التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

وقت إغراقهم في اليم ، إذا هم ينكثون أى : ينقضون عهدهم الذي التزموه ، ويحنثون في قسمهم في كل مرة.

وينكثون : من النكث. وأصله فك طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا ، ثم استعير لنقض العهد بعد إبرامه.

قال الآلوسى : وجواب «لما» فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها ، أى : فلما كشفنا عنهم ذلك فاجأوا بالنكث من غير توقف» (١).

هذا ، وقد ساق بعض المفسرين آثارا متعددة في كيفية نزول هذا العذاب بهم. ومن هذه الآثار ما رواه أبو جعفر بن جرير ـ بسنده ـ عن سعيد بن جبير قال :

لما أتى موسى ـ عليه‌السلام ـ فرعون قال له : أرسل معى بنى إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا. فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا هذا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل. فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا : قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه ، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة ـ والجريب والقفيز مكيالان للحبوب ، والجريب أربعة أقفزة ـ فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بنى إسرائيل. فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا. فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا ، فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فيثبت الضفدع في فيه فقالوا لموسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ، وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب ، فقال : إنه قد سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا؟

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٢٦.

٣٦١

فأتوه وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل» (١).

قال ابن كثير : قد روى نحو هذا عن ابن عباس والسدى وقتادة وغير واحد من علماء السلف أنه أخبر بهذا.

ثم حكت السورة الكريمة نهايتهم الأليمة ، بسبب نقضهم لعهودهم ومواثيقهم في كل مرة ، وبسبب تكذيبهم لآيات الله. وعصيانهم لنبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ فقالت : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ، بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أى : فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لإهلاكهم. بأن أغرقناهم في اليم ـ أى البحر ـ ، وذلك بسبب تكذيبهم لآياتنا الواضحة ، وحججنا الساطعة ، وكانوا عنها غافلين بحيث لا يتدبرونها ، ولا يتفكرون فيما تحمله من عظات وعبر.

والقرآن هنا يسوق حادث إغراق فرعون وملئه بصورة مجملة ، فلا يفصل خطواته كما فصلها في مواطن أخرى ، وذلك لأن المقام هنا هو مقام الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ، فلا داعي إذن إلى طول العرض والتفصيل. إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس ، وأرهب للحس ، وأزجر للقلب ، وأدعى إلى العظة والاعتبار ، ولأن سورة الأعراف ـ كما سبق أن بينا ـ يغلب عليها هذا الأسلوب الذي يزلزل قلوب الطغاة ، ويغرس في النفوس الرهبة والخوف وهي تقص على الناس ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى مضى وصار تاريخا يعلمونه ويتحدثون عنه ، وهو ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسلها وعتت عن أمر ربها.

ثم وهي تحكى لهم ما أعد للمستكبرين من عذاب أخروى بسبب عصيانهم وانتهاكهم لحرمات الله.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر فضله وكرمه على بنى إسرائيل بعد أن بين نهاية فرعون وآله فقال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها).

أى : وأعطينا القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر من فرعون وملئه بالاستعباد وقتل الأبناء ، وسوء العذاب ، أعطيناهم من طريق الاستخلاف ـ قبل أن يزيغوا ويضلوا ـ مشارق أرض الشام ومغاربها التي باركنا فيها بالخصوبة وسعة الأرزاق ، وبكونها مساكن الأنبياء والصالحين ليكون ذلك امتحانا لهم ، واختبارا لنفوسهم.

وجمع ـ سبحانه ـ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٤١.

٣٦٢

وتجدده ، والمراد بهم بنو إسرائيل ، وذكروا بعنوان القوم ، إظهارا لكمال اللطف بهم ، وعظيم الإحسان إليهم ، حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة.

وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) ، أى : ونفذت كلمة الله الحسنى ومضت عليهم تامة كاملة ، حيث رزقهم ـ سبحانه ـ النصر على أعدائهم. والتمكين في الأرض بسبب صبرهم على ظلم فرعون وملئه.

قال الزمخشري : وحسبك به حاثا على الصبر. ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه. ومن قابله بالصبر ، وانتظار النصر ، ضمن الله له الفرج.

وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله ـ تعالى ـ ثم تلا هذه الآية (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا ...) ومعنى «خف» طاش جزعا وقلة صبر ، ولم يرزق رزانة أولى الصبر» (١).

ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من بناء القصور الشاهقة والمنازل القوية ، وما كانوا يرفعونه من البساتين ، والصروح المشيدة ، كصرح هامان وغيره.

و (يَعْرِشُونَ) بكسر الراء وضمها ـ أى يرفعون من العرش وهو الشيء المسقف المرفوع.

قال الجمل : وقوله (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) في إعرابه أوجه :

أحدها : أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم ، والجملة الكونية صلة والعائد محذوف. والتقدير : ودمرنا الذي كان فرعون يصنعه.

