التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

ثم انتقلت السورة بعد ذلك ـ في الربع التاسع منها ـ إلى الحديث عن الطيبات التي أحلها الله لعباده في مأكلهم ومشربهم ، فذكرت ألوانا من النعم التي خلقها الله وأنشأها لعباده ، فقد أنشأ ـ سبحانه ـ الجنات المعروشات أى المرفوعات على ما يحملها كالأعناب وما يشبهها ، وأنشأ الجنات غير المعروشات كالبرتقال وغيره ، كما أنشأ الزروع والأشجار المختلفة الأنواع والثمار. وذلك كله لكي يقبل الناس على عبادة خالقهم ، ويشكروه على نعمه التي لا تحصى.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

ثم أخذت السورة تناقش المشركين فيما أحلوه وحرموه من الأنعام بأسلوب منطقي رصين ، يقيم عليهم الحجة ، ويكشف عن سخافة تفكيرهم وتفاهة عقولهم ، واتباعهم خطوات الشيطان في تحريم بعضها وتحليل البعض الآخر ، فهذه الأنعام ثمانية أزواج ، من الضأن اثنان ، ومن المعز اثنان ، ومن الإبل اثنان ، ومن البقر اثنان ، فلما ذا حرم المشركون على أنفسهم بعضها دون بعض؟ إن كان التحريم للأنوثه فعليهم أن يحرموا جميع الإناث ، وإن كان للذكورة فعليهم أن يحرموها ، إذا فتحريمهم لبعض الذكور دون بعض يدل على ضلال في التفكير ، وجهالة في الأحكام ، وافتراء على الله بغير علم.

استمع إلى القرآن وهو يحكى أوهامهم ثم يرد عليها بما يدمغها فيقول :

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ثم صرحت السورة الكريمة أن ما حرمه الله على اليهود من المطاعم كان بسبب بغيهم ، وقساوة قلوبهم ، وأنهم وأمثالهم ـ الذين يتنصلون من تبعة الضلال ويحيلونها على مشيئة الله ـ كاذبون فيما يزعمون ، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون ، وإلا فأين دليلهم على هذا التنصل؟ وأين حجتهم على أن الله قد حرم هذا وأحل هذا؟

لقد حكى القرآن مزاعمهم ثم فندها بالبراهين الدامغة ، والحجة البالغة فقال :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* فَإِنْ كَذَّبُوكَ* فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ* سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ

٢١

ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

فإذا ما انتهينا إلى الربع العاشر ـ والأخير ـ من سورة الأنعام رأيناها تخاطب أولئك الذين أحلوا لأنفسهم ما حرمه الله وحرموا عليها ما لم يأذن به فتقول لهم ولغيرهم «تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» ثم تسوق عشر وصايا رسمت للإنسان طريق علاقته بربه ، ووضعت الأساس المكين الذي يبنى عليه صرح الأسرة الفاضلة التي منها تتكون الأمة القوية الناجحة في الحياة ، وأوصدت منافذ الشرور والآثام التي تصيب المسلم في نفسه أو ماله أو عرضه ثم ذكرت أهم المبادئ التي تسمو بالمحافظة عليها الحياة الاجتماعية الكريمة ، وختمت هذه الوصايا ببيان أنها هي الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان أن يتبع هداه حتى لا يزل أو يضل.

استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه الوصايا الحكيمة فيقول :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وبعد أن ساقت السورة الكريمة هذه الوصايا الحكيمة اتجهت في ختامها إلى دعوة الناس للعمل بكتاب الله الذي أنزله ليكون هداية ورحمة لهم ، وأنذرت الذين يعرضون عن هديه الحكيم بسوء العذاب ، وحثت كل عاقل على المبادرة إلى الإيمان بالله من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه الإيمان ، ولا تنفع فيه الأعمال ، لأنه يوم جزاء وحساب ، وأمرت في ختامها كل مسلم بأن يخلص عمله لله ، وأن يحمده على هدايته إياه إلى طريق الحق والرشاد ، وبينت منزلة الإنسان في هذا الوجود وحضته على أن يكون بقوله وعمله أهلا لهذه المنزلة السامية حتى ينال رضا الله.

