التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أى : فأنجيناه من الغرق هو والذين آمنوا معه بأن حملناهم في السفينة التي صنعها. والفاء في (فَأَنْجَيْناهُ) للسببية.

قيل كان عدد الذين آمنوا معه أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل غير ذلك. والقرآن قد صرح بأن المؤمنين به كانوا قلة ، فقال : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).

(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) عمين : جمع عم صفة مشبهة ، يقال : هو عم ـ كفرح ـ لأعمى البصيرة.

أى : وأغرقنا بالطوفان أولئك الذين كذبوا بآياتنا من قوم نوح لأنهم كانوا قوما عمى البصائر عن الحق والإيمان لا تنفع فيهم المواعظ ولم يجد معهم التذكير.

وهذه سنة الله في خلقه أن جعل حسن العاقبة للمؤمنين ، وسوء العذاب للجاحدين.

ثم تحكى لنا السورة بعد ذلك قصة هود ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فيقول الله ـ تعالى :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)

٣٠١

قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢)

تلك هي قصة هود ـ عليه‌السلام ـ مع قومه كما حكتها سورة الأعراف. وقد وردت ـ أيضا ـ في سورة أخرى ، منها : سورة هود ، والشعراء ، والأحقاف ... إلخ.

وينتهى نسب هود إلى نوح ـ عليهما‌السلام ـ كما قال بعض المؤرخين. فهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح (١).

وقومه هم قبيلة عاد ـ نسبة إلى أبيهم الذي كان يسمى بهذا الاسم ـ وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن ـ والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل.

وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله ، فأرسل الله إليهم هودا لهدايتهم ، ويقال بأن هودا ـ عليه‌السلام ـ قد أرسله الله إلى عاد الأولى ، أما عاد الثانية فهم قوم صالح ، وبينهما مائة سنة.

وقوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) إلخ معطوف على قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) والمعنى :

وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا فقال لهم ما قاله كل نبي لقومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.

ووصفه بأنه أخاهم لأنه من قبيلتهم نسبا ، أو لأنه أخوهم في الإنسانية. ثم حكى القرآن أن

__________________

(١) قصص الأنبياء ص ٥٠ للشيخ عبد الوهاب النجار.

٣٠٢

هودا أنكر على قومه عبادتهم لغير الله ، وحضهم على إفراده بالعبادة فقال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أى : أفلا تخافون عذاب الله فتبتعدوا عن طريق الشرك والضلال لتنجوا من عقابه.

قال أبو حيان : وفي قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى. ولما كان ما حل بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال لهم : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها فاكتفى هود بقوله لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ). والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله وعبدوا غيره حل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا ، فقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة (١)».

وكأنما عظم على هؤلاء الطغاة أن يستنكر عليهم هود ـ عليه‌السلام ـ عبادتهم لغير الله ، فردوا عليه ردا قبيحا حكاه القرآن في قوله :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ، إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أى : قال الأغنياء الذين كفروا من قوم هود له : إنه لنراك متمكنا في خفة العقل ، راسخا فيها ، حيث هجرت دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز ، فقد أرادوا أنه متمكن فيها ، غير منفك عنها.

وأصل السفه : الخفة والرقة والتحرك والاضطراب ، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو كان باليا رقيقا : تسفهت الريح الشجر : مالت به. وزمام سفيه : كثير الاضطراب لمنازعة الناقة إياه. وشاع السفه في خفة العقل وضعف الرأى.

ولم يكتفوا بوصفه بالسفه بل أضافوا إلى ذلك قولهم : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أى : وإنا لنظنك من الكاذبين في دعوى التبليغ عن الله تعالى.

وأكدوا ظنهم الآثم كما أكدوا اتهامهم له بالسفه مبالغة منهم في الإساءة إليه. ويرجح بعض العلماء أن الظن هنا على حقيقته ، لأنهم لو قالوا وإنا لنعتقد أنك من الكاذبين ، لكانوا كاذبين على أنفسهم في ذلك ، لأنهم يعلمون منه الصدق وحسن السيرة.

ومن بلاغة القرآن وإنصافه في أحكامه أنه قيد القائلين لهود هذا القول الباطل بأنهم «الملأ الذين كفروا من قومه» ليخرج منهم الملأ ـ أى الأشراف الذين آمنوا من قومه.