والثاني : أن اسم كان ضمير عائد على ما الموصولة ، ويصنع مسند لفرعون. والجملة خبر عن كان ، والعائد محذوف ، والتقدير : ودمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون.

الثالث : أن تكون كان زائدة وما مصدرية والتقدير ودمرنا ما يصنع فرعون أى : صنعه» (٢).

وهكذا تنهى السورة الكريمة هذا الدرس بذكر ما أصاب الظالمين والغادرين من دمار وخراب ، وما أصاب المستضعفين الصابرين من خير واستخلاف في الأرض.

ثم بدأت السورة بعد ذلك مباشرة حديثا طويلا عن هؤلاء المستضعفين من بنى إسرائيل بينت فيه ألوانا من جحودهم لنعم الله ، ونسيانهم لما كانوا فيه من ذل واستعباد ، وتفضيلهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٤٩.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٨٥.

٣٦٣

عبادة الأصنام على عبادة الخالق ـ عزوجل وغير ذلك من أنواع كفرهم ومعاصيهم ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى لونا من رذائلهم فيقول :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١)

إن هذه الآيات تحكى قصة عجيبة لبنى إسرائيل ملخصها : أنهم بعد أن خرجوا من مصر بقيادة موسى ـ عليه‌السلام ـ تبعهم فرعون وجنوده ليعيدوهم إليها ، إلا أن الله ـ تعالى ـ انتقم لهم من فرعون وجنده فأغرقهم أمام أعينهم وسار بنو إسرائيل نحو المشرق متجهين إلى الأرض المقدسة بعد أن عبروا البحر ، ولكنهم ما إن جاوزوا البحر الذي غرق فيه عدوهم والذي ما زالت رماله الرطبة عالقة بنعالهم ، حتى وقعت أبصارهم على قوم يعبدون الأصنام ، فماذا كان من بنى إسرائيل؟.

كان منهم أن عاودتهم طبيعتهم الوثنية ، فطلبوا من نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ الذي جاء لهدايتهم وإنقاذهم مما هم فيه من ظلم أن يصنع لهم آلهة من جنس الآلهة التي يعبدها أولئك القوم.

وهنا غضب عليهم موسى غضبا شديدا. ووصفهم بأنهم قوم يجهلون الحق ، وبين لهم فساد ما عليه المشركون ، وذكرهم بما حباهم الله ـ تعالى ـ به من نعم جزيلة ، يوجب عليهم إفراده بالخضوع والعبادة والطاعة والشكر.

٣٦٤

وقوله ـ تعالى ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) بيان للمنة العظيمة التي منحهم الله إياها ، وهي عبورهم البحر بعد أن ضربه موسى بعصاه ، فأصبح طريقا يابسا يسيرون فيه بأمان واطمئنان حتى عبروه إلى الناحية الأخرى ، يصحبهم لطف الله ، وتحدوهم عنايته ورعايته.

وجاوز بمعنى أصل الفعل الذي هو جاز ، أى : قطعنا بهم البحر. يقال : جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره.

والمراد بالبحر : بحر القلزم وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر.

وقوله تعالى (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) بيان لما شاهدوه من أحوال بعض المشركين عقب عبورهم البحر ونجاتهم من عدوهم ، فماذا كانت نتيجة هذه المشاهدة؟ لقد كان المتوقع منهم أن يحتقروا ما شاهدوه ، وأن ينفروا مما أبصروه ، لأن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون سوء العذاب في ظل عبادة الأصنام عند فرعون وقومه ، ولأن نجاتهم مما كانوا فيه من ذل وهوان ، قد تمت على يد نبيهم الذي دعاهم إلى توحيد الله ـ تعالى ـ لكي يزيدهم من فضله.

ولكن طبيعة بنى إسرائيل المعوجة لم تفارقهم ، فها هم أولاء ما إن وقعت أبصارهم على قوم يعكفون ويداومون على عبادة أصنام لهم (١) ، حتى انجذبوا إليها وطلبوا من نبيهم الذي جاء لهدايتهم ، أن يجعل لهم وثنا كغيرهم لكي يعبدوه من جديد. لقد حكى القرآن عنهم أنهم عند ما شاهدوا هذا المنظر ، ما لبثوا أن قالوا لنبيهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). قالوا ذلك لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم ، ولأن ما ألفوه من عبادة الأصنام أيام استعباد فرعون لهم ، ما زال متمكنا من نفوسهم ، ومسيطرا على عقولهم ، وهكذا عدوى الأمراض تصيب النفوس كما تصيب الأبدان ، وهكذا طبيعة بنى إسرائيل ما تكاد تهتدى حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ؛ وما تكاد تسير في طريق الاستقامة حتى ترتكس وتنتكس.