وقد ساقت السورة في ختامها كل هذه المعاني بأسلوب ساحر يخلب الألباب ، ويرقق

٢٢

القلوب ، ويصفى النفوس ، ويشيع في وجدان المؤمن الأنس والبهجة والخوف والرجاء.

قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

هذه هي أهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة الأنعام ، ومنها نستخلص أن الأغراض الرئيسية التي استهدفتها السورة الكريمة تتركز فيما يلي :

(أ) إقامة الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، وأنه سبحانه ـ هو المستحق للعبادة والخضوع ، وأن شريعته وحدها هي التي يجب أن تكون مرجعنا في كل ما يتعلق بعبادتنا ومعاملاتنا وسائر شئوننا.

(ب) إقامة الأدلة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، مع بيان وظيفته وتسليته عما يلاقيه من أعدائه.

(ج) إقامة الأدلة على أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الناس سيحاسبون فيه على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(د) تفنيد الشبهات التي أثارها المشركون حول هذه الأمور الثلاثة السابقة بأسلوب يقنع العقول ، ويهدى القلوب ، ويرضى العواطف ، ويحمل العقلاء على المسارعة إلى الدخول في هذا الدين عن طواعية واختيار.

٧ ـ من فضائل سورة الأنعام ومزاياها :

تكاثرت الروايات في بيان فضائل سورة الأنعام وأنها قد نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة ، كما تكلم العلماء عن المميزات التي تميزت بها هذه السورة في عرضها للحقائق التي اشتملت عليها.

وفي ذلك يقول الإمام الرازي : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة.

أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة.

والثاني : أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة ، والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل

٢٣

التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين» (١).

ويقول الإمام القرطبي : (هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضى إنزالها جملة واحدة ، لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين (٢) ..).

ويقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت :

ويجدر بنا أن نلفت النظر إلى أن سورة الأنعام قد عرضت ما عرضت في أسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بتلك الكثرة في غيرها من السور :

أما الأسلوب الأول فهو أسلوب التقرير ، فهي تورد الأدلة المتعلقة بتوحيد الله وتفرده بالملك والتصرف ، والقدرة والقهر ، في صورة الشأن المسلم الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل ، وتضع لذلك ضمائر الغائب عن الحس الحاضر في القلب ، وتجرى عليه أفعاله وآثار قدرته ونعمته البارزة للعيان ، والتي لا يمارى قلب سليم في أنه مصدرها ومفيضها وصاحب الشأن فيها :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ).

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) .. ألخ هذا هو أحد الأسلوبين.

أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب تلقين الحجة ، والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تأخذ عليه سمعه ، وتملك عليه قلبه ، وتحيط به من جميع جوانبه فلا يستطيع التفلت منها ، ولا يجد بدا من الاستسلام لها.

ففي حجج التوحيد والقدرة يقول : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٢ المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٨٢. طبعة دار الكاتب العربي سنة ١٩٦٧ م.

٢٤

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).

وفي حجج الوحى وبيان مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الرسالة لا تنافى البشرية وفي إيمان الرسول بدعوته واعتماده فيها على الله ، وعدم اكتراثه بهم ، أو انتظار الأجر منهم يقول.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ).

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وفي وعيدهم على التكذيب يقول : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

هذان الأسلوبان : (هو كذا) و (قل كذا) قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة من الحجج وقضايا التبليغ ، وهما وإن جاءا في غيرها من سور القرآن إلا أنهما وخاصة الأسلوب الثاني وهو أسلوب (قل كذا) لم يوجد في غيرها بهذه الكثرة التي نراها في هذه السورة ، وهما بعد ذلك : أسلوبان من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين وإسرافهم في المعارضة ، وأنهم بحالة تستوجب تلك الشدة التي تستخرج الحق من نفوسهم ..

