التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

البخس ، وليتهم قنعوا به بل جمعوا «حشفا وسوء كيلة» فإنا لله وإنا إليه راجعون (١) ثم نهاهم عن الإفساد بوجه عام فقال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أى : لا تفسدوا في الأرض بما ترتكبون فيها من ظلم وبغى ، وكفر وعصيان ، بعد أن أصلح أمرها وأمر أهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون الذين يعدلون في معاملاتهم ويلتزمون الحق في كل تصرفاتهم.

ثم ختمت الآية بتلك الجملة الكريمة التي استجاش بها شعيب مشاعر الإيمان في نفوس قومه حيث قال لهم : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أى : ذلكم الذي آمركم به وأنهاكم عنه خير لكم في الحال والمآل فبادروا إلى الاستجابة لي إن كنتم مصدقين قولي ، ومنتفعين بالهدايات التي جئت بها إليكم من ربكم.

فاسم الإشارة (ذلِكُمْ) يعود إلى ما ذكر من الأمر بالوفاء في الكيل والميزان والنهى عن بخس الناس أشياءهم وعن الإفساد في الأرض.

ثم انتقل شعيب إلى نهيهم عن رذائل أخرى كانوا متلبسين بها فقال : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) توعدون : من التوعد بمعنى التخويف والتهديد. أى : ولا تقعدوا بكل طريق من الطرق المسلوكة تهددون من آمن بي بالقتل ، وتخيفونه بأنواع الأذى ، وتلصقون بي وأنا نبيكم التهم التي أنا برىء منها ، بأن تقولوا لمن يريد الإيمان برسالتي : إن شعيبا كذاب وإنه يريد أن يفتنكم عن دينكم.

وقوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أى : وتصرفون عن دين الله وطاعته من آمن به ، وتطلبون لطريقه العوج بإلقاء الشبه أو بوصفها بما ينقصها ، مع أنها هي الطريق المستقيم الذي هو أبعد ما يكون عن شائبه الاعوجاج.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : صراط الحق واحد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فكيف قيل : بكل صراط؟ قلت : صراط الحق واحد ، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة ، فكانوا إذا رأوا أحدا يشرع في شيء منها أوعدوه وصدوه فإن قلت : إلام يرجع الضمير في (آمَنَ بِهِ)؟ قلت : إلى كل صراط ، والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون عنه. فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٧٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٨.

٣٢١

وقوله : توعدون. وتصدون ، وتبغون هذه الجمل أحوال ، أى : لا تقعدوا موعدين وصادين ، وباغين ، ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب ، ثم ذكرهم شعيب بنعم الله عليهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أى : اذكروا ذلك الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد فكثركم الله بأن جعلكم موفورى العدد ، وكنتم في قلة من الأموال فأفاضها الله بين أيديكم ، فمن الواجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم ، وأن تفردوه بالعبادة والطاعة ثم اتبع هذا التذكير بالنعم بالتخويف من عواقب الإفساد فقال : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أى : انظروا نظر تأمل واعتبار كيف كانت عاقبة المفسدين من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، كقوم لوط وقوم صالح ، فسترون أنهم قد دمروا تدميرا بسبب إفسادهم في الأرض ، وتكذيبهم لرسلهم (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) لأن سيركم على طريقهم سيؤدي بكم إلى الدمار.

ثم نصحهم بأن يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر ، وأن يتركوا أتباعه أحرارا في عقيدتهم حتى يحكم الله بين الفريقين ، فقال : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

أى : إن كان بعضكم قد آمن بما أرسلنى الله به إليكم من التوحيد وحسن الأخلاق ، وبعضكم لم يؤمن بما أرسلت به بل أصر على شركه وعناده ، فتربصوا وانتظروا حتى يحكم الله بيننا وبينكم بحكمه العادل ، الذي يتجلى في نصرة المؤمنين ، وإهلاك الظالمين ، وهو ـ سبحانه ـ خير الحاكمين.

قال صاحب الكشاف : وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم ، كقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أو هو عظة للمؤمنين وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا للفريقين. أى : ليصبر المؤمنون على أذى الكفار ، وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب (١)».

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حكت لنا جانبا من الحجج الناصعة ، والنصائح الحكيمة ، والتوجيهات الرشيدة التي وجهها شعيب ـ خطيب الأنبياء ـ إلى قومه.

وارجع البصر ـ أيها القارئ الكريم ـ في هذه النصائح ترى شعيبا ـ عليه‌السلام ـ يأمر قومه بوحدانية الله لأنها أساس العقيدة وركن الدين الأعظم ، ثم يتبع ذلك بمعالجة الجرائم التي

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٨.

٣٢٢

كانت متفشية فيهم ، فيأمرهم بإيفائهم الكيل والميزان ، وينهاهم عن بخس الناس أشياءهم وعن الإفساد في الأرض ، وعن القعود في الطرقات لتخويف الناس وتهديدهم ، وعن محاولة صرفهم عن طريق الحق ، بإلقاء الشبهات ، وإشاعة الأباطيل. مستعملا في وعظه التذكير بنعم الله تارة. وبنقمه من المكذبين تارة أخرى.