وفي قولهم لنبيهم (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) بصيغة الأمر ؛ أكبر دليل على غباء عقولهم ، وسوء أدبهم ؛ لأنهم لو استأذنوه ـ مثلا ـ في اتخاذ صنم يعبدونه كغيرهم لكان شأنهم أقل غرابة ؛ ولكن الذي حصل منهم أنهم طلبوا منه ـ وهو نبيهم الداعي لهم إلى توحيد الله تعالى ؛ والمنقذ لهم من عدوهم الوثني الجبار ـ أن يقوم هو بنفسه بصناعة صنم لكي يعبدوه كغيرهم!!.

__________________

(١) اختلف المفسرون في شأن القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم عند مرور بنى إسرائيل بهم ، فقيل هم من عرب لخم. وقيل هم من لخم وجذام. وقيل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى ـ قومه بقتالهم ، وقيل إنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر.

٣٦٥

قال القرطبي : ونظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط ـ لأنهم كانوا ينوطون بها سلاحهم أى يعلقونه ـ وكان الكفار يعظمون هذه الشجرة في كل سنة يوما ، قال الأعراب : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة (١) حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه» وكان هذا في مخرجه إلى حنين (٢).

ولقد غضب موسى ـ عليه‌السلام ـ من طلبهم هذا ـ وهو الغضوب بطبيعته لربه ودينه ـ فرد عليهم ردا قويا فيه توبيخ لهم وتعجب من قولهم بعد أن رأوا من المعجزات ما رأوا فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أى : إنكم يا بنى إسرائيل بطلبكم هذا برهنتم على أنكم قوم قد ملأ الجهل قلوبكم ، وغطى على عقولكم ، فصرتم لا تفرقون بين ما عليه هؤلاء من ضلال مبين ، وبين ما تستحقه الألوهية من صفات وتعظيم ولم يقيد ما يجهلونه ليفيد أنه جهل كامل شامل يتناول فقد العلم ، وسفه النفس ، وفساد العقل. وسوء التقدير.

وبعد أن كشف لهم سوء حالهم ، وفرط جهالاتهم ، بين لهم فساد ما طلبوه في ذاته ، وقبح عاقبة من أرادوا تقليدهم ، فقال لهم بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

متبر : من التتبير بمعنى الإهلاك أو التكسير والتحطيم يقال : تبره يتبره وتبره أى أهلكه ودمره.

أى : إن هؤلاء الذين تبغون تقليدهم في عبادة الأوثان ، محكوم على ما هم فيه بالدمار ، ومقضي على ما يعملونه من عبادة الأصنام بالاضمحلال والزوال لأن دين التوحيد سيظهر في هذه الديار ، وستصير العبادة لله الواحد القهار.

وبهذا الرد يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ قد كشف لقومه عن سوء ما يطلبون ، وصرح لهم بأن مصير ما يبغونه إلى الهلاك والتدمير.

قال الإمام الرازي : (والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من عبادة ذلك العجل نفع ولا دفع ضرر ، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها ، فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعلق قلبه بغيره ، ويصير ذلك التعلق سببا

__________________

(١) القذة : ريش السهم. قال ابن الأثير : يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٢٧٣.

٣٦٦

لإعراض القلب عن ذكره تعالى. وإذا ثبت هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل وضائع. وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه ، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله ـ تعالى ـ في القلب. والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفته عن القلب ، فكان هذا ضد الغرض ونقيضا للمطلوب ـ والله أعلم ـ) (١).

ثم مضى موسى ـ عليه‌السلام ـ يستنكر عليهم هذا الطلب ، ويبين لهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة فقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

أى قال موسى ـ عليه‌السلام مذكرا قومه بنعم الله عليهم الموجبة لإفراده بالعبادة والخضوع : أغير الله أطلب لكم معبودا أحملكم على العبودية له ، وهو فضلكم على عالمي زمانكم ، وقد كان الواجب عليكم أى تخصوه بالعبادة ، كما اختصكم هو بشتى النعم الجليلة. فالاستفهام في الآية الكريمة للإنكار المشرب معنى التعجب لابتغائهم معبودا سوى الله ـ تعالى ـ الذي غمرهم بنعمه ، وأحاطهم بألوان إحسانه.

و «غير» كما قال الجمل ـ منصوب على أنه مفعول به لأبغيكم على حذف اللام والتقدير : أأبغي لكم غير الله إلها ، فلما حذف الحرف وصل الفعل بنفسه وهو غير منقاس. و «إلها» تمييز لغير.

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمة إنجائهم من العذاب والتنكيل ، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون ، فقال تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

«إذ» بمعنى وقت ، وهي مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى : اذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون. والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث.

وآل الرجل : أهله وخاصته وأتباعه. ويطلق غالبا على أولى الشأن والخطر من الناس ، فلا يقال آل الحجام أو الإسكاف.