ويدل الأسلوبان من جهة أخرى على أنهما صدرا في موقف واحد ، وفي مقصد واحد ، لخصم واحد بلغ من الشدة والعتو مبلغا استدعى من القوى القاهر تزويد المهاجم بعدة قوية تتضافر أسلحتها في حملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء فتزلزل عمده ، وتهد من بنيانه فيخضع للتسليم بالحق الذي يدعى إليه.

ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ، ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر حقائقها ، وتفند شبه المعارضين لها ، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل ـ مع طولها وتنوع آياتها ـ جملة واحدة وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء ا ه (١).

وبعد : فهذا تمهيد بين يدي تفسير سورة الأنعام ، تعرضنا خلاله لبيان مكان نزولها ، ولبيان الفترة الزمنية التي نزلت فيها ، ولطبيعة هذه الفترة ، ولسبب تسميتها بهذا الاسم ، ولمناسبتها للسور التي قبلها ، وللأهداف الإجمالية التي اشتملت عليها ، ولجانب من فضائلها ومزاياها.

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ص ٣٩٨ طبعة دار القلم.

٢٥

ولعلنا بذلك ـ أيها القارئ الكريم ـ نكون قد قدمنا لك فكرة مجملة عن هذه السورة الكريمة تعينك على تفهم أسرارها ، ومقاصدها ، وتوجيهاتها ، عند تفسيرنا لآياتها بشيء من التفصيل والتحليل. والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول والعمل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢٦

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين ، وهي أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل هو رب العالمين.

والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.

وأل في (الْحَمْدُ) للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى ، وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شيء ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه.

وقد بين بعض المفسرين الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال : «اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد ، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل

٢٧

ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر. إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة. وإنما لم يقل الشكر لله ، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه ـ تعالى أوصل النعمة إليه ، فيكون الإخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت» (١).

هذا وفي القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت في الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده ، ولكن كان لكل سورة منهج خاص في بيان أسباب ذلك الحمد.

أما السورة الأولى فهي سورة الفاتحة التي تقول في مطلعها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أى : أن الحمد لله وحده ، الذي ربي هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير ، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوى التفكير والإدراك ، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التي أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين ، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية ، عن طريق الإيجاد والتصوير ، كما تنتظم التربية التشريعية التي أساسها الأحكام التي أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله.

وتجيء بعد سورة الفاتحة في الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضا استحقاق الحمد لله وحده ، لأنه «خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فهي تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية ، وهو التربية الخلقية التي أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقي.

ثم تجيء بعدهما سورة «الكهف» فتثبت أن الحمد لله ، لأنه (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التي تهذب الروح ، وتهدى الفكر.

والسورة الرابعة التي افتتحت بإثبات أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي سورة سبأ ، لأنه ـ سبحانه ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، ثم تراها بعد ذلك

__________________

(١) تفسير مفاتيح الغيب ج ٤ ص ٣ للفخر الرازي المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍.

٢٨

زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التي تنجلي في إرساء مظاهر علم الله الشامل ، وملكه المطلق ، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التي تجعله أهلا لكل حمد وثناء.

أما السورة الخامسة فهي سورة فاطر ، فقد أثبتت في مطلعها أن الحمد لله ، لأنه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ، أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهي تذكر خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر. كما تذكر أنواع الناس في الانتفاع بوحي الله ، وبهدى أنبيائه ورسله.

وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت في أنها افتتحت بجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ*) وفي قصر الحمد والثناء عليه وحده. إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا في تقرير هذه الحقيقة ، وفي إقامة الأدلة على صدقها.

وقد أحسن القرطبي عند ما قال : «فإن قيل : قد افتتح غيرها ـ أى سورة الأنعام ـ بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال : لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه ، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة ، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون» (١).

ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التي تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله ـ تعالى ـ فقال :

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

والمعنى : الحمد كله لله الذي أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية ، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة ، وظاهرة وخافية ، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات. فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله ـ تعالى ـ تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله ـ عزوجل ـ وهما خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور.

