التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان «كان يسيء إلى الناس» إلا إذا كانت الإساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى.

قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة ما ملخصه : «هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم وما ظلمونا» فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله : (وَما ظَلَمُونا) أى : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. فان الله ـ تعالى ـ لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، لنفسه يظلم الظالم ، وحظها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ... إلخ. تذكير لهم بصفة جليلة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ، وما رعوها حق رعايتها ، وهي نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك.

قال الآلوسى : وقوله (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) معمول لفعل محذوف تقديره : اذكر. وإيراد الفعل هنا مبينا للمفعول جريا على سنن الكبرياء «مع الإيذان بأن الفاعل غنى عن التصريح. أى : أذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم» (٢).

والقرية هي البلدة المشتملة على مساكن ، والمراد بها هنا بيت المقدس ـ على الراجح ـ وقيل المراد بها أريحاء.

والحطة : كجلسة : اسم للهيئة ، من الحط بمعنى الوضع والإنزال ، وأصله إنزال الشيء من علو. يقال : استحطه وزره : سأله أن يحطه عنه وينزله.

وهي خبر مبتدأ محذوف أى : مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات.

والمعنى : واذكروا أيها المعاصرون للعهد النبوي من بنى إسرائيل وقت أن قيل لأسلافكم اسكنوا قرية بيت المقدس بعد خروجهم من التيه ، وقيل لهم كذلك كلوا من خيراتها أكلا واسعا ، واسألوا الله أن يحط عنكم ذنوبكم ، وادخلوا من بابها خاضعين خاشعين شكرا لله على

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٣٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٨٨.

٤٠١

نعمه ، فإنكم إن فعلتم ذلك غفرنا لكم خطيئاتكم.

وقوله ـ تعالى ـ (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها ، حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أى مكان شاءوا.

وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم عمله نحو خالقهم ، وتوجههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم بأيسر الطرق وأسهل السبل لأن كل ما كلفهم الله ـ تعالى ـ به أن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم خطيئاتهم ، وأن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله عليهم مخبتين.

وقوله (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) مجزوم في جواب الأمر.

وهذه الجملة الكريمة بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم وإغراء لهم على الامتثال والشكر ـ ولو كانوا يعقلون ـ لأن غاية ما يتمناه العقلاء هو غفران الذنوب.

وقوله ـ تعالى ـ (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وعد بالزيادة من خيرى الدنيا والآخرة لمن أسلم وجهه لله وهو محسن.

وقد أمر الله ـ تعالى ـ أن يفعلوا ذلك ، وأن يقولوا هذا القول ، لأن تغلبهم على أعدائهم نعمة من أجل النعم التي تستدعى منهم الشكر الجزيل لله ـ تعالى ـ. ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع ، وأسمى ألوان الشكر عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب ، فعند ما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا وهو خاضع لربه ، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكرا لله على نعمة الفتح ، وبعد دخوله مكة اغتسل وصل ثماني ركعات سماها بعض الفقهاء صلاة الفتح.

ومن هنا استحب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات عند أول دخولها شكرا لله ، وقد فعل ذلك سعد بن أبى وقاص عند ما دخل إيوان كسرى. فقد ثبت أنه صلى بداخله ثماني ركعات.

ولكن ماذا كان من بنى إسرائيل بعد أن أتم الله لهم نعمة الفتح.

لقد حكى القرآن ما كان منهم من جحود وبطر فقال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

قال صاحب الكشاف : «أى وضعوا مكان حطة قولا غيرها ، يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ، ولم يمتثلوا أمر الله ، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر

٤٠٢

مستقل بمعنى ما أمروا به لم يؤخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف هنا وما أشبه ذلك» (١).

وقال الإمام ابن كثير : «وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل. فقد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رؤوسهم. وأمروا أن يقولوا حطة ـ أى احطط عنا ذنوبنا ـ فاستهزأوا وقالوا حنطة في شعيرة. وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته» (٢).

وأخرج البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قيل لبنى إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا. حبة في شعيرة» (٣).

والعبرة التي تؤخذ من هذه الجملة الكريمة أن من أمره الله ـ تعالى بقول أو فعل فتركه وأتى بآخر لم يأذن به الله دخل في زمرة الظالمين ، وعرض نفسه لسوء المصير.

وقوله ـ تعالى ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) تصريح بأن ما أصابهم من عذاب كان نتيجة عصيانهم وتمردهم وجحودهم لنعم الله.

والرجز : هو العذاب ، سواء أكان بالأمراض المختلفة أو بغيرها.

وفي النص على أن الرجز قد أتاهم من السماء إشعار بأنه عذاب لا يمكن دفعه ، وأنه لم يكن له سبب أرضى من عدوى أو نحوها ، بل رمتهم به الملائكة من جهة السماء فأصيب به الذين ظلموا دون غيرهم.

هذا وقد وردت في سورة البقرة آيتان تشبهان في ألفاظهما هاتين الآيتين اللتين معنا هنا في سورة الأعراف ، أما آيتا سورة البقرة فهما قوله ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

وقد عقد الإمام الرازي مقارنة بين أسلوب الآيتين في كل من السورتين فقال ما ملخصه : إن ألفاظ الآيتين في سورة الأعراف تخالف ألفاظ آيتي سورة البقرة من وجوه :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٤٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩٩.

(٣) صحيح البخاري باب «وإذ قلنا ادخلوها هذه القرية» ج ٦ ص ٢٢.

٤٠٣

الأول : أنه قال ـ سبحانه ـ في سورة البقرة : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وهنا قال : وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية.

الثاني : أنه قال في سورة البقرة : (فَكُلُوا) بالفاء ، وقال هنا (وَكُلُوا) بالواو.

الثالث : أنه قال في سورة البقرة : (رَغَداً) وهذه الكلمة غير مذكورة هنا.

الرابع : أنه قال في سورة البقرة : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وقال هنا على التقديم والتأخير.