ولقد كان من المنتظر أن يتقبل قوم شعيب هذه المواعظ تقبلا حسنا ، وأن يصدقوه فيما يبلغه عن ربه ، ولكن المستكبرين منهم عموا وصموا عن الحق ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى موقفهم فيقول :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣)

أى : قال الأشراف المستكبرون من قوم شعيب له ردا على مواعظه لهم : والله لنخرجنك

٣٢٣

يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا بغضا لكم ، ودفعا لفتنتكم المترتبة على مساكنتنا ومجاورتنا ، أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما نؤمن به من تقاليد ورثناها عن آبائنا ومن المستحيل علينا تركها. فعليك يا شعيب أنت ومن معك أن تختاروا لأنفسكم أحد أمرين : الإخراج من قريتنا أو العودة إلى ملتنا.

هكذا قال المترفون المغرورون لشعيب وأتباعه باستعلاء وغلظة وغضب.

وجملة (قالَ الْمَلَأُ) إلخ. مستأنفة استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : فماذا كان رد قوم شعيب على نصائحه لهم؟ فكان الجواب : قال الملأ ... إلخ.

وقد أكدوا قولهم بالجملة القسمية للمبالغة في إفهامه أنهم مصممون على تنفيذ ما يريدونه منه ومن أتباعه.

ونسبوا الإخراج إليه أولا وإلى أتباعه ثانيا ، للتنبيه على أصالته في ذلك ، وأن الذين معه إنما هم تبع له ، فإذا ما خرج هو كان خروج غيره أسهل.

وجملة : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) معطوفة على جملة (لَنُخْرِجَنَّكَ) وهي ـ أى جملة (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) المقصود الأعظم عندهم ، فهؤلاء المستكبرون يهمهم في المقام الأول أن يعود من فارق ملتهم وديانتهم إليها ثانية.

والتعبير بقولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) يقتضى أن شعيبا ومن معه كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها ، وهذا محال بالنسبة لشعيب ـ عليه‌السلام ـ فإن الأنبياء معصومون ـ حتى قبل النبوة ـ عن ارتكاب الكبائر فضلا عن الشرك.

وقد أجيب عن ذلك بأن المستكبرين قد قالوا ما قالوا من باب التغليب ، لأنهم لما رأوا أن أتباعه كانوا من قبل ذلك على ملتهم ثم فارقوهم واتبعوا شعيبا ، قالوا لهم : إما أن تخرجوا مع نبيكم الذي اتبعتموه وإما أن تعودوا إلى ملتنا التي سبق أن كنتم فيها ، فأدرجوا شعيبا معهم في الأمر بالعودة إلى ملتهم من باب تغليبهم عليه هنا ، هذا هو الجواب الذي ارتضاه كثير من العلماء وعلى رأسهم صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت : كيف خاطبوا شعيبا عليه‌السلام ـ بالعود في الكفر في قولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وكيف أجابهم بقوله : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير ، فضلا عن الكبائر ، فضلا عن الكفر؟ قلت : قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا : لتعودن فغلب الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعا ، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب ـ عليه‌السلام ـ جوابه فقال :

٣٢٤

(إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) وهو يريد عودة قومه ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب (١).

هذا هو الجواب الذي اختاره الزمخشري وتبعه فيه بعض العلماء ، وهناك أجوبة أخرى ذكرها المفسرون ومنها :

١ ـ أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم ، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم.

٢ ـ أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لهم بأنه كان على دينهم وما صدر عن شعيب ـ عليه‌السلام ـ كان على طريق المشاكلة.

٣ ـ أن قولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بمعنى : أو لتصيرن ، إذ كثيرا ما يرد «عاد» بمعنى «صار» فيعمل عمل كان. ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة ، بل عكس ذلك ، وهو الانتقال من حال سابقة إلى حال مؤتنفة ، وكأنهم قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن كفارا مثلنا».

قال الإمام الرازي : تقول العرب : قد عاد إلى فلان مكره ، يريدون : قد صار منه المكر ابتداء.

وقال صاحب الانتصاف : إنه يسلم استعمال «العود» بمعنى الرجوع إلى أمر سابق ، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). والإخراج يستدعى دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه. ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ، ولا كان فيها. وكذلك الكافر الأصلى ، لم يدخل قط في نور الإيمان ولا كان فيه ، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده ، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله إلى الإيمان ، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله له ، ولطفا به ، وبالعكس في حق الكافر وفائدة اختياره في هذه المواضع ، تحقيق التمكن والاختيار ؛ لإقامة حجة الله على عباده» (٢).

هذه بعض الأجوبة التي أجاب بها العلماء على قول قوم شعيب (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ولعل أرجحها هو الرأى الذي اختاره صاحب الكشاف «لبعده عن التكلف ، واتساقه مع رد شعيب عليهم». فقد قال لهم :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٩.

(٢) الانتصاف على الكشاف ج ٢ ص ١٢٩.

٣٢٥

(أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ). أى : أتجبروننا على العودة إلى ملتكم حتى ولو كنا كارهين لها ، لاعتقادنا أنها باطلة وقبيحة ومنافية للعقول السليمة والأخلاق المستقيمة لا. لن نعود إليها بأى حال من الأحوال. فالهمزة لإنكار الوقوع ونفيه ، والتعجيب من أحوالهم الغريبة حيث جهلوا أن الدخول في العقائد اختياري محض ولا ينفع فيه الإجبار أو الإكراه.

ثم صارحهم برفضه التام لما يتوهمونه من العودة إلى ملتهم فقال : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها).

