التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

فحدثتنا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل بعد حديثها قبل ذلك عن شعيب الذي كان معاصرا لموسى ـ عليهما‌السلام ـ.

فأنت ترى أن السورة الكريمة قد التزمت الترتيب التاريخى في حديثها عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

ولقد قلنا من قبل إن الأسلوب البارز في هذه السورة الكريمة وهي تدعو الناس إلى وحدانية الله يتجلى في تذكيرهم بنعم الله التي لا تحصى ، وتخويفهم عن طريق سرد أحوال الأمم المهلكة ، بسبب مخالفتها لرسلها ، وعتوها عن أمر ربها ، ولعل هذا هو السر في أنها ساقت لنا قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع أممهم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ولم تذكر لنا ـ مثلا ـ قصة إبراهيم مع قومه مع أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ كان معاصرا له ، وذلك لأن قوم إبراهيم لم يهلكوا ، ولم يلتمس هو من ربه ذلك ، بل اعتزلهم وما يعبدون من دون الله.

فالسورة الكريمة قد التزمت في مجموعها الحديث عن مصارع المكذبين ليكونوا عبرة لكل عاقل ، وذكرى لكل عبد منيب.

ومن هنا فهي لا تحدثنا عن قصة موسى من أولها كما جاء في سورة القصص مثلا وإنما هي تبدأ حديثها عنها بالغرض الذي جاءت من أجله وهو التخويف من عواقب التكذيب فتقول : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

وهكذا تصرح السورة الكريمة في أول آية من قصة موسى بالهدف الذي سيقت من أجله وهو النظر والتدبر في عاقبة المفسدين.

ثم بعد ذلك تحدثنا حديثا مستفيضا زاخرا بالعبر والعظات عما دار بين موسى وفرعون من محاورات ومجادلات انتهت بغرق فرعون وقومه ، ثم عما دار بين موسى وبين بنى إسرائيل من مجادلات تدل على أصالتهم في الكذب والإفساد والفسوق عن أمر الله.

والآن فلنستمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى لنا قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل في نحو سبعين آية تبدؤها بقوله ـ تعالى ـ :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)

٣٤١

حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ

٣٤٢

فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦)

هذا هو الدرس الأول من قصة موسى مع فرعون وفيه نرى ما دار بين موسى وفرعون من محاورات ، وما دار بين موسى والسحرة من مناقشات ومساجلات انتهت بإيمان السحرة وهم يضرعون إلى الله بلسان صادق ، وقلب سليم فيقولون ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ). ولنبدأ في تفسير آيات هذا الدرس من أولها فنقول :

قوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) معطوف على ما قبله من قصص الأنبياء الذين تحدثت عنهم السورة الكريمة.

وموسى ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب. ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وان بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني.

وفرعون : لقب لملوك مصر القدماء ، كلقب قيصر لملوك الروم ، وكسرى لملوك الفرس ، والمعنى : ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين سبق الحديث عنهم ـ وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عن ربه إلى فرعون وملئه ، وهم اشراف قومه ، ووجهاء دولته.

قال بعض العلماء : «ولم يقل ـ سبحانه ـ إلى فرعون وقومه ، لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل ، وبيدهم أمرهم ، وليس لسائر المصريين من الأمر شيء ، ولأنهم كانوا مستعبدين ـ أيضا ولكن الظلم على بنى إسرائيل الغرباء كان أشد» (١).

وقوله (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا ، أو صفة لمصدره. أى : بعثناه ـ عليه‌السلام ـ ملتبسا بها. أو بعثناه بعثا ملتبسا بها.

والمراد بها الآيات التسع وهي العصا ، واليد البيضاء ، والسنون ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٧.

٣٤٣

ثم بين ـ سبحانه ـ في الآية الأولى من هذه القصة كيف تلقى فرعون وملؤه دعوة موسى وآياته فقال : (فَظَلَمُوا بِها) أى : فكفروا بهذه الآيات تكبرا وجحودا ، فكان عليهم وزر ذلك ، وقد عدى الظلم هنا بالباء مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى الكفر ، إذ هما من واد واحد قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

ويجوز أن تكون الباء للسببية والمفعول محذوف ، أى : ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرضوها للعقاب المهين. أو ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان بهذه الآيات ، واستمروا على ذلك إلى أن حق عليهم العذاب الأليم.

ثم ختمت الآية بالأمر بالتدبر في أحوال هؤلاء الظالمين وفيما حل بهم من سوء المصير فقال ـ تعالى ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أى : فانظر أيها الرسول الكريم ـ أو أيها العاقل ـ كيف كانت عاقبة فرعون وملئه الذين أفسدوا في الأرض ، لقد أخذهم الله بذنوبهم فأغرقهم في اليم ، وموسى وقومه ينظرون إليهم ، وتلك عاقبة كل من طغى وآثر الحياة الدنيا.

ووضع ـ سبحانه ـ المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للافساد.

و (كَيْفَ) خبر لكان مقدم عليها لاقتضائه الصدارة. وعاقبة ، اسمها ، وهذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط حرف الجر ، إذ التقدير : فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلناه بهم.

