التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

ندمهم على عبادة العجل ، وتبينوا ضلالهم واضحا كأنهم أبصروه بعيونهم قالوا متحسرين (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم.

وكان هذا الندم بعد رجوع موسى إليهم من الميقات وقد أعطاه الله التوراة ، بدليل أنه لما نصحهم هارون بترك عبادة العجل قالوا (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) وبدليل أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما رجع أنكر عليهم ما هم عليه وهذا دليل على أنهم كانوا مستمرين على عبادته إلى أن رجع موسى إليهم وبصرهم بما هم عليه من ضلال مبين.

ولذلك قال ابن جرير عند تفسيره لقوله تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) (ولما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف ـ جل ثناؤه ـ صفته ، عند رجوع موسى إليهم ، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم ، وكذلك تقول العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف ، وعاجز عن شيء : قد سقط في يديه وأسقط ، لغتان فصيحتان ، وأصله من الاستئسار ، وذلك بأن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه ، فيرمى به من بين يديه إلى الأرض ليأسره ، فالمرمى به مسقوط في يدي الساقط به ، فقيل لكل عاجز عن شيء ومتندم على ما فاته : سقط في يديه وأسقط) (١) وعبر ـ سبحانه ـ عن شدة ندمهم بقوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها ، لأن فاه قد وقع فيها. وكأن أصل الكلام ولما سقطت أفواههم في أيديهم ، أى ندموا أشد الندم.

قال صاحب تاج العروس : وفي (العباب) هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن ولا عرفته العرب (والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل) ، ووقوعه على الأرض ، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام (سقط) لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه ، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب. وأثره يظهر في اليد ، كقوله تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) ولأن اليد هي الجارحة العظمى ، فربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٢). اه.

وقوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) بيان للحالة التي كان عليها موسى ـ عليه‌السلام ـ عند رجوعه من الطور ، ومشاهدته للعجل الذي عبده قومه ، فهو كان غاضبا عليهم لعبادتهم غير الله ـ تعالى ـ وحزينا لفتنتهم بعبادتهم عجلا جسدا له خوار.

قال الإمام الرازي : في الأسف قولان :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٦٢.

(٢) تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٨٥٩.

٣٨١

الأول : أن الأسف الشديد : الغضب ، وهو قول أبى الدرداء وعطاء عن ابن عباس ، واحتجوا له بقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أى : أغضبونا :

والثاني : أن الأسف هو الحزن ، وهو قول الحسن والسدى وغيرهما ، واحتجوا له بحديث عائشة أنها قالت : «إن أبا بكر رجل أسيف أى حزين».

قال الواحدي : والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن ، والحزن من الغضب ، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت. وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت ، فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنا والأخرى غضبا» (١).

وقوله (غَضْبانَ أَسِفاً) منصوبان على الحال من موسى عند من يجيز تعدد الحال. وعند من لا يجيزه يجعل أسفا حالا من الضمير المستكن في غضبان فتكون حالا متداخلة.

وقول موسى لقومه : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) ذم منه لهم ، والمعنى : بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابي عنكم إلى مناجاة ربي ، وبئس الفعل فعلكم بعد فراقي إياكم. حيث عبدتم العجل ، وأشربت قلوبكم محبته ، ولم تعيروا التفاتا لما عهدت به إليكم ، من توحيد الله ، وإخلاص العبادة ، والسير على سنتي وشريعتي.

قال الجمل : و «بئس» فعل ماض لإنشاء الذم ، وفعله مستتر تقديره هو ، و «ما» تمييز بمعنى خلافة ، وجملة خلفتموني صفة لما. والرابط محذوف ، والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم (٢).

وقوله (مِنْ بَعْدِي) معناه : من بعد ما رأيتم منى توحيد الله ، ونفى الشركاء عنه ، وإخلاص العبادة له ، أو من بعد ما كنت احمل بنى إسرائيل على التوحيد واكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه.

وقوله تعالى (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) معناه أسبقتم بعبادة العجل ما أمركم به ربكم وهو انتظاري حافظين لعهدي ، وما أوصيتكم به من التوحيد وإخلاص العبادة لله حتى آتيكم بكتاب الله ، فغيرتم وعبدتم العجل قيل : كانوا قد استبطئوا نزوله من الجبل ، فخدعهم السامري وصنع لهم العجل فعبدوه ، وجعلوا يغنون ويرقصون حوله ويقولون : هذا هو الإله الحق الذي أنقذنا من الظلم ، قال صاحب الكشاف : يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام. ويضمن معنى

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٤ ص ٣٠٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٩٣.

٣٨٢

سبق فعدى تعديته فقال : عجلت الأمر. والمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به ، فبينتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم ، فحدثتم أنفسكم بموتى فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.

وروى أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل : هذا إلهكم وإله موسى ، وأن موسى لن يرجع وأنه قد مات.