أى : قد اختلقنا على الله ـ تعالى ـ أشنع أنواع الكذب إن عدنا في ملتكم الباطلة بعد إذ نجانا الله بهدايتنا إلى الدين الحق وتنزيهنا عن الإشراك به ـ سبحانه ـ.

قال صاحب المنار : وهذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين بالرفض والكراهية ، وهو إنشاء في صورة الخبر. فإما أن يكون تأكيدا قسميا لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العودة في ملتهم ، كما يقول القائل : برئت من الذمة إن فعلت كذا ، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في التوكيد وإما أن يكون تعجبا خرج لا على مقتضى الظاهر ، وأكد بقد والفعل الماضي ، والمعنى ما أعظم افتراءنا على الله ـ تعالى ـ إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا إلى صراطه المستقيم» (١).

ثم كرر هذا الرفض بأبلغ وجه فقال : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أى ما يصح لنا ولا يتأتى منا أن نعود في ملتكم الباطلة في حال من الأحوال أو في وقت من الأقوات إلا في حال أو في وقت مشيئة الله ـ المتصرف في جميع الشئون ـ عودتنا إليها ، فهو وحده القادر على ذلك ولا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن ، لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة وملتنا هي الحق والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره وإنما ذلك بيد مقلب القلوب ، الذي وسع علمه كل شيء.

وهذا اللون من الأدب العالي ، حكاه القرآن عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في مخاطبتهم ، فأنت ترى أن شعيبا ـ عليه‌السلام ـ مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة الكفر أبدا ، مع ذلك هو يفوض الأمر إلى الله تأدبا معه ، فلا يجزم بمشيئته هو ، بل يترك الأمر لله ، فقد يكون في علمه سبحانه ما يخفى على البشر ، مما تقتضيه حكمته وإرادته.

قال صاحب الانتصاف : «وموقع قوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والاطلاع على الأمور الغائبة ، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد : ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه. فالحذر قائم ، والخوف لازم ، ونظيره

__________________

(١) تفسير المنار ج ٩ ص ٥.

٣٢٦

قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ «ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون» ، لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة ، مجد الله ـ تعالى ـ بالانفراد بعلم الغائبات» (١).

ثم يترك شعيب ـ عليه‌السلام ـ قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتوجه إلى الله بالاعتماد والدعاء فيقول : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

أى : على الله وحده وكلنا أمرنا ، فهو الذي يكفينا أمر تهديدكم ووعيدكم ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ربنا احكم بيننا وبين قومنا الذين ظلمونا بالحق وأنت خير الحاكمين ، لخلو حكمك عن الجور والحيف.

فقوله : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) إظهار للعجز من جانب شعيب ، وأنه في مواجهته لأولئك المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده ، ولا يأوى إلا إلى ركنه المكين ، وحصنه الحصين. والجملة الكريمة تفيد الحصر لتقديم المعمول فيها.

وقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) إعراض عن مجادلتهم ومفاوضتهم بعد أن تبين له عنادهم وسفههم ، وإقبال على الله ـ تعالى ـ بالتضرع والدعاء.

والفتح : أصله إزالة الأغلاق عن الشيء ، واستعمل في الحكم ، لما فيه من إزالة الأشكال في الأمر. ومنه قيل للحاكم : فاتح وفتاح لفتحه أغلاق الحق ، وقيل للحكومة : الفتاحة ـ بضم الفاء وكسرها.

أخرج البيهقي عن ابن عباس قال : ما كنت أدرى قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه كلام : تعال أفاتحك ، تريد أقاضيك وأحاكمك.

وقوله : (بِالْحَقِ) بهذا القيد إظهارا للنصفة والعدالة.

والخلاصة أنك إذا تأملت في رد شعيب ـ عليه‌السلام ـ على ما قاله المستكبرون من قومه ، تراه يمثل أسمى ألوان الحكمة وحسن البيان ، فهو يرد على وعيدهم وتهديدهم بالرفض التام لما يبغون ، والبغض السافر لما يريدونه منه ، ثم يكل الأمور كلها إلى الله ، مظهرا الاعتماد عليه وحده ، ثم يتجه إليه ـ سبحانه ـ بالدعاء متلمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين سائر المحقين والمبطلين.

وهنا نلمح أن الملأ من قوم شعيب قد يئسوا من استمالة شعيب وأتباعه إلى ملتهم ، فأخذوا

__________________

(١) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ٢ ص ١٣٠.

٣٢٧

يحذرون الناس من السير في طريقه ، ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ، لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

أى : قال الأشراف الكافرون من قوم شعيب لغيرهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لشرفكم ومجدكم ، بإيثار ملته على ملة آبائكم وأجدادكم ، وخاسرون لثروتكم وربحكم المادي. لأن اتباعكم له سيحول بينكم وبين التطفيف في الكيل والميزان وهو مدار غناكم واتساع أموالكم.