و (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) يبغون لكم أشد العذاب وأفظعه من السوم وهو مطلق الذهاب ، أو الذهاب في ابتغاء الشيء. يقال : سامت الإبل فهي سائمة ، أى ذهبت إلى المرعى. وسام السلعة ، إذا طلبها وابتغاها.

والسوء ـ بالضم ـ كل ما يحزن الإنسان ويغمه من الأمور الدنيوية أو الأخروية. ويستحيون : أى يستبقون. يقال : استحياه أى : استبقاه ، وأصله : طلب له الحياة والبقاء.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٤ ص ٢٩١.

٣٦٧

والبلاء : الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر.

والمعنى : واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وتشكروا الله على نعمه وقت أن أنجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ، ويستبقون نفوس نسائكم ليستخدموهن ويستذلوهن. وفي ذلكم العذاب وفي النجاة منه امتحان لكم لتشكروا الله على نعمه ، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الإذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى.

وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه هو الآمر بتعذيب بنى إسرائيل ، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له على إذاقتهم سوء العذاب ، وفي إنزال ألوان الأذلال بهم.

وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل ـ مع أنه في ظاهره نعمة لهم ـ لأن هذا الإبقاء على النساء كان المقصود منه الاعتداء على أعراضهن ، واستعمالهن في شتى أنواع الخدمة ، وإذلالهن بالاسترقاق ، فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل ؛ وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة ، والطباع الحرة الأبية.

قال الامام الرازي ما ملخصه : في قتل الذكور دون الإناث مضرة من وجوه :

أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال ، وذلك يقضى انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا.

ثانيها : أن هلاك الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة.

فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها الرجال. لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد.

ثالثها : ان قتل الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل الكد ، والرجاء القوى في الانتفاع به من أعظم العذاب. فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة.

رابعا : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهن ، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات للأعداء. وذلك نهاية الذل والهوان (١).

وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء هنا الأطفال لا البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٣٨٥.

٣٦٨

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال ، لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء ، والنساء هن البالغات.

والذي نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإنجاء ، حيث كان آل فرعون يقتلون الصغار قطعا للنسل ، ويسترقون الأمهات استعبادا لهن ، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت.

وبهذا تكون الآيات الكريمة قد ردت على بنى إسرائيل فيما طلبوا أبلغ رد وأحكمه ، ووصفتهم بما هم أهله من سوء تدبير ، وسفاهة تفكير. فقد بدأت بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، حيث طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلها كما لغيرهم آلهة ، ثم ثنت بإظهار فساد ما طلبوه في ذاته ، لأن مصيره إلى الزوال والهلاك ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون الها ، ثم بينت بعد ذلك بأن العبادة لغير الله لا تجوز بأى حال ، لأنه هو وحده صاحب الخلق والأمر ، ثم ذكرتهم في ختامها بوجوه النعم التي أسبغها الله عليهم ، لتشعرهم بأن ما طلبوه من نبيهم ، هو من قبيل مقابلة الإحسان بالجحود والنكران ، ولتحملهم على أن يتدبروا أمرهم ، ويراجعوا أنفسهم ، ويتوبوا إلى خالقهم توبة صادقة نصوحا. ان كانوا ممن ينتفع بالعظات ويعتبر بالمثلات.

ثم حكت لنا السورة الكريمة بعد ذلك مشهد تطلع موسى ـ عليه‌السلام ـ للقاء ربه ، ووصيته لأخيه هارون قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم فقالت :

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)

٣٦٩

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤)

قال صاحب الكشاف : «روى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ وعد بنى إسرائيل وهو بمصر ، إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله ، فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك. فقالت له الملائكة : كنا نشم من فمك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله ـ تعالى ـ ان يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك. وقيل أمره الله أن يصوم ثلاثين يوما وان يعمل فيها بما يقربه من الله ثم انزل الله عليه في العشر التوراة وكلمه فيها» (١).

والمواعدة مفاعلة من الجانبين ، وهي هنا على غير بابها ، لأن المراد بها هنا أن الله ـ تعالى ـ أمر موسى أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة تمهيدا لإعطائه التوراة ، ويؤيد ذلك قراءة أبى عمرو ويعقوب «وعدنا».

وقيل المفاعلة على بابها على معنى أن الله ـ تعالى ـ وعد نبيه موسى أن يعطيه التوراة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه بالطاعة والامتثال.

وقوله (ثَلاثِينَ) مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف ، أى : إثمام ثلاثين ليلة أو إتيانها.

والضمير في قوله (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) يعود على المواعدة المفهومة من قوله (واعَدْنا) أى : وأتممنا مواعدته بعشر ، أو أنه يعود على ثلاثين :

وحذف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه ، أى : وأتممناها بعشر ليال.

