التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

والمعنى : يا بنى آدم لا يصرفنكم الشيطان عن طاعة الله ، بأن تمكنوه من أن يوقعكم في المعاصي كما أوقع أبويكم من قبل فيها ، فكان ذلك سببا في خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها.

وقوله : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) جملة حالية من أبويكم. أى أخرجهما من الجنة حال كونه نازعا عنهما لباسهما. وأسند النزع إلى الشيطان لأنه كان متسببا فيه. ثم أكد تحذيرهم من الشيطان بجملة تعليلية فقال : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أى : إن الشيطان وجنوده يرونكم يا بنى آدم وأنتم لا ترونهم ، فالجملة الكريمة تعليل للنهى السابق. وهو قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) وتأكيد للتحذير ، لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف ، ولذا قال مالك بن دينار : «إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا على من عصمه الله».

وقوله : (وَقَبِيلُهُ) معطوف على الضمير المستتر في قوله : (يَراكُمْ) المؤكد بقوله : (هُوَ).

قال الآلوسى ما ملخصه : والقضية مطلقة لا دائمة ، فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون. ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحدهم حين رام أن يشغله عن الصلاة فأمكنه الله منه ، وأراد أن يربطه في سارية من سوارى المسجد ثم ذكر دعوة سليمان في قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فتركه (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سنته في خلقه فقال : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). أى : إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون ، مسلطين عليهم ، متمكنين من إغوائهم ، لأن حكمتنا اقتضت أن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن ، متجانسين مع الكافرين الذين هم شرار الإنس.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٠٥.

٢٦١

وبذلك نرى أن الآية الأولى التي ورد فيها النداء الأول قد ذكرت بنى آدم بجانب من نعم الله عليهم ، ثم جاءت هذه الآية مصدرة بنداء آخر حذرتهم منه من وسوسة الشيطان ومداخله حتى لا يقعوا فيما وقع فيه أبوهم آدم من قبل.

ثم حكى القرآن بعض القبائح التي كان يفعلها المشركون ، ورد على أكاذيبهم بما يدحضها فقال :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨)

الفاحشة : هي كل فعل قبيح يتنافى مع تعاليم الشريعة مثل الإشراك بالله ، والطواف بالبيت الحرام بدون لباس يستر العورة.

قال الإمام ابن كثير : «كانت العرب ـ ما عدا قريشا ـ لا يطوفون بالبيت الحرام في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش ـ وهم الحمس (١) ـ يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسى ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسى ثوبا طاف عريانا ، وربما كانت المرأة تطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر ، وأكثر ما كان النساء يطفن عراة ليلا ، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله فأنكر الله عليهم ذلك وقال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) (٢).

فالآية الكريمة تحكى عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يرتكبون القبائح التي نهى الله عنها كالطواف بالكعبة عرايا ، وكالإشراك بالله ، ثم بعد ذلك يحتجون بأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون ، وبأن الله قد أمرهم بذلك ، ولا شك أن احتجاجهم هذا من الأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ولذا عاجلهم القرآن بالرد المفحم ، فقال : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) سمو بالحمس لأنهم تحمسوا في دينهم أى : تشددوا. والحماسة : الشجاعة.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٨.

٢٦٢

أى : قل يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب : إن كلامكم هذا يناقضه العقل والنقل. أما أن العقل يناقضه ويكذبه. فلأنه لا خلاف بيننا وبينكم في أن ما تفعلونه هو من أقبح القبائح بدليل أن بعضكم قد تنزه عن فعله ، وأما أن النقل يناقضه ويكذبه فلأنه لم يثبت عن طريق الوحى أن الله أمر بهذا ، بل الثابت أن الله لا يأمر به ، لأن الفاحشة في ذاتها تجاوز لحدود الله ، وانتهاك لحرماته ، فهل من المعقول أن يأمر الله بانتهاك حدوده وحرماته؟ والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَتَقُولُونَ) للإنكار والتوبيخ وفيه معنى النهى.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أمر به من طاعات عقب تكذيبه للمشركين فيما افتروه فقال :

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

أى : قل لهم يا محمد إن الذي أمر الله به هو العدل في الأمور كلها ، لأنه هو الوسط بين الإفراط والتفريط ، كما أنه ـ سبحانه ـ قد أمركم بأن تتوجهوا إليه وحده في كل عبادة من عباداتكم ، وأن تكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء وصالحه ، فإنه مخ العبادة.