وبعد هذا الرد القبيح منهم ، أخذ هود يدافع عن نفسه ويبين لهم وظيفته بأسلوب حكيم فقال : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أى : ليس بي أى نوع من أنواع السفاهة كما تزعمون (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٤ ص ١٢٣ لأبى حيان.

٣٠٣

فأنت ترى أن هودا في هذا الرد الحكيم على قومه ، قد نفى عن نفسه تهمة السفاهة كما نفى أخوه نوح من قبله عن نفسه تهمة الضلالة ، ثم بين لهم بعد ذلك وظيفته وطبيعة رسالته ، ثم أخبرهم بعد ذلك بمقتضى أخوته لهم ليس معقولا أن يكذب عليهم أو يخدعهم ـ فإن الرائد لا يكذب أهله ـ ، وإنما هو ناصح أمين يهديهم إلى ما يصلحهم ويبعدهم عما يسوءهم :

قال صاحب الكشاف : «وفي إجابة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ على من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وترك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم ـ في إجابتهم هذه أدب حسن ، وخلق عظيم ، وحكاية الله ـ عزوجل ـ ذلك ، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء ، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم» (١).

ونلمس من خلال التعبير القرآنى أن قوم هود قد تعجبوا من اختصاص هود بالرسالة كما تعجب قوم نوح من قبلهم من ذلك ، فأخذ هود ـ عليه‌السلام ـ في إزالة هذا العجب من نفوسهم ، فقال :

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أى : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم تعرفون صدقه ونسبه وحسبه ، إن ما عجبتم له ليس موقع عجب ، بل هو عين الحكمة فقد اقتضت رحمة الله أن يرسل لعباده من بينهم من يرشدهم إلى الطريق القويم و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

ثم أخذ في تذكيرهم بواقعهم الذي يعيشون فيه لكي يحملهم على شكر الله فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أى : اذكروا بتأمل واعتبار فضل الله عليكم ونعمه حيث جعلكم مستخلفين في الأرض من بعد قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان لكفرهم وجحودهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : و «إذ» منصوب على المفعولية لقوله : (وَاذْكُرُوا) أى : اذكروا هذا الوقت المشتمل على النعم الجسام. وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ، ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله.

وهو معطوف على مقدر كأنه قيل : لا تعجبوا وتدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٥٦.

٣٠٤

ثم ذكرهم بنعمة ثانية فقال : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أى : زادكم في المخلوقات بسطة وسعة في الملك والحضارة ، أو زادكم بسطة في قوة أبدانكم وضخامة أجسامكم ، ومن حق هذا الاستخلاف وتلك القوة ، أن تقابلا بالشكر لله رب العالمين.

وقد ذكر بعض المفسرين روايات تتعلق بضخامة أجسام قوم هود وقوتهم وهي روايات ضعيفة لا يعتد بها ، ولذا أضربنا عنها ، ويكفينا أن القرآن الكريم قد أشار إلى قوتهم وجبروتهم بدون تفصيل لذلك كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) وكما في قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

ثم كرر هود ـ عليه‌السلام ـ تذكيرهم بنعم الله فقال : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أى : فاذكروا نعم الله واشكروها له لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين من إدامتها عليهم وزيادتها لهم ، ولن تكونوا كذلك إلا بعبادتكم له وحده ـ عزوجل ـ.

وآلاء الله : نعمه الكثيرة. والآلاء جمع إلى كحمل وأحمال. أو ألى ، كقفل وأقفال. أو إلى ، كمعى وأمعاء.

وإلى هنا يكون هود ـ عليه‌السلام ـ قد رد على قومه ردا مقنعا حكيما ، كان المتوقع من ورائه أن يستجيبوا له ، وأن يقبلوا على دعوته ، ولكنهم لسوء تفكيرهم وانطماس بصيرتهم ، أخذتهم العزة بالإثم فماذا قالوا لنبيهم ومرشدهم؟.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). أى : قالوا له على سبيل الإنكار والاستهزاء : أجئتنا يا هود لأجل أن نعبد الله وحده ، ونترك ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام إن هذا لن يكون منا أبدا فأتنا بما تعدنا به من العذاب ان كنت من الصادقين فيما تخبر به.

وننظر في هذا الرد من قوم هود فنراه طافحا بالتهور والتحدي والاستهزاء واستعجال العذاب.