و (أَرْبَعِينَ) منصوب على الحالية أى : فتم ميقات ربه بالغا أربعين ليلة.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما وصى به موسى أخاه هارون فقال : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) أى : قال موسى لأخيه هارون حين استودعه ليذهب لمناجاة ربه : كن خليفتي في قومي ، وراقبهم فيما يأتون ويذرون فإنهم في حاجة إلى ذلك لضعف إيمانهم ، واستيلاء الشهوات والأهواء عليهم (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الذين (إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً).

وإننا لنلمح من هذه الوصية أن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان متوقعا شرا من قومه ، ولقد

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٥١.

٣٧٠

صح ما توقعه ، فإنهم بعد أن فارقهم موسى استغلوا جانب اللين في هارون فعبدوا عجلا جسدا له خوار صنعه لهم السامري.

ثم حكى القرآن ما كان من موسى عند ما وصل إلى طور سيناء لمناجاة ربه فقال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أى : وحين حضر موسى لموقتنا الذي وقتناه له وحددناه ، وكلمه ربه ، أى : خاطيه من غير واسطة ملك (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أى : قال موسى حين كلمه ربه وسمع منه : رب أرنى ذاتك الجليلة. والمراد مكنى من رؤيتك. أو تجل لي أنظر إليك وأراك.

و (أَرِنِي) فعل أمر مبنى على حذف الياء. وياء المتكلم مفعول ، والمفعول الثاني محذوف أى : ذاتك أو نفسك ولم يصرح به لأنه معلوم ، وزيادة في التأدب مع الخالق ـ عزوجل ـ.

وجملة (قالَ لَنْ تَرانِي) مستأنفة استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : فماذا قال الله ـ تعالى ـ حين قال موسى ذلك ، فكان الجواب (قالَ لَنْ تَرانِي) أى : لن تطيق رؤيتي ، وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي أنت عليها في هذه الدنيا فنفى الرؤية منصب على الحالة الدنيوية ، أما في الآخرة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات.

ثم قال ـ تعالى ـ (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أى : لن تطيق رؤيتي يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا ، ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك ، فإن استقر مكانه أى ثبت مكانه حين أتجلى له ولم يتفتت من هذا التجلي ، فسوف تراني أى تثبت لرؤيتى إذا تجليت لك وإلا فلا طاقة لك برؤيتى.

وفي هذا الاستدراك (وَلكِنِ انْظُرْ) ... إلخ ، تسلية لموسى ـ عليه‌السلام ـ وتلطف معه في الخطاب ، وتكريم له ، وتعظيم لأمر الرؤية ، وأنه لا يقوى عليها إلا من قواه الله بمعونته.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث للجبل عند التجلي فقال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أى : فحين ظهر نوره ـ سبحانه ـ للجبل على الوجه اللائق بجلاله (جَعَلَهُ دَكًّا) أى مدقوقا مفتتا ، فنبه ـ سبحانه ـ بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته مادام لم يستقر عند هذا التجلي ، فالآدمى مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر. والداك والدق بمعنى ، وهو تفتيت الشيء وسحقه وفعله من باب رد.

قال الآلوسى : وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم ، أو التأويل بما يليق بجلال ذاته ـ تعالى ـ.

وقوله (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أى : سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلي مغشيا عليه ، كمن أخذته الصاعقة.

٣٧١

يقال : صعقتهم السماء تصعقهم صعقا فهو صعق أى : غشى عليه.

وقوله : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أى : فلما أفاق موسى من غشيته ، وعاد إلى حالته الأولى التي كان عليها قبل أن يخر مغشيا عليه ، قال تعظيما لأمر الله (سُبْحانَكَ) أى تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء (تُبْتُ إِلَيْكَ) من الإقدام على السؤال بغير إذن (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بعظمتك وجلالك أو أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد.

قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون : ولكن يقول أنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. قال ابن كثير : وهو قول حسن.

هذا ، وقد توسع بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية في الحديث عن رؤية الله ـ تعالى ـ وعلى رأس هذا البعض الإمام الآلوسى ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ : «واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته ـ سبحانه ـ بهذه الآية على جوازها في الجملة ، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك ، وقامت الحرب بينهما على ساق ، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا : إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين :

الأول : أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سألها بقوله (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عالما بالاستحالة فالعالم ـ فضلا عن النبي مطلقا ، فضلا عمن هو من أولى العزم ـ لا يسأل المحال ولا يطلبه. وإن لم يكن عالما بذلك ، لزم أن يكون آحاد المعتزلة أعلم بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفي ، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز.

والثاني : أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في ذاته وما علق على الممكن ممكن».

ثم قال ما ملخصه : واعترض الخصوم على الوجه الأول بوجوه منها أنا لا نسلم أن موسى سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به ـ تعالى ـ إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا. أو أنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف ، أى : أرنى أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة. أو أنه سأل الرؤية لا لنفسه ولكن لدفع قومه القائلين (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأدنى على الأعلى.