وقولهم هذا يقصدون به تنفير الناس من دعوة شعيب ، وتثبيطهم عن الإيمان به ، وإغرائهم بالبقاء على عقائدهم الباطلة ، وتقاليدهم البالية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ، فهم لم يكتفوا بضلالهم في أنفسهم ، بل عملوا على إضلال غيرهم. وقولهم هذا معطوف على قوله ـ تعالى ـ فيما سبق : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ*). وليس ردا على شعيب ، لأنه لو كان كذلك لجاء مفصولا بدون عطف ، وقد أكدوا قولهم بعدة مؤكدات منها اللام الموطئة للقسم ، والجملة الاسمية المصدرة بإن. وذلك لكي يخدعوا السامعين بأنهم ما يريدون إلا خيرهم وعدم خسرانهم.

وحذف متعلق الخسران ليعم كل أنواعه الدينية والدنيوية.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين جواب القسم الذي وطأته اللام في قوله : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ) وجواب الشرط؟ قلت : قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ساد مسد الجوابين» (١).

وبعد هذه المحاورات والمجادلات التي دارت بين شعيب وقومه ، جاءت الخاتمة التي حكاها القرآن في قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). أى : فأخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم هامدين صرعى لا حراك بهم.

قال ابن كثير ما ملخصه : أخبر ـ سبحانه ـ هنا بأنهم أخذتهم الرجفة ، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة هود بأنهم أخذتهم الصيحة ، والمناسبة هناك ـ والله أعلم ـ أنهم لما تهكموا به في قولهم : (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) فجاءت الصيحة فأسكتتهم. وقال في سورة الشعراء : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) فأخبر ـ سبحانه ـ أنهم أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة. وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٣١.

٣٢٨

شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام» (١).

ثم يعقب القرآن على مصرعهم بالرد على قولتهم : إن من يتبع شعيبا خاسر ، فيقرر على سبيل التهكم أن الخسران لم يكن من نصيب من اتبع شعيبا ، وإنما الخسران كان من نصيب الذين خالفوه وكذبوه ، فيقول : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ).

أى : الذين كذبوا شعيبا وتطاولوا عليه وهددوه وأتباعه بالإخراج من قريتهم ، كأنهم عند ما حاقت بهم العقوبة لم يقيموا في ديارهم ناعمى البال ، يظلهم العيش الرغيد ، والغنى الظاهر.

يقال : غنى بالمكان يغنى ، أقام به وعاش فيه في نعمة ورغد.

والجملة الكريمة استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) فكأن سائلا ، قال : فكيف كان مصيرهم؟ فكان الجواب : الذين هددوا شعيبا ومن معه وأنذروهم بالإخراج كانت عاقبتهم أن هلكوا وحرموا من قريتهم حتى لكأنهم لم يقيموا بها ، ولم يعيشوا فيها مطلقا ، لأنه متى انقضى الشيء صار كأنه لم يكن.

والاسم الموصول (الَّذِينَ) مبتدأ ، وخبره جملة (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).

ثم أعاد القرآن الموصول وصلته لزيادة التقرير ، وللإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ).

أى : الذين كذبوا شعيبا وكفروا بدعوته كانوا هم الخاسرين دينيا ودنيويا ، وليس الذين اتبعوه كما زعم أولئك المهلكون.

وبهذا القدر اكتفى القرآن عن التصريح بإنجائه هنا ، وقد صرح بإنجائه في سورة هود فقال : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).

قال صاحب الكشاف : وفي هذا الاستئناف والابتداء ، وهذا التكرير ، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم ، وتسفيه لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم».

وأخيرا تطوى السورة الكريمة صفحتهم مشيعة إياهم بالتبكيت والإهمال من رسولهم وأخيهم في النسب فتقول : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ).

الأسى : الحزن. وحقيقته اتباع الفائت بالغم. يقال : أسيت عليه ـ أسا ، أى : حزنت عليه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣٢.

٣٢٩

والمعنى فأعرض عنهم شعيب بعد أن أصابهم ما أصابهم من النقمة والعذاب وقال مقرعا إياهم يا قوم : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) التي أرسلنى بها إليكم من العقائد والأحكام والمواعظ (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بما فيه إصلاحكم وهدايتكم «فكيف أحزن على قوم كافرين» بذلت جهدي في سبيل هدايتهم ونجاتهم ، ولكنهم كرهوا النصح ، واستحبوا العمى على الهدى.

لا ، لن آسى عليهم. ولن أحزن من أجل هلاكهم ، لأنهم لا يستحقون ذلك.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن جانب من قصص نوح وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب مع أقوامهم. بعد أن بدأت بقصة آدم وإبليس وسنراها بعد قليل تحدثنا حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.

ويلاحظ أن سورة الأعراف قد اتبعت في حديثها عن هؤلاء الرسل الكرام التسلسل التاريخى ، وذلك لأهداف من أهمها :

١ ـ إبراز وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ، فأنت رأيت أن كل رسول أتى قومه ليقول لهم : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، يقولها ثم يسوق لهم بأسلوبه الخاص أنصع الدلائل ، وأقوى الحجج ، وخير البراهين ومختلف وجوه الإرشاد ، لكي يقنعهم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه.

٢ ـ تصوير وحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر في نفوس الناس على مدار التاريخ ، فالمؤمنون يلتفون حول رسولهم يصدقون قوله ، ويتأسون به في كل أحواله ويدافعون عن عقيدتهم بقوة وشجاعة ، والكافرون يستكبرون أن يرسل الله رسولا من البشر ، ويأبون بدافع الحقد والعناد والتطاول الاستجابة لرجل منهم ، ويلقون التهم جزافا لكي يصرفوا الناس عنه.