حتى لكأن هودا ـ عليه‌السلام ـ يدعوهم إلى منكر لا يطيقون سماعه ولا يصبرون على الجدل فيه!!.

أليس هو يدعوهم إلى وحدانية الله وإفراده بالعبادة وترك ما كان يعبد آباؤهم ، وهذا في زعمهم أمر منكر لا يطيقون الصبر عليه.

وهكذا يستحوذ الشيطان على قلوب بعض الناس وتفكيرهم فيصور لهم الحسنات في صورة سيئات ، والسيئات في صورة حسنات.

٣٠٥

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجيء في قوله : (أَجِئْتَنا) ، قلت فيه أوجه : أن يكون لهود ـ عليه‌السلام ـ مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء ، لأنهم كانوا يعتقدون أن الله ـ تعالى ـ لا يرسل إلا الملائكة ، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك. وأنهم لا يريدون حقيقة المجيء. ولكن التعريض بذلك والقصد كما يقال : ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب ، كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك» (١).

وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يدل على أنه كان يتوعدهم بالعذاب من الله. إذا استمروا على شركهم ، ويدل ـ أيضا ـ على تصميمهم على الكفر ، واحتقارهم لأمر هود ـ عليه‌السلام ـ واستعجالهم إياه بالعقوبة على سبيل التحدي ، لأنهم كانوا يتوهمون أن العقوبة لن تقع عليهم أبدا.

وإزاء هذا التحدي السافر من قوم هود له ولدعوته ولوعيد الله لهم ، ما كان من هود ـ عليه‌السلام ـ إلا أن جابههم بالرد الحاسم الذي تتجلى فيه الشجاعة التامة ، والثقة الكاملة بأن الله سينصره عليهم وينتقم له منهم.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أى : قال هود لقومه بعد أن لجوا في طغيانهم : قد حق ووجب عليكم من قبل ربكم عذاب وسخط بسبب إصراركم على الكفر والعناد.

والرجس والرجز بمعنى ، وأصل معناه الاضطراب يقال : رجست السماء أى : رعدت رعدا شديدا ، وهم في مرجوسة من أمرهم أى : في اختلاط والتباس. ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به.

وعبر عن العذاب المتوقع وقوعه بأنه (قَدْ وَقَعَ) مبالغة في تحقيق الوقوع ، وأنه أمر لا مفر لهم منه.

وعطف الغضب على الرجس ، للإشارة إلى ما سينزل بهم من عذاب هو انتقام لا يمكن دفعه ، لأنه صادر من الله الذي غضب عليهم بسبب كفرهم ، وبعد أن أنذرهم هددهم بوقوع العذاب عليهم ، ووبخهم على مجادلتهم إياه بدون علم فقال : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)؟

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٧.

٣٠٦

أى : أتجادلوني وتخاصمونى في شأن أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمونها آلهة مع أن معنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده إذ المستحق للعبادة إنما هو الله الذي خلق كل شيء ، أما هذه الأصنام التي زعمتم أنها آلهة فهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.

فأنت ترى أن هودا ـ عليه‌السلام ـ قد حول آلهتهم إلى مجرد أسماء لا تبلغ أن تكون شيئا وراء الاسم الذي يطلق عليها ، وهذا أعمق في الإنكار عليهم ، والاستهزاء بعقولهم.

وقوله : (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أى : ما نزل الله بها من حجة أو دليل يؤيد زعمكم في ألوهيتها أو في كونها شفعاء لكم عند الله ، وإنما هي أصنام باطلة قلدتم آباءكم في عبادتها بدون علم أو تفكير.

ثم هدد بالعاقبة المقررة المحتومة فقال : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أى : فانتظروا نزول العذاب الذي استعجلتموه وطلبتموه حين قلتم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) فإنى معكم من المنتظرين لما سيحل بكم بسبب شرككم وتكذيبكم.

ولم يطل انتظار هود عليهم ، فقد حل بهم العقاب الذي توعدهم به سريعا ولذا قال ـ تعالى ـ : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الفاء فصيحة. أى : فوقع ما وقع فأنجينا هودا والذين اتبعوه في عقيدته برحمة عظيمة منا لا يقدر عليها غيرنا.

(وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى : استأصلناهم عن آخرهم بالريح العقيم التي (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).

فقطع الدابر كناية عن الاستئصال والإهلاك للجميع يقال قطع الله دابره أى : أذهب أصله.