واعترضوا على الوجه الثاني بأنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن ، لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط ، لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا ، بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته.

٣٧٢

ثم أورد الآلوسى بعد ذلك ما رد به كل فريق على الآخر مما لا مجال لذكره هنا (١).

والذي نراه أن رؤية الله في الآخرة ممكنة كما قال أهل السنة لورود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تشهد بذلك ، أما في الدنيا فقد منع العلماء وقوعها ، وقد بينا ذلك بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٢).

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كرم الله ـ تعالى ـ به موسى ـ عليه‌السلام فقال : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي).

الاصطفاء. افتعال من الصفوة ، وصفوة الشيء خالصه وخياره أى : قال الله تعالى ـ لموسى إنى اخترتك واجتبيتك على الناس الموجودين في زمانك لأن الرسل كانوا قبل موسى وبعده ، فهو اصطفاء على جيل معين من الناس بحكم هذه القرينة.

وقوله (بِرِسالاتِي) أى : بأسفار التوراة ، أو بإرسالى إياك إلى من أرسلت إليهم. و (بِكَلامِي) أى : بتكليمى إياك بغير واسطة قال ـ تعالى ـ (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).

والجملة الكريمة مسوقة لتسليته ـ عليه‌السلام ـ عما أصابه من عدم الرؤية فكأنه ـ سبحانه ـ يقول له : إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه ودم على شكرى.

وقدم الرسالة على الكلام لأنها أسبق ، أو ليترقى إلى الأشرف.

ثم قال ـ تعالى ـ (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أى : فخذ يا موسى ما أعطيتك من شرف الاصطفاء والنبوة والمناجاة وكن من الراسخين في الشكر على ما أنعمت به عليك ، فأنت أسوة وقدوة لأهل زمانك.

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ من ص ٤٦ ـ ٥٥.

(٢) راجع تفسير سورة الأنعام ص ٢٢٨.

٣٧٣

ثم فصل ـ سبحانه ـ بعض النعم التي منحها لنبيه موسى وقال : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ).

والمراد بالألواح كما قال ابن عباس ـ ألواح التوراة ، واختلف في عددها فقيل : سبعة ألواح وقيل عشرة ألواح وقيل أكثر من ذلك. كما اختلف في شأنها فقيل كانت من سدر الجنة ، وقيل كانت من زبرجد أو زمرد ... إلخ.

والذي نراه تفويض معرفة ذلك إلى الله ـ تعالى ـ لأنه لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عددها أو كيفيتها.

والمعنى : وكتبنا لموسى ـ عليه‌السلام ـ في ألواح التوراة من كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام ، والمحاسن والقبائح. ليكون ذلك موعظة لهم من شأنها أن تؤثر في قلوبهم ترغيبا وترهيبا ، كما كتبنا له في تلك الألواح تفصيل كل شيء يتعلق بأمر هذه الرسالة الموسوية.

وإسناد الكتابة إليه ـ تعالى ـ إما على معنى أن ذلك كان بقدرته ـ تعالى ـ وصنعه ولا كسب لأحد فيه ، وإما على معنى أنها كتبها بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو ملك من ملائكته ـ عزوجل ـ.

قال صاحب المنار : قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة : وقال بعضهم بل كانت قبل التوراة. والراجح أنها كانت أول ما أوتيه من وحى التشريع فكانت أصل التوراة الإجمالى ، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل يخاطبه بها الله ـ تعالى ـ في أوقات الحاجة إليها» (١).

وقوله (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) باعتبار محله وهو النصب لأن من مزيدة كما يرى كثير من النحاة. أى : كتبنا له فيها كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) يعود إلى الألواح. والفاء عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والمحذوف هو لفظ قلنا وقوله (بِقُوَّةٍ) حال من فاعل خذها أى : كتبنا له في الألواح من كل شيء ، وقلنا له خذها بقوة أى بجد وحزم ، وصبر وجلد ، لأنه ـ عليه‌السلام ـ قد أرسل إلى قوم طال عليهم الأمد وهم في الذل والاستعباد ، فإذا لم يكن المتولى لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين ، فإنه قد يعجز عن تربيتهم. ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم.

قال الجمل : وقوله ـ تعالى ـ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أى التوراة ومعنى بأحسنها

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ١٩٠.

٣٧٤

بحسنها إذ كل ما فيها حسن ، أو أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، وفعل الخير أحسن من ترك الشر ، وذلك لأن الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان تحمل على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب. أو أن فيها حسنا وأحسن كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور به والمباح فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا (١).

وقوله ـ تعالى ـ (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والتهديد.

أى : سأريكم عاقبة من خالف أمرى ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار ، فتلك سنتي التي لا تتغير ولا تتبدل.

قال ابن كثير : وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالفني على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره (٢) وقيل المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه وهي مصر ، كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فيصيبكم ما أصابهم.

