التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

فالنسيان في حق الله ـ تعالى ـ مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا.

وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين. كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد».

ثم بين ـ سبحانه ـ منزلة القرآن الكريم في إثباته للرسالة المحمدية عن طريق الإخبار بأحوال الأمم السابقة وبيان سوء عاقبة من كذب به ، فقال :

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣)

قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) ... إلخ.

التفصيل : عبارة عن جعل الحقائق والمسائل بيانها مفصولا بعضها عن بعض بحيث لا يبقى فيها اشتباه أو لبس.

والمعنى : ولقد جئنا لهؤلاء الناس على لسانك يا محمد بكتاب عظيم الشأن ، كامل التبيان ، فصلنا آياته تفصيلا حكيما ، وبينا فيه ما هم في حاجة إليه من أمور الدنيا والآخرة بيانا شافيا يؤدى إلى سعادتهم متى اتبعوه واهتدوا بهديه».

والضمير لأولئك الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وقيل هو لهم وللمؤمنين ، والمراد بالكتاب : القرآن الكريم.

وقوله : (عَلى عِلْمٍ) حال من فاعل «فصلناه» ، أى : فصلناه على أكمل وجه وأحسنه حالة كوننا عالمين بذلك أتم العلم.

٢٨١

فالمراد بهذه الجملة الكريمة بيان أن ما في هذا القرآن من أحكام وتفصيل وهداية ، لم يحصل عبثا ، وإنما حصل مع العلم التام بكل ما اشتمل عليه من فوائد متكاثرة ، ومنافع متزايدة.

وقرأ ابن محيص «فضلناه» بالضاد المعجمة. أى : فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك.

وقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً) حال من مفعول «فصلناه» وقرئ بالجر على البدلية من «علم» وبالرفع على إضمار المبتدأ ، أى : هو هدى عظيم ورحمة واسعة.

وقال : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم المنتفعون بهديه ، والمستجيبون لتوجيهاته ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الذي أنزله الله هداية ورحمة فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ).

النظر هنا بمعنى الانتظار والتوقع لا بمعنى الرؤية. فالمراد بينظرون : ينتظرون ويتوقعون ، وتأويل الشيء : مرجعه ومصيره الذي يئول إليه ذلك الشيء والاستفهام بمعنى النفي.

والمعنى : إن هؤلاء المشركين ليس أمامهم شيء ينتظرونه بعد أن أصروا على شركهم إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب وما تتجلى عنه عاقبته ، من تبين صدقه ، وظهور صحة ما أخبر به من الوعد والوعيد والبعث والحساب ، وانتصار المؤمنين به واندحار المعرضين عنه.

فإن قيل : كيف ينتظرون ذلك مع كفرهم به؟

فالجواب : أنهم قبل وقوع ما هو محقق الوقوع ، صاروا كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به ، وسينزل بهم لا محالة.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم يوم الحساب فقال : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).

أى : يوم يأتى يوم القيامة الذي أخبر عنه القرآن ، والذي يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب ، يقول هؤلاء الكافرون الذين جحدوا هذا اليوم عند ما تكشف لهم الحقائق ، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وتبين صدقهم ولكننا نحن الذين كذبناهم وسرنا في طريق الضلال ، (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) في هذه الساعة العصيبة ويدفعوا عنا ما نحن فيه من كرب وبلاء ، أو نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله من الجحود واللهو واللعب.

أى : أنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين ، وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب ، أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل.

٢٨٢

فالجملة الكريمة تصور حسرتهم يوم القيامة تصويرا يهز المشاعر ، ويحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح.

والاستفهام في قوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) للتمني والتحسر ، ومن مزيدة للاستغراق والتأكيد وشفعاء مبتدأ مؤخر ولنا خبر مقدم.

ثم بين ـ سبحانه ـ نهايتهم فقال : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

أى : قد خسر هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أنفسهم ، بسبب إشراكهم بالله ، وذهب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من أن أصنامهم ستشفع لهم يوم الجزاء ، وأيقنوا أنهم كانوا كاذبين في دعواهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من بديع صنعه ، وجليل قدرته ، لكي يدل على أنه هو المعبود الحق فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

أى : إن سيدكم ومالككم الذي يجب عليكم أن تفردوه بالعبادة هو الله الذي أنشأ السموات والأرض على غير مثال سابق في مقدار ستة أيام.

