التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

ولقد فطن بعض الزعماء العقلاء إلى خطر تغلغل اليهود في بلاده ، فأخذ يطردهم منها ، ويحذر أبناء أمته من شرورهم ، ومن هؤلاء الزعماء العقلاء (بنيامين فرانكلين) أحد رؤساء الولايات المتحدة ، فإنه ألقى خطابا سنة ١٧٨٩ قال فيه : (هناك خطر عظيم يهدد الولايات المتحدة الأمريكية ، وذلك الخطر هو (اليهود). أيها السادة : حيثما استقر اليهود ، تجدونهم يوهنون من عزيمة الشعب ، ويزعزعون الخلق التجارى الشريف. إنهم لا يندمجون بالشعب. لقد كانوا. حكومة داخل الحكومة. وحينما يجدون معارضة من أحد فإنهم يعملون على خنق الأمة ماليا كما حدث للبرتغال وأسبانيا ... إذا لم يمنع اليهود من الهجرة بموجب الدستور. ففي أقل من مائتي سنة سوف يتدفقون على هذه البلاد بأعداد ضخمة تجعلهم يحكموننا ويدمروننا ويغيرون شكل الحكومة التي ضحينا وبذلنا لإقامتها دماءنا وحياتنا وأموالنا وحريتنا. إذا لم يستثن اليهود من الهجرة فإنه لن يمضى أكثر من مائتي سنة ليصبح أبناؤنا عمالا في الحقول لتأمين الغذاء لليهود .. ، إنى أحذركم أيها السادة. إذا لم تستثنوا اليهود من الهجرة إلى الأبد فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم ، إن عقليتهم تختلف عنا حتى لو عاشوا بيننا عشرة أجيال. والنمر لا يستطيع تغيير لونه. اليهود خطر على هذه البلاد. وإذا دخلوها فسوف يخربونها ويفسدونها) (١).

وللتعليق على هذا الخطاب نقول : ما أصدق ما توقعه (فرانكلين) لو لا أنه قد أخطأ التقدير في المدة اللازمة لتحويل أمريكا إلى بقرة حلوب لليهود ، فقد قدر (فرانكلين) هذه المدة بمائتي سنة أى في سنة ١٩٨٩ ، بينما استطاع اليهود أن يسخروا سياسة أمريكا وأسلحتها ، وأموالها وعلمها ونفوذها وخيراتها ، لمنفعتهم الخاصة في مدة تقل عما توقعه بأكثر من خمسين سنة.

ثانيا : غرورهم وتعاليهم : فاليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباؤه ، وشعبه المختار. ومن قديم الزمن وهم يقسمون العالم إلى قسمين متقابلين : قسم إسرائيل وهم صفوة الخلق وأصحاب الحظوة عند الله ، وقسم آخر يسمونه الأمم (الجوييم) أى غير اليهود ومعنى (جوييم) عندهم ، وثنيون وكفرة وبهائم وأنجاس. وقد أدى هذا الغرور والتعالي باليهود إلى إهدار كل حق لغيرهم عليهم ، وأن من حق اليهود أن يسرقوا من ليس يهوديا وأن يغشوه ويكذبوا عليه ويقتلوه إذا أمنوا اكتشاف جرائمهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الرذيلة التي تمكنت من اليهود بقوله. (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢).

__________________

(١) كتاب (اليهودية العالمية وحربها المستمرة على المسيحية) ص ١٣٠ لإيليا أبو الروس.

(٢) سورة آل عمران آية ٧٥.

٤٢١

وكتب اليهود ـ لا سيما التلمود ـ طافحة بالوصايا التي تبيح لهم أن يعاملوا غيرهم بمعاملة تخالف معاملتهم مع بعضهم ، من ذلك ما جاء في التلمود : إذا خدع يهود أحدا من الأمم وجاء يهودي آخر واختلس من الأمم بعض ما عنده بنقص الكيل أو زيادة الثمن ، فعلى اليهوديين أن يقتسما الغنيمة التي أرسلها إليهما (يهواه) (١) ويهواه هو إله اليهود.

ونتيجة لهذا الغرور والتعالي الذي تميز به اليهود ، وأهدروا بسببه كل حق أو كرامة لسواهم من الناس ، قام غيرهم من الأمم ليدافع عن حقه الذي سلبوه منهم ، وليوقع بهم أقسى العقوبات جزاء غرورهم الكاذب ، وتعاليهم الباطل.

ثالثا : عزلتهم وعصبيتهم وخيانتهم للبلاد التي آوتهم فهم متعصبون متحزبون ، لا يجمعهم حب بعضهم لبعض ولكن تجمعهم كراهية من ليس على ملتهم ، كما يجمعهم الحقد على العالم بأسره. وقد أصبحت العزلة والعصبية والعنصرية طابع اليهود الذي لا محيد لهم عنه.

ويصف الدكتور (ويزمان) أول رئيس لإسرائيل طابع العزلة في اليهود بقوله : (وكان اليهود في موتول (مسقط رأسه) بروسيا ، يعيشون كما يعيش اليهود في مئات المدن الصغيرة والكبيرة منعزلين منكمشين ، وفي عالم غير عالم الناس الذين يعيشون معهم).