الخامس : أنه قال في سورة البقرة : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) وقال هاهنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ).

السادس : أنه قال في سورة البقرة : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وهاهنا حذف حرف الواو.

السابع : أنه قال في سورة البقرة : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقال هاهنا (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ).

الثامن : أنه قال في سورة البقرة : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) وقال هاهنا (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ).

واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ، ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة من وجوه.

الأول : وهو أنه قال في سورة البقرة (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وقال هاهنا اسكنوا ، فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولا ثم سكناها ثانيا.

الثاني : أنه هناك قال (فَكُلُوا) بالفاء وهنا بالواو. والفرق أن الدخول حالة مخصوصة ، فإنه إنما يكون داخلا في أول دخوله ، وأما ما بعد ذلك فيكون سكونا لا دخولا ، إذا ثبت هذا فنقول : الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم أن يحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا) وأما السكون فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلا معه لا عقيبه ، فظهر الفرق.

وأما الثالث : وأنه ذكر هناك (رَغَداً) ولم يذكره هنا ، فالفرق أن الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ ، لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ، ولما كان الأمر كذلك ذكر كلمة «رغدا» وأما الأكل حال سكون القرية فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ولم تكن اللذة فيه متكاملة. فلا جرم ترك قوله (رَغَداً) فيه.

وأما الرابع : وهو قوله هناك (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وهنا على العكس ،

٤٠٤

فالمراد التنبيه على أنه لا منافاة في ذلك ، لأن المقصود هو تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له ، فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير.

وأما الخامس : وهو أنه قال هناك (خَطاياكُمْ) وقال هنا (خَطِيئاتِكُمْ) فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا التضرع والدعاء.

وأما السادس : وهو قوله هناك (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بالواو ، وقال هنا (سَنَزِيدُ) بحذفها ، فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين : بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل ماذا بعد الغفران فقيل : إنه سيزيد المحسنين.

وأما السابع : وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا ، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها. فكأنه ـ سبحانه ـ بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيرا.

وأما الثامن : فهو الفرق بين قوله هناك (يَفْسُقُونَ) وقوله هنا (يَظْلِمُونَ) فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم ، وبكونهم فاسقين لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله. فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين منهم.

ثم قال : فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة ، وتمام العلم بها عند الله ـ تعالى ـ» (١).

وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أن بنى إسرائيل مكنوا من النعمة فنفروا منها ، وفتحت لهم أبواب الخير فأبوا دخولها ، فكانت عاقبتهم أن محقت النعم من بين أيديهم ، وسلط الله عليهم عذابا شديدا من عنده بسبب ظلمهم وفسوقهم عن أمره.

وفي ذلك إثارة لحسرة اليهود المعاصرين للعهد النبوي على ما ضاع من أسلافهم بسبب انتهاكهم لحرمات الله وتحذير لهم من سلوك طريق آبائهم حتى لا يصيبهم ما أصابهم من عذاب أليم.

ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن رذيلة أخرى من رذائل بنى إسرائيل الكثيرة ، وهي تحايلهم على استحلال محارم الله بسبب جهلهم وجشعهم وضعف إرادتهم.

وذلك أن الله ـ تعالى ـ أخذ عليهم عهدا بأن يتفرغوا لعبادته في يوم السبت ، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام ، واختبارا منه ـ سبحانه ـ لإيمانهم ووفائهم بعهودهم أرسل

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ من ص ٣٠٧.

٤٠٥

إليهم الحيتان في يوم السبت دون غيره ، فكانت تتراءى لهم على الساحل في ذلك اليوم ، قريبة المأخذ ، سهلة الاصطياد.

وهنا سال لعاب شهواتهم ومطامعهم وفكروا في حيلة لاصطياد هذه الحيتان في يوم السبت فقالوا : لا مانع من أن نحفر إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك في يوم السبت أحواضا تناسب إليها المياه ومعها الأسماك ، ثم نترك هذه الأسماك محبوسة في الأحواض في يوم السبت ـ لأنها لا تستطيع الرجوع إلى البحر لضآلة الماء الذي في الأحواض. ثم نصطادها بعد ذلك في غير يوم السبت ، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا في يوم السبت وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك.

ولقد نصحهم الناصحون بأن عملهم هذا هو احتيال على محارم الله ، وأن حبس الحيتان في الأحواض هو صيد لها في المعنى ، وهو فسوق عن أمر الله ونقض لعهوده.

ولكنهم لجهلهم واستيلاء المطامع على نفوسهم لم يعبئوا بنصح الناصحين بل نفذوا حيلتهم الشيطانية ، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة ، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم وموعظة للمتقين.

واستمع إلى سورة الأعراف وهي تحكى لنا هذه القصة بأسلوبها البليغ فتقول :

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦)

٤٠٦

قوله ـ تعالى ـ (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ... إلخ. معطوف على اذكر المقدر في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا). والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضمير الغيبة للمعاصرين له من اليهود.

أى : سل يا محمد هؤلاء اليهود المعاصرين لك كيف كان حال أسلافهم الذين تحايلوا على استحلال محارم الله فإنهم يجدون أخبارهم في كتبهم ولا يستطيعون كتمانها.

والمقصود من سؤالهم تقريعهم على عصيانهم ، لعلهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الحق ، ولا يعرضوا أنفسهم لعقوبات كالتي نزلت بسابقيهم ، وتعريفهم بأن هذه القصة من علومهم المعروفة لهم والتي لا يستطيعون إنكارها ، والتي لا تعلم إلا بكتاب أو وحى ، فإذا أخبرهم بها النبي الأمى الذي لم يقرأ كتابهم كان ذلك معجزة له. ودليلا على أنه نبي صادق موحى إليه بها.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره للآية الكريمة : (أى واسأل ـ يا محمد ـ هؤلاء اليهود الذين بحضرتكم عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على اعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم «لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هي «أيلة» وهي على شاطئ بحر القلزم ، أى ـ البحر الأحمر ـ) (١).