وقوله : (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على (كَذَّبُوا) داخل معه حكم الصلة أى : أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرجعوا عن ذلك أصلا.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة نفى الإيمان عنهم في قوله : (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم ـ كمرثد بن سعد ـ ومن نجا مع هود ـ عليه‌السلام ـ كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أن الهلاك للمكذبين ونجى الله المؤمنين» (١).

وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين ، وتحقق النذير في قوم هود كما تحقق قبل ذلك في قوم نوح.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٩.

٣٠٧

ثم قصت علينا السورة بعد ذلك قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه فقالت :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩)

٣٠٨

هذه قصة صالح مع قومه كما حكتها سورة الأعراف ، وقد وردت هذه القصة في سور أخر كسور هود والشعراء والنمل والقمر وغيرها.

وصالح ـ كما قال الحافظ البغوي ـ هو ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد ابن حاذر بن ثمود : وينتهى نسبه إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ.

وثمود اسم للقبيلة التي منها صالح سميت باسم جدها ثمود ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها لأن الثمد هو الماء القليل.

وكانت مساكنهم بالحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ ، والحجر مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وموقعه الآن ، تقريبا ـ المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن ، وما زال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح إلى اليوم ، وقد مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة.

وقبيلة صالح من قبائل العرب ، وكانوا خلفاء لقوم هود ـ عليه‌السلام ـ بعد أن هلكوا فورثوا أرضهم ، وآتاهم الله نعما وفيرة ، وكانوا يعبدون الأصنام فأرسل إليهم نبيهم صالحا مبشرا ونذيرا.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

أى : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب والموطن صالحا ـ عليه‌السلام ـ فقال لهم الكلمة التي دعا بها كل نبي قومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله سواه ، قد جاءتكم معجزة ظاهرة الدلائل ، شاهدة بنبوتي وصدقى فيما أبلغه عن ربي.

وقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بمحذوف صفة لبينة ، أى هذه البينة كائنة من ربكم وليست من صنعي فعليكم أن تصدقوني لأنى مبلغ عن الله ـ تعالى ـ.

ثم كشف لهم عن معجزته وحجته فقال : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أى : هذه التي ترونها وأشير إليها ناقة الله ، والتي جعلها ـ سبحانه ـ علامة لكم على صدقى.

وأضاف الناقة إلى الله للتفضيل والتخصيص والتعظيم لشأنها. وقيل : لأنه ـ سبحانه ـ خلقها على خلاف سنته في خلق الإبل وصفاتها ، وقيل : لأنها لم يكن لها مالك.

وقد ذكر المفسرون عنها قصصا لا تخلو من ضعف ، لذا اكتفينا بما ورد في شأنها في القرآن الكريم.

٣٠٩

ثم أرشدهم إلى ما يجب عليهم نحوها فقال : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

أى اتركوا الناقة حرة طليقة تأكل في أرض الله التي لا يملكها أحد سواه ولا تعتدوا عليها بأى لون من ألوان الاعتداء ، لأنكم لو فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم.

والفاء في قوله : (فَذَرُوها) للتفريع على كونها آية من آيات الله ، فيجب إكرامها وعدم التعرض لها بسوء. و (تَأْكُلْ) مجزوم في جواب الأمر.

وأضيفت الأرض إلى الله ـ أيضا ـ قطعا لعذرهم في التعرض لها ، فكأنه يقول لهم ، الأرض أرض الله والناقة ناقته ، فذروها تأكل في أرضه لأنها ليست لكم ، وليس ما فيها من عشب ونبات من صنعكم ، فأى عذر لكم في التعرض لها؟

وفي نهيهم عن أن يمسوها بسوء تنبيه بالأدنى على الأعلى ، لأنه إذا كان قد نهاهم عن مسها بسوء إكراما لها فنهيهم عن نحرها أو عقرها أو منعها من الكلأ والماء من باب أولى. فالجملة الكريمة وعيد شديد لمن يمسها بسوء.

وقوله : (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفعل المضارع منصوب في جواب النهى.

وبعد أن بين لهم صالح ـ عليه‌السلام ـ وظيفته ، وكشف لهم عن معجزته ، وأنذرهم بسوء العاقبة إذا ما خالفوا أمره ، أخذ في تذكيرهم بنعم الله عليهم. وبمصائر الماضين قبلهم.

فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ).

أى : واذكروا بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم حيث جعلكم خلفاء لقبيلة عاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس ، بعد أن أهلكهم الله بسبب طغيانهم وشركهم.

وقوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أى : أنزلكم فيها وجعلها مباءة ومساكن لكم. يقال : بوأه منزلا ، أى : أنزله وهيأه له ومكن له فيه.

والمراد بالأرض : أرض الحجر التي كانوا يسكنونها وهي بين الحجاز والشام ، تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا.

السهول : الأراضي السهلة المنبسطة. والجبال : الأماكن المتحجرة المرتفعة.

أى أنزلكم في أرض الحجر ، ويسر لكم أن تتخذوا من سهولها قصورا جميلة ، ودورا عالية ، ومن جبالها بيوتا تسكنونها بعد نحتكم إياها.

٣١٠

يقال : نحته ينحته ـ كيضربه وينصره ويعلمه ـ أى : براه وسواه.

قيل إنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة التي لا تؤثر فيها الأمطار والعواصف ، ولما فيها من الدفء. أما في غير الشتاء فكانوا يسكنون السهول لأجل الزراعة والعمل ومن التعبير القرآنى نلمح أثر النعمة والتمكين في الأرض لقوم صالح ، وندرك طبيعة الموقع الذي كانوا يعيشون فيه ، فهو سهل وجبل ، يتخذون في السهل القصور ، وينحتون في الجبال البيوت ، فهم في حضارة عمرانية واضحة المعالم ، ولذا نجد صالح ـ عليه‌السلام ـ يكرر عليهم التذكير بشكر النعم فيقول :

(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

أى : فاذكروا بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم ، واشكروه على هذه النعم الجزيلة ، وخصوه وحده بالعبادة ، ولا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم في الأرض.

والمقصود النهى عما كانوا عليه من التمادي في الفساد. مأخوذ من العيث وهو أشد الفساد.

يقال : عثى ـ كرضى ـ عثوا إذ أفسد أشد الإفساد.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ذكرت لنا جانبا من النصائح التي وجهها صالح لقومه فماذا كان موقفهم منه.

لقد كان موقفهم لا يقل في القبح والتطاول والعناد عن موقف قوم نوح وقوم هود ، وهاك ما حكاه القرآن عنهم :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)؟

أى : قال المترفون المتكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين الذين هداهم الله إلى الحق : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه إليكم لعبادته وحده لا شريك له؟

وهو سؤال قصد المترفون منه تهديد المؤمنين والاستهزاء بهم ، لأنهم يعلمون أن المؤمنين يعرفون أن صالحا مرسل من ربه.

ولذا وجدنا المؤمنين لا يردون عليهم بما يقتضيه ظاهر السؤال بأن يقولوا لهم : نعم أنه مرسل من ربه ، وإنما ردوا عليهم بقولهم : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ، مسارعة منهم إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإظهارا للإيمان الذي استقر في قلوبهم ، وتنبيها على أن أمر إرسال صالح ـ عليه‌السلام ـ من الظهور والوضوح حيث لا ينبغي لعاقل أن يسأل عنه ، وإنما الشيء الجدير بالسؤال عنه هو الإيمان بما جاء به هذا الرسول الكريم ، والامتثال لما يقتضيه العقل السليم.

٣١١

وهو رد من المؤمنين المستضعفين يدل على شجاعتهم في الجهر بالحق وعلى قوة إيمانهم ، وسلامة يقينهم.

وقوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بإعادة الجار بدل كل من كل ، والضمير في (مِنْهُمْ) يعود على قوم صالح.

وهنا يعلن المستكبرون عن موقفهم في عناد ، وصلف وجحود ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

أى : قال المستكبرون ردا على المؤمنين الفقراء : إنا بما آمنتم به كافرون ، ولم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون ، إظهارا لمخالفتهم إياهم ، وردا على مقالتهم (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

قال صاحب الانتصاف : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا ، بما أرسل به كافرون ولكنهم أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته ، وهم يجحدونها ، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم ، كما قال فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، فأثبت إرساله تهكما ، وليس المقام هنا مقام التهكم ، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله ، فرد كل فريق على الآخر بما يناسبه» (١).

ثم أتبع المستكبرون قولهم القبيح بفعل أقبح يتجلى في قوله ـ تعالى ـ عنهم : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أى : نحروها وأصل العقر : قطع عرقوب البعير ، ثم استعمل في النحر ، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره.