وهكذا نرى السورة الكريمة ترينا في أول آية من هذه القصة الغرض الذي سيقت من أجله وهو التدبر في عواقب المكذبين ، والتخويف من المصير الذي ساروا إليه ، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن السير على منوالهم. والسورة الكريمة عند ما ترينا ذلك في مطلع هذه القصة تكون متناسقة كل التناسق مع أسلوبها الذي اختارته في دعوة الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق ، وهو أسلوب التذكير بالنعم ، والتحذير من عواقب الظلم والطغيان ـ كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في التمهيد بين يدي السورة.

ثم بعد هذا التنبيه الإجمالي إلى مآل المفسدين ، أخذت السورة تحكى لنا ما دار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين فرعون بصورة مفصلة فقالت : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لفرعون في أدب واعتزاز إنى رسول من رب العالمين ، أرسلنى إليك لأدعوك لعبادته والخضوع له.

ثم بين له أنه بمقتضى هذه الرسالة لا يقول إلا كلمة الحق فقال : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أى : جدير بألا أقول على الله إلا القول الحق.

٣٤٤

و (حَقِيقٌ) : صفة (رَسُولٌ) أو خبر لمبتدأ محذوف أى : أنا حقيق. أو خبر بعد خبر. و (عَلى) بمعنى الباء.

وقرأ أبىّ «حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق» وقرأ عبد الله ابن مسعود «حقيق ألا أقول». وقرأ نافع «حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق» أى : واجب وحق على أن لا أخبر عنه ـ تعالى ـ إلا بما هو حق وصدق.

ثم قال : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أى : قد جئتكم بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقى فيما جئتكم به. وفي قوله (مِنْ رَبِّكُمْ) إشعار بأن ما جاء به من حجج وبراهين لم يكن من صنعه. وإنما هو من عند رب العالمين ، الذي بيده ملكوت كل شيء.

(فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أى : قد جئتكم ببينة عظيمة الشأن في الدلالة على صدقى. فأطلق بنى إسرائيل من أسرك وأعتقهم من رقك وقهرك ، ودعهم يخرجون أحرارا من تحت سلطانك ليذهبوا معى إلى دار سوى دارك.

وإلى هنا يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ قد بين لفرعون طبيعة رسالته وطالبه برفع الظلم عن المظلومين فماذا كان رد فرعون.

يحكى القرآن رده فيقول : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) أى : بمعجزة تشهد بصدقك من عند من أرسلك كما تدعى (فَأْتِ بِها) أى : فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك أنك من الملتزمين لقول الحق.

وعبر بإن المفيدة للشك في تحقيق مضمون الجملة الشرطية ، للإيذان بأنه ليس معتقدا في صدق موسى ـ عليه‌السلام.

وهنا يحكى لنا القرآن ما أسرع بفعله موسى للرد على فرعون فقال : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) : أى فألقى موسى عصاه التي كانت بيده أمام فرعون فإذا هي ثعبان مبين ، أى : ظاهر بين لا خفاء في كونه ثعبانا حقيقيا يسعى في خفة وسرعة كأنه جان.

والثعبان : الذكر العظيم من الحيات ، وقيل : إنه الحية مطلقا.

وقد ذكر بعض المفسرين روايات عن ضخامة هذا الثعبان وأحواله ، إلا أننا أضربنا عنها صفحا لضعفها.

ثم حكى القرآن معجزة أخرى لموسى تشهد بصدقة فقال : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) النزع : إخراج الشيء من مكانه. أى : وأخرج موسى يده من درعه بعد أن أدخلها فيه أو من طوق قميصه ، أو من إبطه فإذا هي بيضاء بياضا عجيبا خارقا للعادة من غير أن يكون

٣٤٥

بها علة من مرض أو غيره. قيل : إنه كان لها شعاع يغلب ضوء الشمس.

قال الآلوسى : قوله (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أى : بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظار. وقيل المعنى : بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها ، لأنه ـ عليه‌السلام ـ كان آدم ـ أى أسمر ـ شديد الأدمة فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط» وعنى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزط جنسا من السودان والهنود» (١).

وبذلك يكون موسى قد أتى بالبينة التي تدعو فرعون وملأه إلى الإيمان به فهل آمنوا؟ كلا إنهم ما آمنوا بل استمروا في ضلالهم ، وحكى لنا القرآن أن حاشية فرعون السيئة ، وأصحاب الجاه والغنى في دولته غاظهم ما جاء به موسى ، يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

أى : قال الأشراف من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ، أى : راسخ في علم السحر ، ماهر فيه. ولم يكتفوا بهذا القول الباطل ، بل أخذوا يثيرون الناس على موسى ، ويهولون لهم الأمر ليقفوا في وجهه فقالوا (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ).

أى : يريد هذا الساحر أن يسلب منكم ملككم ، وأن يصبح هو ملكا على مصر ، فماذا تأمرون لاتقاء هذا الخطر الداهم؟ وبما ذا تشيرون في أمره؟ فهو من الأمر بمعنى المشاورة. يقال : آمرته فآمرنى. أى : شاورته فأشار على.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء حيث قال : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) أى قال فرعون للملأ حوله (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ؟) وهنا عزى إلى الملأ فكيف الجمع ، قلت : قد قاله هو وقالوه هم فحكى قوله هناك وقولهم هاهنا. أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس عن طريق التبليغ كما يفعل الملوك ، يرى الواحد منهم الرأى فيكلم به من يليه من الخاصة ، ثم تبلغه الخاصة العامة ... وقولهم : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من أمرته فأمرنى بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأى : وقيل : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من كلام فرعون ، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم «كأنه قيل : فماذا تأمرون؟ فأجابوه : أرجه وأخاه ..» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٣٩.