وقيل المراد بها منازل عاد وثمود والأقوام الذين هلكوا بسبب كفرهم.

وقيل المراد بها أرض الشام التي كان يسكنها الجبارون. فإنهم لم يدخلوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر على يد يوشع بن نون.

والذي نراه أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله في خلقه ، وهذه السنة تتمثل في أن كل دار تفسق عن أمر ربها تكون عاقبتها الذل والدمار ، ولأنه لم يرد حديث صحيح يعين المراد بدار الفاسقين.

فالآية الكريمة قد اشتملت على جانب من مظاهر نعم الله على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ كما اشتملت على الأمر الصريح منه ـ سبحانه ـ له بأن يهيئ نفسه لحمل تكاليف الرسالة بعزم وصبر ، وأن يأمر قومه بأن يأخذوا بأكملها وأعلاها بدون ترخيص أو تحايل ، لأنهم قوم كانت طبيعتهم رخوة وعزيمتهم ضعيفة ، ونفوسهم منحرفة. كما اشتملت على التحذير الشديد لكل من يخرج عن طاعة الله وينتهك حرماته.

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة من يتكبرون في الأرض بغير الحق فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٩٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٤٦.

٣٧٥

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧)

قوله ـ تعالى ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) استئناف مسوق لبيان أن أعداء دعاة الحق هم المستكبرون ، لأن من شأن التكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على وجوه الخير. ومعنى صرف هؤلاء المتكبرين عن الانتفاع بآيات الله وحججه ، منعهم عن ذلك بالطبع على قلوبهم لسوء استعدادهم لا يتفكرون ولا يتدبرون ولا يعتبرون.

أى : سأطبع على قلوب هؤلاء الذين يعدون أنفسهم كبراء ، ويرون أنفسهم أنهم أعلى شأنا من غيرهم ، مع أنهم أجهل الناس عقلا ، وأتعسهم حالا.

وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِ) صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتطاولون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل ، وسفههم المفرط ، أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله ، أى يتكبرون متلبسين بغير الحق.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما هم عليه من عناد وجحود فقال : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أى : وإن يروا كل آية من الآيات التي تهدى إلى الحق وترشد إلى الخير لا يؤمنوا بها لفساد قلوبهم ، وحسدهم لغيرهم على ما آتاه الله من فضله ، وتكبرهم على الناس. والجملة الكريمة معطوفة على جملة (يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) داخلة معها في حكم الصلة.

والمقصود بالآية إما المنزلة فيكون المراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها عن طريق السماع. وإمّا ما يعمها وغيرها من المعجزات ، فيكون المراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار.

٣٧٦

(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أى : الصلاح والاستقامة والسداد (لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أى : لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه لمخالفته لأهوائهم وشهواتهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أى : طريق الضلال عن الحق (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أى : طريقا يميلون إليه ، ويسيرون فيه بدون تفكر أو تدبر. وهذا شأن من مرد على الضلال ، وانغمس في الشرور والآثام. إنه لإلفه المنكرات صار الحسن عنده قبيحا والقبيح حسنا ، وصدق الله إذ يقول : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية ببيان الأسباب التي أدت بهم إلى هذا الضلال العجيب فقال ـ تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أى : ذلك المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الدلائل الدالة على الحق وإعراضهم عن سبيل الهدى. وإقبالهم التام على طريق الغواية ، كائن بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على بطلان ما هم عليه من أباطيل ، وبسبب أنهم كانوا عن هذه الآيات غافلين لاهين لا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بما اشتملت عليه من عظات.

فالله ـ تعالى ـ لم يخلقهم مطبوعين على شيء مما ذكر طبعا ، ولم يجبرهم ويكرههم عليه إكراها ، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم للتكذيب بآياته الدالة على الحق.

واسم الإشارة (ذلِكَ) مبتدأ ، وخبره الجار والمجرور بعده ، أى : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم.

ثم قال ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أى : بطلت وفسدت وصارت هباء منثورا ، بسبب تكذيبهم لآيات الله ، وإنكارهم للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.

والاستفهام في قوله (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) للنفي : أى : لا يجزون يوم القيامة إلا الجزاء الذي يستحقونه بسبب أعمالهم في الدنيا. فربك ـ سبحانه ـ لا يظلم أحدا.

وقوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) في خبره وجهان :

أحدهما : أنه الجملة من قوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وهل يجزون خبر ثان أو مستأنف.

والثاني : أن الخبر (هَلْ يُجْزَوْنَ) والجملة من قوله (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في محل نصب على الحال وقد مضمرة عند من يشترط ذلك ، وصاحب الحال فاعل كذبوا.

وقوله (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله والفاعل محذوف والتقدير : ولقائهم الآخرة.

٣٧٧

والثاني : أنه من باب إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة» (١).