وعبر ـ سبحانه ـ في جانب السموات والأرض بخلق ، وفي جانب الظلمات والنور يجعل ، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإيجاد الابتدائى من العدم ، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو من أشياء ، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض ، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض ، وهذه التقلبات الكونية هي بتقدير الله العزيز العليم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٨٤ طبعة دار الكاتب العربي سنة ١٩٦٧ م.

٢٩

قال صاحب الكشاف : «والفرق بين الخلق والجعل. أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار» (١).

وقال الفخر الرازي : «وإنما حسن لفظ الجعل هنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر» (٢).

وقال أبو السعود : «والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك ـ أى الخلق ـ مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة والتشريعي أيضا كما في قوله ـ تعالى ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) (٣).

وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها في كثير من المواضع القرآنية تفرد ـ أى الأرض ـ وتجمع السماء كما هنا ، لعظم السماء. ولإحاطتها بالأرض ، ولأنه لم يعرف أن الله ـ تعالى ـ قد عصى فيها ، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض ، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة.

والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية ، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان ، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده ـ سبحانه ـ بخلق هذه الأشياء.

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات ، ظلمات الشرك والكفر والنفاق ، وأن المراد بالنور ، نور الإيمان والإسلام واليقين ، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.

قال صاحب المنار : قال الواحدي : والأولى حمل اللفظين عليهما ، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والمختار عندنا جوازه ، وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا ، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر ـ أى الشرع ـ كما تقدم ، فيفسر جعل كل نور بما يليق به(٤).

__________________

(١) الكشاف ج ٢ ص ٣ للزمخشري. طبعة دار الكاتب العربي ببيروت.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥.

(٣) تفسير أبو السعود ج ٢ ص ٧٧ طبعة صبيح.

(٤) تفسير المنار ج ٧ ص ٢٩٥ للشيخ رشيد رضا. طبعة دار المنار سنة ١٣٦٧ هجرية.

٣٠

وعبر القرآن في جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفي جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور ، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته. أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة الغمام ، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها. ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها ، فهناك ظلمة الانحراف ، وظلمة الأهواء ، والشهوات وطمس القلوب.

والنور واحد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فالنور في هذا واحد (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

العدل : المراد به هنا التسوية ، فقال : عدل الشيء بالشيء إذا سواه به والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق السموات والأرض ، وهو الذي جعل الظلمات والنور ، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء ، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره في العبادة ، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.

وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى أن الله ـ تعالى ـ حقيق بالحمد على ما خلق من نعم ، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.

ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة «خلق السموات والأرض» على معنى أن الله ـ تعالى ـ قد خلق الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا.

وجاء العطف «بثم» لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته ، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا في العبادة بين الخالق والمخلوق.

قال القرطبي : قال ابن عطية : فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني! ولو وقع

__________________

(١) مجلة لواء الإسلام العدد ٥ السنة ٢٣ : تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبى زهرة.

٣١

العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم» (١).

ثم ساق القرآن في الآية الثانية دليلا آخر على أن الله ـ تعالى ـ هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، فتحدث عن أصل خلق الإنسان ، بعد أن تحدث في الآية الأولى عن خلق السموات والأرض فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).

أى : هو الذي أنشأكم من طين ، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم بعد ذلك ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).

وفي ذكر خلق الإنسان من طين ، دليل على قدرة الله وعظمته ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي حول هذا الطين إلى بشر سوى مفكر ، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى ، كما أن فيه تذكيرا له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى ، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر على أن يعيده إليه.

قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).

قال أبو السعود : (وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم ، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشئون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة البينة أقبح) (٢).

وقال الجمل : (وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم ـ عليه‌السلام ـ وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس ، والمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس ، مع ما فيه من تحقيق الحق ، والتنبيه على حكمة خفية هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ـ عليه‌السلام ـ منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا ، فكان خلقه ـ عليه‌السلام ـ من الطين خلقا لكل أحد من فروعه) (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٣٨٧.