وقال الإمام القرطبي : وهذا سؤال تقرير وتوبيخ ، وكان ذلك علامة لصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم وكانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لأنا من سبط إسرائيل. ومن سبط موسى كليم الله ، ومن سبط ولده عزير فنحن أولادهم ، فقال الله ـ عزوجل ـ لنبيه سلهم ـ يا محمد ـ عن القرية. أما عذبتهم بذنوبهم ، وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة (٢).

وجمهور المفسرين على أن المراد بهذه القرية. قرية (أيلة) التي تقع بين مدين والطور ، وقيل هي قرية طبرية ، وقيل هي مدين.

ومعنى كونها (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : قريبة منه ، مشرفة على شاطئه ، تقول كنت بحضرة الدار أى قريبا منها.

وقوله (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أى يظلمون ويتجاوزون حدود الله ـ تعالى ـ بالصيد في يوم السبت ويعدون بمعنى يعتدون ، يقال : عدا فلان الأمر واعتدى إذا تجاوز حده.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٥٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٠٤ طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٩٣٨.

٤٠٧

وقوله تعالى (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) بيان لموضع الاختبار والامتحان.

و (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) ظرف ليعدون. وحيتان جمع حوت وهو السمك الكبير. وشرعا : أى : شارعة ظاهرة على وجه الماء. جمع شارع ، من شرع عليه إذا دنا وأشرف وكل شيء دنا من شيء فهو شارع ، وقوله : شرعا حال من الحيتان.

والمعنى : إذ تأتيهم حيتانهم في وقت تعظيمهم ليوم السبت ظاهرة على وجه الماء دانية من القرية بحيث يمكنهم صيدها بسهولة ، فإذا مر يوم السبت وانتهى لا تأتيهم كما كانت تأتيهم فيه ، ابتلاء من الله ـ تعالى ـ لهم.

قال ابن عباس : (اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به ، وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله ـ تعالى ـ به ، وحرم عليهم الصيد فيه ، وأمرهم بتعظيمه ، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم الله به ، فذلك معنى قوله تعالى (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) (١).

وقال الإمام القرطبي : (وروى في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود ـ عليه‌السلام ـ وأن إبليس أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا الحياض ، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها ، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء. فيأخذونها يوم الأحد) (٢).

وقوله تعالى (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) معناه : بمثل هذا الابتلاء ، وهو ظهور السمك لهم في يوم السبت ، واختفائه في غيره نبتليهم ونعاملهم معاملة من يختبرهم ، لينالوا ما يستحقونه من عقوبة بسبب فسقهم وتعديهم حدود ربهم ، وتحايلهم القبيح على شريعتهم ، فقد جرت سنة الله بأن من أطاعه سهل له أمور دنياه ، وأجل له ثواب أخراه ، ومن عصاه أخذه أخذ عزيز مقتدر.

ثم بين ـ سبحانه ـ طوائف هذه القرية وحال كل طائفة فقال تعالى (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ، قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

والذي يفهم من الآية الكريمة ، ـ وعليه جمهور المفسرين ـ أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٣١٦ طبعة الأميرية الأزهرية سنة ١٣٠٨ ه‍.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٠٦.

٤٠٨

١ ـ فرقة المعتدين في السبت ، المتجاوزين حدود الله عن تعمد وإصرار.

٢ ـ فرقة الناصحين لهم بالانتهاء عن تعديهم وفسوقهم.

٣ ـ فرقة اللائمين للناصحين ليأسهم من صلاح العادين في السبت.

وهذه الفرقة الثالثة هي التي عبر القرآن الكريم عنها بقوله : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أى : قالت فرقة من أهل القرية ، لإخوانهم الذين لم يألوا جهدا في نصيحة العادين في السبت ، لم تعظون قوما لا فائدة من وعظهم ولا جدوى من تحذيرهم ، لأن الله تعالى قد قضى باستئصالهم وتطهير الأرض منهم ، أو بتعذيبهم عذابا شديدا ، جزاء تماديهم في الشر ، وصممهم عن سماع الموعظة فكان رد الناصحين عليهم (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

فهم قد عللوا نصيحتهم للعادين بعلتين :

الأولى : الاعتذار إلى الله ـ تعالى ـ من مغبة التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

والثانية : الأمل في صلاحهم وانتفاعهم بالموعظة حتى ينجو من العقوبة ، ويسيروا في طريق المهتدين.

وقيل : إن أهل القرية كانوا فرقتين ، فرقه أقدمت على الذنب فاعتدت في السبت ، وفرقة أحجمت عن الأقدام ، ونصحت المعتدين بعدم التجاوز لحدود الله ـ تعالى ـ فلما داومت الفرقة الواعظة على نصيحتها للفرقة العادية ، قالت لها الفرقة العادية على سبيل التهكم والاستهزاء : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا في زعمكم؟ فاجابتهم الناصحة بقولها. معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.

والذي نرجحه أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق كما قال جمهور المفسرين ـ لأن هذا هو الظاهر من الضمائر في الآية الكريمة ، إذ لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية (ولعلكم تتقون) بكاف الخطاب ، بدل قولهم (ولعلهم يتقون) الذي يدل على أن المحاورة قد دارت بين الفرقة اللائمة ، والفرقة الناصحة.

قال الإمام القرطبي عند تفسيره الآية الكريمة : إن بنى إسرائيل افترقت ثلاث فرق «فرقة عصت وصدت ، وكانوا ، نحوا من سبعين ألفا ، فرقة نهت واعتزلت ، وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفا ، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وأن هذه الطائفة هي التي قالت للناهية ، لم تعظون

٤٠٩

قوما ـ عصاة ـ الله مهلكهم ، أو معذبهم على غلبة الظن. وما عهد حينئذ من فعل الله تعالى بالأمم العاصية؟) (١).