٣٤٦

ثم حكى القرآن ما أشار به الملأ من قوم فرعون فقال : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ).

أرجه : أصله أرجئه ـ وقد قرئ به ـ حذفت الهمزة وسكنت الهاء ، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل. والإرجاء التأخير. يقال : أرجيت هذا الأمر وأرجأته ، إذا أخرته. ومنه (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ).

والمدائن : أى : البلاد جمع مدينة ، وهي من مدن بالمكان ـ كنصر ـ إذا أقام به ، و (حاشِرِينَ) أى : جامعين ، يقال. حشر الناس ـ من باب نصر وضرب ـ يحشرهم حشرا إذا جمعهم ، ومنه : يوم الحشر والمحشر.

والمعنى : قال الملأ من قوم فرعون حين استشارهم في أمر موسى : أخر أمره وأمر أخيه ولا تتعجل بالقضاء في شأنهما ، وأرسل في مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة يجمعون إليك السحرة المهرة ، لكي يقفوا في وجه هذا الساحر العليم ، ويكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحر مثله أو أشد» وكان السحر في عهد فرعون من الأعمال الغالبة التي يحسنها كثير من أهل مملكته.

وقال بعضهم : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا له : أخره ليتبين حاله للناس.

وقال القاسمى : تدل الآية على معجزة عظيمة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه إلا الله وتدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمرا عظيما أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة وتدل على أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال ، لذلك قالوا (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين ، المحافظة على الرياسة والمال والجاه كما هي عادة الناس في هذا الزمن» (١).

وقوله (فِي الْمَدائِنِ) متعلق بأرسل ، و (حاشِرِينَ) نعت لمحذوف أى : رجالا حاشرين. ومفعوله محذوف. أى : حاشرين السحرة ، بدليل ما بعده.

ولا يذكر السياق القرآنى بعد ذلك أنهم أرسلوا إلى السحرة ، ولا أنهم جمعوهم ، وإنما يترك ذلك للعقل يفهمه حيث لا داعي لذكر هذه التفاصيل. ويتجه القرآن إلى الحديث عما دار بين السحرة وبين فرعون بعد أن جمعوا من مدائن الصعيد بمصر حيث كان مقرهم هناك فيقول :

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٤ ص ٢٨٣٣.

٣٤٧

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا : إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ : نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).

أى : وأقبل السحرة سريعا على فرعون بعد أن أرسل إليهم فقالوا له بلغة المحترف الذي مقصده الأول مما يعمله الأجر والعطاء : إن لنا لأجرا عظيما إن كانت لنا الغلبة على هذا الساحر العليم؟ فهم يستوثقون أولا من جزالة الأجر وضخامته. وهنا يجيبهم فرعون بقوله : نعم لكم أجر مادى جزيل إذا انتصرتم عليه ، وفضلا عن ذلك فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربى وجواري. فهو يغريهم بالأجر المادي ويعدهم بالقرب المعنوي من قلبه تشجيعا لهم على الإجادة ، وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والمهارة والتضليل ، وإنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة الغالبة التي لا يستطيع الوقوف في وجهها الساحرون ولا المتجبرون وغيرهم.

هذا ، وقد اختلف المفسرون في عدد هؤلاء السحرة فقيل ، كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير.

وبعد أن اطمأن السحرة على الأجر ، وتطلعت نفوسهم إليه ، يحكى لنا القرآن أنهم توجهوا إلى موسى بلغة الواثق من قوته ، المتحدى لخصمه : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).

أى : أنت يا موسى مخير بين أن تلقى عصاك أولا ؛ وبين أن نلقى نحن أولا وأنت تفعل ما تشاء بعدنا ، وكأنهم يقولون له : وفي كلتا الحالتين فنحن على ثقة من الفوز والنصر فأرح نفسك واستسلم لنا مقدما.

ويرى الزمخشري أن تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا في الصراع (١).

ولقد حكى لنا القرآن في سورة طه أن موسى نصحهم بعدم الدخول معه في معركة هم الخاسرون فيها قطعا فقال : (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) (٢).

أما هنا فيحكى لنا القرآن أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد طلب منهم أن يلقوا أولا مستهينا بتحديهم له ، غير مبال بهم ولا بمن جمعهم ، لأنه قد اعتمد على خالقه (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٤٠.

(٢) الآية ٦١ من سورة طه.

٣٤٨

أى : قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أولا ، فلما ألقوا ما كان معهم من الحبال والعصى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أى : خيلو إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج مع أنه لم يكن إلا مجرد صنعة وخيال ، ولذا لم يقل ـ سبحانه ـ سحروا الناس.

وقوله (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أى : خوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر. (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أى : في باب السحر ، أو في عين من رآه ، فإنه ألقى كل واحد منهم عصاه ، فصارت كأنها ثعابين.