قال الشهاب : اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أوقات. وإن أريد المتعارف وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها فالمعنى في مقدار ستة أيام ، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات فيقدر فيه مضاف (١).

وقال صاحب فتح البيان : «قيل هذه الأيام من أيام الدنيا ، وقيل من أيام الآخرة ، قال ابن عباس : يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وقال سعيد ابن جبير ، «كان الله قادرا على أن

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٧٠٠.

٢٨٣

يخلق السموات والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأنى في الأمور» (١).

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال الشيخ القاسمى :

ورد الاستواء على معان اشترك لفظه فيها ، فجاء بمعنى الاستقرار ، ومنه (اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) وبمعنى القصد ومنه (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه. قال الفراء : تقول العرب استوى إلى يخاصمني أى : قصد لي وأقبل على. ويأتى بمعنى الاستيلاء.

قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

ويأتى بمعنى العلو ومنه هذه الآية.

قال البخاري في آخر صحيحه في كتاب الرد على الجهمية في باب قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ). قال مجاهد : استوى وعلا على العرش.

وقال ابن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أى : علا وارتفع (٢).

وعرش الله ـ كما قال الراغب ـ مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له ـ تعالى الله عن ذلك ـ لا محمولا.

وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية. وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.

أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه ـ سبحانه ـ بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» وأنه يجب الإيمان بها كما وردت وتفويض العلم بحقيقتها إليه ـ تعالى ـ.

فعن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أنها قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر.

وقال الإمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.

__________________

(١) تفسير فتح البيان للشيخ صديق حسن خان ج ٢ ص ٣٤٢.

(٢) تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٨٠٢.

٢٨٤

وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.

وقال الإمام الرازي : إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه.

وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرفه ـ أى الاستواء ـ عن ظاهره لاستحالته ، وأن المراد منه ـ كما قال الإمام القفال ـ أنه استقام ملكه ، واطرد أمره ونفذ حكمه ـ تعالى ـ في مخلوقاته ، والله ـ تعالى ـ دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم «تنبيها على عظمته وكمال قدرته» وذلك مشروط بنفي التشبيه ، ويشهد بذلك قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١).

هذا وللعلماء كلام طويل حول هذه المسألة التي تتعلق بالمحكم والمتشابه فليرجع إليها من شاء.

وقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) التغشية : التغطية والستر ، أى : يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره ، ويصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا ، ويجعل النهار غاشيا لليل فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما ، وفي ذلك من منافع الناس ما فيه وبه تتم الحياة ، وهو دليل القدرة والحكمة والتدبير من الإله العلى العظيم.

ولم يذكر في هذه الآية يغشى الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله ـ تعالى ـ : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أو لدلالة الحال عليه ، أو لأن اللفظ يحتملهما : يجعل الليل مفعولا أول والنهار مفعولا ثانيا أو بالعكس.

والآية الكريمة من باب أعطيت زيدا عمرا ، لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشيا ومغشيا ، فوجب جعل الليل هو الفاعل المعنوي ، والنهار هو المفعول من غير عكس لئلا يلتبس المعنى.

وقد قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ).

وقوله : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أى : يطلب الليل النهار أو كلاهما بطلب الآخر طلبا سريعا حتى يلحقه ويدركه ، وهو كناية عن أن أحدهما يأتى عقب الآخر ويخلفه بلا فاصل ، فكأنه يطلبه طلبا سريعا لا يفتر عنه حتى يلحقه.

والحث على الشيء : الحض عليه. يقال : حث الفرس على العدو يحثه حثا صاح به أو وكزه برجل أو ضرب. وذهب حثيثا أى : مسرعا.

__________________

(١) تفسير صفوة البيان. ص ٢٦٣ لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

٢٨٥

والجملة حال من الليل ، لأنه هو المتحدث عنه أو حال من النهار أى : مطلوب حثيثا ، أو من كل منهما على الرأى الثاني الذي يفسر «يطلبه حثيثا» بأن كليهما يطلب الآخر.

وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أى : وخلق الشمس والقمر والنجوم كونهن مذللات خاضعات لتصرفه ، منقادات لمشيئته ، كأنهن مميزات أمرن فانقدن ، فتسمية ذلك أمر على سبيل التشبيه.