ولعل أدق صورة للتحريض على العزلة والتمسك بها ، ما ذكره (سلامون شحتر) في خطابه بمدرسة اللاهوت اليهودية العليا حيث قال : (إن معنى الاندماج في الأمم هو فقدان الذاتية. وهذا النوع من الاندماج مع ما يترتب عليه من النتائج ، هو ما أخشاه أكثر مما أخشى المذابح والاضطهادات) (٢).

وقد تسبب عن عزلتهم وعصيبتهم أمور خطيرة ، فقد نظروا إلى من سواهم من الأمم نظرة كلها عداء وريبة وحذر ، وصار طابعهم في كل زمان ومكان عدم الإخلاص لاية هيئة دينية أو دنيوية. وعدم الولاء للأوطان التي يعيشون فيها ويأكلون من خيراتها ، وإنما يجعلون ولاءهم لجماعتهم ومصالحهم الخاصة دون غيرها ، لأن اليهودي يهودي قبل كل شيء ، مهما تكن جنسيته ، ومهما يعتنق من عقائد ومبادئ في الظاهر ، وإذا تعارضت جنسيته مع يهوديته ناصر يهوديته ، وحاول أن يشيع الخراب والدمار في الأمة التي هو فرد من أفرادها خصوصا إذا أمن العقاب والصهيونية العالمية تأمر اليهود في كل مكان أن يجعلوا ولاءهم لإسرائيل وليس للدولة التي يعيشون فيها.

تقول جولدامايير وزيرة خارجية إسرائيل سابقا : (إن اليهود المقيمين خارج إسرائيل طوائف

__________________

(١) الصهيونية العالمية ص ٤٤ للأستاذ عباس محمود العقاد.

(٢) كتاب (اليهودية) ص ٣٣ للدكتور أحمد شلبى.

٤٢٢

مشتتة تعيش في المنفي ، وأنهم مواطنون إسرائيليون قبل كل شيء ، ويتحتم عليهم الولاء المطلق لهذه الدولة الجديدة مهما تكن جنسيتهم الرسمية التي يسبغونها على أنفسهم ، وإن اليهودي الإنجليزى الذي ينشد بحكم إنجليزيته نشيد (حفظ الله الملكة) لا يمكن أن يكون في نفس الوقت صهيونيا) (١).

وما أكثر الحوادث التي قام فيها اليهود بدور العيون والجواسيس على الأوطان التي يعيشون فيها لحساب أعدائها ، واظهر مثل على ذلك ما قام به اليهود المقيمون في ألمانيا من خيانات لها خلال الحرب العالمية الأولى ، وكان ثمرة هذه الخيانات هزيمة ألمانيا ، ومنح اليهود جزاء غدرهم الوطنى وعد (بلفور) من الحكومة البريطانية سنة ١٩١٧ م.

وقد عدد (هتلر) خيانات اليهود لألمانيا فذكر منها استنزاف أموال الشعب بالربا الفادح وإفساد التعليم والسيطرة لصالحهم على المصارف والبورصة والشركات التجارية ، والسيطرة على دور النشر ، والتدخل في سياسة الدولة لغير مصلحة ألمانيا وفي القمة من خياناتهم التجسس ضد ألمانيا الذي احترفه عدد كبير منهم.

ويختم هتلر حديثه الطويل عن اليهود بقوله (وإذا قيض لليهودي أن يتغلب على شعوب هذا العالم ، فسيكون تاجه إكليل جنازة البشرية ، وعند ما يستأنف كوكبنا السيار طوافه في الأثير كما فعل منذ ملايين السنين لن يكون هناك بشر على سطحه .. لهذا أعتقد أنى تصرفت معهم حسبما شاء خالقنا ، لأنى بدفاعى عن نفسي ضد اليهودي ، أنما أناضل في سبيل الدفاع ، عن عمل الخالق) (٢).

وإذن فعزلة اليهود ، وعصبيتهم ، وخيانتهم للأوطان التي آوتهم ، كان جزاؤها العادل ما حل بهم من دمار وتشريد خلال العصور المختلفة.

رابعا : اضطهادهم لغيرهم متى ملكوا القدرة الظاهرة أو الخفية لذلك وتاريخ اليهود ملطخ بجراثم القتل والذبح والنهب والسلب والغدر والبطش بغيرهم وملئ بالمجاز التي قاموا بها ضد الشعوب التي كان لهم النصر عليها ، وقد ساعدهم على ذلك ما أمرتهم به كتبهم من قتل وإذلال لغيرهم متى واتتهم الفرصة عليه ، ففي سفر الخروج ما نصه.

(حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن إجابتك فكل الشعب الموجود فيها يكون للتسخير ، ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا

__________________

(١) من محاضرة مطبوعة عن (اليهود ودولة إسرائيل).

(٢) كتاب «كفاحى» لهتلر.

٤٢٣

دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا ، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إياها فلا تستبق منها نسمة ما) (١).

ولقد طبق اليهود هذه التعاليم أسوأ تطبيق في كل أدوار تاريخهم فلقد قتلوا في روما وحدها مائة ألف مسيحى سنة ٢١٤ م بإيعاز من الإمبراطور (مارك أوريل).