وروى أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن غضب موسى ترتب عليه أمران يدلان على شدة الانفعال : أولهما : قوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أى طرحها من يديه لما اعتراه من فرط الدهش ، وشدة الضجر ، حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل ، فإلقاؤه الألواح لم يكن إلا غضبا لله ، وحمية لدينه ، وسخطا على قومه الذين عبدوا ما يضرب به المثل في البلادة.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) حاصله أن موسى لما رأى من قومه ما رأى. غضب غضبا شديدا حمية لدينه فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا لذلك وداعيا إليه ، وليس فيه ما يتوهم منه الإهانة لكتاب الله بوجه من الوجوه. وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى ولا مر بباله ولا ظن ترتيبه على ما فعل. وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله. وقد أنكر بعض العلماء أن يكون شيء منها قد تكسر ، لأن ظاهر القرآن خلافه. نعم أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يرحم الله موسى ، ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها» (٢).

وثانيهما : قوله تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أى. أخذ موسى بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه غضبا منه ، لظنه أنه قد قصر في نصحهم وزجرهم عن عبادة العجل. ولكن هارون ـ عليه‌السلام ـ أخذ يستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة ، ليسكن من غضبه الشديد. وليكشف له عن طبيعة الموقف ، وليبرئ ساحته من مغبة التقصير ، فقال له : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). أى : قال هارون لموسى مستعطفا : يا ابن أمى ـ بهذا النداء الرقيق وبتلك الوشيجة الرحيمة ـ لا تعجل بلومي وتعنيفى ، فإنى ما آليت جهدا في الإنكار عليهم ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٦٧.

٣٨٣

وما قصرت في نصيحتهم ولكنهم لم يستمعوا إلى ، بل قهروني واستضعفوني ، وأوشكوا أن يقتلوني عند ما بذلت أقصى طاقتي لأخفف هياجهم واندفاعهم نحو العجل ، فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم ومحل شماتتهم ، من الاستهانة بي والإساءة إلى ، فإن من شأن الأخوة التي بيننا أن تكون ناصرة معينة حين يكون هناك أعداء ، ولا تجعلني في زمرة القوم الظالمين ، فإنى برىء منهم ، ولقد نصحتهم ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين.

وهنا اقتنع موسى ـ عليه‌السلام ـ ببراءة هارون من مغبة التقصير فقال :

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أى : قال موسى ليرضى أخاه ، وليظهر لأهل الشماتة رضاه عنه بعد أن ثبتت براءته : رب اغفر لي ما فرط منى من قول أو فعل فيه غلظة على أخى. واغفر له كذلك ما عسى أن يكون قد قصر فيه مما أنت أعلم به منى ، وأدخلنا في رحمتك التي وسعت كل شيء فأنت أرحم بعبادك من كل راحم.

وبهذا يكون القرآن الكريم قد برأ ساحة هارون من التقصير ، وأثبت أنه قد عرض نفسه للأذى في سبيل أن يصرف عابدى العجل عن عبادته وفي ذلك تصحيح لما جاء في التوراة (الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج) من أن هارون ـ عليه‌السلام ـ هو الذي صنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه في غيبة موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ثم أصدر القرآن الكريم حكمه الفاصل في شأن عبدة العجل فقال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).

والمعنى. إن الذين اتخذوا العجل معبودا ، واستمروا على ضلالتهم سيحيق بهم سخط شديد من ربهم ، ولا تقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ، وسيصيبهم كذلك هوان وصغار في الحياة الدنيا ، وبمثل هذا الجزاء نجازي المفترين جميعا في كل زمان ومكان ، لخروجهم عن طاعتنا ، وتجاوزهم لحدودنا ، فهو جزاء متكرر كلما تكررت الجريمة من بنى إسرائيل وغيرهم.

ثم فتح ـ سبحانه ـ بابه لكل تائب صادق في توبته فقال تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمعنى : والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعد فعلهم لها توبة صادقة نصوحا ، ورجعوا إلى الله ـ تعالى ـ معتذرين نادمين مخلصين الإيمان له ، فإن الله ـ تعالى ـ من بعد الكبائر التي أقلعوا عنها لساتر عليهم أعمالهم السيئة ، وغير فاضحهم بها ، رحيم بهم وبكل من كان مثلهم من التائبين.

٣٨٤

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة ـ بعد أن دمغت بنى إسرائيل بما يستحقونه من تقريع ووعيد ـ قد فتحت أمامهم وأمام غيرهم باب التوبة ليفيئوا إلى نور الحق ، وليتركوا ما انغمسوا فيه من ضلالات وجهالات.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله موسى بعد أن هدأ غضبه فقال :

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤)

السكوت في أصل اللغة ترك الكلام ، والتعبير القرآنى هنا يشخص الغضب كأنما هو كائن حي يدفع موسى ويحركه ، ثم تركه بعد ذلك. ففي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص آمر ، ناه. وأثبت له السكوت على طريق التخييل.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) هذا مثل. كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجر برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبل شعب البلاغة. وإلا ، فما لقراءة معاوية بن قرة «ولما سكن عن موسى الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة ، وطرفا من تلك الروعة» (١).