وهكذا نرى أن نفوس المؤمنين تتشابه في إخلاصها ونقائها وصفائها وحسن تقبلها للخير. بينما نفوس الكافرين تتشابه ـ أيضا ـ في ظلامها وقسوتها وفجورها وسوء تقبلها للهداية.

٣ ـ بيان العاقبة الطيبة التي انتهى إليها المؤمنون بسبب إيمانهم وصبرهم وعملهم الطيب ، والعاقبة السيئة التي حاقت بالكافرين المستكبرين ، بسبب إعراضهم عن الحق ، واستهزائهم بأصحابه ، (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وبعد هذا الحديث الزاخر بالعظات والعبر عن بعض الأنبياء مع أقوامهم تمضى السورة الكريمة في سرد هداياتها ، فتسوق للناس ألوانا من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل ، لعل قلوبهم

٣٣٠

ترق ، ونفوسهم تتذكر ، وعقولهم تعى.

وكأن السورة الكريمة تقول للناس : لقد سقت لكم الكثير من أخبار الماضين. وقصصت عليكم ما فيه الذكر لكل قلب سليم من أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وأريتكم كيف كانت عاقبة الأخيار ، وكيف كانت عاقبة الأشرار ، فاجتهدوا في طاعة الله ، وسيروا في طريق الأخيار لتسعدوا كما سعدوا. واجتنبوا سبيل الأشرار حتى لا يصيبكم ما أصابهم ، فقد جرت سنته ـ سبحانه ـ أنه يمهل ولا يهمل ، وأن يبتلى الناس بالسراء والضراء لعلهم يضرعون ، وأن يفتح أبواب خيراته وبركاته لمن آمن به واتقاه ، وأبواب عقوباته لمن كفر به وعصاه.

واستمع إلى السورة الكريمة وهي تصور هذه المعاني وغيرها بأسلوبها الحكيم فتقول :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)

٣٣١

تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

هذه هي الآيات التي جاءت في السورة الكريمة بعد حديثها المتنوع عن بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وقبل حديثها المستفيض ـ الذي سنراه بعد قليل عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.

وقد بدئت بقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) البأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر. والضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته كالمرض والمصائب.

والمعنى : ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد شأن الرسل السابقين مع أقوامهم الهالكين وقد جرت سنتنا أننا ما أرسلنا في قرية من نبي كذبه أهلها إلا أخذناهم وأنزلنا بهم قبل إهلاكنا لهم ألوانا من الشدائد والمصائب لعلهم ينقادون لأمر الله ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويكثرون من التضرع إليه والاستجابة لهديه.

فالآية الكريمة إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم ، إثر بيان أحوال الأمم التي سبق الحديث عنها وهي أمة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهم‌السلام ـ.

والمقصود منها التحذير والتخويف لكفار قريش وغيرهم ، لينزجروا عن الضلال والعناد ، ويستجيبوا لله ولرسوله.

وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين بعث إليهم ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام.

وقوله : (مِنْ نَبِيٍ) فيه حذف وإضمار والتقدير : من نبي كذبه قومه أو أهل القرية لأن قوله : (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) لا يترتب على الإرسال ، وإنما يترتب على التكذيب والعصيان. و (مِنْ) لتأكيد النفي.

٣٣٢

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) مفرغ من أعم الأحوال ، و (أَخَذْنا) في موضع نصب على الحال من فاعل (أَرْسَلْنا) أى : وما أرسلنا ـ في قرية من القرى المهلكة بسبب ذنوبها ـ نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء. قبل إنزال العقوبة المستأصلة لهم.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) تعليلية. أى : فعلنا ما فعلنا لكي يتضرعوا ويتذللوا ويتوبوا من ذنوبهم.

فما يأخذ الله به الغافلين من الشدائد والمحن ليس من أجل التسلية والتشفي ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإنما من أجل أن ترق القلوب الجامدة ، وتتعظ المشاعر الخامدة ، ويتجه البشر الضعاف إلى خالقهم ، يتضرعون إليه ويستغفرونه ، عما فرط منهم من خطايا.

ثم بين ـ سبحانه ـ لونا آخر من ألوان ابتلائه للناس فقال : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) المراد بالسيئة ما يسوء ويحزن كالشدائد والأمراض. وبالحسنة السعة والصحة وأنواع الخيرات.

أى : ثم بعد أن ابتلينا هؤلاء الغافلين بالبأساء والضراء رفعنا ذلك عنهم ، وابتليناهم بضده ، بأن أعطيناهم بدل المصائب نعما ، فإذا الرخاء ينزل بهم مكان الشدة ، واليسر مكان الحرج ، والعافية بدل الضر ، والذرية بدل العقم. والكثرة بدل القلة ، والأمن محل الخوف.

قال الآلوسى : وقوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا) معطوف على (أَخَذْنا) داخل في حكمه ، وهو ـ أى بدلنا ـ متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أى : أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها.

ويرى بعض العلماء أن لفظ (مَكانَ) مفعول به لبدلنا وليس ظرفا ، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة ، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة (١).

وقوله : (حَتَّى عَفَوْا) أى : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم. يقال : عفا النبات ، وعفا الشحم إذا كثر وتكاثف. وأعفيته. أى : تركته يعفو ويكثر ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واعفوا اللحى» أى : وفروها وكثروها.