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) تعبير مصور بليغ ، فهو يوحى بأنهم استجاشوا وجدان الناس قسرا ، وساقوهم سوقا بوسائل مصطنعة مفتعلة لا تستند إلى واقع سليم.

روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا ، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.

وروى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل. جعلوا فيها الزئبق.

وقال بعض العلماء : قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا ، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملؤها نارا ، فلما طرحت عليها العصى المجوفة المملوءة بالزئبق حركها ، لأن شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته. فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية» (١).

ويمضى القرآن فيبين لنا أن هذا السحر العظيم الذي استرهب الناس وسحر أعينهم ، قد تهاوى في لحظة ، وانطوى في ومضة ، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذي سلحه به ربه ، استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ).

اللقف : التناول بسرعة. يقال : لقف الشيء يلقفه لقفا ولقفانا ، أخذه بسرعة.

والإفك : الكذب. يقال أفك يأفك ، وأفك يأفك إفكا وأفكا ـ كضرب وعلم ـ إذا كذب ، وأصله من الأفك ـ بفتح أوله ـ وهو بمعنى صرف الشيء عن وجهه الذي يجب أن يكون عليه. واطلق على الكذب إفك ـ بكسر الهمزة ـ لكونه مصروفا عن وجه الحق ، ثم صار حقيقة فيه.

والمعنى : وأوحينا إلى موسى ـ بعد أن أوجس خيفة مما رآه من أمر السحرة ـ أن الق عصاك ولا تخف إنك أنت الأعلى ، فألقاها فإذا هي تبتلع وتلتقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به أولئك السحرة (فَوَقَعَ الْحَقُ) أى : ظهر وتبين وثبت الحق الذي عليه موسى ـ وفسد وبطل ما كانوا

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٦٦.

٣٤٩

يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره. وترتب على ذلك أن أصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه وسحرته في ذلك المجمع العظيم ، الذي حشر الناس له في يوم عيدهم وزينتهم ، وانقلب الجميع إلى بيوتهم صاغرين أذلاء ، بعد أن أنزل بهم موسى الخذلان والخيبة.

وان قوله (أَنْ أَلْقِ) يجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون مصدرية فتكون هي وما بعدها مفعول الإيحاء.

والفاء في قوله (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) فصيحة أى : فألقاها فصارت حية فإذا هي تلقف ما يأفكون.

وإنما حذف هذا المقدر للإيذان بمسارعة موسى إلى الإلقاء ، وبغاية سرعة الانقلاب ، كأن ابتلاعها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء.

و (ما) في قوله (ما يَأْفِكُونَ) موصولة والعائد محذوف أى : الذي يأفكونه ، أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أى : فإذا هي تلقف المأفوك.

وفي التعبير بقوله ـ سبحانه ـ (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تجسيم لهذا الحق الذي كان عليه موسى ، وتثبيت واستقرار له ، حتى لكأنه شيء ذو ثقل نزل على شيء آخر خفيف الوزن فأزاله ومحاه من الوجود.

وهذه الآيات الكريمة تصور لنا كيف أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت ، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان ، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف. ولكن ما إن يواجهه الحق الهادئ الثابت المستقر بقوته التي لا تغالب حتى يزهق ويزول ، وينطفئ كشعلة الهشيم ، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصغار ، وهم يرون صروحهم تتهاوى ، وآمالهم تتداعى ، أمام نور الحق المبين ، وإذا بتحديهم الصريح ، وتطاولهم الأحمق يتحول إلى استسلام مهين ، وذل مشين.

ثم يحكى لنا القرآن بعد ذلك موقف السحرة بعد أن رأوا بأعينهم أن ما فعله موسى ـ عليه‌السلام ـ ليس من قبيل السحر فقال : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أى : خروا سجدا ، كأنما ـ كما قال الزمخشري ـ قد ألقاهم ملق لشدة خرورهم أو لم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا فكأنهم ألقوا.

والمراد أن ظهور بطلان سحرهم ، وإدراكهم بأن موسى على الحق ، قد حملهم على السجود لله ـ تعالى ـ وأن نور الحق قد بهرهم وجعلهم يسارعون إلى الإيمان حتى لكأن أحدا قد دفعهم إليه دفعا ، وألقاهم إليه إلقاء.

وقوله (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أى : قال السحرة بعد أن تبين لهم

٣٥٠

الحق وخروا ساجدين لله ، آمنا بمالك أمر العالمين ومدبر شئونهم ، والمتصرف فيهم ، وجملة (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بدل من الجملة التي قبلها ، أو صفة لرب العالمين ، أو عطف بيان. وفائدة ذلك نفى توهم من يتوهم أن رب العالمين قد يطلق على غير الله ـ تعالى ـ كقول فرعون (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى).

وهكذا نرى أثر الحق عند ما تخالط بشاشته القلوب الواعية ، لقد آمن السحرة وصرحوا بذلك أمام فرعون وشيعته ، لأنهم أدركوا عن يقين قطعى أن ما جاء به موسى ـ عليه‌السلام ـ ليس من قبيل السحر ، والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له ، ومن هنا فقد تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق أمام صولة الحق الذي لا يجحده إلا مكابر حقود.