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بمبدئهم ونهايتهم فقال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ).

أى : أن الذي قدر على ابتدائكم وإنشائكم ولم تكونوا شيئا ، يقدر على إعادتكم ليجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة والطاعة.

قال صاحب المنار : «وهذه الجملة من أبلغ الكلام الموجز المعجز ؛ فإنها دعوى متضمنة الدليل ، بتشبيه الإعادة بالبدء فهو يقول : كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة حالة كونكم فريقين ، فريقا هداهم في الدنيا فاهتدوا بإيمانهم به وإقامة وجوههم له وحده في العبادة ودعائه مخلصين له الدين ، وفريقا حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان ، وإعراضهم عن طاعة الرحمن ، وكل فريق يموت على ما عاش ويبعث على ما مات عليه ، ومعنى حقت عليهم الضلالة ، ثبتت بثبوت أسبابها الكسبية ، لا أنها جعلت غريزة لهم

٢٦٣

فكانوا مجبورين عليها ، يدل على هذا تعليلها على طريق الاستئناف البياني بقوله : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ومعنى اتخاذهم الشياطين أولياء ، أنهم أطاعوهم في كل ما يزينونه لهم من الفواحش والمنكرات ، ويحسبون أنهم مهتدون فيما تلقنهم الشياطين إياه من الشبهات (١)».

ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء ثالثا إلى بنى آدم أمرهم فيه بالتمتع بالحلال ، وبزينة الله التي أخرجها لعباده بدون إسراف أو تبذير فقال ـ تعالى ـ :

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)

والمعنى : عليكم يا بنى آدم أن تتجملوا بما يستر عورتكم ، وأن تتحلوا بلباس زينتكم كلما صليتم أو طفتم ، واحذروا أن تطوفوا بالبيت الحرام وأنتم عرايا.

قال القرطبي : «يا بنى آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا ، فإنه عام في كل مسجد للصلاة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (٢)».

وقال ابن عباس : «كان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل. يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها». فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٣).

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ أن يتمتعوا بالطيبات بدون إسراف أو تقتير فقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

أى : كلوا من المآكل الطيبة ، واشربوا المشارب الحلال ولا تسرفوا لا في زينتكم ولا في مأكلكم أو مشربكم. لأنه ـ سبحانه ـ يكره المسرفين.

قال الإمام ابن كثير : «قال بعض السلف : جمع الله الطب في نصف آية في قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) «وقال البخاري : قال ابن عباس : «كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة» (٤).

__________________

(١) تفسير المنار ج ٨ ص ١٧٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١٧٩.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٨ ص ١٢٥.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢١.

٢٦٤

وقد كان السلف الصالح يقفون بين يدي الله في عبادتهم وهم في أكمل زينة ، فهذا ـ مثلا ـ الإمام الحسن بن على ، كان إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه فقيل له ؛ يا ابن بنت رسول الله لم تلبس أجمل ثيابك؟ فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأنا أتجمل لربي ، لأنه هو القائل : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (١).

وقال الكلبي : «كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم فأنزل ـ تعالى ـ : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).

فهذه الآية الكريمة تهدى الناس إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم ، إذ أنها أباحت للمسلم أن يتمتع بالطيبات التي أحلها الله ، ولكن بدون إسراف أو بطر ، ولذا جاء الرد على المتنطعين الذين يضيقون على أنفسهم ما وسعه الله في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك :

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

أى : قل يا محمد لأولئك الذين يطوفون بالبيت عرايا ، ويمتنعون عن أكل الطيبات : من أين أتيتم بهذا الحكم الذي عن طريقه حرمتم على أنفسكم بعض ما أحله الله لعباده؟ فالاستفهام لإنكار ما هم عليه بأبلغ وجه.

ثم أمر رسوله أن يرد عليهم بأبلغ رد فقال : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

أى : قل أيها الرسول لأمتك : هذه الزينة والطيبات من الرزق ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، ويشاركهم فيها المشركون أيضا ، أما في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين ولا يشاركهم فيها أحد ممن أشرك مع الله آلهة أخرى.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معناه : مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من توجيهات سامية ، وآداب عالية.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٠٨.