قال الآلوسى : ويصح حمل الأمر على الإرادة. أى : هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته : ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامى وقال : إنه ـ سبحانه ـ أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصوص إلى حيث شاء ولا مانع أن يعطيها الله إدراكا وفهما لذلك (١)».

وقرأ الجمهور بنصب الألفاظ الثلاثة على أنها معطوفة على السموات ، أى : خلق السموات وخلق الشمس والقمر والنجوم. وبنصب (مُسَخَّراتٍ) أيضا على أنها حال من هذه الثلاثة.

وقرأ أبو عامر بالرفع في جميعها على الابتداء والخبر مسخرات.

وقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ألا : أداة يفتتح بها القول الذي يهتم بشأنه لأجل تنبيه المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله. والخلق : إيجاد الشيء من العدم. والأمر : التدبير والتصرف على حسب الإرادة لما خلقه. فهو ـ سبحانه ـ الخالق والمدبر للعالم على حسب إرادته وحكمته لا شريك له في ذلك.

وهذه الجملة الكريمة كالتدليل للكلام السابق أى : أنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلق الأشياء كلها ويدخل في ذلك السموات والأرض وغيرهما ، وهو الذي دبر هذا الكون على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشار إليه بقوله : (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ).

وقوله : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

تبارك : فعل ماض لا يتصرف ، أى لم يجيء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل. من البركة بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها النماء والزيادة. أى : كثر خيره وإحسانه وتعاظمت وتزايدت بركات الله رب العالمين.

أو من البركة بمعنى الثبوت. يقال : برك البعير ، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شيء ثبت ودام فقد برك. أى : ثبت ودام خيره على خلقه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٣٨.

٢٨٦

أو المعنى : تعالى الله رب العالمين وتعظم وارتفع وتنزه عن كل نقص.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ عباده أن يكثروا من التضرع إليه بالدعاء الخالص فقال :

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

التضرع : تفعل من الضراعة وهي الذلة والاستكانة. يقال : ضرع فلان ضراعة : أى خشع وذل وخضع. ويقال : تضرع ، أى أظهر الضراعة والخضوع. وتضرعا حال من الضمير في ادعوا.

الخفية : بضم الخاء وكسرها ـ مصدر خفى كمرض بمعنى اختفى أى : استتر وتوارى ولم يجهر بدعائه.

والمعنى : سلوا ربكم ـ أيها الناس ـ حوائجكم بتذلل واستكانة وإسرار واستتار فإنه ـ سبحانه ـ يسمع الدعاء ويجيب المضطر ، ويكشف السوء ، وهو القادر على إيصالها إليكم ، وغيره عن ذلك عاجز.

وإنما أمر الله عباده بالإكثار من الدعاء في ضراعة وإسرار ، لأن الدعاء ما هو إلا اتجاه إلى الله بقلب سليم ، واستعانة به بإخلاص ويقين ، لكي يدفع المكروه ، ويمنح الخير ، ويعين على نوائب الدهر ، ولا شك أن الإنسان في هذه الحالة يكون في أسمى درجات الصفاء الروحي ، والنقاء النفسي ، ويكون كذلك مؤديا لأشرف ألوان العبادة والخضوع لله الواحد القهار ، معترفا لنفسه بالعجز والنقص. ولربه بالقدرة والكمال (١).

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية من آداب الدعاء الخشوع والإسرار واستدلوا على ذلك بأحاديث وآثار متعددة منها ما جاء في الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس ،

__________________

(١) راجع كتابنا «الدعاء» معناه ، فضله ، آدابه. شروطه ، فوائده .. إلخ من سلسلة مجمع البحوث الإسلامية الكتاب السادس والعشرون.

٢٨٧

اربعوا على أنفسكم ـ أى ارفقوا بها ـ وأقصروا من الصياح ـ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إنه معكم. إنه سميع قريب. تبارك اسمه وتعالى جده» (١).

وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور ـ أى الزوار ـ وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله ـ تعالى ـ يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضى فعله وهو زكريا فقال : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٢).

وقال ابن المنير : «وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية ، فالاخلال بالضراعة إلى الله إخلال بالدعاء. وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى. فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعمدون إلى الصراخ والصياح في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللفظ ويشتد ، وتستك المسامع وتنسد ، ويهتز الداعي بالناس ، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين : رفع الصوت في الدعاء وفي المسجد ، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ليست خارجة عن صميم الفؤاد ، لأنها لو كانت من أصل لكانت عند اتباع السنة في الدعاء. وفي خفض الصوت به أوفر وأوفى وأزكى فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول كثير من الخلق. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه» (٣).

وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الاعتداء تجاوز الحد أى : لا يحب المتجاوزين حدودهم في كل شيء ، ويدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولا أوليا. ومن مظاهر الاعتداء في الدعاء أن يترك هذين الأمرين وهما التضرع والإخفاء ، كذلك من مظاهر الاعتداء في الدعاء أن يتكلف فيه.

روى أبو داود في سننه أن سعد بن أبى وقاص سمع ابنا له يدعو ويقول : اللهم إنى أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال له يا بنى : إنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ثم قرأ سعد هذه

__________________

(١) أخرجه البخاري ـ واللفظ له ـ في كتاب الجهاد. باب ما يكره من رفع الصوت : وأخرجه مسلم في كتاب «الذكر والدعاء».

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٣.

(٣) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ٢ ص ١١٠ من تفسير الكشاف.

٢٨٨

الآية (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وإن بحسبك أن تقول : اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل (١)».

ثم نهى الله عباده عن كل لون من ألوان المعاصي فقال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أى : لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله إياها ، بأن خلقها على أحسن نظام ، فالجملة الكريمة نهى عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان.

روى أبو الشيخ عن أبى بكر بن عياش أنه سئل عن قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فقال : إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله به ، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو من المفسدين في الأرض».

قال صاحب المنار : وقال ـ سبحانه ـ : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) لأن الإفساد بعد الإصلاح أشد قبحا من الإفساد على الإفساد ، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذا هو لم يحفظه ويجرى على سننه. فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟ ولذا خص بالذكر وإلا فالإفساد مذموم ومنهى عنه في كل حال» (٢).

وقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً).

أصل الخوف : انزعاج في الباطن يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل.

والمعنى : وادعوه خائفين من عقابه إياكم على مخالفتكم لأوامره ، طامعين في رحمته وإحسانه وفي إجابته لدعائكم تفضلا منه وكرما.

قال الجمل : فإن قلت : قال في أول الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وقال هنا : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) وهذا عطف للشيء على نفسه فما فائدة ذلك؟ قلت : الفائدة أن المراد بقوله ـ تعالى ـ : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) بيان شرطين من شروط الدعاء وبقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) بيان شرطين آخرين ، والمعنى : كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما» (٣).

وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أى : إن رحمته ـ تعالى ـ وإنعامه على عباده قريب من المتقين لأعمالهم ، المخلصين فيها ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فمن أحسن عبادته

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر باب الدعاء حديث رقم ١٤٨٠ طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.

(٢) تفسير المنار ج ٨ ص ٤٦١.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٥١.

٢٨٩

نال عليها الثواب الجزيل ، ومن أحسن في أمور دنياه كان أهلا للنجاح في مسعاه ، ومن أحسن في دعائه كان جديرا بالقبول والإجابة.

قال الشيخ القاسمى : وفي الآية الكريمة ترجيح للطمع على الخوف ، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف ، ولكنه إذا رأى سعة رحمته ـ سبحانه ـ وسبقها ، غلب الرجاء عليه. وفيها تنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وهو الإحسان في القول والعمل.

قال مطر الوراق : استنجزوا موعود الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين» (١).

هذا ، وكلمة «قريب» وقعت خبرا للرحمة ، ومن قواعد النحو أن يكون الخبر مطابقا للمبتدأ في التذكير والتأنيث ، فكان مقتضى هذه القواعد أن يقال إن رحمة الله قريبة. وقد ذكر العلماء في تعليل ذلك بضعة عشر وجها ، منها أن تذكير «قريب» صفة لمحذوف أى أمر قريب ، أو لأن كلمة الرحمة مؤنثة تأنيثا مجازيا ، فجاز في خبرها التذكير والتأنيث أو لأن الرحمة هنا بمعنى الثواب وهو مذكر فيكون تذكير قريب باعتبار ذلك وقيل غير ذلك مما لا مجال لذكره هنا.

وبعد أن بيّن ـ سبحانه ـ أنه هو الخالق للسموات والأرض ، وأنه هو المتصرف الحاكم المدبر المسخر ، وأن رحمته قريبة من المحسنين الذين يكثرون من التضرع إليه بخشوع وإخلاص.