ولكن فرعون وملؤه لم يرقهم ما شاهدوا من إيمان السحرة ، ولم يدركوا لانطماس بصيرتهم فعل الإيمان في القلوب ، فأخذ يتوعدهم بالموت الأليم ويحكى القرآن ذلك فيقول : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أى : قال فرعون منكرا على السحرة إيمانهم ، آمنتم برب موسى وهارون قبل أن آمركم أنا بذلك؟ فهو لغروره وجهله ظن أن الإيمان بالحق بعد أن تبين يحتاج إلى استئذان.

ثم أضاف إلى ذلك اتهامهم بأن إيمانهم لم يكن عن إخلاص ليصرف الناس عنهم فقال : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أى : إن ما صنعتموه من الإيمان برب موسى وهارون ليس عن اقتناع منكم بذلك ، بل هو حيلة احتلتموها أنتم وموسى قبل أن يلقى كل منكم بسحره ، لكي تخرجوا من مصر أهلها الشرعيين ، وتخلص لكم ولبنى إسرائيل.

وغرضه من هذا القول إفهام قبط مصر أن إيمان السحرة كان عن تواطؤ مع موسى ، وأنهم يهدفون من وراء ذلك إلى إخراجهم من أوطانهم ، فعليهم. ـ أى القبط ـ أن يستمسكوا بدينهم وأن يعلنوا عداوتهم لموسى وللسحرة ولبنى إسرائيل.

ولا شك أن هذا لون من الكذب الخبيث أراد من ورائه فرعون صد الناس عن الإيمان بموسى ـ عليه‌السلام ـ.

ثم أتبع هذا الاتهام الباطل بالوعيد الشديد فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أى : فسوف تعلمون عاقبة ما فعلتم. ثم فصل هذا الوعيد بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).

أى : أقسم لأقطعن من كل شق منكم عضوا مغايرا للآخر ، كاليد من الجانب الأيمن ، والرجل من الجانب الأيسر ، ثم لأصلبنكم أجمعين تفضيحا لكم ، وتنكيلا لأمثالكم. ومع أن

٣٥١

فرعون قد توعد هؤلاء المؤمنين بالعذاب والتشويه والتنكيل والموت القاسي البطيء المرهوب ، فإننا نراهم يقابلون كل ذلك بالصبر الجميل ، والإيمان العميق ، والاستهانة ببطش فرعون وجبروته فيقولون له بكل ثبات واطمئنان : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) قال صاحب الكشاف : فيه أوجه : أن يريدوا إنا لا نبالى بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب. أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه» (١).

ثم قالوا له على سبيل الاستهزاء والتوبيخ (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أى : وما تكره منا وتعيب إلا الإيمان بالله ، مع أن ما تكرهه منا وتعيبه علينا هو أعظم محاسننا ، لأنه خير الأعمال ، وأعظم المناقب ، فلا نعدل عنه طلبا لمرضاتك.

يقال : نقم عليه أمره ، ونقمت منه نقما ـ من باب ضرب ـ عبته وكرهته أشد الكراهة.

قال الجمل : وقوله (إِلَّا أَنْ آمَنَّا) يجوز أن يكون في محل نصب مفعول به ، أى : ما تعيب علينا إلا إيماننا. ويجوز أن يكون مفعولا من أجله. أى : ما تنال منا وتعذبنا لشيء من الأشياء إلا لإيماننا. وعلى كل من القولين فهو استثناء مفرغ» (٢).

ثم ختموا مناقشتهم لفرعون بالانصراف عنه والالتجاء إلى الله ـ تعالى ـ فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أى : يا ربنا أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك ، وتوفنا إليك حالة كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك ، مستسلمين لقضائك.

وبذلك يكون السحرة قد ضربوا للناس في كل زمان ومكان أروع الأمثال في التضحية من أجل العقيدة ، وفي الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة ، وفي الصبر على المكاره والآلام ، وفي المسارعة إلى الدخول في الطريق الحق بعد أن تبين لهم ، وفي التعالي عن كل مغريات الحياة.

قال قتادة : كانوا في أول النهار كفارا سحرة. وفي آخره شهداء بررة ، فرضي الله عنهم وحشرنا في زمرتهم.

وبعد هذا الحديث الذي ساقته السورة عما دار بين موسى وفرعون ، وبين موسى والسحرة ، والذي انتهى بإيمان السحرة برب العالمين بعد ذلك بدأت السورة تحكى لنا ما قاله الملأ من قوم فرعون بعد هزيمتهم المنكرة ، وما قاله موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه بعد أن بلغهم وعيد فرعون وتهديده لهم ، وما رد به قومه عليه مما يدل على سفاهتهم فقالت :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٤١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٧٩.

٣٥٢

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٢٩)

قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ : أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ).

أى : قال الزعماء والوجهاء من قوم فرعون له ، بعد أن أصابتهم الهزيمة والخذلان في معركة الطغيان والإيمان ، قالوا له على سبيل التهييج والإثارة : أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين في أرضك ، ليفسدوا فيها بإدخال الناس في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم ورئاستهم.

روى أنهم قالوا له ذلك بعد أن رأوا عددا كبيرا من الناس ، قد دخل في الإيمان متبعا السحرة الذين قالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

وقوله (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) معناه : أتتركهم أنت يعبدون رب موسى وهارون ، ويتركون عبادتك وعبادة آلهتك ، فيظهر للناس عجزك وعجزها ، فتكون الطامة الكبرى التي بها يفسد ملكك.