وما لنا نذهب بعيدا في الاستشهاد على إجرامهم ، ومعارك فلسطين ما زالت ماثلة في أذهاننا ، يقول أحد الكتاب المعاصرين : (إن مذبحة دير ياسين كانت من أبشع المذابح التي ارتكبها اليهود. فقد قتلوا مائتين وخمسين إنسانا في قرية صغيرة ومثلوا بأجسامهم ، وذبحوا الأطفال في أحضان أمهاتهم وأمام أعينهن). وحدث ما يشبه هذه المذابح في كثير من مدن فلسطين كحيفا ويافا وقبية وكفر قاسم.

والحق ، أن مفاهيم اليهود الباطلة ، وأنانيتهم الطاغية ، وطباعهم اللئيمة وأخلاقهم الفاسدة ، وعصبيتهم الذميمة ، وقلوبهم القاسية ، واستباحتهم لقتل غيرهم ، وإهدار كرامته ، كل ذلك جعلهم محل نقمة العالم وغضبه ، وبسبب هذه الأخلاق المرذولة سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، ومن يمزقهم شر ممزق.

ويعجبني في هذا المقام قول المؤرخ اليهودي «يوسيفوس» «لا توجد أمة في الأرض في كل أجيال التاريخ منذ بدء الخليقة إلى الآن تحملت ما تحمل بنو إسرائيل من الكوارث والآلام ، على أن هذه الكوارث والآلام لم تكن إلا من صنع بنى إسرائيل أنفسهم».

والآن ، بعد سرد هذه العقوبات التي حلت ببني إسرائيل في مختلف العصور تأييدا لقوله ـ تعالى ـ (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) بسبب أعمالهم السيئة نعود إلى السورة الكريمة فنراها تحدثنا عن لون من ألوان الدعاوى الباطلة التي حكاها القرآن عنهم ، وهو زعمهم أن ذنوبهم مغفورة لهم ، وأنهم مهما فعلوا من ذنوب ، وارتكبوا من موبقات ، واستحلوا من أموال حرام ، فلن يحاسبهم الله على ذلك إلا حسابا يسيرا لأنهم أبناؤه وأحباؤه ، واستمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى ذلك عنهم فتقول :

__________________

(١) سفر التثنية ، الإصحاح العشرون.

٤٢٤

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠)

قال الإمام القرطبي : الخلف ـ بسكون اللام ـ الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، الخلف ـ بفتح اللام ـ البدل ، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابى : الخلف ـ بفتح اللام ـ الصالح ، وبسكونها الطالح ، ومنه قيل للردى من الكلام خلف ـ بسكون اللام ـ ومنه المثل السائر «سكت ألفا ونطق خلفا» قال لبيد.

ذهب الذين يعاش في أكنافهم ـ وبقيت في خلف كجلد الأجرب.

فخلف في الذم بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، وفي الحديث الشريف (يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له) وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر (١).

والعرض ـ بفتح الراء ـ متاع الدنيا وحطامها من المال وغيره.

قال صاحب الكشاف : قوله تعالى : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أى حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها ، وفي قوله هذا تخسيس وتحقير ، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة) (٢).

والضمير في قوله (مِنْ بَعْدِهِمْ) يعود إلى اليهود الذين وصفهم الله في الآية السابقة بقوله (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

والمعنى : فخلف من بعد أولئك القوم الذين قطعناهم في الأرض أمما خلف سوء ، ورثوا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣١٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٦.

٤٢٥

كتاب الله وهو التوراة فقرأوه وتعلموه ، ووقفوا على ما فيه من تحليل وتحريم وأمر ونهى ولكنهم لم يتأثروا به بل خالفوا أحكامه ، واستحلوا محارمه مع علمهم بها ، فهم يتهافتون على حطام الدنيا ومتاعها ويتقبلون المال الحرام بشراهة نفس. ويأكلون السحت أكلا لما ويقولون وهم والغون في المعاصي ومصرون على الذنوب : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا ولا يؤاخذنا بما أكلنا من أموال ، لأننا من نسل أنبيائه ، فنحن شعبه الذي اصطفاه من سائر البشر ، إلى غير ذلك من الأقاويل التي يفترونها على الله وهم يعلمون.

وجملة (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) مستأنفة لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه. وقيل : هي حال من الضمير في ورثوا.

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عنهم بأنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة فقال تعالى : (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) أى : أنهم يأخذون عرض الحياة الدنيا ويعرضون عن شريعة الله التي أنزلها عليهم في التوراة ويزعمون أن الله لا يؤاخذهم بما فعلوا. ثم هم بعد ذلك لا يتوبون إلى الله ولا يستغفرونه ، وإنما حالهم أنهم إن لاح لهم عرض حرام آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل ، تهافتوا عليه من جديد واستحلوه وأكلوه في بطونهم ، وبدون توبة أو ندم.

قال مجاهد قوله تعالى (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) لا يشرف لهم شيء من متاع الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة (ويقولون سيغفر لنا) وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه (١).

وقال السدى : (كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له ما شأنك ترتشى في الحكم؟ فيقول سيغفر لي ، فيطعن عليه البقية الآخرون من بنى إسرائيل صنعه فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه قبل الرشوة ، ويقول : (وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه) (٢).