والمعنى : وحين سكت غضب موسى بسبب اعتذار أخيه وتوبة قومه أخذ الألواح التي كان قد ألقاها.

وظاهر الآية يفيد أن الألواح لم تتكسر ، ولم يرفع من التوراة شيء ، وأنه أخذها بعينها.

وقوله (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أى : أخذ موسى الألواح التي سبق له أن ألقاها ، وفيما نسخ في هذه الألواح أى : كتب هداية عظيمة إلى طريق الحق ، ورحمة واسعة للذين هم لربهم يرهبون. أى : يخافون أشد الخوف من خالقهم ـ عزوجل ـ.

والنسخ : الكتابة ، ونسخة هنا بمعنى منسوخة أى. مكتوبة ، والمراد وفي منسوخها ومكتوبها هدى ورحمة.

و (هُمْ) مبتدأ. ويرهبون خبره ، والجملة صلة الموصول ، واللام في (لِلَّذِينَ) متعلقة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٦٣.

٣٨٥

بمحذوف صفة لرحمة أى : كائنة لهم. أو هي لام العلة أى. هدى ورحمة لأجلهم. واللام في لربهم» لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أو هي أيضا لام العلة والمفعول محذوف ، أى : يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والتباهي.

ثم تمضى السورة في حديثها عن بنى إسرائيل فتحكى لنا قصة موسى مع السبعين الذين اختارهم من قومه فنقول :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) تتمة لشرح أحوال بنى إسرائيل وقال البعض : إنه شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها. واختار ـ من الاختيار بمعنى الانتخاب والاصطفاء ـ وهو يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه ، والمفعول الأول سبعين» (١).

أى : اختار موسى سبعين رجلا من قومه للميقات الذي وقته الله له ، ودعاهم للذهاب معه. وهؤلاء السبعون كانوا من خيرتهم أو كانوا خلاصتهم ، لأن الجملة الكريمة جعلتهم بدلا من

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٧١.

٣٨٦

القوم جميعا في الاختيار ، وكأن بنى إسرائيل على كثرتهم لا يوجد من بينهم فضلاء سوى هؤلاء السبعين.

وتختلف روايات المفسرين في سبب هذا الميقات وزمانه ، فمنهم من يرى أنه الميقات الكلامى الذي كلم الله فيه موسى تكليما فقد كان معه سبعون رجلا من شيوخ بنى إسرائيل ينتظرونه في مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة ، فلما تمت مناجاة موسى لربه طلبوا منه أن يخاطبوا الله ـ تعالى ـ وأن يكلموه كما كلمه موسى ، وأن يروه جهرة فأخذتهم الصاعقة ، وكان ذلك قبل أن يخبر الله ـ تعالى ـ موسى أن قومه قد عبدوا العجل في غيبته.

والذي نرجحه وعليه المحققون من المفسرين والسياق القرآنى يؤيده أن هذا الميقات الذي جاء في هذه الآية غير الميقات الأول ، وأنه كان بعد عبادة بنى إسرائيل للعجل في غيبة موسى ، فقد عرفنا أن الله قد أخبره بذلك عند ذهابه إليه لتلقى التوراة ، فرجع موسى إليهم مسرعا ووبخهم على صنيعهم وأحرق العجل ، وأمره الله ـ تعالى ـ بعد ذلك أن يأتيه مع جماعة من بنى إسرائيل ليتوبوا إليه من عبادة العجل فاختار موسى هؤلاء السبعين ، وهناك روايات ترجح ذلك منها ما جاء عن محمد بن إسحاق قال : إن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عيادة العجل ، وقال لأخيه والسامري ما قال وحرق العجل وذراه في اليم ، اختار من بنى إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، فصوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون ـ فيما ذكر لي ـ حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه يا موسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال : أفعل. فلما دنا موسى من الجيل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه. ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه ، افعل ولا تفعل ، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) قد سفهوا ، أتهلك من ورائي من بنى إسرائيل» (١).

وهكذا نرى أن هؤلاء السبعين المختارين من بنى إسرائيل قد طلبوا من نبيهم موسى ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٤٩.

٣٨٧

عليه‌السلام ـ ما لا يصح لهم أن يطلبوه فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك ، أو بسبب أنهم عند ما عبد بنو إسرائيل العجل في غيبة موسى لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف.

وقوله : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أى : فلما أخذت هؤلاء السبعين المختارين الرجفة قال موسى يا رب إننى أتمنى لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معى إلى هذا المكان وأن تهلكني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بنى إسرائيل ، لأنهم سيقولون لي : قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم.

ويرى بعض المفسرين أن هذه الرجفة التي أخذتهم وصعقوا منها أدت إلى موتهم جميعا ثم أحياهم الله ـ تعالى ـ بعد ذلك ، ويرى آخرون أنهم غشى عليهم ثم أفاقوا.