فماذا كان موقفهم من ابتلاء الله إياهم بالشدائد تارة وبالنعم أخرى؟ لقد كان موقفهم يدل على فساد فطرتهم ، وانحطاط نفوسهم ، وعدم اتعاظهم بما تجرى به الأقدار ، وبما بين أيديهم من

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٩.

٣٣٣

سراء وضراء تحمل كل عاقل على التفكير والاعتبار.

استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم فيقول : (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ).

أى : أنهم حينما رأوا ألوان الخيرات بين أيديهم بعد أن كانوا في بأساء وضراء ، لم يعتبروا ولم يشكروا الله على نعمه ، بل قالوا بغباء وجهل. قد مس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر ، وتناوبهم ما ينفع وما يضر ، ونحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم ، وقد أخذنا دورنا من الضراء كما أخذوا ، وجاء دورنا في السراء فلنغنمها في إرواء شهواتنا. وإشباع متعنا ، فتلك عادة الزمان في أبنائه ولا داعي لأن ننظر إلى السراء والضراء على أنهما نوع من الابتلاء والاختبار.

وهذا شأن الغافلين الجاهلين في كل زمان ومكان ، إنهم لا يعتبرون بأى لون من ألوان العبر ، ولا يستشعرون في أنفسهم تحرجا من شيء يعملونه.

وإن قولهم هذا ليوحى بحالة نفسية خاصة «حالة عدم المبالاة والاستهتار» وهي حالة أكثر ما تكون مشاهدة في أهل الرخاء والجاه. فهم يسرفون ويبذرون بدون تحرج ، ويرتكبون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان بدون اكتراث ، وتغشاهم العبر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومع كل ذلك لا يعتبرون ولا يتعظون.

هذا شأنهم ، أما المؤمنون فإنهم ليسوا كذلك ، وإنما هم كما وصفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «عجبا لأمر المؤمن : إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».

ولم يترك القدر أولئك الغافلين بدون قصاص ، وإنما فاجأهم بالعقوبة التي تناسبهم ، قال ـ تعالى ـ : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى : فكان عاقبة بطرهم وأشرهم وغفلتهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة ، من غير شعور منهم بذلك ، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم ، لأنهم كانوا ـ لغبائهم ـ يظنون أنهم سيعيشون حياتهم في نعم الحياة ورغدها بدون محاسبة لهم على أعمالهم القبيحة ، وأقوالهم الذميمة.

فالجملة الكريمة تشير إلى أن أخذهم بالعقوبة كان أليما شديدا ، لأنهم فوجئوا بها مفاجأة بدون مقدمات. وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من المفعول به في (فَأَخَذْناهُمْ) مؤكدة لمعنى البغتة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن سنته قد جرت بفتح أبواب خيراته للمحسنين ، وبإنزال نقمه على المكذبين الضالين فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

٣٣٤

البركات : جمع بركة : وهي ثبوت الخير الإلهى في الشيء ، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه كما يثبت الماء في البركة.

قال الراغب : ولما كان الخير الإلهى يصدر من حيث لا يحس ، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر ، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة» (١).

والمعنى : ولو أن أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاء به الرسل. واتقوا ما حرمه الله عليهم ، لآتيناهم بالخير من كل وجه. ولوسعنا عليه الرزق سعة عظيمة ، ولعاشوا حياتهم عيشة رغدة لا يشوبها كدر ، ولا يخالطها خوف.

وفي قوله : (لَفَتَحْنا) استعارة تبعيه ، لأنه شبه تيسير البركات وتوسعتها عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول.

وقيل : المراد بالبركات السماوية المطر ، وبالبركات الأرضية النبات والثمار وجميع ما فيها من خيرات.

وقوله : (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان لموقفهم الجحودى.

أى : ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا الرسل الذين جاءوا لهدايتهم فكانت نتيجة تكذيبهم وتماديهم في الضلال أن عاقبناهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم واكتسابهم للمعاصي ، فتلك هي سنتنا التي لا تتخلف ، نفتح للمؤمنين المتقين أبواب الخيرات ، وننتقم من المكذبين الضالين بفنون العقوبات.

وقد يقال : إننا ننظر فنرى كثيرا من الكافرين والعصاة مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ وألوان الخير ، وترى كثيرا من المؤمنين مضيقا عليهم في الرزق وفي غيره من وجوه النعم ، فأين هذا من سنة الله التي حكتها الآية الكريمة؟

والجواب على ذلك أن الكافرين والعصاة قد يبسط لهم في الأرزاق وفي ألوان الخيرات بسطا كبيرا ، ولكن هذا على سبيل الاستدراج كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ).

ومما لا شك فيه أن الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره في الآية السابقة (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا) لا يقل خطرا عن الابتلاء بالشدة. فقد ابتلى الله كثيرا من الناس بألوان النعم فأشروا وبطروا ولم يشكروه عليها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٤٤ للراغب الأصفهاني.

٣٣٥

وشتان بين نعم تساق لإنسان على سبيل الاستدراج في الشرور والآثام فتكون نقمة على صاحبها لأنه يعاقب عقابا شديدا بسبب سوء استعمالها ، وبين النعم التي وعد بها من يؤمنون ويتقون. إنها نعم مصونة عن المحق والسلب والخوف ، لأن أصحابها شكروا الله عليها. واستعملوها فيما خلقت له ، فكانت النتيجة أن زادهم الله غنى على غناهم ، وأن منحهم الأمان والاطمئنان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ثم يتجه القرآن إلى الغافلين ، ليوقظ فيهم مشاعر الخوف من بأس الله وعقابه فيقول : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ).