وقوله (مَعْذِرَةً) بالنصب على أنها مفعول لأجله أى : وعظناهم لأجل المعذرة ، أو منصوبة على أنها مصدر لفعل مقدر من لفظها أى : نعتذر معذرة وقرئت «معذرة» بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : موعظتنا معذرة وقد اختار سيبويه هذا الوجه وقال في تعليله : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا ولكنهم قيل لهم لم تعظون؟ فقالوا موعظتنا معذرة.

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة كل من الفرقة الناهية والعاصية فقال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أى : فلما لج الظالمون في طغيانهم ، وعموا وصموا عن النصيحة أنجينا الناصحين ، وأخذنا العادين بعذاب شديد لا رحمة فيه بسبب خروجهم على أوامر الله.

والآية الكريمة صريحة في بيان أن الذين أخذوا بالعذاب البئيس هم الظالمون المعتدون وأن الذين نجوا هم الناهون عن السوء ، أما الفرقة الثالثة التي لامت الناهين عن السوء على وعظهم للمعتدين ، فقد سكتت عنها.

ويرى بعض المفسرين : أنها لم تنج ، لأنها لم تنه عن المنكر. فضلا عن أنها لامت الناصحين لغيرهم.

ويرى جمهور المفسرين : أنها نجت ، لأنها كانت كارهة لما فعله العادون في السبت ولم ترتكب شيئا مما ارتكبوه ، وإذا كانت قد سكتت عن النصيحة ، فلأنها كانت يائسة من صلاح المعتدين ، ومقتنعة بأن القوم قد أصبحوا محل سخط الله وعذابه ، فلا جدوى وراء وعظهم ، وإلى هذا الرأى ذهب صاحب الكشاف وغيره.

قال صاحب الكشاف : (فإن قلت : الأمة الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ـ من أى الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم من فريق المعذبين. قلت من فريق الناجين ، لأنهم من فريق الناهين ، غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهي حال المنهي ، وأن النهى لا يؤثر فيه ، سقط عنه النهى ، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث ، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب ، لتعظهم وتكفهم عما هم فيه ، كان ذلك عبثا منك ، ولم يكن إلا سببا للتلهى بك ، أما الآخرون فإنهم لم يعرضوا عنهم ، إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين ، ولم يخبروهم كما

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٠٧.

٤١٠

خبروهم. أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم ، كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١).

وقال الإمام ابن كثير : (ويروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال عند ما سئل عن مصير الفرقة اللائمة ، ما أدرى ما فعل بهم ، ثم صار إلى نجاتهم لما قال له غلامه عكرمة : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقال (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) قال عكرمة : فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا فكساني حلة) (٢).

والذي نرجحه أن مصير هذه الفرقة مفوض إلى الله ، لأنه لم يرد نص صحيح في شأنها ، فإن الآية الكريمة قد ذكرت صراحة عاقبة كل من الناصحين والعادين ولم تذكر مصير الفرقة اللائمة للناصحين ولعل ذلك مرجعه إلى أنها وقفت من العادين في السبت موقفا سلبيا استحقت معه الإهمال ، إن لم تكن بسببه أهلا للمؤاخذة.

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما عوقبوا به من العذاب البئيس الذي أصابهم فقال تعالى : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أى فلما تكبروا عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون ، قلنا لهم كونوا قردة صاغرين فكانوا كذلك.

قال الآلوسى : (والأمر في قوله تعالى (قُلْنا) تكويني لا تكليفى ، لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به ، وهذا كقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل) (٣).

وقيل في تفسير الآية : إن الله تعالى ـ عاقب القوم أو لا بالعذاب البئيس الذي يتناول البؤس والشقاء والفقر في المعيشة ، فلما لم يرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم ، مسخهم مسخا خلقيا وجسميا ، فكانوا قردة على الحقيقة ، وهو الظاهر من الآية ، وعليه الجمهور :

وقيل : مسخهم مسخا خلقيا ونفسيا ، فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها ، وهذا مروى عن مجاهد.

وتلك العقوبة كانت جزاء إمعانهم في المعاصي ، وتأبيهم عن قبول النصيحة ، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم ، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإنسان ، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٦٧.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٩٣.

٤١١

هذا وقد استدل العلماء بهذه الآيات الكريمة على تحريم الحيل القبيحة التي يتخذها بعض الناس ذريعة للتوصل إلى مقاصدهم الذميمة. وغاياتهم الدنيئة ومطامعهم الخسيسة.

وقد أفاض الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) في إيراد الأدلة الدالة على هذا التحريم ، فقال ما ملخصه : (ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله ، الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه ، ومضادته في أمره ونهيه ، وهي من الباطل الذي اتفق السلف على ذمه ، فإن الرأى رأيان : رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار ، وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به. ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار ، وهو الذي ذموه وأهدروه.

وكذلك الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله ـ تعالى ـ به وترك ما نهى عنه ، والتخلص من الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له ، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي ، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات ، وتحليل المحرمات ، وقلب المظلوم ظالما ، والظالم مظلوما ، والحق باطلا ، والباطل حقا. فهذا الذي اتفق السلف على ذمه ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ... ثم قال :

إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة ، لما تحايلوا على إباحة ما حرمه الله ـ تعالى ـ عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد ، أخذوه يوم الأحد.

قال بعض الأئمة : ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ، ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه ، إذ الفقيه من يخشى الله ـ تعالى ـ بحفظ حدوده ، وتعظيم حرماته ، والوقوف عندها ، وليس المتحيل على إباحة محارمه ، وإسقاط فرائضه ، ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى ـ عليه‌السلام ـ وكفرا بالتوراة ، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ، ظاهره ظاهر الإيفاء ، وباطنه باطن الاعتداء ، ولهذا مسخوا قردة ، لأن صورة القردة فيها شبه من صورة الإنسان ، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض مظاهره دون حقيقته ، مسخهم سبحانه قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا ، وفي الحديث الشريف (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) (١).

وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

__________________

(١) إغاثة اللهفان ج ١ ص ٣٥٨.

٤١٢

(قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها) (١).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : «بلغ عمر ـ رضى الله عنه ـ أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله سمرة. ألم يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ـ أى أذابوها ـ فباعوها) (٢).

وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت العادين في السبت من اليهود ، برذيلة الجهالة وضعف الإرادة ، وتحايلهم القبيح على استحلال محارم الله ، مما جعلهم أهلا للعذاب الشديد والمسخ الشنيع ، جزاء إمعانهم في المعصية وصممهم عن سماع الموعظة ، وما ربك بظلام للعبيد.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما توعد به أولئك اليهود من عقوبات بسبب كفرهم وفسوقهم وإفسادهم في الأرض فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨)

قوله (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) منصوب على المفعولية بمقدر معطوف على (وَسْئَلْهُمْ) أى : واذكر يا محمد لليهود وقت أن تأذن ربك.

وتأذن بمعنى آذن ، أى : أعلم. يقال : آذن الأمر وبالأمر أى : أعلمه. وأذن تأذينا : أكثر الإعلام.

وأجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ، ولذلك جيء بلام القسم ونون التوكيد في جوابه وهو قوله ـ تعالى ـ «ليبعثن عليهم ... إلخ».

__________________

(١) صحيح البخاري : باب (لا يذاب شحم الميتة) ج ٣ ص ١٠٢ ، وأخرجه مسلم في «كتاب المساقاة» ج ٢ ص ١٢٠٦ طبعة الحلبي.

(٢) صحيح البخاري : باب (لا يذاب شحم الميتة) ج ٣ ص ١٠٢ ، وأخرجه مسلم في «كتاب المساقاة» ج ٢ ص ١٢٠٧.

٤١٣

وقوله (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بقوله (لَيَبْعَثَنَ).

والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن أعلم الله ـ تعالى ـ هؤلاء اليهود وأسلافهم بأنهم إن غيروا وبدلوا ولم يؤمنوا بأنبيائهم ، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم سوء العذاب كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك من صنوف العذاب إن ربك لسريع العقاب لمن أقام على الكفر ، وجانب طريق الحق ، وإنه لغفور رحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وهذا من باب قرن الترغيب بالترهيب حتى لا ييأس العاصي من رحمة الله بسبب ذنوبه السابقة إذا هو أقبل على الله بالتوبة والعمل الصالح كما قال ـ تعالى ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).

ولقد يبدو للبعض أن هذا الوعيد لليهود قد توقف بسبب ما نرى لهم الآن من دولة وصولة ولكن الذي نعتقده أن هذا الوعيد ما توقف مع ما لهم من دولة ، فإنهم ما زالوا محل احتقار الناس وبغضهم ، وحتى الدول التي تناصرهم إنما تناصرهم لأن السياسة تقتضي ذلك بينما شعوب هذه الدول تكره أولئك اليهود وتزدريهم وتنفر منهم.

وما قامت لليهود تلك الدولة إلا لأن المسلمين قد فرطوا في حق خالقهم ، وفي حق أنفسهم ، ولم يأخذوا بالأسباب التي شرعها الله لهم لحرب أعدائهم فكانت النتيجة أن أقام اليهود دولة لهم في قلب البلاد الإسلامية وعند ما يعود المسلمون إلى الأخذ التام الكامل بتعاليم دينهم وإلى مباشرة الأسباب التي شرعها الله مباشرة سليمة ، عند ما يفعلون ذلك تعود إليهم عزتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة.

وصدق الله إذ يقول : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

هذا وقوله ـ تعالى ـ (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) إخبار عن عقوبة أخرى من عقوباتهم المتنوعة بسبب كفرهم وجحودهم ، وتتمثل هذه العقوبة في تفريقهم في الأرض ، وتمزيقهم شر ممزق حتى لا تكون لهم شوكة.

و (أُمَماً) حال من مفعول (قَطَّعْناهُمْ) أو مفعول ثان لقطعناهم على أنه بمعنى صيرناهم.

أى : أن هؤلاء اليهود قد مزقناهم في الأرض شر ممزق بسبب عصيانهم وفسوقهم ، وصيرناهم فرقا متقطعة الأوصال ، مشتتة الأهواء. وقوله (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) بيان لحالهم.

أى : من هؤلاء اليهود قلة آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فصلح حالها ، وحسنت عاقبتها ، ومنهم كثرة منحطة عن رتبة أولئك المؤمنين الصالحين ، بسبب فسوقهم عن

٤١٤

أمر الله ، وانتهاكهم لحرماته.

والجملة من المبتدأ والخبر ، في موضع نصب على أنها صفة ل (أُمَماً).

وقوله (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) الجار والمجرور خبر مقدم و (دُونَ ذلِكَ) نعت لمنعوت محذوف هو المبتدأ والتقدير : ومنهم ناس أو جماعة دون ذلك.

وهذه الجملة الكريمة تدل على أن القرآن الكريم يستعمل الإنصاف والعدالة وتقرير الحقائق مع أعدائه وأتباعه على السواء ، فهو يمدح من يستحق المديح ، ويذم من هو أهل الذم ، وما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى التخلق بهذه الأخلاق.

وقوله ـ تعالى ـ (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى عاملناهم معاملة المبتلى الممتحن تارة بالنعم الكثيرة كالصحة والخصب وسعة الأرزاق ، وتارة بالنقم المتنوعة كالجدب والأمراض والشدائد ، لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم ، ويتركون ما نهوا عنه من المعاصي والسيئات.

يقال : بلاه يبلوه بلوا ، وابتلاه ابتلاء ، إذا جربه واختبره ، ولقد كانت نتيجة هذا الابتلاء والاختبار أن تكشفت الحقائق عن أن الكثرة من بنى إسرائيل سلكت طريق الضلالة والغواية ، والقلة هي التي آمنت وأصلحت ولذا عاقب الله تلك الكثرة بالعقوبة التي تناسبها جزاء وفاقا.