بعد كل ذلك تحدث ـ سبحانه ـ عن بعض مظاهر رحمته التي تتجلى في إرسال الرياح ، وإنزال المطر ، وعن بعض مظاهر قدرته التي تتجلى في بعث الموتى للحساب ، وفي هداية من يريد هدايته وإضلال من يريد ضلالته فقال ـ تعالى ـ :

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) معطوف على ما سبق من

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٧٥٦.

٢٩٠

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لبيان مظاهر قدرته ورحمته. وقرأ حمزة والكسائي «الريح» بالإفراد :

و (بُشْراً) ـ بضم الباء فسكون الشين ـ مخفف و (بُشْراً) ـ بضمتين ـ جمع بشير كنذر ونذير ، أى : مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق.

وقرأ أهل المدينة والبصرة «نشرا» ـ بضم النون والشين ـ جمع نشور ـ كصبور وصبر ـ بمعنى ناشر من النشر ضد الطى ، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه.

وهناك قراءات أخرى غير ذلك.

والمعنى وهو ـ سبحانه ـ الذي يرسل الرياح مبشرات عباده بقرب نزول الغيث الذي به حياة الناس.

وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أى بين يدي المطر الذي هو من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).

وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ).

قال الإمام الرازي : وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) من أحسن أنواع المجاز ، والسبب في ذلك أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز. يقال : إن الفتن تحصل بين يدي الساعة يريدون قبيلها ، كذلك مما حسن هذا المجاز أن يدي الإنسان متقدمة ، فكل ما كان يتقدم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة ، فلما كانت الرياح تتقدم المطر ، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ» (١).

وقوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) حتى : غاية لقوله : (يُرْسِلُ). وأقلت : أى حملت. وحقيقة أقله وجده قليلا ثم استعمل بمعنى حمله. لأن الحامل لشيء يستقل ما يحمله بزعم أن ما يحمله قليل.

و (سَحاباً) أى : غيما ، سمى بذلك لانسحابه في الهواء ، وهو اسم جنس جمعى يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة ، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع.

و (ثِقالاً) جمع ثقيلة من الثقل ـ كعنب ـ ضد الخفة. يقال : ثقل الشيء ـ ككرم ـ ثقلا وثقالة فهو ثقيل وهي ثقيلة.

والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ هو الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول الغيث ، حتى إذا حملت

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٢٤٢ طبعة المطبعة الشرقية سنة ١٣٢٤ ه‍.

٢٩١

الرياح سحابا ثقالا من كثرة ما فيها من الماء ، سقناه ـ أى السحاب إلى «بلد ميت» أى إلى أرض لا نبات فيها ولا مرعى ، فاهتزت وربت وأخرجت النبات والمرعى. فأطلق ـ سبحانه ـ الموت على الأرض التي لا نبات فيها ، وأطلق الحياة على الأرض الزاخرة بالنبات والمرعى لأن حياتها بذلك.

قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (١).

وقوله : (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أى : فأنزلنا في هذا البلد الميت الماء الذي يحمله السحاب. فالباء في (بِهِ) للظرفية.

وقيل إن الضمير في (بِهِ) للسحاب ، أى : فأنزلنا بالسحاب الماء وعليه فتكون الباء للسببية.

وقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أى : فأخرجنا بهذا الماء من كل أنواع الثمرات المعتادة في كل بلد ، تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها.

فليس المراد أن كل بلد ميت تخرج منه جميع أنواع الثمار التي خلقها الله ، متى نزل به الماء ، وإنما المراد أن كل بلد تخرج منه الثمار التي تناسب تربته على حسب مشيئة الله وفضله وإحسانه ، إذ من المشاهد أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه ، وهذا أدل على قدرة الله ، وواسع رحمته.

وقوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى إخراج الثمرات ، أو إلى إحياء البلد الميت.

أى : مثل ما أحيينا الأرض بعد موتها وجعلناها زاخرة بأنواع الثمرات بسبب نزول الماء عليها ، نخرج الموتى من الأرض ونبعثهم أحياء في اليوم الآخر لنحاسبهم على أعمالهم ، فالتشبيه في مطلق الإخراج من العدم. وهذا رد على منكري البعث بدليل ملزم ، لأن من قدر على إخراج النبات من الأرض بعد نزول الماء عليها ، قادر ـ أيضا ـ على إخراج الموتى من قبورهم.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تذييل قصد به الحث على التدبر والتفكر ، أى : لعلكم تذكرون وتعتبرون بما وصفنا لكم فيزول إنكاركم للبعث والحساب.