ثم أنكر ـ سبحانه ـ عليهم ما زعموه بقولهم : (سيغفر لنا) وهم مصرون على معصيتهم فقال تعالى : (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه).

والمعنى : لقد أخذ الله العهد في التوراة على هؤلاء المرتشين في أحكامهم : والقائلين سيغفر الله فعلنا هذا ألا يقولوا على الله إلا القول الحق ، ولا يخبروا عنه إلا بالصدق ولا يخالفوا أمره.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٦٠.

٤٢٦

ولا ينقضوا عهده ، ولا يتجاوزوا حدوده ، وقد درس هؤلاء الكتاب ، أى : قرءوه وفهموه ، ولكنهم لم يعملوا بما أخذ عليهم من عهود ولم يتبعوا أوامر كتابهم ونواهيه ، لأنهم درسوه ولم يتأثروا به ، ولم تخالط تعاليمه شغاف قلوبهم ، فضيعوه واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.

وقوله (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) بدل من ميثاق الكتاب أو عطف بيان له. وقيل إنه مفعول لأجله أى : لئلا يقولوا.

وجملة (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) معطوفة في المعنى على قوله تعالى (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أى أن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق في التوراة ودرسوه.

قال ابن دريد : (كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له (١).

ثم بين الله لهم أن ما أعده في الآخرة للمتقين الذين يتعففون عن السحت وعن أكل أموال الناس بالباطل خير من متاع الدنيا وزهرتها الذي آثره هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب فقال تعالى : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أى : والدار الآخرة وما أعده فيها من نعيم لأولئك الذين يتقونه حق تقاته في السر والعلن ، خير من عرض هذا الأدنى الذي استحله هؤلاء اليهود بدون حق وآثروه على ما عند الله من نعيم مقيم وثواب جزيل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ـ يا من أكلتم أموال الناس بالباطل وقلتم سيغفر الله لنا ذنوبنا ـ هذا الحكم الواضح ، الذي لا يخفى على ذي عقل سليم ، لم تطمسه الشهوات ، ولم يستحوذ عليه الشيطان.

وفي هذا إشارة إلى أن الطمع في متاع الحياة الدنيا هو الذي جعل بنى إسرائيل يقولون على الله غير الحق. ويتشبعون من المال الحرام بدون تعفف ويبيعون دينهم بدنياهم.

قال الإمام الآلوسى : (والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على الذنوب وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون ، وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ إنهم وبخوا على إيجابهم على الله ـ تعالى ـ غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ثم لا يتوبون منها.

وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمنى على الله ، ورووا عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى) ومن هنا قيل : إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل وباتباعهم أنفسهم هواها

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣١٢.

٤٢٧

وتمنيهم على الله ـ سبحانه ـ الأمانى ، ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها ، وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها ، وقالوا على الله ما ليس بحق من القول) (١).

ثم أثنى الله ـ تعالى ـ على من تمسك بكتابه ، فأحل حلاله وحرم حرامه ، ولم يتقول على الله الكذب فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).

والمراد بالكتاب التوراة أو القرآن أو جنس الكتب السماوية عموما.

والمعنى : والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الذي أنزله الله ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم إنا لا نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا دينهم ودنياهم والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

وخص الصلاة بالذكر مع دخولها فيما قبلها إظهارا لمزيتها لكونها عماد الدين وناهية عن الفحشاء والمنكر.

وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد وبختا اليهود لافترائهم على الله الكذب وردتا عليهم في دعواهم أن ذنوبهم مغفورة لهم مع تعمدهم أكل أموال الناس بالباطل ، وبينتا لهم طريق الفلاح لكي يسيروا عليها ، إن كانوا ممن ينتفع بالذكر ، ويعتبر بالمثلات.

ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل عن بنى إسرائيل بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم ، وبأمرهم بالإيمان والعمل الصالح فقالت :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١)

والآية الكريمة معطوفة على ما سبق من أحوال بنى إسرائيل بتقدير : اذكر.

ونتقنا : من النتق وهو الزعزعة والرفع والجذب بشدة ، يقال : نتق الشيء ينتقه وينتقه ، جذبه واقتلعه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٩٧ بتصرف وتلخيص.

٤٢٨

والمراد بالجبل جبل الطور الذي سمع موسى عليه الكلام من ربه.

قيل : «إن موسى لما أتى بنى إسرائيل بالتوراة وقرأها عليهم وسمعوا ما فيها من التغليظ كبر ذلك عليهم ، وأبوا أن يقبلوا ذلك ، فأمر الله الجبل فانقطع من أصله حتى قام على رءوسهم مقدار عسكرهم ، فلما نظروا إليه فوق رءوسهم خروا ساجدين ، فسجدوا كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر ، وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا من أن يسقط فوقهم (١).

أى : واذكر يا محمد وذكر بنى إسرائيل المعاصرين لك وقت أن رفعنا الجبل فوق آبائهم الذين كانوا في عهد موسى حتى صار كأنه غمامة أو سقيفة فوق رءوسهم لنريهم آية من الآيات التي تدل على قدرتنا وعلى صدق نبينا موسى ـ عليه‌السلام ـ.