قال السدى : إن فرعون كان قد صنع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها ، وسمى نفسه الرب الأعلى.

وقال الحسن إنه كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله ، وهو رب النوع الإنساني.

٣٥٣

وقد قرئ (وَيَذَرَكَ) بالنصب والرفع أما النصب فعلى أنه معطوف على (لِيُفْسِدُوا) وأما الرفع فعلى أنه عطف على (أَتَذَرُ) أو على الاستئناف ، أو على أنه حال بحذف المبتدأ أى : وهو يذرك.

والمتأمل في هذا الكلام الذي حكاه القرآن عن الملأ من قوم فرعون ، يراه يطفح بأشد ألوان التآمر والتحريض. فهم يخوفونه فقدان الهيبة والسلطان بتحطيم الأوهام التي يستخدمها السلطان ، لذا نراه يرد عليهم بمنطق الطغاة المستكبرين فيقول : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ ، وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ).

أى : لا تخافوا ولا ترتاعوا أيها الملأ فإن قوم موسى أهون من ذلك ، وسننزل بهم ما كنا نفعله معهم من قبل وهو تقتيل الأبناء ، وترك النساء أحياء ، وإنا فوقهم غالبون كما كنا ما تغير شيء من حالنا ، فهم الضعفاء ونحن الأقوياء ، وهم الأذلة ونحن الأعزة.

فأنت ترى أن ما قاله الملأ من قوم فرعون هو منطق حاشية السوء في كل عهود الطغيان فهم يرون أن الدعوة إلى وحدانية الله إفساد في الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد. ولأنها هي الدعوة إلى وحدانية الله التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبروتهم ، وتفتح العيون على النور الذي يخشاه أولئك الفاسقون.

وترى أن ما قاله فرعون هو منطق الطغاة المستكبرين دائما. فهم يلجئون إلى قوتهم المادية ليحموا بها آثامهم ، وشهواتهم ، وسلطانهم القائم على الظلم ، والبطش ، والمنافع الشخصية.

ويبلغ موسى وقومه هذا التهديد والوعيد من فرعون وملئه فماذا قال موسى ـ عليه‌السلام ـ؟ لقد حكى القرآن عنه أنه لم يحفل بهذا التهديد بل أوصى قومه بالصبر ، ولوح لهم بالنصر. استمع إلى القرآن وهو يحكى قول موسى ـ عليه‌السلام ـ فيقول :

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

أى : قال موسى لقومه على سبيل التشجيع والتسلية حين ضجوا وارتعبوا من تهديدات فرعون وملئه : يا قوم استعينوا بالله في كل أموركم. واصبروا على البلاء ، فهذه الأرض ليست ملكا لفرعون وملئه ، وإنما هي ملك لله رب للعالمين ، وهو ـ سبحانه ـ يورثها لمن يشاء من عباده ، وقد جرت سنته ـ سبحانه ـ أن يجعل العاقبة الطيبة لمن يخشاه ولا يخشى أحدا سواه.

بهذا الأسلوب المؤثر البليغ ، وبهذه الوصايا الحكيمة ، وصى موسى قومه بنى إسرائيل فماذا كان ردهم عليه؟ لقد كان ردهم يدل على سفاهتهم ، فقد قالوا له : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) أى : قال بنو إسرائيل لموسى ردا على نصيحته لهم : لقد أصابنا الأذى من

٣٥٤

فرعون قبل أن تأتينا يا موسى بالرسالة ، فقد قتل منا ذلك الجبار الكثير من أبنائنا وأنزل بنا ألوانا من الظلم والاضطهاد وأصابنا الأذى بعد أن جئتنا بالرسالة كما ترى من سوء أحوالنا. واشتغالنا بالأشغال الحقيرة المهينة ، فنحن لم نستفد من رسالتك شيئا ، فإلى متى نسمع منك تلك النصائح التي لا جدوى من ورائها؟.

ومع هذا الرد السفيه من قوم موسى عليه ، نراه يرد عليهم بما يليق به فيقول : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) فرعون الذي فعل بكم ما فعل من أنواع الظلم ، وتوعدكم بما توعد من صنوف الاضطهاد.

(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أى يجعلكم خلفاء فيها من بعد هلاكه هو وشيعته. (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أى : فيرى ـ سبحانه ـ الكائن منكم من العمل ، حسنه وقبيحه ، ليجازيكم على حسب أعمالكم ، فإن استخلافكم في الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس محاباة لكم ، وإنما هو استخلاف للاختبار والامتحان ، فإن أحسنتم زادكم الله من فضله ، وإن أسأتم كان مصيركم كمصير أعدائكم.

وفي التعبير «بعسى» الذي يدل على الرجاء ، أدب عظيم من موسى مع ربه ـ عزوجل ـ : وتعليم للناس من بعده أن يلتزموا هذا الأدب السامي مع خالقهم ، وفيه كذلك منع لهم من الاتكال وترك العمل ، لأنه لو جزم لهم في الوعد فقد يتركون السعى والجهاد اعتمادا على ذلك.