(٢) تفسير أبى السعود ـ ج ٢ ص ٧٨.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤.

٣٢

ثم قال ـ تعالى ـ (ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). الأجل في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره. والمعنى : أنه سبحانه ـ قدر لعباده أجلين : أجلا تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينا ، وأجلا آخر يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم ، هذا هو الرأى الأول في معنى الأجلين.

وقيل : المراد من الأجل الأول آجال الماضين من الخلق ، ومن الثاني آجال الباقين منهم. وقيل المراد من الأول النوم ومن الثاني الموت. وقيل : المراد من الأول ما مضى من عمر الإنسان ومن الثاني ما بقي منه.

والذي نرجحه هو الرأى الأول لأسباب منها.

١ ـ أن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهى بالموت ، ومن ذلك قوله تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢).

٢ ـ أن الآية الكريمة مسوقة لإثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق ، فالمناسب أن يكون المراد بالأجل الثاني هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.

ولذا قال أبو السعود في تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول : «ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت ، أو أن الأول أجل الماضين والثاني أجل الباقين ، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه ؛ مما لا وجه له أصلا ، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي أى شيء تمترون؟» (٣).

٣ ـ أن الرأى الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة ، وبه قال جمهور المفسرين ، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره إلى عشرة من التابعين (٤).

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٦١.

(٢) سورة نوح الآية ٤.

(٣) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٨٠.

(٤) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣ طبعة عيسى الحلبي.

٣٣

وعطفت الجملة الكريمة بثم ، للإشارة إلى أطوار خلق الإنسان المختلفة ، فهو في أصله من سلالة من طين ، ثم يصيره الله ـ تعالى ـ نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاما ، ثم يكونه ـ سبحانه ـ وتعالى خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين».

ووصف الأجل الثاني بأنه (مسمى عنده) ، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلا الله قال ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١).

وجاء قوله تعالى (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ ، والذي سوغ الابتداء به مع كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ).

ومعنى (عنده) أى : في علمه الذي لا يعلمه أحد سواه ، فهي عندية تشريف وخصوصية.

ثم ختمت الآية الكريمة بتوبيخ الشاكين في البعث والحساب فقال ـ تعالى ـ :

(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). الامتراء : هو التردد الذي ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في استعماله في الشك ، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم.

والمعنى : ثم إنكم بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله ، وعلى أن يوم القيامة حق ، تشكون في ذلك ، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه «بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير».

وجاء العطف بثم لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة ، وبين ما سولته لهم أنفسهم من المجادلة فيها.

قال الآلوسى : «والمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك ، كان أوضح اقتدارا على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة» (٢).

وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، جاءت الآية الثالثة لتصفه ـ سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٨٧.

(٢) تفسير روح المعاني للآلوسى ج ٧ ص ٨٨ طبعة منير الدمشقي.

٣٤

في هذا الكون فقال تعالى ـ : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ).

أى : أنه ـ سبحانه ـ هو المعبود بحق في السموات والأرض ، العليم بكل شيء في هذا الوجود ، الخبير بكل ما يكسبه الإنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه.

والضمير «هو» الذي صدرت به الآية يعود إلى الله ـ تعالى ـ الذي نعت ذاته في الآيتين السابقتين بأنه هو صاحب الحمد المطلق ، وخالق السموات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، ومنشئ الإنسان من طين ، وأنه لذلك يكون مختصا بالعبادة والخضوع.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ اللهُ) جملة من مبتدأ وخبر ، معطوفة على ما قبلها ، سيقت لبيان شمول ألوهيته لجميع المخلوقات.

قال أبو السعود : وقوله (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بالمعنى الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل إما باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما. وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال ، فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة ، فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل : وهو المالك أو المتصرف المدبر فيهما ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (١).

وجملة (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر والعلن هو الله وحده. ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم ، أو خبرا ثانيا.