وقد قال موسى هذا القول لاستجلاب العفو من ربه عن هذه الجريمة التي اقترفها قومه. بعد أن من عليهم ـ سبحانه ـ بالنعم السابقة الوافرة ، وأنقذهم من فرعون وقومه. فكأنه يقول : يا رب لقد رحمتهم من ذنوب كثيرة ارتكبوها فيما سبق فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك.

ومفعول المشيئة محذوف ، أى : لو شئت إهلاكهم لأهلكتهم.

وقوله (وَإِيَّايَ) معطوف على الضمير في (أَهْلَكْتَهُمْ) ، وقد قال موسى ذلك تسليما منه لأمر الله وقضائه وإن كان لم يسبق منه ما يوجب هلاكه ، بل الذي سبق منه إنما هو الطاعة الكاملة لله رب العالمين.

والاستفهام في قوله (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) للاستعطاف الذي بمعنى النفي أى : ألجأ إليك يا مولانا ألا تهلكنا بذنب غيرنا فلئن كان هؤلاء السفهاء قد خرجوا عن طاعتك ، وانتهكوا حرماتك. فنحن يا رب مطيعون لك وخاضعون لأمرك.

قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) استئناف مقرر لما قبله ، و (إِنْ) نافية. والفتنة : الابتلاء والاختبار ، والباء في (بِها) للسببية أى : ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك لعبادك ، فأنت الذي ابتليتهم واختبرتهم ، فالأمر كله لك وبيدك. لا يكشفه إلا أنت. كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك. ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.

وقوله (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أى : أنت القائم بأمورنا كلها لا أحد غيرك ، فاغفر لنا ما فرط منا ، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء ، وأنت خير الغافرين إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفسانى ، كحب الثناء ، واجتلاب المنافع ، أما أنت ـ با إلهنا ـ فمغفرتك لا لطلب عوض أو غرض وإثما هي لمحض الفضل والكرم.

٣٨٨

ثم أضاف موسى إلى هذه الدعوات الطيبات دعوات أخرى فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أى : وأثبت لنا في هذه الدنيا ما يحسن من نعمة وطاعة وعافية وتوفيق ، وأثبتت لنا في الآخرة ـ أيضا ـ ما يحسن من مغفرة ورحمة وجنة عرضها السموات والأرض.

وقوله (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) استئناف مسوق لتعليل الدعاء فإن التوبة الصادقة تجعل الدعاء جديرا بالإجابة ، أى : لأنا تبنا إليك من المعاصي التي جئناك للاعتذار منها. فاكتب لنا الحسنات في الدارين ، ولا تحرمنا من عطائك الجزيل.

وهدنا : بمعنى تبنا. يقال : هاد يهود إذا رجع وتاب.

وصدرت الجملة الكريمة ب «إن» المفيدة للتحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها. وقوله : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الجواب ، كأنه قيل : فماذا قال الله ـ تعالى ـ عند دعاء موسى ، فكان الجواب : قال عذابي ... إلخ.

ثم قال الله ـ تعالى ـ لموسى ردا على دعائه : يا موسى إن عذابي الذي تخشى أن يصيب قومك أصيب به من أشاء تعذيبه من العصاة ، فلا يتعين ان يكون قومك محلا له بعد توبتهم ، فقد اقتضت حكمتى ان أجازي الذين أساءوا بما عملوا وأجازي الذين أحسنوا بالحسنى.

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فلا تضيق عن قومك ، ولا عن غيرهم من خلقي ممن هم أهل لها.

وقد استفاضت الآيات والأحاديث التي تصرح بأن رحمة الله ـ تعالى ـ قد وسعت كل شيء ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لله عزوجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة.

ثم بين ـ سبحانه ـ من هم أهل لرحمته فقال : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ).

أى : فسأكتب رحمتي للذين يصونون أنفسهم عن كل ما يغضب الله ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم.

وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى. لأن إيتاءها كان شاقا على نفوسهم لحرصهم الشديد على المال.

ولعل الصلاة لم تذكر مع أنها مقدمة على سائر العبادات. اكتفاء عنها بالاتقاء الذي هو عبارة

٣٨٩

عن فعل الواجبات بأسرها. وترك المنهيات عن آخرها.

وسأكتبها كذلك للذين هم بآياتنا يؤمنون إيمانا تاما خالصا لا رياء فيه. ولا نقص معه.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ صفات أخرى لمن هم أهل لرحمته ورضوانه.

وهذه الصفات تنطبق كل الانطباق على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أمر بنو إسرائيل وغيرهم باتباعه فقال تعالى :

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨)

قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) في محل جر على أنه نعت لقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أو بدل منه. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى : هم الذين يتبعون ... إلخ.

وقد وصف الله ـ تعالى ـ رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوصاف كريمة تدعو العاقل المنصف إلى اتباعه والإيمان به.