وقيل : إن موسى ساق لهم ما وعدهم به في صيغة الرجاء لئلا يكذبوه ، لضعف نفوسهم بسبب ما طال عليهم من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه ، واستعظامهم لملكه وقوته ، فكأنهم يرون أن ما قاله لهم موسى مستبعد الحصول ، لذا ساقه لهم في صورة الرجاء.

ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك فتحدثنا في بضع آيات عن العذاب الذي أخذ الله به آل فرعون بسبب ظلمهم وطغيانهم ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ قد حقق لموسى رجاءه ، وكيف أن أولئك الظالمين لم يمنعهم العذاب الذي نزل بهم من ارتكاب المنكرات والآثام.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ

٣٥٥

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧)

تدبر معنا أيها القارئ الكريم تلك الآيات الكريمة التي تحكى كل ذلك وغيره بأسلوبها البليغ المؤثر.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) يعنى الجدب ، وهذا معروف في اللغة ، يقال : أصابتهم سنة ، أى : جدب. وتقديره : جدب سنة ، وفي الحديث «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه

٣٥٦

أسنت القوم ، أى أجدبوا وقحطوا (١).

وقال الآلوسى : هذا شروع في تفصيل مبادئ الهلاك الموعود به ، وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال (٢).

والمعنى : ولقد أخذنا آل فرعون أى : اختبرناهم وامتحناهم بالجدب والقحط ، وضيق المعيشة ، وانتقاص الثمرات لعلهم يثوبون إلى رشدهم ؛ ويتذكرون ضعفهم أمام قوة خالقهم ، ويرجعون عما هم فيه من الكفر والعصيان ، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب ، وتصفى النفوس ، وترغب في الضراعة إلى الله ، وتدعو إلى اليقظة والتفكير ومحاسبة النفس على الخطايا اتقاء للبلايا.

وصدرت الآية الكريمة بالقسم ، لإظهار الاعتناء بمضمونها.

والمراد بآل فرعون قومه وأتباعه ، فهم مؤاخذون بظلمه وطغيانه ، لأن قوته المالية والجندية منهم ، وقد خلقهم الله أحرارا ؛ وأكرمهم بالعقل والفطرة التي تكره الظلم والطغيان بالغريزة فكان حقا عليهم ألا يقبلوا استعباده لهم وجعلهم آلة لطغيانه ، لا سيما بعد بعثة موسى ـ عليه‌السلام ـ ووصول دعوته إليهم ، ورؤيتهم لما أيده الله به من الآيات (٣).

وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الأشراف ، لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر ، وإن كان في نفس الأمر خسيسا.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن آل فرعون لم يعتبروا بهذا الأخذ والامتحان ، وإنما ازدادوا تمردا وكفرا فقال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ).

أى : فإذا جاءهم ما يستحسنونه من الخصب والسعة والرخاء ، قالوا بغرور وصلف : ما جاء هذا الخير إلا من أجلنا لأننا أهل له ، ونحن مستحقوه وبكدنا واجتهادنا وامتيازنا على غيرنا ناسين فضل الله عليهم ، ولطفه بهم ، غافلين عن شكره على نعمائه.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أى : وإن اتفق أن أصابتهم سيئة أى : حالة تسؤهم كجدب أو قحط أو مصيبة في الأبدان أو الأرزاق ، تشاءموا بموسى ومن معه من أتباعه ، وقالوا : ما أصابنا ما أصابنا إلا بشؤمهم ونحسهم ، ولو لم يكونوا معنا لما أصبنا.

وأصل (يَطَّيَّرُوا) يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها. والتطير التشاؤم والأصل في

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٢٩٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٣٨.

(٣) تفسير المنار ج ٩ ص ٨٦.

٣٥٧

إطلاق التطير على التشاؤم : أن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وهو ما طار إلى الجهة اليسرى ، وتتيامن بالسانح وهو ما طار إلى الجهة اليمنى. ومنه سموا الشؤم طيرا وطائرا ، والتشاؤم تطيرا. وقد يطلق الطائر على الحظ والنصيب خيرا كان أو شرا ، ولكنه غالب في الشر.

وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق ـ وهي إذا ـ لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات ، لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال. ونكر السيئة وذكرها بأداة الشك ـ وهي إن ـ لندورها وعدم تعلق الإرادة بإحداثها إلا بالتبع ، فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بسبب الأعمال السيئة.

وقوله ـ تعالى ـ (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) استئناف مسوق للرد على خرافاتهم وأباطيلهم. وصدر بلفظ «ألا» الذي يفيد التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمون هذا الخبر.

أى : إنما سبب شؤمهم هو أعمالهم السيئة المكتوبة لهم عند الله ، فهي التي ساقت إليهم ما يسوءهم وليس لموسى ولا لمن معه أى تدخل في ذلك. ولكن أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة ، فيقولون ما يقولون مما تمليه عليهم أهواؤهم وجهالاتهم.

وفي إسناد عدم العلم إلى أكثرهم ، إشعار بأن قلة منهم تعلم ذلك ، ولكنها لا تعمل بمقتضى علمها.

هذا ، وقد أفادت الآية الكريمة أن القوم لم يتأثروا لا بالرخاء ولا بالشدائد. الرخاء العظيم ، والخصب الواسع زادهم غرورا وبطرا ، والشدائد والمحن جعلتهم ينسبون أسبابها إلى غيرهم دون أن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم. مع أن الشدائد ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ تجعل الناس «أضرع خدودا وألين أعطافا ، وأرق أفئدة».