قال بعض العلماء : «ورفع الجبل فوقهم لإرشادهم آية من آيات الله تقوى إيمانهم بأن التوراة منزلة من عند الله ، وقوة الإيمان من شأنها أن تدفع إلى العمل بما في الكتاب المنزل بجد واجتهاد» (٢).

وقوله (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أى : ووقع في نفوسهم أن الجبل ساقط عليهم إذا لم يستجيبوا لما أمرهم به نبيهم ـ عليه‌السلام ـ.

قال الجمل : وقوله (وَظَنُّوا) فيه أوجه :

أحدها : أنه في محل جر نسقا على نتقنا المخفوض بالظرف تقديرا.

والثاني : أنه حال ، و «قد» مقدرة عند بعضهم ، وصاحب الحال الجبل.

أى : كأنه ظلة في حال كونه مظنونا وقوعه بهم.

والثالث : أنه مستأنف فلا محل له. والظن هنا على بابه ، وقيل بمعنى اليقين».

وقوله (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) مقول لقول محذوف دل عليه المعنى.

والتقدير : وقلنا لهم خذوا ما آتيناكم بقوة ، أى تمسكوا به واعملوا بما فيه يجد ونشاط ، وتقبلوه بحسن استعداد وبدون تقصير أو تردد.

والمراد بقوله : (ما آتَيْناكُمْ) التوراة التي أنزلها الله على موسى لتكون هدى ونورا لهم.

وقوله (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أى : احفظوه وتدبروه وتدارسوه واعملوا به بلا تعطيل لشيء منه.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٦.

(٢) تفسير القرآن الكريم لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين. مجلة لواء الإسلام : السنة الثانية : العدد السابع ص ٥.

٤٢٩

قال القرطبي : وهذا هو من المقصود من الكتب : العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان فحسب ، فقد روى النسائي عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوى إلى شيء منه» (١).

و «لعل» في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إما للتعليل فيكون المعنى : خذوا الكتاب بجد وعزم ، واعملوا بما فيه بصدق وطاعة لتتقوا الهلاك في دنياكم وآخرتكم. وإما للترجى ، وهو منصرف إلى المخاطبين فيكون المعنى : خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ولا تنسوه وأنتم ترجون أن تكونوا من طائفة المتقين.

ولكن بنى إسرائيل لم يذكروا ولم يتدبروا بل نقضوا العهد ، ولجوا في المعصية ، فاستحقوا لعنة الله وغضبه ، وما ربك بظلام للعبيد.

وبذلك تكون سورة الأعراف قد حدثتنا ـ من بين ما حدثتنا ـ من مطلعها إلى هنا عن هداية القرآن الكريم ، وعن يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب ، وجنة ونار ، وعن النداءات التي وجهها الله ـ تعالى ـ لبنى آدم تذكيرا وتوجيها وتعليما حتى يسعدوا في دينهم ودنياهم ، وعن أحوال السعداء والأشقياء في الآخرة وما يدور بينهم من مناقشات ومحاورات ، وعن قصة آدم وإبليس وعن قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع أقوامهم ، ثم أفاضت السورة الكريمة في حديثها عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.

والهدف الأول الذي قصدته السورة مما عرضته من قصص وتوجيهات وإرشادات هو إثبات وحدانية الله ، وإخلاص العبادة له ، وحمل الناس على السير في الطريق المستقيم ، وقد استعملت السورة في عرضها لتلك الحقائق أساليب الترغيب والترهيب ، والتذكير بالنعم والتحذير من النقم ، وإقامة الحجج ودفع الشبه.

ثم بدأت السورة بعد أن انتهت من حديثها عن بنى إسرائيل وحتى نهايتها تحدثنا عن قضية التوحيد من زاوية جديدة عميقة ، زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر ، ولنتصاحب سويا ـ أيها القارئ الكريم ـ متأملين فيما ساقته لنا السورة الكريمة في الربعين الأخيرين منها من آيات تزخر بالأدلة العقلية والمنطقية التي تثبت وحدانية الله وتبطل الشرك والشركاء ، مستعينة في ذلك بما تهدى إليه الفطرة البشرية والطبيعة الانسانية.

تدبر معى قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٤٣٧.

٤٣٠

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤)

قال صاحب المنار : هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للايمان به وتمجيده وشكره ، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بنى إسرائيل. فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ، ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة أو سياق على سياق (١).

قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الظهور : جمع ظهر وهو العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته.

والذرية : سلالة الإنسان من الذكور والإناث.

وقوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل بعض من قوله (مِنْ بَنِي آدَمَ) و (ذُرِّيَّتَهُمْ) مفعول أخذ.

والمعنى : واذكر أيها الرسول وذكر كل عاقل وقت أن استخرج الله ـ تعالى ـ من أصلاب بنى آدم ذريتهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها ـ سبحانه ـ في أرحام الأمهات ، وجعلها علقة ثم مضغة ، ثم جعلها بشرا سويا ، وخلقا كاملا مكلفا.

قال الآلوسى : وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي. وقيل إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق ، فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج.

والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية.

وقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أى : أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٣٨٦.

٤٣١

وحدانيته ، وعجائب خلقه ، وغرائب صنعته ، وبما أودع في قلوبهم من غريزة الإيمان ، وفي عقولهم من مدارك تهديهم إلى معرفة ربهم وخالقهم.

وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) مقول لقول محذوف : أى : قائلا لهم ـ بعد أن أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل الوحدانية ـ ألست بربكم ، ومالك أمركم ، ومربيكم على الإطلاق ، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شئونكم (قالُوا بَلى شَهِدْنا) أى : قالوا بلى شهدنا على أنفسنا عن عقيدة وإقناع بأنك أنت ربنا وخالقنا ولا رب لنا سواك ، فإن آثار رحمتك وعجائب خلقك ، ومظاهر قدرتك تجعلنا لا نتردد في هذه الشهادة.

و (بَلى) حرف جواب ، وتختص بالنفي فلا تقع إلا جوابه فتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام ولذلك قال ابن عباس وغيره ، لو قالوا نعم لكفروا. لأن نعم حرف تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام الله ـ تعالى ـ وفي كلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى ـ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما تمثيل وتصوير للمعنى» (١).

والمقصود من الآية الكريمة الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته ـ تعالى ـ معرفة فطرية لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال ـ تعالى ـ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).

والفطرة هي معرفة ربوبيته ـ سبحانه ـ :

وقد وردت أحاديث كثيرة تشهد بأن الناس قد فطرهم الله ـ تعالى ـ على معرفته ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من مولود الا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ـ أى سالمة الأذن ـ هل تحسون فيها من جدعاء ـ أى مقطوعة الأذن.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله ـ تعالى ـ إنى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٧٧.

٤٣٢

خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ـ أى صرفتهم عن دينهم ـ وحرمت عليهم ما أحللت لهم».

وروى الطبري عن الحسن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها» ولذلك يتبين لنا أن المعنى الإجمالى للآية الكريمة أن الله ـ تعالى ـ نصب للناس في كل شيء من مخلوقاته ـ ومنها أنفسهم ـ دلائل توحيده وربوبيته ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفته والاستدلال بها على التوحيد والربوبية حتى صاروا بمنزلة من إذا دعى إلى الإيمان بها سارع إليه بدون شك أو تردد.

فالكلام على سبيل المجاز التمثيلى لكون الناس قد فطرهم الله ـ تعالى ـ على معرفته والإيمان به ، وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته ، ولا إخراج للذرية ولا قول ولا إشهاد بالفعل.

وعلى هذا الرأى سار المحققون من مفسري السلف والخلف :

ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية الكريمة : أن الله ـ تعالى ـ مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذر ، وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق ، وألهمهم ذلك الإقرار ، ثم أعادهم إلى ظهر أبيهم آدم ، واستشهدوا لذلك بأحاديث وآثار ليست صحيحة الاسناد ، وما حسن إسناده منها فقد أوله العلماء بما يتفق مع منطوق الآية الكريمة.

وقد رد أصحاب الرأى الأول على هذا البعض بردود منها : أن الله ـ تعالى قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل من آدم ، وقال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل من ظهره ، وقال (ذُرِّيَّتَهُمْ) ولم يقل ذريته. قال (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك ، لأن آدم حاشاه من الشرك بالله ـ تعالى :

قال الإمام ابن كثير بعد أن ساق عددا كبيرا من الأحاديث في هذا المعنى : ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبى هريرة وعياض والأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سبب الاشهاد وعلله فقال : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أى : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا ، أو منعا من أن تقولوا يوم القيامة معتذرين عن شرككم : إنا كنا عن هذا الأمر وهو إفراد الله ـ تعالى ـ بالربوبية غافلين لم ننبه إليه ، لأنهم

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٦٤.

٤٣٣

ما داموا قد خلقوا على الفطرة ، ونصب الله لهم في كل شيء من مخلوقاته ما يدل على وحدانيته ، وجاءتهم الرسل فبشرتهم وأنذرتهم. فقد بطل عذرهم ، وسقطت حجتهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ سببا آخر لهذا الاشهاد فقال : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ).

أى. وفعلنا ذلك ـ أيضا منعا لكم من أن تقولوا يوم الحساب : إن آباءنا هم الذين سنوا هذا الإشراك وساروا عليه فنحن قد اتبعناهم في ذلك بمقتضى أننا أبناؤهم ، وننهج نهجهم من بعدهم ، فإن قولكم هذا غير مقبول بعد أن هيأ الله لكم من الأسباب ما يفتح قلوبكم لنور الحق لو كنتم مستعدين لقبوله.

والاستفهام في قوله (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) للإنكار. أى : أنت يا ربنا حكيم وعادل فهل تؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك وأسسوا من الباطل أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول وأقوال الرسل؟ إنك يا ربنا قد وعدت أنك لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء ونحن قد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل فكيف تؤاخذنا؟.

والجواب على ذلك أن الإقرار بالربوبية والتوحيد هو في أصل فطرتكم فلم لم ترجعوا إليه عند ما دعاكم رسولنا الكريم إلى وحدانية الله ونبذ الشركاء إن انقيادكم للاباء بعد أن وهبكم الله العقول المفكرة ، وأرسل إليكم الرسل مبشرين ومنذرين لن يعفيكم من المسئولية ، ولن ينقذكم من العذاب.