٣٩٠

الوصف الأول : أنه رسول الله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا.

الوصف الثاني : أنه نبي أوحى الله إليه بشريعة عامة كاملة باقية إلى يوم الدين.

الوصف الثالث : أنه أمى ما قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم ولا أخذ علمه عن أحد ولكن الله ـ تعالى ـ أوحى إليه بالقرآن الكريم عن طريق جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، وأفاض عليه من لدنه علوما نافعة ومبادئ توضح ما أنزله عليه من القرآن الكريم ، فسبق بذلك الفلاسفة والمشرعين والمؤرخين وأرباب العلوم الكونية والطبيعية ، فأميته مع هذه العلوم التي يصلح عليها أمر الدنيا والآخرة ، أوضح دليل على أن ما يقوله إنما هو بوحي من الله إليه.

قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (١).

وقال ـ سبحانه ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢).

الصفة الرابعة : أشار إليها بقوله (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) أى هذا الرسول النبي الأمى من صفاته أن أهل الكتاب يجدون اسمه ونعته مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ووجود اسمه ونعته في كتبهم من أكبر الدواعي إلى الإيمان به وتصديقه واتباعه ولقد كان اليهود يبشرون ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل زمانه ويقرءون في كتبهم ما يدل على ذلك ، فلما بعث الله ـ تعالى ـ نبيه بالهدى ودين الحق آمن منهم الذين فتحوا قلوبهم للحق ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى ، وأما الذين استنكفوا واستكبروا ، وحسدوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله فقد أخذوا يحذفون من كتبهم ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، «أو يؤولونه تأويلا فاسدا أو يكتمونه عن عامتهم.

ورغم حرصهم على حذف ما جاء عن الرسول في كتبهم أو تأويلهم السقيم له ، أو كتمانه عن الأميين منهم. أبى الله ـ تعالى ـ إلا أن يتم نوره ، إذ بقي في التوراة والإنجيل ما بشر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرح بنعوته وصفاته ، بل وباسمه صريحا.

وقد تحدث العلماء الإثبات عن بشارات الأنبياء بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمعوا عشرات النصوص التي ذكرت نعوته وصفاته ، وها نحن نذكر طرفا مما قاله العلماء في هذا الشأن.

__________________

(١) سورة الشورى آية ٥٢.

(٢) سورة العنكبوت آية ٤٨.

٣٩١

قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة) : (وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء ، بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما هو حجة على أممهم ، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم ، بما أطلعه الله ـ تعالى ـ على غيبه ، ليكون عونا للرسل ، وحثا على القبول ، فمنهم من عينه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره ، وقد حقق الله ـ تعالى ـ هذه الصفات جميعها فيه ، حتى صار جليا بعد الاحتمال ، ويقينا بعد الارتياب) (١).

وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) : (إن نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد بشر به الأنبياء السابقون ، وشهدوا بصدق نبوته ، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال ، حيث صرحوا باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته ، ومع أن أهل الكتاب حذفوا اسمه من نسخهم الأخيرة إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا ، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى ، إذ قد يشترك اثنان في اسم ، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف. لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات ليبعد صدقها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع اختلافا لا يخفى على اللبيب أمره ، ولا ما قصد به. ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم. لانتشار النسخ بالطبع وتيسير المقابلة بينها» (٢).

وقال المرحوم الشيخ (رحمة الله الهندي) في كتابه (إظهار الحق) (إن الأخبار الواقعة في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم توجد كثيرة إلى الآن ـ أيضا ـ مع وقوع التحريفات في هذه الكتب. ومن عرف أولا طريق أخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر. ثم نظر ثانيا بنظر الإنصاف إلى هذه الاخبارات وقابلها بالأخبارات التي نقلها الانجيليون في حق عيسى ـ عليه‌السلام ـ جزم بأن الاخبارات المحمدية في غاية القوة) (٣).

وقد جمع صاحب كتاب (إظهار الحق) وغيره من العلماء والمؤرخين كثيرا من البشائر التي وردت في التوراة والإنجيل خاصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبينة نعوته وصفاته.

ومن أجمع ما جاء في التوراة خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنهما ـ قال : (قرأت في التوراة صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (محمد رسول الله : عبدى ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة

__________________

(١) الباب الخامس عشر : فصل (بشائر الأنبياء بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٢) نقلا عن تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٨٧٤.

(٣) كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله الهندي.

٣٩٢

السيئة ، بل يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله) (١).

كذلك مما يشهد بوجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، ما أخرجه الإمام أحمد عن أبى صخر العقيلي قال : (حدثني رجل من الأعراب فقال : جلبت حلوبة (٢). إلى المدينة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال : فتلقاني بين أبى بكر وعمر يمشيان ، فتبعتهم حتى إذا أتوا على رجل من اليهود وقد نشر التوراة يقرؤها يعزى بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي) فقال برأسه هكذا ، أى : لا ، فقال ابنه : أى والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه.