٢٦٥

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من المحرمات التي نهى عباده عن اقترافها فقال تعالى :

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين ضيقوا على أنفسهم ما وسعه الله ، قل لهم : إن ما حرمه الله عليكم في كتبه وعلى ألسنة رسله هو هذه الأنواع الخمس التي أولها (الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ، أى : ما كان قبيحا من الأقوال والأفعال سواء أكان في السر أو العلن ، وثانيها وثالثها (الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) والإثم : هو الشيء القبيح الذي فعله يعتبر معصية ، والبغي : هو الظلم والتطاول على الناس وتجاوز الحد.

قال الإمام ابن كثير : «وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو التعدي على الناس ، فحرم الله هذا وهذا» (١).

وقيد البغي بكونه بغير الحق ، لأنه لا يكون إلا كذلك. إذ معناه في اللغة تجاوز الحد. يقال : بغى الجرح. إذ تجاوز الحد في فساده.

وقيل قيده بذلك ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه ، فإنه يسمى بغيا في الجملة. لكنه بحق ، وهو قول ضعيف لأن دفع البغي لا يسمى بغيا ، وإنما يسمى انتصافا من الظالم ، ولذا قال القرآن : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ).

وقيل إن القيد هنا لإخراج الأمور التي ليس لهم فيها حقوق ، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها.

ورابع الأمور التي حرمها الله أخبر عنه القرآن بقوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً).

أى : وحرم عليكم أن تجعلوا لله شركاء في عبادته بدون حجة وبرهان. وقوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) بيان للواقع من شركهم ، إذ أنهم لا حجة عندهم على شركهم : لا من العقل ولا من النقل ، فالجملة الكريمة قد اشتملت على التهكم بالمشركين وتوبيخهم على كفرهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢٢.

٢٦٦

وخامسها قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أى : حرم عليكم أن تقولوا قولا يتعلق بالعبادات أو المحللات أو المحرمات أو غيرها بدون علم منكم بصحة ما تقولون ، وبغير بينة على صدق ما تدعون.

قال صاحب المنار : «ومن تأمل هذه الآية حق التأمل ، فإنه يجتنب أن يحرم على عباد الله شيئا ويوجب عليهم شيئا في دينهم بغير نص صريح عن الله ورسوله ، بل يجتنب ـ أيضا ـ أن يقول : هذا مندوب أو مكروه في الدين بغير دليل واضح من النصوص ، وما أكثر الغافلين عن هذا المتجرئين على التشريع» (١).

وبعد أن بين القرآن ما أحله الله وما حرمه. عقب على ذلك بأن بين أن أجل الناس في هذه الدنيا محدود ، وأنهم إن آجلا أو عاجلا سوف يقفون أمام ربهم للحساب فقال :

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

أى : لكل أمة من الأمم ولكل جيل من الأجيال مدة من العمر محدودة في علم الله ، فإذا ما انتهت هذه المدة انقطعت حياتهم وفارقوا هذه الدنيا بدون أى تقديم أو تأخير.

وليس المراد بالساعة هنا ما اصطلح عليه الناس من كونها ستين دقيقة ، وإنما المراد بها الوقت الذي هو في غاية القلة.

ثم أورد القرآن بعد ذلك النداء الرابع والأخير لبنى آدم ، وحضهم فيه على اتباع الرسل ، والسير على الطريق المستقيم فقال :

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

__________________

(١) تفسير المنار ج ٨ ص ٣٩٩.

٢٦٧

والمعنى : يا بنى آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم ، يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليهم لهدايتكم فآمنوا بهم وعزروهم وانصروهم ، فإن من آمن بهم واتقى ما نهاه عنه ربه ، وأصلح نفسه وعمله ، فأولئك لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون لمفارقتهم الدنيا ، أما الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

فالآيتان الكريمتان تخبران جميع بنى آدم أن رسل الله قد بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ، فعلى المرسل إليهم أن يطيعوهم حتى يفوزوا برضاء خالقهم.

قال الجمل : «وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحدا وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه خاتم الأنبياء ، وهو مرسل إلى كافة الخلق ، فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، فعلى هذا يكون الخطاب في قوله : (يا بَنِي آدَمَ) لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل أراد جميع الرسل. وعلى هذا الخطاب في قوله : (يا بَنِي آدَمَ) عام لكل بنى آدم ، وإنما قال منكم أى : من جنسكم ومثلكم من بنى آدم ، لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم ، لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله ، فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له ، وحجة على من خالفه» (١).