أى : عقروا الناقة التي جعلها الله حجة لنبيه صالح ـ عليه‌السلام ـ والتي قال لهم صالح في شأنها : (لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وأسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم ، وإن لم يباشره إلا بعضهم ، ويقال للقبيلة الكبيرة أنتم فعلتم كذا مع أن الفاعل واحد منهم ، لكونه بين أظهرهم.

وقوله : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أى : استكبروا عن امتثال أوامره واجتناب نواهيه. من العتو وهو النبو ، أى : الارتفاع عن الطاعة والتكبر عن الحق والغلو في الباطل. يقال : عتا يعتو عتيا ، إذا تجاوز الحد في الاستكبار. فهو عات وعتى.

وقد اختار القرآن كلمة (عَتَوْا) لإبراز ما كانوا عليه من تجبر وتبجح وغرور خلال اقترافهم

__________________

(١) الانتصاف على الكشاف ج ٨ ص ١٢٣ لابن المنبر.

٣١٢

للمعاصي والجرائم التي من أبرزها عقر الناقة ، فهم قد فعلوا ما فعلوا عن تعمد وإصرار على ارتكاب المنكر.

ثم لم يكتفوا بكل هذا ، بل قالوا لنبيهم في سفاهة وتطاول : (يا صالِحُ ائْتِنا ، بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

نادوه باسمه تهوينا لشأنه ، وتعريضا بما يظنون من عجزه ؛ وقالوا له على سبيل تعجل العذاب الذي توعدهم به إذا استمروا في طغيانهم ائتنا بما توعدتنا به إن كنت صادقا في رسالتك.

ولقد كان رد القدر على تبجحهم وعتوهم واستكبارهم سريعا ؛ قال ـ تعالى ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) :

الرجفة : الزلزلة الشديدة. يقال : رجفت الأرض ترجف رجفا ، إذا اضطربت وزلزلت ؛ ومنه الرجفان للاضطراب الشديد.

وجاثمين : من الجثوم وهو للناس والطير بمنزلة البروك للإبل ، يقال جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم إذا وقع على صدره أو لزم مكانه فلم يبرحه.

والمعنى : فأخذت أولئك المستكبرين الرجفة ، أى : الزلزلة الشديدة فأهلكتهم ، فأصبحوا في بلادهم أو مساكنهم باركين على الركب ، ساقطين على وجوههم ، هامدين لا يتحركون. وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ويتركهم القرآن على هيئتهم جاثمين ، ليتحدث عن نبيهم صالح الذي كذبوه فيقول : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).

أى : فأعرض عنهم نبيهم صالح ، ونفض يديه منهم ، وتركهم للمصير الذي جلبوه على أنفسهم ، وأخذ يقول متحسرا على ما فاتهم من الإيمان : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي كاملة غير منقوصة ، ونصحت لكم بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى ، ولكن كان شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم».

هذا وقد وردت أحاديث تصرح بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع من الهجرة ، فأمر أصحابه أن يدخلوها خاشعين وجلين كراهة أن يصيبهم ما أصاب أهلها ، ونهاهم عن أن يشربوا من مائها.

روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا

٣١٣

القدور باللحم ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم عن البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : إنى أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم» (١).

وروى الشيخان عن ابن عمر قال : لما مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر قال : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوزوا الوادي (٢).

وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين ، وحلت العقوبة بمن كانوا يتعجلونها ويستهزئون بها.

ثم حكت لنا السورة بعد ذلك جانبا مما دار بين لوط وقومه فقالت :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤)

قال ابن كثير : لوط. هو ابن هاران بن آزر وهو ابن أخى إبراهيم ، وكان قد آمن مع إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى

__________________

(١) مسند الإمام أحمد ج ٢ ص ١٢٧ طبعة الحلبي.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب المغازي : باب نزول النبي ـ ص ـ الحجر الحديث رقم ٢٨٤ محمد فؤاد عبد الباقي ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق حديث ٣٨.

٣١٤

الله ـ تعالى ـ ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا من غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم «حتى صنع ذلك أهل سدوم ـ وهي قرية بوادي الأردن ـ عليهم لعائن الله (١)».