ثم قال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى : ومثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم ، ولعلهم يرجعون إلى فطرتهم وما استكن فيها من ميثاق ، وإلى خلقتهم وما كمن فيها من ناموس. فالرجوع إلى الفطرة القويمة كفيل بغرس عقيدة التوحيد في القلوب ، وردها إلى بارئها الواحد القهار الذي فطرها على الحق ، وصرفها عن الجهل والتقليد.

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآيات أمورا من أهمها :

١ ـ فساد التقليد في الدين ، وأنه ـ تعالى ـ قد أزاح العذر ، وأزال العلل بحيث أصبح لا يعذر أحد بكفره أو شركه.

٢ ـ أن معرفته ـ تعالى ـ فطرية ضرورية. قال ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

وروى الترمذي عن عمران بن الحصين قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى : يا حصين كم إلها تعبد

٤٣٤

اليوم. قال أبى : سبعة ؛ ستة في الأرض وواحدا في السماء قال. فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك. قال : الذي في السماء.

فالله ـ تعالى ـ فطر الخلق كلهم على معرفة فطرة التوحيد ، حتى من خلق مجنونا لا يفهم شيئا ما يحلف إلا به. ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس (١).

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لمن لا يعمل بعلمه فقال ـ تعالى ـ :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ(١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧)

قال صاحب المنار : هذا مثل ضربه الله ـ تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها ، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم ، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات ، لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ، أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له ، كالثوب الخلق يلقيه صاحبه ، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر :

خلقوا ، وما خلقوا لمكرمة

فكأنهم خلقوا وما خلقوا

رزقوا ، وما رزقوا سماح يد

فكأنهم رزقوا وما رزقوا

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٩٠٢.

٤٣٥

فحاصل معنى المثل : أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه ، لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أى : اقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه آياتنا بأن علمناه إياه ، وفهمناه مراميها ، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، أو الحية من جلدها.

والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها ، ونبذها وراء ظهره ، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات.

وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه. وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة وقوله : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أى : فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين في الغواية ، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين :

وفي التعبير بقوله (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره ، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه ، فهو على حد قول الشاعر :

وكان فتى من جند إبليس فارتقى

به الحال حتى صار إبليس من جنده

قال الجمل : أتبعه فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان.

وثانيهما : أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : فأتبعه الشيطان خطواته ، أى جعله تابعا لها :

وقوله (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه.

والضمير في قوله (لَرَفَعْناهُ) يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول (الَّذِي) والضمير في قوله (بِها) يعود إلى الآيات. ومفعول المشيئة محذوف.

أى : ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعناه لأننا

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٤٠٥.

٤٣٦

لا يستعصى على قدرتنا شيء ، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون.

وقد بين القرآن هذا المعنى في قوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أخلد إلى الأرض : أى ركن إليها. وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود.

أى : ولو شئنا لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذي ركن إلى الدنيا ، واطمأن بها ، واستحوذت بشهواتها على نفسه ، واختار لنفسه طريق التسفل المنافى للرفعة ، واتبع هواه في ذلك فلم ينتفع بشيء من الآيات التي آتيناه إياه.

أى : أن مقتضى هذه الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين ، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من أوتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى ، فتغلب المانع على المقتضى ، فهو كما قال القائل :

قالوا فلان عالم فاضل

فأكرموه مثلما يقتضى

فقلت : لما لم يكن عاملا

تعارض المانع والمقتضى

قال الآلوسى : وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه ـ تعالى ـ ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد ، مع أن الكل من الله ـ تعالى ـ ، إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه. ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» (١).

وقوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ).

اللهث : إدلاع اللسان بالنفس الشديد. يقال : لهث الكلب يلهث ـ كسمع ومنع ـ لهثا ولهاثا ، إذا أخرج لسانه في التنفس.

والمعنى : فمثل هذا الإنسان الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له سواء ، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ـ أيضا ـ ، فهو دائم اللهث في الحالين. لأن اللهث طبيعة فيه ، وكذلك حال الحريص على الدنيا ، المعرض عن الآيات بعد إيتائها ، إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ ، وإن تركت وعظه فهو حريص ـ أيضا ـ على الدنيا وشهواتها.

والإشارة في قوله (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات ، أى :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١١٤.

٤٣٧

ذلك المثل البعيد الشأن في الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين عن الهدى بعد أن كان في حوزتهم.

وقوله (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أى : إذا ثبت ذلك ، فاقصص على قومك أيها الرسول الكريم المقصوص عليك من جهتنا لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال.

والفاء في قوله (فَاقْصُصِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والقصص مصدر بمعنى اسم المفعول ، واللام فيه للعهد ، وجملة الترجي في محل نصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له. أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم ، أو رجاء لتفكرهم.

وقوله : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) استئناف مسوق لبيان كمال قبحهم بعد البيان السابق. و (ساءَ) بمعنى بئس وفاعلها مضمر. و (مَثَلاً) تمييز مفسر له ، والمخصوص بالذم قوله ـ تعالى ـ (الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

أى : ساء مثلا مثل أولئك القوم الذين كذبوا بآياتنا حيث شبهوا بالكلاب إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون وعظوا أم لم يوعظوا ، وإما في الخسة ، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن خير الهدى والعلم وأقبل على هواه صار شبيها بالكلب ، وبئس المثل مثله ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس لنا مثل السوء. العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه».