ثم تعرض السورة الكريمة بعد ذلك لمشاهد يوم القيامة في خمس عشرة آية فتصور لنا في أسلوبها البليغ المؤثر حال المشركين عند قبض أرواحهم ، وحالهم عند ما يقفون أمام الله للحساب يوم الدين ، وتحكى لنا ما يجرى بين رؤساء المشركين ومرءوسيهم من مجادلات وملاعنات ، ثم تعقب على ذلك ببيان ما أعده الله للمؤمنين من أجر عظيم وثواب جزيل ، ثم يختم هذه المشاهدة بالحديث عما يدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار من محاورات ونداءات. استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بطريقته التصويرية المعجزة فيقول :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٣٧.

٢٦٨

أى : لا أحد أشد ظلما ممن افترى الكذب على الله ، بأن أحل ما حرمه أو حرم ما أحله ، أو كذب بآياته المنزلة على أنبيائه ، والاستفهام في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) للإنكار.

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبتهم فقال : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ).

أى : أولئك الذين كذبوا بآيات الله سينالهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من رزق وأجر ، وخير وشر ، والمراد بالكتاب ، كتاب الوحى الذي أنزل على الرسل ، فإنه يتضمن ما أعده الله للمؤمنين من ثواب وما أعده للكافرين من عقاب ، وقيل المراد به اللوح المحفوظ ، أى أولئك ينالهم نصيبهم المكتوب لهم في كتاب المقادير ، وهو : اللوح المحفوظ.

ثم صور القرآن حالهم عند قبض أرواحهم فقال : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ، قالُوا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

أى : أولئك المفترون ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم ، حتى إذا ما انتهت آجالهم وجاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم سألتهم سؤال توبيخ وتقريع : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ، وتزعمون أنها شفعاؤكم عند الله لكي تنقذكم من هذا الموقف العصيب؟ وهنا يجيب المشركون على الملائكة بقولهم بحسرة وندامة : (ضَلُّوا عَنَّا) أى : غابوا عنا وصرنا لا ندري مكانهم ، ولا نرجو منهم خيرا أو نفعا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بعبادتهم لغير الله الواحد القهار.

وهنا يصدر عليهم قضاء الله العادل الذي صوره القرآن في قوله :

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨)

أى : قال الله ـ تعالى ـ لأولئك المكذبين ادخلوا في ضمن أمم من الجن والإنس قد سبقتكم في الكفر ، وشاركتكم في الضلالة.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض أحوالهم فقال : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) أى : كلما دخلت أمة من أمم الكفر النار لعنت أختها في الدين والملة ، فالأمة المتبوعة تلعن الأمة التابعة

٢٦٩

لأنها زادتها ضلالا ، والأمة التابعة تلعن الأمة المتبوعة لأنها كانت سببا في عذابها.

ثم قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أى : حتى إذا ما اجتمعوا جميعا في النار الرؤساء والأتباع ، والأغنياء ، والفقراء ، قالت أخراهم دخولا أو منزلة وهم الأتباع ، لأولاهم دخولا أو منزلة وهم الزعماء والمتبوعين (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ).

أى : قال الأتباع : يا ربنا هؤلاء الرؤساء هم السبب في ضلالنا وهلاكنا ، فأذقهم ضعفا من عذاب النار لإضلالهم إيانا فضلا عن أنفسهم.

وهنا يأتيهم الجواب الذي يحمل لهم التهكم والسخرية ، فيقول الله لهم : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أى : لكل منكم ومنهم عذاب مضاعف من النار. أما أنتم فبسبب تقليدكم الأعمى ، وأما هم فبسبب إضلالهم لكم ولغيركم ، ولكنكم يا معشر المقلدين لا تعلمون ذلك لجهلكم وانطماس بصيرتكم.

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

أى : قال الزعماء لأتباعهم بعد أن سمعوا رد الله عليهم : إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب ، وكلنا فيه سواء ، لأنا لم نجبركم على الكفر ، ولكنكم أنتم الذين كفرتم باختياركم ، وضللتم بسبب جهلكم ، فذوقوا العذاب المضاعف مثلنا بسبب ما اكتسبتموه في الدنيا من قبائح ومنكرات :

فقوله ـ تعالى ـ : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) بيان لأسباب الحكم عليهم.

وأنهم ما وردوا هذا المصير الأليم إلا بسبب ، ما اكتسبوه من آثام : واجترحوه من سيئات.

