ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يعرضون على النار ، وعند ما يقفون أمام ربهم ، وحكى ما يقولونه في تلك المواقف الشديدة فقال تعالى :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ

__________________

(١) سورة فصلت آية ٢٦.

٦٠