هذا ، وما أخبر به القرآن من أن الله ـ تعالى ـ قد توعد بنى إسرائيل وأخبرهم بأنه سيسلط عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب بسبب كفرهم وفسوقهم قد شهد بصدقه التاريخ ، وأيدته الحوادث ، وهذه نماذج قليلة من تلك العقوبات التي نزلت بهم في الأزمنة المختلفة (١).

أولا : بعد وفاة سليمان ـ عليه‌السلام ـ حوالى سنة ٩٧٥ ق م انقسمت مملكته إلى قسمين : مملكة الشمال ، واسمها (إسرائيل) ومقرها (السامرة) (٢) وتتكون من الأسباط العشرة.

ومملكة الجنوب واسمها (يهوذا) ومقرها (أورشليم) (٣) وتتكون من سبطي يهوذا وبنيامين.

وقد استمرت المنازعات بين المملكتين مدة طويلة ، انتهت بانقضاض (سرجون) ملك آشور على مملكة الشمال (إسرائيل) سنة ٧٢١ ق. م. فقتل الآلاف من رجالها ، وأسر البقية منهم

__________________

(١) ذكرنا هنا نماذج قليلة من تلك العقوبات ومن أراد معرفة المزيد فليرجع إلى كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج ٢ ص ٣٢٦ وما بعدها.

(٢) السامرة وهي نابلس الآن.

(٣) أورشليم هي بيت المقدس الآن.

٤١٥

فرحلهم إلى ما وراء نهر الفرات ، وقضى على هذه المملكة قضاء لم تقم لها بعده قائمة.

وأما مملكة الجنوب (أورشليم) فقد حاولت أن تتشبث بالبقاء ، ولكن معاول الهدم غزتها من الشرق ومن الجنوب وكانت نهايتها على يد بختنصر البابلي سنة ٥٨٦ ق م.

ويصور أحد الكتاب الغربيين قصة النكبات التي أدت إلى زوال مملكة (يهوذا وإسرائيل) فيقول : (هي قصة نكبات وقصة تحررات لا تعود عليهم إلا بإرجاء النكبة القاضية ، هي قصة ملوك همج يحكمون شعبا من الهمج ، حتى إذا وافت سنة ٧٢١ ق م «محت يد الأسر الآشورى مملكة إسرائيل من الوجود ، وزال شعبها من التاريخ زوالا تاما ، وظلت مملكة يهوذا تكافح حتى أسقطها البابليون سنة ٥٨٦ ق م.

ثانيا : استرد اليهود بعض أنفاسهم بعد وقوعهم تحت حكم الفرس من حوالى سنة ٥٣٦ إلى سنة ٣٣٢ ق م فقد عادوا في هذه الفترة إلى فلسطين ، ووقعوا تحت سيطرة الإسكندر المقدونى سنة ٣٣٠ ق م.

وفي سنة ٣٢٠ ق م. سار إليهم (بطليموس) خليفة الإسكندر ، فهدم القدس ، ودك أسوارها ، وأرسل منهم مائة ألف أسير إلى مصر ، لأنهم ثاروا عليه.

ثالثا : في سنة ٢٠ ق م تقريبا ، وقع اليهود تحت سيطرة السلوقيين السوريين بعد انتصارهم على البطالسة ، ورأى بعض الحكام السلوقيين من اليهود تمردا وعصيانا ، فأنزلوا بهم أشد العقوبات في عدة مواقع ، وكان من أبرز المنكلين باليهود (انطوخيوس) ما بين سنة ١٧٠. وسنة ١٦٨ ق م فقد هاجم (أورشليم) وهدم أسوارها وهيكلها. ونهب ما فيها من أموال وقتل من أهلها أربعين ألفا في ثلاثة أيام وباع مثل ذلك العدد عبيدا منهم ولم يفلت من يده إلا اليهود الذين هربوا إلى الجبال ، وقد أقام (انطوخيوس) قمة على أحد الجبال ليشاهد منها كل من يقترب من اليهود إلى أورشليم ليقتله ، وقد وصل به الحال أنه أكره عددا كبيرا منهم على ترك الديانة اليهودية وجعل هيكلهم في أورشليم معبدا لإلهه.

رابعا : وفي سنة ٦٣ ق م أغار الرومان بقيادة (بامبيوس) على أورشليم فاحتلوها ، واستمر احتلالهم حتى سنة ٦١٤ م. وخلال احتلال الرومان لفلسطين قام اليهود بعدة ثورات باءت كلها بالفشل ، ولقوا بسبب تمردهم وعصيانهم من الرومان ألوانا من القتل والسبي والتشريد.

كان من أشهرها ما أنزله بهم «تيطس الرومانى» سنة ٧٠ م فقد اقتحم في هذه السنة أورشليم فدمرها تدميرا ، وقتل الآلاف من اليهود وأحرق هيكلهم.

خامسا : بعد هذه النماذج التي سقناها لما أنزله الرومان من عقوبات على اليهود ، نتابع سيرنا في سرد بعض العقوبات التي أنزلها المسلمون باليهود بسبب بغيهم وخياناتهم فنقول :

٤١٦

بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، عامل اليهود القاطنين والمجاورين لها معاملة طيبة ، وعقد معهم معاهدة ضمنت لهم حقوقهم ولكنهم نقضوا عهودهم ، ولم يتركوا وسيلة من وسائل الكيد للإسلام والمسلمين إلا فعلوها ، وحاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يثنيهم عن جحودهم وبغيهم ولكنهم لم يستجيبوا له. فعاقب صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل طائفة منهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم وخيانتهم وتكفل للمسلمين أن يعيشوا في مأمن من شرورهم ، ومن بين العقوبات التي أنزلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم إجلاؤه لبنى قينقاع ولبنى النضير عن المدينة ، وقتله لبنى قريظة وإهداره لدم بعض كبرائهم ككعب بن الأشرف وسلام بن أبى الحقيق ، ومحاربته ليهود خيبر ومصالحته لهم بعد مقتل عدد كبير منهم ، ورفعهم راية الأمان ، والاستسلام ، وقبولهم الشروط التي اشترطها عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد كان من آخر الكلمات التي نطق بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته قوله موصيا أصحابه أخرجوا اليهود من جزيرة العرب لا يبقى في جزيرة العرب دينان) (١).