ثم بين القرآن بعد ذلك لونا آخر من ألوان عذاب المكذبين فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي

٢٧٠

الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١)

فهاتان الآيتان تصوران أكمل تصوير استحالة دخول المشركين الجنة بسبب تكذيبهم لآيات الله واستكبارهم عنها.

وقد فسر بعض العلماء قوله ـ تعالى ـ : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) بمعنى ، لا تقبل أعمالهم ولا ترفع إلى الله كما ترفع أعمال الصالحين. قال ـ تعالى ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

وفسره بعضهم بمعنى أن أرواحهم لا تصعد إلى السماء بعد الموت ، لأنها قد أغلقت عليهم بسبب شركهم ، ولكنها تفتح لأرواح المؤمنين.

والمراد أن الكافرين عند موتهم وعند حسابهم يوم القيامة يكونون على غضب الله ولعنته بسبب ما ارتكبوه في الدنيا من شرك وظلم.

أما قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فمعناه : أن هؤلاء المشركين لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في الضخامة وهو الجمل الكبير ، فيما هو مثل في الضيق وهو ثقب الإبرة.

وفي قراءة (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) ـ بضم الجيم وتشديد الميم وفتحها ـ وهو الحبل الغليظ أى : لا يدخلون الجنة حتى يدخل الحبل الغليظ الذي تربط به السفن في ذلك الثقب الصغير للإبرة ، وهيهات أن يحصل هذا ، فكما أنه غير ممكن حصول ذلك فكذلك غير ممكن دخول المشركين الجنة.

قال الجمل في حاشيته : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. الولوج : الدخول بشدة ، ولذلك يقال هو الدخول في ضيق فهو أخص من مطلق الدخول. والجمل معروف وهو الذكر من الإبل ، وسم الخياط ، ثقب الإبرة ، وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبرها ، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا فثبت أن الموقوف على المحال محال ، فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة ميئوس منه قطعا (١)».

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٤١.

٢٧١

وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) معناه : ومثل ذلك الجزاء الرهيب نجزى جنس المجرمين ، الذين صار الاجرام وصفا لازما لهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعد لهم في النار فقال : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

جهنم : اسم لدار العذاب. والمهاد : الفراش. والغواشي جمع غاشية ، وهي ما يغشى الشيء أى يغطيه ويستره.

أى : أن هؤلاء المكذبين لهم نار جهنم تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، فهي من تحتهم بمنزلة الفراش ، ومن فوقهم بمثابة الغطاء ، ومثل ذلك الجزاء نجزى كل ظالم ومشرك. وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت لنا بأسلوب مؤثر مصور حال المشركين عند ما تقبض أرواحهم ، وحالهم عند ما يقفون أمام الله للحساب ، وحالهم عند ما يلعن بعضهم بعضا ، وحالهم والعذاب من فوقهم ومن أسفل منهم ، وهي مشاهد تفزع النفوس ، وتحمل العقلاء على الاستقامة والاهتداء.

ثم نرى السورة بعد ذلك تسوق لنا ما أعده الله للمؤمنين بعد أن بينت فيما سبق عاقبة الكافرين فقال ـ تعالى ـ :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

أى : والذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وعملوا الأعمال الصالحة التي لا عسر فيها ولا مشقة ، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، أولئك الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، هم أصحاب الجنة هم فيها خالدون.

٢٧٢

وجملة ـ لا نكلف نفسا إلا وسعها ـ معترضة بين المبتدأ الذي هو قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) وبين الخبر الذي هو قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ).

قال الجمل : «وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر ، لأنه من جنس هذا الكلام ، لأنه ـ سبحانه ـ لما ذكر عملهم الصالح ، ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم ، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ، يتوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة ولا صعوبة (١)».

وقال صاحب الكشاف : «وجملة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) معترضة بين المبتدأ والخبر ، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع ، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح (٢)».

ثم بين ـ سبحانه ـ ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي ونقاء قلبي فقال ـ تعالى ـ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أى : قلعنا ما في قلوبهم من تحاقد وعداوات في الدنيا ، فهم يدخلون الجنة بقلوب سليمة ، زاخرة بالتواد والتعاطف حالة كونهم تجرى من تحتهم الأنهار فيرونها وهم في غرفات قصورهم فيزداد سرورهم وحبورهم.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ). أى : قالوا شاكرين لله أنعمه ومننه : الحمد لله الذي هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح ، وأعطانا في الآخرة هذا النعيم الجزيل ، وما كنا لنهتدي إلى ما نحن فيه من نعيم لو لا أن هدانا الله إليه بفضله وتوفيقه. وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : ولو لا هداية الله موجودة ما اهتدينا.