قال الشيخ القاسمى : «من أحكام الآية كما قال الجشمي : أنها تدل على عظم نعمة الله

__________________

(١) آية ٩ من سورة فاطر.

٢٩٢

علينا بالمطر ، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر ، وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء. وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده ، لضرب من المصلحة دينا ودنيا ..» (١).

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لاختلاف استعداد البشر للخير والشر فقال :

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً).

أصل النكد : العسر القليل الذي لا يخرج إلا بعناء ومشقة. يقال : نكد عيشه ينكد ، اشتد وعسر. ونكدت البئر : قل ماؤها ، ومنه : رجل نكد ، ونكد وأنكد ، شؤم عسر. وهم أنكاد ومناكيد.

وقال في اللسان : والنكد : قلة العطاء ، قال الشاعر :

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن

أعطيت ، أعطيت تافها نكدا

أى : عطاء قليلا لا جدوى منه.

والمعنى : أن الأرض الكريمة التربة يخرج نباتها وافيا حسنا غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره ، والذي خبث من الأرض كالسبخة منها لا يخرج نباته إلا قليلا عديم الفائدة.

فالأول : مثل ضربه الله للمؤمن يقول : هو طيب وعمله طيب.

والثاني : مثل للكافر ، يقول : هو خبيث وعمله خبيث ، وفيهما بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الطيبة التربة ، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة السبخة.

ونكدا منصوب على أنه حال أو على أنه نعت لمصدر محذوف والتقدير : والذي خبث لا يخرج إلا خروجا نكدا.

قال صاحب الكشاف : «وهذا مثل لمن ينجح فيه الوعظ والتذكير من المكلفين ، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك. وعن مجاهد : آدم وذريته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة : المؤمن سمع

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٧ ص ٢٧٥٨.

٢٩٣

كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به ، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر. وإنزاله بالبلد الميت ، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد» (٢).

وقريب من معنى الآية الكريمة ما رواه الشيخان عن أبى موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (١).

وقوله : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أصل التصريف : تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح. والآيات : الدلائل الدالة على قدرة الله.

أى : مثل ذلك التصريف البديع والتنويع الحكيم نصرف الآيات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا بالإتيان بها على أنواع جلية واضحة لقوم يشكرون نعمنا ، باستعمالها فيما خلقت له ، فيستحقون مزيدنا منها وإثابتنا عليها.

وعبر هنا بالشكر لأن هذه الآية موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد ، بينما عبر في الآية السابقة عليها بالتذكر لأن موضوعها يتعلق بالاعتبار والاستدلال على قدرة الله ـ تعالى ـ في إحياء الموتى.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا ـ من بين ما حدثتنا ـ عن عظمة القرآن الكريم وعن وجوب اتباعه ، وعن قصة آدم وما فيها من عبر وعظات ، وعما أحله الله وحرمه ، وعما يدور بين أهل النار من مجادلات واتهامات ، وعن العاقبة الطيبة التي أعدها الله للصالحين من عباده ، وعن المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل النار ، ثم عن مظاهر قدرة الله ، وأدلة وحدانيته.

وبعد كل ذلك تبدأ السورة جولة جديدة مع الأمم الخالية ، والقرى المهلكة التي جاء ذكرها في مطلعها.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ).

فتحدثنا السورة الكريمة عن مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم

__________________

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٢.

(١) أخرجه البخاري في كتاب العلم ، وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل.

٢٩٤

شعيب ، ثم حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.

وقد تكلم الإمام الرازي عن فوائد مجيء قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في هذه السورة بعد أن تحدثت عن أدلة توحيده وربوبيته ـ سبحانه ـ فقال : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة ، وبينات قاهرة ، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد :

أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات. ليس من خواص قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت ، فكان ذكر قصصهم ، وحكاية إصرارهم وعنادهم ، يفيد تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفيف ذلك على قلبه.

ثانيها : أنه ـ تعالى ـ يحكى في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا ، والخسارة في الآخرة ، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، وذلك يقوى قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين.

وثالثها : التنبيه على أنه ـ تعالى ـ وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يمهلهم ، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه.