البيات : قصد العدو ليلا. يقال : بيت القوم بياتا ، إذا أوقعوا به ليلا ، وهو حال بمعنى بائتين.

والاستفهام للإنكار والتعجيب من أمر ليس من شأنه أن يقع من العاقل ، والمراد بأهل القرى : أهل مكة وغيرهم من القرى التي بعث إليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل المراد بهم الأمة المحمدية من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما أنزل بغيرها كما يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها).

وقيل المراد بهم من ذكر حالهم فيما تقدم من القرى المهلكة بسبب ذنوبها.

قال الجمل : والفاء للعطف على (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) وما بينهما وهو قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) إلى هنا اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه جيء به للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور إنما هو بما كسبت أيديهم. والمعنى : أبعد ذلك الأخذ أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (١)؟

فالآية الكريمة تحذر الناس من الغفلة عن طاعة الله ، وتحثهم على التيقظ والاعتبار : وقوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) إنكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أى : أن يأتيهم عقابنا في ضحوة النهار وانبساط الشمس ، وهم لاهون لاعبون من فرط الغفلة.

فقد خوفهم ـ سبحانه ـ بنزول العذاب بهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل ، وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل فيه باللذات.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٦٨.

٣٣٦

وقوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير لمجموع الإنكارين السابقين ، جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار.

والمكر في الأصل الخداع ، ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أى : ستر بظلمته ما هو فيه ، وإذا نسب إليه ـ سبحانه ـ فالمراد به استدراجه للعبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم رجع فعطف بالفاء قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ)؟ قلت : هو تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) ومكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه ، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثعم أن ابنته قالت له : مالي أراك لا تنام والناس ينامون؟ فقال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات. أراد قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) (١).

والمعنى : أفأمنوا مكر الله وتدبيره الخفى الذي لا يعلمه البشر فغفلوا عن قدرتنا على إنزال العذاب بهم بياتا أو ضحوة؟ لئن كانوا كذلك فهم بلا ريب عن الصراط لناكبون ، وعن سنن الله في خلقه غافلون ، فإنه (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) أى : إلا القوم الذين خسروا أنفسهم وعقولهم ، ولم يستفيدوا شيئا من أنواع العبر والعظات التي بثها الله في أنحاء هذا الكون.

هذا ، ويرى الإمام الشافعى وأتباعه أن الأمن من مكر الله كبيرة من الكبائر ، لأنه استرسال في المعاصي اتكالا على عفو الله.

وقال الحنفية إن الأمن من مكر الله كفر كاليأس ، لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقوله : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن من الواجب على الأحياء الذين يرثون الأرض من أهلها الذاهبين المهلكين ، الذين أهلكتهم ذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهم ، وعوقبوا على استهتارهم وغرورهم من الواجب على هؤلاء الأحياء أن يعتبروا ويتعظوا ويحسنوا القول والعمل حتى ينجوا من العقوبات.

قال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٤.

٣٣٧

الاستفهام للإنكار والتوبيخ. ويهد : أى يتبين ، يقال : هداه السبيل أو الشيء وهداه إليه ، إذا دله عليه وبينه له.

أى : أو لم يتبين لهؤلاء الذين يعيشون على تلك الأرض التي ورثوها بعد أهلها المهلكين ، أننا في قدرتنا أن ننزل بهم العذاب بسبب ذنوبهم كما أنزلناه بأولئك المهلكين.

والمراد بالذين يرثون الأرض من بعد أهلها ، أهل مكة ومن حولها الذين أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهدايتهم. وقيل المراد بهم الأحياء في كل زمان ومكان الذين يخلفون من سبقهم من الأمم.

قال الجمل : وفاعل (يَهْدِ) فيه وجوه أظهرها : أنه المصدر المؤول من أن وما في حيزها والمفعول محذوف. والتقدير : أو لم يهد أى يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك» (١).

وقوله : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) جملة مستأنفة لإثبات حصول الطبع على قلوبهم.

أى : ونحن نطبع على قلوبهم ونختم عليها ، بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان ، فهم لذلك لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ.

والذي يتأمل في الآيات السابقة يراها تحذر الناس بأساليب متنوعة حكيمة من الغفلة عن العظات والعبر ، وتحضهم على التخلص من الأمن الكاذب ، والشهوات المردية. والمتع الزائلة.

وما يريد القرآن بهذا أن يعيش الناس قلقين ، يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار.

كلا ، ما يريد منهم ذلك لأن القلق الدائم من المستقبل ، يشل طاقة البشر ، وقد ينتهى بهم إلى اليأس من العمل والإنتاج وتنمية الحياة.

وإنما الذي يريده القرآن منهم أن يتعظوا بآيات الله في كونه ، وأن يكونوا دائما على صلة طيبة به ، وأن يبتغوا فيما آتاهم الله من فضله الدار الآخرة دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا ، وألا يغتروا بطراوة العيش ، ورخاء الحياة ، وقوة الجاه ، كي لا يقودهم ذلك إلى الفساد والطغيان ، والاستهتار والانحلال.