ثم قصت السورة علينا رذيلة من رذائل بنى إسرائيل المتعددة ، وذلك أنهم بعد أن تركهم موسى ـ عليه‌السلام ـ وذهب لمناجاة ربه مستخلفا عليهم أخاه هارون ، انتهزوا لين جانب هارون معهم ، فعبدوا عجلا جسدا له خوار صنعه لهم السامري من الحلي التي استعارها نساؤهم من نساء قبط مصر.

وحاول هارون ـ عليه‌السلام ـ أن يصدهم عن ذلك بشتى السبل ، ولكنهم أعرضوا عنه قائلين (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) ، وأعلم الله ـ تعالى ـ موسى بما حدث من قومه في غيبته فعاد إليهم مغضبا حزينا ، فوبخهم على كفرهم وجهالاتهم ، وعاتب بشدة أخاه هارون لتركه إياهم يعبدون العجل ولكن هارون اعتذر له ، وأقنعه بأنه لم يقصر في نصيحتهم ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين.

وعلى مشهد من بنى إسرائيل أحرق موسى العجل ، وقال للسامري رأس الفتنة ومدبرها (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً* إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وبذلك أثبت موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه أن المستحق للعبادة إنما هو الله رب العالمين.

واستمع معى إلى هذه الآيات التي قصت علينا ما حدث منهم بأسلوبها البليغ فقالت :

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٦١.

٣٧٨

أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٥٣)

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) بيان لما صنعه بنو إسرائيل بعد فراق موسى ـ عليه‌السلام ـ لهم ، وذهابه لتلقى التوراة عن ربه. مستخلفا عليهم أخاه هارون.

والحلي (١) ـ بضم الحاء والتشديد ـ جمع حلى ـ بفتح فسكون ـ كثدي وثدي ـ وهي اسم لما يتزين به من الذهب والفضة ، وهذه الحلي كان نساء بنى إسرائيل ـ قبيل خروجهن من مصر ـ قد استعرنها من نساء المصريين ، فلما أغرق الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه ، بقيت تلك الحلي في أيديهن ، فجمعها السامري بحجة أنها لا تحل لهن ، وصاغ منها عجلا جسدا له خوار ، وأوهمهم بأن هذا إلههم وإله موسى فعبدوه من دون الله.

قال الحافظ ابن كثير : (وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار ، أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ، على قولين والله أعلم (٢) والمعنى : واتخذ قوم موسى من بعد فراقه لهم لأخذ التوراة عن ربه عجلا جسدا له صوت البقر ليكون معبودا لهم.

__________________

(١) قال القرطبي : (من حليهم) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما (من حليهم) بكسر الحاء ، وقرأ يعقوب حليهم (بفتح الحاء والتخفيف). اه ح ٧ ص ٢٨٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٤٧.

٣٧٩

وقوله (عِجْلاً) مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل. وقيل إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أى : إلها.

و (جَسَداً) بدل من (عِجْلاً) أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا.

قال صاحب الكشاف : (فإن قلت لم قيل : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) والمتخذ هو السامري؟ قلت فيه وجهان :

أحدهما : أن ينسب الفعل إليهم لأن رجلا منهم باشره ووجد بين ظهرانيهم ، كما يقال بنو تميم قالوا كذا ، وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد. ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به فكأنهم أجمعوا عليه.

والثاني : أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه. فإن قلت لم قال من حليهم ولم تكن الحلي لهم إنما كانت عارية في أيديهم؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسه وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (١) اه.

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تقريع لهم على جهالاتهم. وبيان لفقدان عقولهم ، والمعنى : أبلغ عمى البصيرة بهؤلاء القوم ، أنهم لم يفطنوا حين عبدوا العجل ، أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر ، من الكلام والإرشاد إلى أى طريق من طرق الإفادة ، وليس ذلك من صفات ربهم الذي له العبادة ، لأن من صفاته ـ تعالى ـ أنه يكلم أنبياءه ورسله ، ويرشد خلقه إلى طريق الخير ، وينهاهم عن طرق الشر!!

ثم أكد ـ سبحانه ـ ذمهم بقوله (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أى : اتخذوا العجل معبودا لهم وهم يشاهدونه لا يكلمهم بأى كلام ، ولا يرشدهم إلى أى طريق ، ولا شك أنهم بهذا الاتخاذ كانوا ظالمين لأنفسهم بعبادتهم غير الله ، وبوضعهم الأمور في غير مواضعها.

وفي التعبير عن ظلمهم بلفظ (كانوا) المفيد للدوام والاستمرار ، إشعار بأن هذا الظلم دأبهم وعادتهم قبل هذا الاتخاذ وأن ما صدر عنهم ليس بدعا منهم ولا أول مناكيرهم ، فقد سبق لهم أن قالوا لنبيهم بمجرد أن أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان منهم بعد أن رأوا ضلالهم فقال تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ، قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى وحين اشتد

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٥٩.

٣٨٠