وفي عهد عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ تم إخراج جميع اليهود من جزيرة العرب ، استجابة لوصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سادسا : وفي ختام عرضنا لبعض العقوبات التي نزلت باليهود في الأزمنة المختلفة جزاء إجرامهم وإثارتهم للفتن نسوق بعض الأمثلة لما حل بهم على أيدى بعض الدول الأوربية.

(أ) ففي بريطانيا : لقى اليهود في بعض العهود ألوانا من التعذيب ، وصنوفا من القتل والتشريد.

١ ـ من ذلك أن الملك الإنجليزى (يوحنا) أصدر أمرا بحبسهم في جميع أنحاء مملكته.

وفي سنة ١٣٢٨ م جأر الشعب البريطانى بالشكوى من اليهود ، فأصدر الملك ادوارد الأول أمرا بطرد اليهود من جميع البلاد البريطانية في غضون ثلاثة أشهر ، إلا أن الشعب البريطانى لم يصبر على اليهود حتى تنقضي تلك المدة ، بل أخذ يقتل منهم العشرات والمئات وفي قلعة (بورك) التي احتمى بها عدد كبير من اليهود أحرق الإنجليز أكثر من خمسمائة يهودي وقد اضطر الملك إلى ترحيلهم قبل انقضاء المدة لئلا يفتك الشعب بهم جميعا في كل مكان ، وظلت بريطانيا خالية من اليهود طوال ثلاثة قرون تقريبا. ولكن عادوا إليها سنة ١٦٥٦ م في عهد الطاغية (كرومويل) الذي اغتصب الملك (شارل الأول) بعد أن قدم له اليهود الأموال الطائلة في سبيل بلوغ أغراضه.

__________________

(١) صحيح البخاري باب إخراج اليهود ج ٤ ص ١٢٠.

٤١٧

(ب) وفي فرنسا : تعرض اليهود في أزمنة مختلفة لنقمة الشعب الفرنسى وغضبه ، لأنهم دمروا اقتصاده الوطنى ، وخنقوه بالربا الفاحش ، والمعاملات السيئة.

١ ـ ففي عهد (لويس التاسع) تدهورت الحالة الاقتصادية في فرنسا فأصدر أمرا بإلغاء ثلث ما لليهود على الفرنسيين من ديون ، ثم أصدر أمرا بإحراق جميع كتبهم المقدسة ، وخاصة التلمود. وقد قال أحد المؤرخين إنهم أحرقوا في باريس وحدها محمول أربع وعشرين مركبة من نسخ التلمود وغيرها) (١).

٢ ـ وخلال تولى (فيليب الجميل) حكم فرنسا. أنزل الفرنسيون باليهود صنوفا من القتل والنهب والتشريد ، ثم طردوا من فرنسا نهائيا ، ولكنهم عادوا إليها بعد أن دفعوا (لفيليب) ثلثى الديون التي لهم في فرنسا.

٣ ـ وفي سنة ١٣٢١ م هاجمهم الشعب الفرنسى وذبح عددا كبيرا منهم ، ونكل بهم تنكيلا شديدا ، ثم طردوا من فرنسا بعد أن نهبت أموالهم ولم يستطيعوا العودة إليها إلا في أواسط القرن السادس عشر.

٤ ـ وفي أوائل القرن التاسع عشر حاول (نابليون) أن يستغلهم لبلوغ مطامعه ، ولكنهم خانوه ، فاحتقرهم ، وبطش بعدد منهم ، وقال عنهم إنهم حثالات البشر وجراثيمه.

ولم ينج اليهود من بطش الشعب الفرنسى إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين.

(ج) وفي إيطاليا ، حاربهم البابوات حربا شعواء وأطلقوا عليهم اسم (الشعب المكروه) وأغروا الشعب الإيطالى بهم فأعمل فيهم القتل والتشريد وقد أصدر البابوات مراسيم عديدة لتكفير اليهود وتسفيه ديانتهم القائمة على التلمود.

وفي سنة ١٢٤٢ م أعلن البابا (جريجورى) التاسع اتهامات صريحة ضد التلمود الذي يطعن في المسيح والمسيحية ، وأصدر أوامره بإحراقه فأحرقت جميع نسخه.

وفي سنة ١٥٤٠ ثار الشعب الإيطالى على اليهود ثورة عارمة قتل فيها الآلاف منهم وطردوا من بقي حيا خارج إيطاليا.

(د) وفي أسبانيا : ذاق اليهود من الشعب الأسبانى وملوكه صنوف الذل وألوان الهوان ، ولم يظفروا بالراحة إلا في أيام الحكم الإسلامى لأسبانيا. ولنكتف بذكر عقوبة واحدة من العقوبات المتعددة التي نزلت بهم في تلك البلاد.

__________________

(١) تاريخ الإسرائيليين ص ٨٣ شاهين مكاريوس.

٤١٨

في عهد الملك (فرديناند) وزوجته (إيزابلا) وصلت موجة السخط على اليهود أقصاها ؛ لتغلغلهم في الحياة الأسبانية ، واستيلائهم على اقتصادها وإشعالهم نار الخلافات الدينية بين الطوائف ... فرأى الملك وزوجته أن خير وسيلة لوقاية البلاد من شرورهم هي طردهم من أسبانيا طردا نهائيا.