وإذا كان القرآن في هذه الآية قد حذر وأنذر ، فلأنه يعالج كل أمة وجماعة بالطب الذي يناسبها ويلائمها ، فهو يعطيها جرعات من الأمن والثقة والطمأنينة حين يرسخ الإيمان في قلوب أبنائها ، وحين يراقبون خالقهم في سرهم وعلنهم ، ويشكرونه على نعمه ، وهو يعطيها جرعات

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٣٤.

٣٣٨

من التحذير والتخويف ، حين تستولى الشهوات على النفوس ، وحين تصبح الدنيا بمتعها ولذائذها المطلب الأكبر عند الناس.

هذا وبعد أن انتهت السورة الكريمة من الحديث عما جرى لبعض الأنبياء مع أقوامهم ، ومن بين سنن الله في خلقه ، وبعد أن حذرت وأنذرت ، اتجهت بالخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتطلعه على النتيجة الأخيرة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف عنه من حقائق تتعلق بطبيعة الكفر وطبيعة الإيمان فقالت : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها).

أى : تلك القرى التي طال الأمد على تاريخها ، وجهل قومك أيها الرسول الكريم أحوالها. وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب ، نقص عليكم ما فيه العظات والعبر من أخبارها. ليكون ذلك تسلية لك وتثبيتا لفؤادك ، وتأييدا لصدقك في دعوتك.

قال الزمخشري : قوله ـ تعالى ـ : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) كقوله : (هذا بَعْلِي شَيْخاً) في أنه مبتدأ وخبر وحال. ويجوز أن يكون القرى صفة لتلك ونقص خبرا ، وأن يكون (الْقُرى نَقُصُ) خبرا بعد خبر. فإن قلت : ما معنى (تِلْكَ الْقُرى)؟ حتى يكون كلاما مفيدا. قلت : هو مفيد ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم. فإن قلت : ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت : معناه أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أخبارها ولها أنباء أخرى لم نقصها عليك» (١).

وإنما قص الله ـ تعالى ـ على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنباء أهل هذه القرى ، لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم ، فتوهموا أنهم على الحق ، فذكرها الله لمن أرسل إليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحترسوا عن مثل تلك الأعمال ، وليعتبروا بما أصاب الغافلين الطاغين من قبلهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه قد أعذر إليهم بأن وضح لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل فقال : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أى : ولقد جاء إلى أهل تلك القرى رسلهم بالدلائل الدالة على صدقهم ، فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات من رسلهم بما كانوا قد كذبوا به قبل رؤيتها منهم ، لأنهم لجحودهم وعنادهم تحجرت قلوبهم ، واستوت عندهم الحالتان : حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها.

وقيل إن المعنى : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ).

وقوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أى : «مثل ذلك الطبع الشديد المحكم

__________________

(١) حاشية على الجلالين ج ٣ ص ١٦٩.

٣٣٩

الذي طبع الله به على قلوب أهل تلك القرى المهلكة ، يطبع الله على قلوب أولئك الكافرين الذين جاءوا من بعدهم بسبب إيثارهم الضلالة على الهداية.

ثم كشف القرآن عن طبيعتهم فقال : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ).

أى : ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بعهودهم في الإيمان والتقوى ، بل الحال والشأن أننا علمنا أن أكثرهم فاسقين ، أى خارجين عن طاعتنا ، تاركين لأوامرنا ، منتهكين لحرماتنا.

وبعضهم يجعل الضمير في (أَكْثَرَهُمْ) لأهل القرى المهلكة ، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله بعهد نقضوه ولم يوفوا به. والأول أرجح.

والمراد بالعهد ما عاهدهم الله عليه من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

ومن في قوله (مِنْ عَهْدٍ) مزيدة للاستغراق وتأكيد النفي.

وإنما حكم على الأكثرين منهم بنقض العهود ، لأن الأقلية منهم قد آمنوا ووفوا بما عاهدوا الله عليه من الإيمان والعمل الصالح.

وهذا لون من الاحتراس الذي امتاز به القرآن في عرضه للحقائق ، فهو لا يلقى التهم جزافا ، وإنما يعطى كل ذي حق حقه ، فإن كان الأكثرون قد استحقوا الذم لكفرهم ونقضهم لعهودهم ، فإن هناك قلة آمنت فاستحقت المدح والثناء.

قال الآلوسى : و (إِنْ) مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ، ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور. وذهب الكوفيون إلى أن (إِنْ) هنا نافية واللام في (لَفاسِقِينَ) بمعنى إلا ، أى : ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين» (١).

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة التي جاءت في أعقاب الحديث عن أهل القرى المهلكة ، قد بينت لنا السنن الإلهية في سعادة الأمم وشقائها ، وكشفت لنا عن حكمته ـ سبحانه ـ في ابتلائه لعباده بالسراء تارة وبالضراء أخرى ، وحضت الناس على المراقبة لله وشكره على نعمائه ، وحذرتهم من الغفلة والأمان من مكره ـ سبحانه ـ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ثم اتجهت في النهاية بالخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأطلعته على الطبائع الغالبة في البشر حتى لا يضيق ذرعا بأحوال من أرسل إليهم.

ثم عادت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن قصة أخرى من قصص الأنبياء مع أقوامهم ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٣٥.

٣٤٠