هذا ، ومن أراد مزيد معرفة بتلك المسألة فليراجع ما كتبه العلماء في ذلك (٣).

ثم وصف الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة خامسة فقال تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أى هذا الرسول النبي الأمى الذي يجده أهل الكتاب مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل من صفاته كذلك أنه يأمرهم بالمعروف الذي يتناول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما يتناول مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وغير ذلك من الأمور التي جاء بها الشرع الحنيف. وارتاحت لها العقول السليمة ، والقلوب الطاهرة وينهاهم عن المنكر الذي يتناول الكفر والمعاصي ومساوئ الأخلاق.

ثم وصف الله ـ تعالى ـ رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة سادسة فقال تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أى : يحل لهم ما حرمه الله عليهم من الطيبات كالشحوم وغيرها بسبب ظلمهم وفسوقهم عقوبة لهم ، ويحل لهم كذلك ما كانوا قد حرموه على أنفسهم دون أن يأذن به الله كلحوم الإبل وألبانها ، ويحرم عليهم ما هو خبيث كالدم ولحم الميتة والخنزير في المأكولات ، وكأخذ الربا وأكل أموال الناس بالباطل في المعاملات وفي ذلك سعادتهم وفلاحهم.

ثم وصف الله تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة سابعة فقال تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ).

الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه. أى بحبسه عن الحركة لثقله ، ويطلق على العهد كما في

__________________

(١) صحيح البخاري. باب «كراهة الصخب في الأسواق» من «كتاب البيوع» ج ٣ ص ٨٣.

(٢) الحلوية : الشاة ذات اللبن وهي للواحد وللجمع.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٥١.

٣٩٣

قوله تعالى : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أى عهدي.

قال القرطبي : «وقد جمعت هذه الآية المعنيين ، فإن بنى إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، كغسل البول ، وتحليل الغنائم ، ومجالسة الحائض ، ومؤاكلتها ومضاجعتها. فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها وإذا حاضت المرأة لم يقربوها. إلى غير ذلك مما ثبت في الصحيح وغيره» (١).

والأغلال : جمع غل. وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد. والتعبير بوضع الإصر والأغلال عنهم استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة والتكاليف الشديدة كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة. فقد شبه ـ سبحانه ـ ما أخذ به بنو إسرائيل من الشدة في العبادات والمعاملات والمأكولات جزاء ظلمهم بحال من يحمل أثقالا يئن من حملها وهو فوق ذلك مقيد بالسلاسل ؛ والأغلال في عنقه ويديه ورجليه.

والمعنى : إن من صفات هذا الرسول النبي الأمى أنه جاءهم ليرفع عنهم ما ثقل عليهم من تكاليف كلفهم الله بها بسبب ظلمهم. لأنه ـ عليه الصلاة والسلام جاء بالتبشير والتخفيف. وبعث بالحنيفية السمحة. ومن وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا».

قال الإمام ابن كثير : «وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم. فوسع الله على هذه الأمة أمورها. وسهلها لهم. ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسهم ما لم تقل أو تعمل». وقال : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولهذا قال : أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه : قد فعلت قد فعلت» (٢).

إذا ، فمن الواجب على بنى إسرائيل أن يتبعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هذه صفاته ، والذي في اتباعه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم ، ولهذا ختم الله ـ تعالى ـ الآية الكريمة ببيان حالة المصدقين لنبيه فقال تعالى :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

أى : فالذين آمنوا بهذا الرسول النبي الأمى من بنى إسرائيل وغيرهم وعزروه ، بأن منعوه

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٠٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٥٤.

٣٩٤

وحموه من كل من يعاديه ، مع التعظيم والتوقير له ونصروه بكل وسائل النصر (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) وهو القرآن والوحى الذي جاء به ودعا إليه الناس ، (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أى الفائزون الظافرون برحمة الله ورضوانه.

وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحسن الصفات وأكرم المناقب ، وأقامت الحجة على أهل الكتاب بما يجدونه في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بأنه ما جاء إلا لهدايتهم وسعادتهم ، وأنهم إن آمنوا به وصدقوه ، كانوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).

ثم أمر الله رسوله أن يبين للناس أنه مرسل إلى الناس كافة ، فقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أى : قل يا محمد لكافة البشر من عرب وعجم ، إنى رسول الله إليكم جميعا ، لا فرق بين نصراني أو يهودي ، وإنما رسالتي إلى الناس عامة ، وقد جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية ما يؤيد عموم رسالته.

أما في القرآن الكريم ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).

وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

أى وأنذر من بلغه القرآن ممن سيوجد إلى يوم القيامة من سائر الأمم وفي ذلك دلالة على عموم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أن أحكام القرآن تعم الثقلين إلى يوم الدين.

وأما في السنة فمن ذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة» (١).

وفي صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» (٢).