وقوله : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) جملة قسمية ، أى : والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق ، لأن ما أخبرونا به قد وجدنا مصداقه في الآخرة.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : ونودوا من قبل الخالق ـ عزوجل ـ بأن قيل لهم : تلكم هي الجنة التي كانت الرسل تعدكم بها في الدنيا قد أورثكم الله إياها بسبب ما قدمتموه من عمل صالح.

فالآية الكريمة صريحة في أن الجنة قد ظفر بها المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة.

فإن قيل : إن هناك أحاديث صحيحة تصرح بأن دخول الجنة ليس بالعمل وإنما بفضل الله،

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٤٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٠٤.

٢٧٣

ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لن يدخل أحدا عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته».

فالجواب على ذلك أنه لا تنافى في الحقيقة ، لأن المراد أن العمل لا يوجب دخول الجنة ، بل الدخول بمحض فضل الله ، والعمل سبب عادى ظاهرى. وتوضيحه أن الأعمال مهما عظمت فهي ثمن ضئيل بالنسبة لعظمة دخول الجنة ، فإن النعمة الأخروية سلعة غالية جدا فمثل هذه المقابلة كمثل من يبيع قصورا شاهقة وضياعا واسعة بدرهم واحد.

فإقبال البائع على هذه المبادلة ليس للمساواة بين العمل ونعمة الجنة ، بل لتفضله على المشترى ورحمته به ، فمن رحمته بعباده المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا لنعيم لا يبلى ، ولذلك قال ابن عباس عند ما قرأ قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) : نعمت الصفقة ، أنفس هو خالقها وأموال هو رازقها ثم يمنحنا عليها الجنة.

على أنه ـ سبحانه ـ هو المتفضل في الحقيقة بالثمن والمثمن جميعا. لا جرم كان دخول الجنة بفضله ـ سبحانه ـ وهو الموفق للعمل والمعين عليه.

ويمكن أن يجاب ـ أيضا ـ بأن الفوز بالجنة ونعيمها إنما هو بفضل الله والعمل جميعا ، فقوله : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : مع فضل الله ـ تعالى ـ ، وإنما لم يذكر ذلك لئلا يتكلوا. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحدا عمله الجنة ..» أى مجردا من فضل الله ، وإنما اقتصر على هذا لئلا يغتروا.

هذا أصح الآراء في الجمع بين الآية والحديث ، وهناك آراء أخرى لم نذكرها لضعفها.

وبعد هذه الموازنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين ، بدأ القرآن يسوق لنا مشهدا آخر من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.

استمع إلى سورة الأعراف وهي تحكى لنا هذا المشهد المؤثر بأسلوبها العجيب فتقول :

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ

٢٧٤

رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١)

والمعنى : أن أصحاب الجنة سوف يسألون أهل النار سؤال تعيير وتوبيخ يوم القيامة فيقولون لهم قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا من الثواب ومن الجزاء ، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم حقا من العقاب وسوء المصير؟ قالوا : نعم. أى : قال أهل النار : نعم وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله حقا.

وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.

والظاهر أن هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن الجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد. فكل فريق من أهل الجنة ينادى من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا.

وعبر بالماضي مع أن هذا النداء يكون في الآخرة لتحقق الوقوع وتأكده.

وكلمة (حَقًّا) نصبت في الموضعين على الحالية ، وقيل إنها مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم.

٢٧٥

ثم بين ـ سبحانه ـ ما جرى بعد ذلك فقال : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ، أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً).

التأذن : رفع الصوت بالإعلام بالشيء. واللعنة : الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة.

والمعنى : بعد أن قامت الحجة على الكافرين وثبت الفوز للمؤمنين. نادى مناد بين الفريقين بقوله : لعنة الله على الظالمين لأنفسهم ، ولغيرهم ، الذين من صفاتهم أنهم يمنعون الناس عن اتباع شريعة الله ، ويريدون لها أن تكون معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها الناس ، وهم بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب جاحدون مكذبون.