وقوله (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) معطوف على (كَذَّبُوا) داخل معه في حكم الصلة بمعنى أنهم جمعوا بين أمرين قبيحين : التكذيب وظلمهم أنفسهم أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم وحدها بارتكابهم تلك الموبقات والخطيئات. فإن العقوبة لا تقع إلا عليهم لا على غيرهم.

هذا ، والذي ذهب إليه المحققون من العلماء أن هذه الآيات الكريمة المثل فيها مضروب لكل إنسان أوتى علما ببعض آيات الله ، ولكنه لم يعمل بمقتضى علمه ، بل كفر بها ونبذها وراء ظهره وصار هو والجاهل سواء.

وقيل : إن الآيات الكريمة واردة في شخص معين ، واختلفوا في هذا المعين.

فبعضهم قال إنها في أمية بن أبى الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولا وتمنى أن يكون هو هذا الرسول ، فلما أرسل الله ـ تعالى ـ نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسده ومات كافرا.

٤٣٨

وبعضهم قال : نزلت في أبى عامر الراهب الذي سماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الفاسق» كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق.

وبعضهم قال : إنها في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومخرجه ، فلما بعثه الله ـ تعالى ـ كفروا به.

وبعضهم قال : إنها نزلت لتحكى قصة رجل من علماء اليهود اسمه بلعم ابن باعوراء أوتى علم بعض كتب الله ثم انسلخ منها بأن كفر بها ونبذها بعد أن رشاه اليهود.

والذي نراه أن الرأى الأول الذي عليه المحققون من المفسرين هو الراجح ، وأن هؤلاء الذين ذكروا يندرجون تحته ، لأنه لم يرد نص صحيح يعين اسم الذي وردت الآيات في حقه ، فوجب أن نحملها على أنها وارد في شأن كل من علم الحق فأعرض عنه واتبع هواه.

ثم يعقب القرآن على هذا المثل ببيان أن الهداية والضلال من الله وأن هناك أقواما من الجن والإنس قد خلقوا لجهنم بسبب إيثارهم طريق الشر على طريق الخير قال ـ تعالى ـ :

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

قوله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أى : من يوفقه الله ـ تعالى ـ إلى سلوك طريق الهدى باستعمال عقله وحواسه بمقتضى سنة الفطرة فهو المهتدى حقا ، الواصل إلى رضوان الله صدقا.

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أى : ومن يخذله ـ سبحانه ـ بالحرمان من هذا التوفيق بسبب إيثاره السير في طريق الهوى والشيطان على طريق الهدى والإيمان ، فأولئك هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.

وأفرد ـ سبحانه ـ المهتدى في الجملة الأولى مراعاة للفظ (مَنْ) ، وجمع الخاسرين في الثانية مراعاة لمعناها فإنها من صيغ العموم.

٤٣٩

وحكمة إفراد المهتدى للإشارة إلى أن الحق واحد لا يتعدد ولا يتنوع ، وحكمة جمع الثاني وهو قوله (الْخاسِرُونَ) للإشارة إلى تعدد أنواع الضلال ، وتنوع وسائله وأساليبه.

وقوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ) كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله ومفصل له. و «الذرء» الخلق. يقال : ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذرءا ، أى : خلقهم. واللام في (لِجَهَنَّمَ) للعاقبة والصيرورة.

أى : ولقد خلقنا لدخول جهنم والتعذيب بها كثيرا من الجن والانس وهم الكفار المعرضون عن الآيات وتدبرها ، الذين علم الله منهم أزلا اختيارهم الكفر فشاءه منهم وخلقه فيهم وجعل مصيرهم النار لذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ صفاتهم التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أى : لا يفقهون بها الآيات الهادية إلى الكمالات مع أن دلائل الإيمان مبثوثة في ثنايا الكون تدركها القلوب المتفتحة ، والبصائر المستنيرة.

وجملة (لَهُمْ قُلُوبٌ) في محل نصب صفة أخرى لقوله (كَثِيراً) وجملة (لا يَفْقَهُونَ بِها) في محل رفع صفة لقلوب.

وقوله (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) أى : لهم أعين لا يبصرون بها ما في هذا الكون من براهين تشهد بوحدانية الله ، مع أنها معروضة للأبصار مكشوفة للأنظار ، فهم كما قال ـ تعالى ـ ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) فهم لهم أعين ترى وتبصر ولكن بدون تأمل أو اعتبار ، فكأن وجودها وعدمه سواء.

وقوله (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أى : لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ ، أى أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية.

قال صاحب الكشاف : «هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم : وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق ، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار ، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات سماع تدبر كأنهم عدموا فهم القلوب ، وإبصار العيون واستماع الآذان ، وجعلهم ـ لإعراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه ، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار ـ مخلوقين للنار ، دلالة على توغلهم في الموبقات ، وتوغلهم فيما يؤهلهم لدخول النار» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٧٩.

٤٤٠