قال الإمام ابن كثير : والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه رسول إلى الناس كلهم (٣) ه.

__________________

(١) صحيح البخاري (باب التيمم) ج ١ ص ٧٧.

(٢) صحيح مسلم (كتاب المساجد).

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٥٥.

٣٩٥

ثم وصف الله تعالى ذاته بما هو أهل له من صفات القدرة والوحدانية فقال تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أى : قل ـ يا محمد ـ للناس إنى رسول إليكم من الله الذي له التصرف في السموات والأرض ، والذي لا معبود بحق سواه والذي بيده الأحياء والإماتة ، ومن كان هذا شأنه فمن الواجب أن يطاع أمره ، وأن يترك ما نهى عنه ، وأن يصدق رسوله. ثم بنى ـ سبحانه ـ على هذه النعوت الجليلة التي وصف بها نفسه الدعوة إلى الإيمان فقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أى : فآمنوا أيها الناس جمعا بالله الواحد الأحد وآمنوا ـ أيضا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي الأمى الذي يؤمن بالله ، وبما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه واسلكوا سبيله ، واقتفوا آثاره ، في كل ما يأمر به أو ينهى عنه رجاء أن تهتدوا إلى الصراط المستقيم.

وفي وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمية مرة ثانية ، إشارة إلى كمال علمه ، لأنه مع عدم مطالعته للكتاب ، أو مصاحبته لمعلم. فتح الله له أبواب العلم ، وعلمه ما لم يكن يعلم من سائر العلوم التي تعلمها الناس عنه ، وصاروا بها أئمة العلماء وقادة المفكرين ، فأكرم بها من أمية تضاءل بجانبها علم العلماء في كل زمان ومكان.

وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد وصفتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأشرف الصفات وأقامتا أوضح الحجج وأقواها على صدقه في نبوته ، ودعتا اليهود بل الناس جميعا إلى الإيمان به لأنه قد بشرت به الكتب السماوية السابقة ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاءهم إلا بالخير ، وما نهاهم إلا عن الشر. ولأن شريعته تمتاز باليسر والسماحة ، ولأن أنصاره وأتباعه هم المفلحون ، ولأن رسالته عامة للجن والانس ، ومن كانت هذه صفاته ، وتلك شريعته ، جدير أن يتبع ، وقمين أن يصدق ويطاع ، وما يعرض عن دعوته إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا.

ثم بين القرآن الكريم أن قوم موسى لم يكونوا جميعا ضالين. وإنما كان فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال ـ تعالى ـ :

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩)

أى : ومن قوم موسى جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله ، وبالحق ـ أيضا ـ يسيرون في أحكامهم فلا يجورون ، ولا يرتشون ، وإنما يعدلون في كل شئونهم.

والمراد بهم أناس كانوا على خير وصلاح في عهد موسى ـ عليه‌السلام ، مخالفين لأولئك السفهاء من قومه.

٣٩٦

وقيل المراد بهم من آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند بعثته.

وهذا لون من ألوان عدالة القرآن في أحكامه ، وإنصافه لمن يستحق الإنصاف من الناس. إنه لا يسوق أحكامه معممة بحيث يندرج تحتها الصالح والطالح بدون تمييز ، كلا وإنما القرآن يسوق أحكامه بإنصاف واحتراس ، فهو يحكم للصالحين بما يستحقون ، وتلك هي العدالة التي ما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى السير على طريقها ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ :

(لَيْسُوا سَواءً. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

وقوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

وقوله (بِالْحَقِ) الباء للملابسة ، وهي مع مدخولها في محل الحال من الواو في يهدون. أى : يهدون الناس حال كونهم ملتبسين بالحق.

ثم ذكر القرآن بعض النعم التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل ، وكيف وقفوا من هذه النعم موقف الجاحد الكنود فقال ـ تعالى :

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)

٣٩٧

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢)

قوله (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أى : فرقنا قوم موسى وصيرناهم اثنتي عشرة أمة تتميز كل أمة عن الأخرى.

والأسباط في بنى إسرائيل كالقبائل في العرب. والسبط : ولد الولد فهو كالحفيد. وقد يطلق السبط على الولد.

وكان بنو إسرائيل اثنتي عشرة قبيلة من اثنى عشر ولدا هم أولاد يعقوب ـ عليه‌السلام ـ قالوا : والظاهر أن قطعناهم متعد لواحد لأنه لم يضمن معنى ما يتعدى لاثنين ، فعلى هذا يكون اثنتي عشرة حالا من مفعول (قَطَّعْناهُمُ) وهو ضمير الغائبين «هم».

ويرى الزمخشري وغيره أن «قطعناهم» بمعنى صيرناهم وأن (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان ، وتمييز اثنتي محذوف لفهم المعنى والتقدير وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة.

و (أَسْباطاً) بدل من ذلك التمييز ، و (أُمَماً) بدل بعد بدل من اثنتي عشرة.

والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها من أخبار بنى إسرائيل ، لمشاركتها لها في كل ما يقصد به من العظات والعبر.

وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً).

الاستسقاء : طلب السقيا عند عدم الماء أو حبس المطر. وذلك عن طريق الدعاء لله ـ تعالى ـ في خشوع واستكانة ، وقد سأل موسى ـ عليه‌السلام ـ ربه أن يسقى بنى إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش بعد ما كانوا في التيه.

فعن ابن عباس أنه قال : كان ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها» (١).

وقيل : كان الاستسقاء في البرية ولكن الآثار التي تدل على أنه كان في التيه أصح وأكثر.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠٠.

٣٩٨

والمعنى : وأوحينا إلى موسى حين طلب منه قومه الماء أن اضرب بعصاك الحجر فضربه فخرج منه الماء من اثنتي عشرة عينا ليروا بأعينهم مظاهر قدرتنا ، وليشاهدوا دليلا من الأدلة المتعددة التي تؤيد موسى في أنه صادق فيما يبلغه عن ربه ـ عزوجل.

وقوله (إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) يفيد أن الذي سأل ربه السقيا هو موسى وحده ، لتظهر كرامته لدى ربه عند قومه ، وليشاهدوا بأعينهم كيف أن الله ـ تعالى ـ قد أكرمه حيث أجاب دعاءه ففجر لهم الماء من الحجر.

وال في (الْحَجَرَ) لتعريف الجنس ، أى : اضرب أى حجر شئت بدون تعيين ، وقيل للعهد ، ويكون المراد حجرا معينا معروفا لموسى ـ عليه‌السلام ـ بوحي من الله ـ تعالى ـ وقد أورد بعض المفسرين في ذلك آثارا حكم عليها المحققون من العلماء بالضعف ، ولذا لم نعتد بها.

والذي نرجحه أن «أل» هنا لتعريف الجنس ، لأن انفجار الماء من أى حجر بعد ضربه أظهر في إقامة البرهان على صدق موسى ـ عليه‌السلام ـ وأدعى لإيمان بنى إسرائيل وانصياعهم للحق بعد وضوحه ، وأبعد عن التشكيك في إكرام الله لنبيه موسى ، إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين لأمكن أن يقولوا إن انفجار الماء منه لمعنى خاص بهذا الحجر ، وليس لكرامة موسى عند ربه ـ عزوجل ـ.

والفاء في قوله (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) معطوفة على محذوف والتقدير : فضرب فانبجست ..

قال بعضهم : والانبجاس والانفجار واحد. يقال بجست الماء أبجسه فانبجس ، بمعنى فجرته فانفجر.

وقيل : إن الانبجاس خروج الماء من مكان ضيق بقلة ، والانفجار خروجه بكثرة.

ولا تنافى بين قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة (فَانْفَجَرَتْ) وبين قوله هنا (فَانْبَجَسَتْ) لأنه انبجس أولا ثم انفجر ثانيا. وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.

وكانت العيون اثنتي عشرة عينا بحسب عدد أسباط بنى إسرائيل إتماما للنعمة عليهم حتى لا يقع بينهم تنازع أو تشاجر.

وقوله (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عينا. أى : قد عرف كل سبط من أسباط بنى إسرائيل مكان شربه فلا يتعداه إلى غيره ، وفي ذلك ما فيه من استقرار أمورهم ، واطمئنان نفوسهم ، وعدم تعدى بعضهم على بعض.

٣٩٩

ثم ذكر ـ سبحانه ـ نعما أخرى مما أنعم به عليهم فقال : (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ).

الغمام : جمع غمامة وهي السحابة : وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض.

أى : وسخرنا لبنى إسرائيل الغمام بحيث يلقى عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس.

وقوله (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) معطوف على ما قبله.

والمن : اسم جنس لا واحد له من لفظه ، وهو ـ على أرجح الأقوال ـ مادة صمغية تسقط من الشجر تشبه حلاوته حلاوة العسل.

والسلوى : اسم جنس جمعى واحدته سلواة ، وهو طائر برى لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسمانى ، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضا بدون تعب.

وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله ـ تعالى ـ : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ).

أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل والسلوى وهو طائر يشبه السمانى فكان يأتى أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ، فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فشرب كل سبط من عين. فقالوا : هذا الشراب فأين الظل! فظلل الله عليهم بالغمام فقالوا : هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم ثوب فذلك قوله ـ تعالى ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) (١).

وقوله (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أى : وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم ، واشكروا ربكم على هذه النعم لكي يزيدكم منها.

وقوله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) معطوف على محذوف أى : فعصوا أمر ربهم وكفروا بهذه لنعم الجليلة وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ويرى البعض أنه لا حاجة إلى هذا التقدير ، وأن جملة (وَما ظَلَمُونا) معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بنى إسرائيل.

والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة «كانوا» والفعل المضارع «يظلمون» يدل على أن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩٧.

٤٠٠