وفي قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ). نكر المؤذن ؛ لأن معرفته غير مقصودة بل المقصود الإعلام بما يكون هناك من الأحكام ولم يرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه شيء ، فهو من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا بالتوقيف المستند إلى الوحى ، وما ورد في ذلك فهو من الآثار التي لا يعتمد عليها.

قال بعض العلماء : «وفي هاتين الآيتين تعرض السورة لمرحلة أخرى من مراحل العذاب ، وهي نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار نداء يسجل عليهم الخزي والنكال ، ويشعرهم بالحسرة والندامة ، إذ كذبوا بما يرونه الآن واقعا في مقابلة النعيم الذي صار إليه أهل الإيمان ، وأحسوا به كذلك واقعا.

وفي هذا نرى صورة من الحديث الذي يمثل الرضا والاطمئنان واللذة من جانب. ويمثل الحسرة والذلة والقلق من جانب آخر. ويصور الحكم النافذ الذي لا مرد له ولا محيص عنه يؤذن به مؤذن لا يدرك كنهه ولا يعلم من هو ولا ما صوته ولا كيف يلقى أذانه ، ولا كيف يكون أثر هذا الأذن في نفوس سامعه.

وإنه لتصوير قوى بارع ، يحرك إليه النفوس ، ويهز المشاعر ، ويبين أن النهاية الأليمة المتوقعة لهؤلاء المكذبين ، إنما هي تسجيل اللعنة عليهم ، والطرد والحرمان من رحمة الله ، مشيرا إلى أسباب ذلك الحرمان الماثلة في ظلمهم الذي كونه صدهم عن سبيل الله ، وبغيهم إياها عوجا وانحرافا وكفرهم بدار الجزاء» (١).

ثم ينتقل القرآن إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة ، يحدثنا فيه عن أصحاب الأعراف وما يدور بينهم وبين أهل الجنة وأهل النار من حوار فيقول :

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت.

٢٧٦

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أى : بين أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل بينهما ، ويمنع وصول أحد الفريقين إلى الآخر ، ويرى بعض العلماء أن هذا الحجاب هو السور الذي ذكره الله في قوله ـ تعالى ـ في سورة الحديد : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ).

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ، وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ).

الأعراف : جمع عرف ، وهو المكان المرتفع من الأرض وغيرها. ومنه عرف الديك وعرف الفرس وهو الشعر الذي يكون في أعلى الرقبة.

والمعنى : وبين الجنة والنار حاجز يفصل بينهما وعلى أعراف هذا الحاجز ـ أى في أعلاه ـ رجال يرون أهل الجنة وأهل النار فيعرفون كلا منهم بسيماهم وعلاماتهم التي وصفهم الله بها في كتابه كبياض الوجوه بالنسبة لأهل الجنة ، وسوادها بالنسبة لأهل النار ، ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة عند رؤيتهم لهم بقولهم : سلام عليكم وتحية لكم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ).

هذا ، وللعلماء أقوال في أصحاب الأعراف أوصلها بعض المفسرين إلى اثنى عشر قولا من أشهرها قولان :

أولهما : أن أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وقد روى هذا القول عن حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف.

وقد استشهد أصحاب هذا القول بما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فقال : «أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون».

وعن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار. قال : فوقفوا هناك على السور حتى يقضى الله فيهم (١)».

وهناك آثار أخرى تقوى هذا الرأى ذكرها الإمام ابن كثير في تفسيره (٢)».

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢١٦.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢١٦ وما بعدها.

٢٧٧

أما الرأى الثاني : فيرى أصحابه أن أصحاب الأعراف قوم من أشرف الخلق وعدولهم كالأنبياء والصديقين والشهداء. وينسب هذا القول إلى مجاهد وإلى أبى مجلز فقد قال مجاهد : «أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء» وقال أبو مجلز : أصحاب الأعراف هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار. ومعنى كونهم رجالا ـ في قول أبى مجلز أى : في صورتهم.

وقد رجح بعض العلماء الرأى الثاني فقال : «وليس أصحاب الأعراف ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم كما جاء في بعض الروايات ، لأن ما نسب إليهم من أقوال لا يتفق مع انحطاط منزلتهم عن أهل الجنة ، انظر قولهم للمستكبرين :

(ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) فإن هذا الكلام لا يصدر إلا من أرباب المعرفة الذين اطمأنوا إلى مكانتهم. ولذا أرجح أن رجال الأعراف هم عدول الأمم والشهداء على الناس ، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل (١)».