ثم صور ـ سبحانه ـ طبيعة الجاحدين الذين هم ـ لانطماس بصائرهم وإصرارهم على العناد ـ غدوا لا يجدي معهم دليل ولا تنفع معهم حجة ، وساق لهم أخبار من سبقوهم. فقال ـ تعالى ـ :

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ

__________________

(١) تفسير أبو السعود ج ٢ ص ٨٠.

٣٥

يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)

والمعنى الإجمال للآية الأولى : أن هؤلاء الجاحدين لرسالات الله ، لا تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على صدقك ـ يا محمد ـ فيما تبلغه عن ربك إلا تلقوها بالإعراض ، واستقبلوها بالنبذ والاستخفاف.

فالآية الكريمة ، كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله ـ تعالى ـ وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله ـ تعالى ـ وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد. وامترائهم في البعث ، وإعراضهم عن أدلتة (١).

و (مِنْ) الأولى لاستغراق الجنس الذي يقع في حيز النفي ، كقولك : ما أتانى من أحد والثانية للتبعيض ، أى : ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي توجب النظر والتأمل والاعتبار ، إلا أهملوه وأعرضوا عنه. لقسوة قلوبهم وعدم تدبرهم للعواقب.

وإضافة الآيات إلى اسم الرب ـ عزوجل ـ تدل على تفخيم شأنها ، وعلى أن تكذيبهم لها إنما هو تكذيب لما عرفوا مصدره ، كما يدل على شدة عنادهم وإيغالهم في الكفر والجحود.

والآية الكريمة بأسلوبها المتضمن الحصر ، وباشتمالها على كان وخبرها المفيد للدوام ، والاستمرار ، تفيد أن الإعراض عن الحق دأبهم ، وأنهم ليسوا على استعداد لتقبل الحق مهما اتضحت معالمه ، وأسفرت حججه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم لم يكتفوا بالإعراض عن الحق ، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته ، والتطاول عليهم ، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال ـ تعالى ـ : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

فالآية الكريمة كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم ، بعد أن كشفت سابقتها عن عنادهم ونأيهم عن الحق.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ٧ ص ٩١.

٣٦

وقد بين الفخر الرازي مراحل تماديهم في الباطل كما صورها القرآن فقال «اعلم أنه ـ تعالى ـ رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب :

فالمرتبة الأولى : كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر والبينات.

والمرتبة الثانية : كونهم مكذبين بها ، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها ، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به ، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له ، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الإعراض.

والمرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين بها ، لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء ، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار ، فبين ـ سبحانه ـ أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب» (١).

والمراد بالحق الذي كذبوا به : قيل إنه القرآن ، وقيل إنه المعجزات ، وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إنه الوعد الذي يرغبهم به تارة ، والوعيد الذي يحذرهم بسببه تارة أخرى.

والذي نراه أن تكذيبهم قد شمل كل ذلك ، لأنهم بعدم دخولهم في الإسلام قد صاروا مكذبين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

والتعبير بقوله (لَمَّا جاءَهُمْ) يفيد أن الحق قد وصل إليهم ، وطرق قلوبهم وأسماعهم ، ولكنهم عموا وصموا عنه.

والأنباء : جمع نبأ وهو ما يعظم وقعه من الأخبار ، والمراد بها في قوله ـ تعالى ـ : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الإخبار عن العذاب الذي توعدهم الله به عند إصرارهم على كفرهم ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

قال صاحب الكشاف : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) الشيء الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو القرآن ، أى أخباره وأحواله ، بمعنى : سيعلمون بأى شيء استهزءوا ، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو في يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته (٢).

ثم ساق القرآن لهم على سبيل النصيحة والإرشاد أخبار من سبقوهم في الكفر والبطر وبين لهم سوء عاقبتهم ليعتبروا ويتعظوا فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير مفاتيح الغيب ج ٤ ص ١١ للفخر الرازي ، المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٢) الكشاف ج ٢ ص ٦ للزمخشري طبعة دار الكتاب العربي بيروت.

٣٧

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ).