وفي ٣١ من مارس سنة ١٩٥٢ صدر المرسوم التالي عن الملك (فرديناند) : (يعيش في مملكتنا عدد غير قليل من اليهود ، ولقد أنشأنا محاكم التفتيش منذ اثنتي عشرة سنة. وهي تعمل دائما على توقيع العقوبة على المذنبين ، وبناء على التقارير التي رفعتها لنا محاكم التفتيش ، ثبت بأن الصدام الذي يقع بين المسيحيين واليهود يؤدى إلى ضرر عظيم ، ويؤدى بالتالى إلى القضاء على المذهب الكاثوليكى ، ولذا قررنا نفى اليهود ذكورا وإناثا خارج حدود مملكتنا وإلى الأبد وعلى اليهود جميعا الذين يعيشون في بلادنا وممتلكاتنا ومن غير تميز في الجنس أو الأعمار أن يغادروا البلاد في غضون فترة أقصاها نهاية يوليو من نفس العام ، وعليهم ألا يحاولوا العودة تحت أى ظرف أو سبب (١).

وبمقتضى هذا القرار طرد اليهود شر طردة من أسبانيا بعد أن أرغموا على ترك ذهبهم ونقودهم ، وبعد أن نفثوا سمومهم في أسبانيا زهاء سبعة قرون وكان عددهم عند ما خرجوا منها مطرودين يبلغ نصف مليون نسمه ويعتبر بعض اليهود هذا القرار وما تلاه من طرد وتشريد أسوأ من خراب أورشليم.

(ه) وفي روسيا : كان يعيش نصف يهود العالم تقريبا خلال القرن التاسع عشر وقد استعملوا طول مدة إقامتهم في روسيا كل وسائلهم الخبيثة للتدمير والتخريب ، ففتحوا الحانات وتاجروا في الخمور ، وأقرضوا بالربا الفاحش ، واستولوا على الكثير من أموال الدولة بالطرق المحرمة ، وقتلوا الكثير من أبناء الشعب الروسى عند ما مكنتهم الظروف من ذلك وكونوا الجمعيات السرية التي عملت على هدم نظام الحكم القيصري واستمرت في نشاطها حتى أزالته بواسطة الثورة الشيوعية في سنة ١٩١٧ م هذه الثورة التي كان معظم قوادها من اليهود. ولم ينس الروس لليهود ما قاموا به نحوهم من عدوان واستغلال ، فانقضوا عليهم عدة مرات للتخلص منهم وأعملوا فيهم الذبح والقتل بلا رحمة ، وكان من أبرز المذابح التي أوقعها الروس باليهود مذبحة سنة ١٨٨١ م ومذبحة سنة ١٨٨٢ م فقد حاول الفلاحون الروس أن يدمروا اليهود تدميرا في هاتين السنتين.

__________________

(١) خطر اليهود العالمية على (الإسلام والمسيحية) ص ١٨ لعبد الله التل.

٤١٩

وعند ما نشر الكاتب الروسى (نيلوس) نسخا قليلة من (بروتوكولات حكماء صهيون) سنة ١٩٠٢ م التي تفضح نيات اليهود الإجرامية تجاه العالم أجمع ، جن جنونهم خوفا وفزعا. وعمت المذابح ضدهم في روسيا حتى لقد قتل منهم في إحداها نحو عشرة آلاف يهودي.

(و) وفي ألمانيا : انتشر اليهود في كثير من مدنها منذ القرن الثامن الميلادى ، وسكنوا على ضفاف نهر الراين. واستغلوا الشعب الألمانى أسوأ استغلال حتى كادوا يستولون على أمواله عن طريق الربا الفاحش واستخدام الوسائل المختلفة لجمع المال الحرام. ولقد هاج الشعب الألمانى ضدهم في أوقات مختلفة ، واستعمل معهم كل وسائل القتل والسلب والطرد.

يقول صاحب كتاب (تاريخ الإسرائيليين) وظل القتل والذبح منتشرا في اليهود إلى أن صدرت الأوامر بطردهم من أنحاء ـ ألمانيا ـ في أزمنة متتابعة ، وذلك ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر ، حتى لم يكد يبقى منهم واحدا فيها) (١).

وكان آخر ما لاقوه من عذاب وتقتيل وتشريد على يد «هتلر» ابتداء من توليه الحكم في ألمانيا سنة ١٩٣٣ إلى أن سقط حكمه سنة ١٩٤٥.

وفي كل البلاد التي نزل بها اليهود ، تعرضوا لنقمة السكان وغضبهم وازدرائهم ، يستوي في ذلك تاريخهم القديم والوسيط والحديث ، لقد أنزل العالم بهم ضربات قاصمة ، وعقوبات صارمة ، شملت التنكيل والطرد والسجن والقتل ومصادرة الأموال.

ويقرر أحد الكتاب الغربيين أن كل الأمم المسيحية اشتركت في اضطهاد اليهود وإنزال مختلف العقوبات بهم ، وكانت القسوة مع اليهود تعد مآثرة يمتدح المسيحيون بعضهم بعضا عليها (٢).

هذا ، والشيء الذي نؤكده بعد سرد هذه النماذج من العقوبات التي نزلت باليهود في مختلف العصور والأمم ، هو أن اليهود هم المسئولون عن كل اضطهاد وقع بهم ، وأنهم مستحقون لهذه العقوبات لأسباب من أهمها :

أولا : أنانيتهم وأطماعهم التي لا حدود لها «فقد سوغت لهم أنانيتهم أن العالم ملك لهم بكل من فيه وما فيه ، وأن عليهم متى حلوا في أى دولة أن ينهبوا خيراتها بكل وسيلة وإن يجمعوا أموالها بأى طريقة ، فإن المال هو معبود اليهود من قديم.

وأنانية اليهود وجشعهم وأكلهم أموال الناس بالباطل ، جعلهم محل نقمة العالم وغضبه ،

__________________

(١) تاريخ الإسرائيليين ص ٨٨.

(٢) اليهودية ص ٧٣ الدكتور أحمد شلبى.

٤٢٠