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلُوطاً) منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق أى : وأرسلنا لوطا و (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف لأرسلنا ، وجوز أن يكون (لُوطاً) منصوبا باذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة ، و (إِذْ) بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية.

وقوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ).

أى : أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت نهاية القبح والفحش ، والتي ما فعلها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فأنتم أول من ابتدعها فعليكم وزرها ووزر من عملها إلى يوم القيامة ، والاستفهام ، للإنكار والتوبيخ قال عمر بن دينار : «ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط».

وقال الوليد بن عبد الملك : «لو لا أن الله قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا» والباء في (بِها) كما قال الزمخشري ـ للتعدية ، من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبقك بها عكاشة» و (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَحَدٍ) لتأكيد النفي وعمومه المستغرق لكل البشر.

والجملة ـ كما قال أبو السعود ـ مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ والتقريع ، فإن مباشرة القبح قبيح واختراعه أقبح ، فأنكر عليهم أولا إتيان الفاحشة ، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها».

ثم أضاف لوط إلى إنكاره على قومه إنكارا آخر وتوبيخا أشنع فقال : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ).

أى : إنكم أيها القوم لممسوخون في طبائعكم حيث تأتون الرجال الذين خلقهم الله ليأتوا النساء ، ولا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة الخبيثة القذرة.

والإتيان : كناية عن الاستمتاع والجماع. من أتى المرأة إذا غشيها.

وفي إيراد لفظ (الرِّجالَ) دون الغلمان والمردان ونحوهما ، مبالغة في التوبيخ والتقريع.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣٠.

٣١٥

قال صاحب الكشاف : و (شَهْوَةً) مفعول له ، أى للاشتهاء ولا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر. ولا ذم أعظم منه ، لأنه وصف لهم بالبهيمية ، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه. أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماحة» (١).

وقوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) حال من الرجال أو من الواو في تأتون ، أى : تأتون الرجال حالة كونكم تاركين النساء اللائي هن موضع الاشتهاء عند ذوى الطبائع السليمة ، والأخلاق المستقيمة.

قال الجمل : وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث ، لأن الله ـ تعالى ـ خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا ، وجعل النساء محلا للشهوة وموضعا للنسل. فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فقد أسرف وجاوز واعتدى ، لأنه وضع الشيء في غير محله وموضعه الذي خلق له ، لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة للإنسان» (٢).

وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) إضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن الأسباب التي جعلتهم يرتكبون هذه القبائح ، وهي أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء.

أى : أنتم أيها القوم لستم ممن يأتى الفاحشة مرة ثم يهجرها ويتوب إلى الله بل أنتم قوم مسرفون فيها وفي سائر أعمالكم ، لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال.

وقد حكى القرآن أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ قال لهم في سورة العنكبوت : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ).

وقال لهم في سورة النمل : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أى : متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة.

وقال لهم في سورة النمل : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو بمعنى السفه والطيش.

ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مصابين بفساد العقل ، وانحطاط الخلق ، وإيثار الغي والعدوان على الرشاد والتدبر.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٥.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٦٢.

٣١٦

ولقد حكى القرآن جوابهم القبيح على نصائح نبيهم لهم ، فقال : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ).

أى : وما كان جواب الطغاة المستكبرين على نصائح نبيهم لوط ـ عليه‌السلام ـ إلا أن قال بعضهم لبعض أخرجوا لوطا ومن معه من المؤمنين من قريتكم سدوم التي استوطنتموها وعشتم بها.

وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء مفرغ من أعم الأشياء ، أى : ما كان جوابهم شيئا من الأشياء سوى قول بعضهم لبعض أخرجوهم.

لما ذا هذا الإخراج؟ بين القرآن أسبابه كما تفوهت به ألسنتهم الخبيثة ، واتفقت عليه قلوبهم المنكوسة فقال : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) بهذه الجملة التعليلية.

أى : إن لوطا وأتباعه أناس يتنزهون عن إتيان الرجال ، وعن كل عمل من أعمالنا لا يرونه مناسبا لهم. يقال : تطهر الرجل ، أى : تنزه عن الآثام والقبائح.

وما أعجب العقول عند ما تنتكس ، والأخلاق عند ما ترتكس ، إنها تستنكف أن يبقى معها الطهور المتعفف عن الفحش ، وتعمل على إخراجه ، ليبقى لها الملوثون الممسوخون. وإنه لمنطق يتفق مع المنحرفين الذين انحطت طباعهم ، وانقلبت موازينهم ، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقولهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد» (١).