والذي نراه : أن هناك حجابا بين الجنة والنار ، الله أعلم بحقيقته ، وأن هذا الحجاب لا يمنع وصول الأصوات عن طريق المناداة ، وأن هذا الحجاب من فوقه رجال يرون أهل الجنة وأهل النار فينادون كل فريق بما يناسبه ، يحيون أهل الجنة ويقرعون أهل النار ، وأن هؤلاء الرجال ـ يغلب على ظننا ـ أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم. لأن هذا القول هو قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، ولأن الآثار تؤيده ، ولذا قال ابن كثير : «واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم‌الله (٢)».

وقوله : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه في أصحاب الأعراف ، أى أن أصحاب الأعراف عند ما رأوا أهل الجنة سلموا عليهم حال كونهم ـ أى أصحاب الأعراف ـ لم يدخلوها معهم وهم طامعون في دخولها مترقبون له.

وثانيهما : أنه في أصحاب الجنة : أى : أنهم لم يدخلوها بعد ، وهم طامعون في دخولها لما ظهر لهم من يسر الحساب. وكريم اللقاء.

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٥٠٣ لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢١٦.

٢٧٨

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا : رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

أى : وإذا ما اتجهت أبصار أصحاب الأعراف إلى جهة النار قالوا مستعيذين بالله من سوء ما رأوا من أحوالهم : يا ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين ، ولا تجعلنا وإياهم في هذا المكان المهين.

قال صاحب المنار : «وقد أفاد هذا التعبير بالفعل المبنى للمجهول أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام ، وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار ، فإذا صرفت أبصارهم تلقاءهم من غير قصد ولا رغبة ، بل بصارف يصرفهم إليها قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

ثم قال : والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم وكانوا موقوفين مجهولا مصيرهم (١)».

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يقوله أهل الأعراف لرءوس الكفر في هذا الموقف العصيب فقال : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ).

أى : ونادى أصحاب الأعراف رجالا من أهل النار وكانوا أصحاب وجاهة وغنى في الدنيا ، فيقولون لهم على سبيل التوبيخ والتقريع ما أغنى عنكم جمعكم وكثرتكم واستكباركم في الأرض بغير الحق. فقد صرتم في الآخرة بسبب كفركم وعنادكم إلى هذا الوضع المهين.

وقد كرر ـ سبحانه ـ ذكرهم مع قرب العهد بهم ، فلم يقل «ونادوا» لزيادة التقرير ، وكون هذا النداء خاصا في موضوع خاص فكان مستقلا.

وقوله : (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) أى : بعلاماتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ كسواد الوجوه ، وظهور الذلة على وجوههم. أو يعرفونهم بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا.

ثم يزيدون توبيخهم وتبكيتهم فيقولون لهم : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

أى : أن أصحاب الأعراف يشيرون إلى أهل الجنة من الفقراء والذين كانوا مستضعفين في الأرض ثم يقولون لرءوس الكفر الذين كانوا يعذبونهم : أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا أن الله

__________________

(١) تفسير المنار ج ٨ ص ٤٣٤.

٢٧٩

ـ تعالى ـ لا ينالهم برحمة في الآخرة لأنه لم يعطهم في الدنيا مثل ما أعطاكم من مال وبنين وسلطان.

وهنا ينادى مناد من قبل الله ـ تعالى ـ على هؤلاء الفقراء فيقول لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

أى : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في المستقبل ، ولا أنتم تحزنون على ما خلفتموه في الدنيا.

وقيل : إن قوله ـ تعالى ـ : (ادْخُلُوا). من كلام أصحاب الأعراف ـ أيضا ، فكأنهم التفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : امكثوا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.

ثم تسوق لنا السورة الكريمة بعد ذلك مشهدا ختاميا من مشاهد يوم القيامة تدور محاوراته بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فتقول :

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ، قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ* الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة.

والمعنى : أن أهل النار ـ بعد أن أحاط بهم العذاب المهين ـ أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكي نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم.

وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم ـ الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ـ مادة للسخرية والتلهي ، وصرف الوقت فيما لا يفيد ، فأصبح الدين ـ في زعمهم ـ صورة ورسوما لا تزكى نفسا ، ولا تطهر قلبا ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا ـ أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسي بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم.

٢٨٠