قال القرطبي : «القرن الأمة من الناس والجمع القرون. قال الشاعر :

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم

وخلفت في قرن فأنت غريب

فالقرن كل عالم في عصره ، مأخوذ من الاقتران ، أى عالم مقترن بعضهم إلى بعض ، وفي الحديث الشريف : «خير الناس قرني ـ يعنى أصحابى ـ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فالقرن على هذا مدة من الزمان ، قيل : ستون عاما ، وقيل : سبعون ، وقيل ، ثمانون ، وقيل مائة ـ وعليه أكثر أصحاب الحديث ـ أن القرن مائة سنة ، واحتجوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله ابن بشر : «تعيش قرنا» فعاش مائة (١).

والاستفهام الذي صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم ، وإنكار ما وقع منهم من إعراض واستهزاء ، وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه.

والتقدير : أعملوا عن الحق وأعرضوا عن دلائله ، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا.

وجملة (أَهْلَكْنا) سدت مسد مفعول رأى إن كانت بصرية ، وسدت مسد مفعوليها إن كانت علمية ، و (كَمْ) مفعول مقدم لأهلكنا ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) على حذف المضاف ، أى : من قبل زمنهم ووجودهم.

قال صاحب المنار : وكان الظاهر أن يقال : مكناهم في الأرض ـ أى القرون ـ ما لم نمكنهم ، أى الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم ، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما ، وكون المثبت عين المنفي ، فقيل ما لم نمكن لكم (٢).

و (ما) في قوله (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي ، وهي حينئذ صفة لمصدر محذوف. والتقدير : مكناهم في الأرض التمكين الذي لم نمكن لكم ، والعائد محذوف : أى الذي لم نمكنه لكم. ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف. أى : مكناهم في الأرض شيئا لم نمكنه لكم (٣).

وفي تعدية الأول وهو (مَكَّنَّاهُمْ) بنفسه والثاني وهو (نُمَكِّنْ لَكُمْ) باللام إشارة إلى أن

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٩٠.

(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٣٠٧ للشيخ رشيد رضا.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٧ بتصرف وتلخيص.

٣٨

السابقين قد مكنوا بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإسلام ، وهذا أعظم في باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم.

هذا ، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وصفهم ـ أولا ـ بأنهم كانوا أوسع سلطانا ، وأكثر عمرانا ، وأعظم استقرارا ، كما يفيده قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ).

قال صاحب الكشاف : «والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام ، والسعة في الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا» (١).

ووصفهم ـ ثانيا ـ بأنهم كانوا أرغد عيشا ، وأسعد حالا ، وأهنأ بالا ، يدل على ذلك قوله تعالى :

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أى : أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة ، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها.

ووصفهم ـ ثالثا ـ بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون ، فيبنون مساكنهم على ضفافها. ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجملية ، كما يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أى : صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم.

ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التي لم تتيسر لأهل مكة ؛ كانت عاقبتهم ـ كما أخبر القرآن عنهم ـ (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أى : فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك ، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.

والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران :

أحدهما : أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم ، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض ، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.

والمظهر الثاني : إهلاك الله ـ تعالى ـ لها عقابا عن أوزارها (٢).

وقوله ـ تعالى ـ في ختام الآية (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) يدل على كمال قدرة الله ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦.

(٢) تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ، مجلة لواء الإسلام السنة ٢٣ العدد الخامس ص ٢٤٢.

٣٩

ونفاذ إرادته ، وأن إهلاكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا ، لأنه ـ سبحانه ـ كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى.

قال ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (١).

ثم بين القرآن توغلهم في الجحود والعناد ، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته ، وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١)

الكتاب في الأصل مصدر كالكتابة ، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب ، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف.

والقرطاس ـ بكسر القاف وقد تفتح وتضم في بعض اللغات ـ ما يكتب فيه سواء كان من رق أو من ورق أو من غيرهما : ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا.

والمعنى : إن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدقك يا محمد. ولكن الذي ينقصهم

__________________

(١) سورة محمد الآية ٣٨.

٤٠