ثم تحكى السورة الكريمة أن آل فرعون قد لجوا في طغيانهم يعمهون فقالت : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

أى : قال الملأ من بنى إسرائيل لموسى بعد أن رأوا من حججه الدالة على صدقه : إنك يا موسى إن تجئنا بكل نوع من أنواع الآيات التي تستدل بها على حقية دعوتك لأجل أن تسحرنا بها ، أى تصرفنا بها عما نحن فيه ، فما نحن لك بمصدقين ، ولا لرسالتك بمتبعين.

ومنطقهم هذا يدل على منتهى العناد والجحود ، فهم قد صاروا في حالة نفسية لا يجدي معها دليل ولا ينفع فيها إقناع ، لأنهم قد أعلنوا الإصرار على التكذيب حتى ولو أتاهم نبيهم بألف دليل ودليل ، وهكذا شأن الجبارين الذين قست قلوبهم ، ومسخت نفوسهم وأظلمت

٣٥٨

مشاعرهم ، حين يدمغهم الحق ، ويطاردهم الدليل الساطع بنوره الواضح ، إنهم تأخذهم العزة بالإثم فيأبون أى لون من ألوان التفكير والتدبر.

قال الجمل : و (مَهْما) اسم شرط جازم ـ يدل على العموم ـ ، و (مِنْ آيَةٍ) بيان له ، والضميران في «به» و «بها» راجعان لمهما الأول مراعاة للفظها لإبهامه ، والثاني مراعاة لمعناها» (١).

وسموا ما جاء به موسى ـ عليه‌السلام ـ آية من باب المجاراة له والاستهزاء بها حيث زعموا أنها نوع من السحر كما ينبئ عنه قولهم (لِتَسْحَرَنا بِها).

ثم حكت السورة الكريمة ما حل بهؤلاء الفجرة من عقوبات جزاء عتوهم وعنادهم فقالت : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ، وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ ، وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

أى : فأرسلنا على هؤلاء الجاحدين عقوبة لهم الطوفان.

قال الآلوسى : أى : ما طاف بهم ، وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر وسيل ، فهو اسم جنس من الطواف. وقد اشتهر في طوفان الماء ، وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس وجاء عن عطاء ومجاهد تفسيره بالموت ، وفسره بعضهم بالطاعون وكانوا أول من عذبوا به» (٢).

وأرسلنا عليهم (الْجَرادَ) فأكل زروعهم وثمارهم وأعشابهم ، حتى ترك أرضهم سوداء قاحلة.

وأرسلنا عليهم (الْقُمَّلَ) وهو ضرب معروف من الحشرات المؤذية ، وقيل : هو السوس الذي أكل حبوبهم وما اشتملت عليه بيوتهم.

وأرسلنا عليهم (الضَّفادِعَ) فصعدت من الأنهار والخلجان والمنابع فغطت الأرض وضايقتهم في معاشهم ومنامهم.

وأرسلنا عليهم (الدَّمَ) فصارت مياه الأنهار مختلطة به ، فمات السمك فيها ، وقيل المراد بالدم الرعاف الذي كان يسيل من أنوفهم.

تلك هي النقم التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على هؤلاء المجرمين ، بسبب فسوقهم عن أمر ربهم ، وتكذيبهم لنبيهم ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٨١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٢٣.

٣٥٩

وقوله : (آياتٍ) حال من العقوبات الخمس المتقدمة.

وقوله : (مُفَصَّلاتٍ) أى : مبينات واضحات لا يشك عاقل في كونها آيات إلهية لا مدخل فيها للسحر كما يزعمون.

وقيل (مُفَصَّلاتٍ) أى : مميزا بعضها عن بعض ، منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم. وكان بين كل اثنين منها شهر ، وكان امتداد كل واحدة منها شهرا ، كما أخرج ذلك ابن المنذر عن ابن عباس (١) :

ثم وضحت الآية في نهايتها موقفهم من هذا الابتلاء وتلك العقوبات فقالت :

(فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أى فاستكبروا عن الإيمان بموسى ـ عليه‌السلام ـ وعما جاء به من معجزات ، وكانوا قوما طبيعتهم الاجرام ودينهم الكفر والفسوق.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند نزول العقاب بهم فقال : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

أى وحين وقع على فرعون ومثله العذاب المذكور في الآية السابقة ، والمتمثل في الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، حين وقع عليهم ذلك أخذوا يقولون لموسى بتذلل واستعطاف عقب كل عقوبة من تلك العقوبات : يا موسى ادع لنا ربك واسأله بحق ما عهد عندك من أمر إرسالك إلينا لإنقاذنا من الهلاك أن يكشف عنا هذا العذاب ، ونحن نقسم لك بأنك إن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل.

قال صاحب الكشاف : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ما مصدرية ، والمعنى بعهده عندك وهو النبوة. والباء إما أن تتعلق بقوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) على وجهين :

أحدهما : أسفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. أو ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك.

وإما أن يكون قسما مجابا بلنؤمنن ، أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقفهم الجحودى فقال : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أى : فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد مرة إلى الوقت الذي أجل لهم وهو

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ٣٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٤٨.

٣٦٠