ثم حكت السورة عاقبة الفريقين فقالت : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أى : أنجينا لوطا ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين به.

قالوا : ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من أهله ، أى : فأنجيناه وأهله إلا امرأته فإنا لم ننجها لخبثها وعدم إيمانها.

قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتخبرهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ، ولهذا لما أمر لوط ـ عليه‌السلام ـ ليسرى بأهله أمر أن

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٧.

٣١٧

لا يعلمها ولا يخرجها من البلد ، ومنهم من يقول بل اتبعتهم ، فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم ، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ، ولهذا قال هاهنا : (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أى : «الباقين في العذاب» (١).

والغابر : الباقي. يقال : غبر الشيء يغبر غبورا ، أى «بقي». وقد يستعمل فيما مضى ـ أيضا ـ فيكون من الأضداد ، ومنه قول الأعشى : في الزمن الغابر. أى : الماضي.

وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أى : وأرسلنا على قوم لوط نوعا من المطر عجيبا أمره ، وقد بينه الله في آية أخرى بقوله : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٢).

أى : جازيناهم بالعقوبة التي تناسب شناعة جرمهم فإنهم لما قلبوا الأوضاع فأتوا الرجال دون النساء ، أهلكناهم بالعقوبة التي قلبت عليهم قريتهم فجعلت أعلاها أسفلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أى من طين متجمد.

ثم ختمت القصة بالدعوة إلى التعقل والتدبر والاعتبار فقال ـ تعالى ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

أى : فانظر أيها العاقل نظرة تدبر واتعاظ في مآل أولئك الكافرين المقترفين لأشنع الفواحش ، واحذر أن تعمل أعمالهم حتى لا يصيبك ما أصابهم وسر في الطريق المستقيم لتنال السعادة في الدنيا والآخرة.

هذا ، وقد وردت أحاديث تصرح بقتل من يعمل عمل قوم لوط فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس.

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط. فاقتلوا الفاعل والمفعول به».

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يرجم ، سواء أكان محصنا أو غير محصن (٣).

ثم قصت علينا سورة الأعراف بعد ذلك قصة شعيب مع قومه ، فقالت :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣١.

(٢) سورة الحجر الآية ٧٤.

(٣) راجع تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٨٠٧ وما بعدها. وتفسير الآلوسى ج ٧ ص ١٧٢ وما بعدها.

٣١٨

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧)

وقوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أى : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. ومدين اسم للقبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى معان بين حدود الحجاز والشام ، وهم أصحاب الأيكة ـ والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية معان ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.

وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم فهو أخوهم في النسب وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر شعيب قال : «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته.

وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان فدعاهم إلى توحيد الله ـ تعالى ـ ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق.

وعن السدى وعكرمة : أن شعيبا أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ،

٣١٩

وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأنه لم يبعث نبي مرتين إلا شعيب ـ عليه‌السلام ـ.

ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة فأهل مدين هم أصحاب الأيكة أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة ـ أى السحابة ـ ، وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر.

وبعد أن دعاهم إلى وحدانية الله شأن جميع الرسل في بدء دعوتهم قال لهم : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أى : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي توجب عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما كانت معجزته؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة لقوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ، ولأنه لا بد لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه وإلا لم تصح دعواه ، وكان متنبئا لا نبيا ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه (١).

ثم أخذ في نهيهم عن أبرز المنكرات التي كانت متفشية فيهم فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ :

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) الكيل والميزان مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن به ، كالعيش بمعنى ما يعاش به. أو المكيل والموزون.

أى : فأتموا الكيل والميزان للناس بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أى : ولا تنقصوهم حقوقهم بتطفيف الكيل ونقص الوزن فيما يجرى بينكم وبينهم من معاملات.

يقال : بخسه حقه يبخسه إذا نقصه إياه. وظلمه فيه «وتبخسوا» تعدى إلى مفعولين أولهما الناس والثاني أشياءهم.

وفائدة التصريح بالنهى عن النقص بعد الأمر بالإيفاء ، تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده.

قال الآلوسى : وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة. وقد جاء عن ابن عباس أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم. قيل ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه. وكثير ممن ينتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٧.

٣٢٠