ورابعها : بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان أميّا. وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ. فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله ـ تعالى ـ» (١).

والآن فلنستمع بتدبر واعتبار إلى السورة الكريمة وهي تحدثنا عن قصة نوح مع قومه فتقول :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٢٤٥ طبعة المطبعة الشريفة سنة ١٣٢٤ ه‍.

٢٩٥

ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤)

تلك هي قصة نوح مع قومه كما وردت في هذه السورة ، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلا في سورة هود ، والمؤمنون ، ونوح وغيرها.

وقوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) جواب قسم محذوف ، أى : والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه والدليل على هذا القسم وجود لامه في بدء الجملة.

قال الآلوسى : «واطرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي ـ على ما قال الزمخشري ـ وقل الاكتفاء بها وحدها. والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها ، فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه ، لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد» (١).

وينتهى نسب نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى شيث بن آدم ـ عليه‌السلام ـ وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاث وأربعين موضعا.

وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.

وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.

قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين : ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله ـ تعالى ـ رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٤٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣٢.

٢٩٦

وقوله : (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) حكاية لما وجهه نوح لقومه من إرشادات ، أى : قال لهم بتلطف وأدب تلك الكلمة التي وجهها كل رسول لمن أرسل إليهم : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فإنه هو المستحق للعبادة ، أما سواه فلا يملك نفعا أو ضرا.

وكلمة (غَيْرُهُ) قرئت بالحركات الثلاث ، بالرفع على أنها صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائي بالجر باعتبار اللفظ ، وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ، ما لكم من إله إلا إياه.

ثم حكى القرآن أن نوحا حذر قومه من سوء عاقبة التكذيب ، وأظهر لهم شفقته بهم وخوفه عليهم فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى : إنى أخاف عليكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والضلال وتركتم عبادة الله وحده عذاب يوم عظيم ، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ولتكميل الإنذار.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما موقع الجملتين بعد قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) قلت : الأولى ـ وهي ما لكم من إله غيره ـ بيان لوجه اختصاصه بالعبادة ، والثانية وهي ـ إنى أخاف ... إلخ ـ بيان الداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم : يوم القيامة ، أو يوم نزول العذاب بهم وهو الطوفان» (١).

بهذا الأسلوب المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله. فكيف كان ردهم عليه؟

لقد ردوا عليه ردا سقيما حكاه القرآن في قوله : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

الملأ : الأشراف والسادة من القوم. سموا بذلك لأنهم يملؤون العيون مهابة. وقيل : هم الرجال ليس فيهم نساء. والملأ : اسم جمع لا واحد له من لفظه : كرهط.

والجملة الكريمة مستأنفة ، كأنه قيل فماذا قالوا له؟ فقيل : قال الملأ ... إلخ والرؤية هنا قلبية ومفعولاها الضمير والظرف ، وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال. أى : قال الأشراف من قوم نوح له عند ما دعاهم إلى وحدانية الله : إنا لنراك بأمرك لنا بعبادة الله وحده وترك آلهتنا في انحراف بين عن طريق الحق والرشاد.

يقال : ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة ، أى زل عنه فلم يهتد إليه ، وجعلوا الضلال ظرفا له (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مبالغة في وصفهم له بذلك وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٧١.

٢٩٧

ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (١).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات (٣).

ويرد نوح على قومه بأسلوب عف مهذب ، فينفى عن نفسه الضلالة ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ :

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أى : قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم : يا قوم ليس بي أدنى شيء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذي رميتمونى به ، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه ، لأن التاء في ـ ضلالة ـ للمرة الواحدة منه ، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى ، والمقام يقتضى ذلك ، لأنهم لما بالغوا في رميه بالضلال المبين ، رد عليهم بما يبرئه من أى لون من ألوانه. وفي تقديم الظرف (بي) تعريض بأنهم هم في ضلال واضح.

ثم قفى على نفى الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهي الهداية والتبليغ عن الله ـ تعالى ـ فقال : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

فأنت ترى أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة :

أولها : قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب ، ولكني فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر.

قال الجمل : (وقد جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين ، لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين : ضلال أو هدى ، والرسالة لا تجامع الضلال و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة لرسول ومن لابتداء الغاية) (٤).

وثانيها : قوله : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أى : أبلغكم ما أوحاه الله إلى من الأوامر والنواهي ، والمواعظ والزواجر ، والبشائر والنذائر ، والعبادات والمعاملات.

قال الآلوسى : وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة ، رعاية لاختلاف أوقاتها أو

__________________

(١) سورة المطففين الآية ٢٢.

(٢) سورة الأحقاف الآية ١١.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٢٢.

(٤) حاشية الجمل ج ٢ ص ١٥٤.

٢٩٨

تنوع معاني ما أرسل ـ عليه‌السلام ـ به من العبادات والمعاملات ـ أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس ـ عليه‌السلام ـ) (١) والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير رسالته وتقرير أحكامها.

وثالثها : قوله : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أى : أبلغكم جميع تكاليف الله وأتحرى ما فيه صلاحكم وخيركم فأرشدكم إليه وآخذكم نحوه.

وأنصح : مأخوذ من النصح ـ وهو كما قال القرطبي ـ إخلاص النية من شوائب الفساد ، يقال : نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة ـ أى أرشدته إلى ما فيه صلاحه ـ ويقال : رجل ناصح الجيب ، أى : نقى القلب. والناصح الخالص من العسل وغيره ، مثل الناصع. وكل شيء خلص فقد نصح (٢).

والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصح ، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي كلفهم الله بها ، وأما النصح فمعناه أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه.

وأما الصفة الرابعة فهي قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أى : أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم عن إخلاص ، وأعلم في الوقت نفسه من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن طريق الوحى أشياء لا علم لكم بها ، لأن الله قد خصنى بها.

أو المعنى : وأعلم من قدرة الله الباهرة ، وشدة بطشه على أعدائه ، ما لا تعلمونه فأنا أحذركم عن علم ، وأنذركم عن بينة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

قال ابن كثير : وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا نصيحا عالما بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا : «أيها الناس ، إنكم مسئولون عنى ، فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ، ويقول : اللهم اشهد ، اللهم اشهد (٣).

وبعد أن وصف نوح نفسه بتلك الصفات الأربع ، وبين لهم وظيفته أكمل بيان أخذ ينكر عليهم استبعادهم أن يخصه الله بالنبوة فقال :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٥٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٢٣٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٢٣.

٢٩٩

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ، وَلِتَتَّقُوا ، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الهمزة في أول الجملة للاستفهام الإنكارى ، والواو بعدها للعطف على محذوف مقدر بعد الهمزة.

والمعنى : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر أى موعظة من ربكم وخالقكم على لسان رجل من جنسكم ، تعرفون مولده ونشأته.

ولقد حكى القرآن عن قوم نوح أنهم عجبوا من أن يختار الله رسولا منهم ، قال ـ تعالى ـ : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (١).

وقوله : (لِيُنْذِرَكُمْ) علة للمجيء ، أى : وليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي.

وقوله : (وَلِتَتَّقُوا) علة ثانية مرتبة على العلة التي قبلها ، أى : ولتوجد منكم التقوى ، وهي الخشية من الله بسبب الإنذار.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) علة ثالثة مترتبة على التي قبلها. أى : ولترحموا بسبب التقوى إن وجدت منكم.

قال بعض العلماء : وهذا الترتيب في غاية الحسن ، لأن المقصود من الإرسال الإنذار ، ومن الإنذار التقوى. ومن التقوى الفوز بالرحمة.

وفائدة حرف الترجي (وَلَعَلَّكُمْ) التنبيه على عزة المطلب ، وأن التقوى غير موجبة للرحمة ، بل هي منوطة بفضل الله ، وأن المتقى ينبغي ألا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله» (٢).

وإلى هنا نكون قد عرفنا أسلوب نوح في دعوته كما جاء في هذه السورة الكريمة ، فماذا كان موقف قومه؟

لقد صرحت السورة الكريمة بأن موقفهم كان قبيحا ، ولذا عوقبوا بما يناسب جرمهم قال ـ تعالى ـ : (فَكَذَّبُوهُ) أى : فكذب قوم نوح نبيهم ومرشدهم نوحا ، وأصروا على التكذيب مع أنه دعاهم إلى الهدى ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ومع أنه مكث فيهم «ألف سنة إلا خمسين عاما» كانت نتيجة ذلك ـ كما حكى القرآن :

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآية ٢٤.

(٢) حاشية الجمل ج ٢ ص ١٥٥.

٣٠٠