التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

التفسير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ(٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

سورة الأعراف من السور التي ابتدأت ببعض حروف التهجي «المص» ولم يسبقها في النزول من هذا النوع من السور سوى ثلاثة وهي سور : (ن ، ق ، ص) ويبلغ عدد السور القرآنية التي ابتدئت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.

هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود من حروف التهجي التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال اختلافهم في رأيين :

الرأى الأول : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه

٢٤١

وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس ـ في إحدى الروايات عنه ـ كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهما من العلماء ؛ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : «إن لكل كتاب سرّا ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور» وروى عن ابن عباس أنه قال : «عجزت العلماء عن إدراكها» وعن على ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» وفي رواية أخرى للشعبى أنه قال : «سر الله فلا تطلبوه».

ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.

وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين. ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور. وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا.

أما الرأى الثاني : فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى :

١ ـ أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم السجدة ، حفظ إلى أن يصبح» ، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة «ص» وسورة «يس» إلخ.

ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة ؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه. وأيضا فالتسمية بها أمر عارض لا يتنافى مع المراد منها في ذاتها.

٢ ـ وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.

٣ ـ وقيل إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله تعالى ، وبعضها من صفاته ، فمثلا : «ألم» أصلها أنا الله أعلم.

٤ ـ وقيل إنها اسم الله الأعظم ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها الإمام السيوطي في كتابه «الإتقان» ، إلى أكثر من عشرين قولا.

٢٤٢

٥ ـ ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في بعض سور القرآن على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو جنس ما تؤلفون منه كلامكم. ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، أو ادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونوكم في ذلك.

ومما يشهد بصحة هذا الرأى أن الآيات التي تلى هذه الأحرف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثيرا ما تبدأ هذه الآيات باسم الإشارة صراحة ، مثل قوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أو ضمنا مثل قوله ـ تعالى ـ : في أول سورة الأعراف (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ) وأيضا فإن هذه السور تجعل هدفها الأول منذ بدئها إلى نهايتها اثبات الرسالة عن طريق هذا الكتاب المنزل.

هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع ـ مثلا ـ إلى كتاب «البرهان» للزركشى ، وإلى كتاب «الإتقان» للسيوطي (١).

ثم مدح ـ سبحانه ـ الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).

المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم ، وقيل : المراد به هنا السورة. وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه.

والمعنى ، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس. ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدودا عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.

ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر. أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضيق صدره لذلك.

قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ).

فالمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) تقوية قلب

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ٣ ص ١ للإمام السيوطي. طبعة مكتبة المشهد الحسيني.

٢٤٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب وأباطيل ، وإفهام الداعي إلى الله في كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى القلب في تحمل مهمته ، مطمئن البال على حسن عاقبته ، لا يتأثر بالمخالفة ، ولا يضيق صدره بالإنكار.

وقد فسر صاحب الكشاف الحرج بالشك فقال : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أى شك منه كقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أى : لا تشك في أنه منزل من الله ، ولا تتحرج من تبليغه ، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم» (١).

وعلى أية حال فإن من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال المجازى ولذا قال الآلوسى :

قوله تعالى ـ : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أى : شك. وأصله الضيق ، واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه» (٢).

ولفظ (كِتابٌ) يكون مبتدأ إذا جعلنا «المص» اسما للسورة ، وإلا كان خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير : هذا كتاب. وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه.

وإنما قيل : (أُنْزِلَ) ولم يقل أنزله الله وأنزلناه ، للإيذان بأن المنزل مستغن عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره.

ثم بين ـ سبحانه ـ العلة في إنزال الكتاب فقال : (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

الإنذار : هو الإعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة.

أى : أنزلنا إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ، لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك.

قال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).

وقال تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٨٦ ، طبعة دار الكتاب العربي ببيروت.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٧٤ منبر الدمشقي.

٢٤٤

قال صاحب الكشاف : فما محل ذكرى؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث. النصب بإضمار فعلها. كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيرا ، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفا على كتاب ، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف. والجر للعطف على محل لتنذر ، أى : للإنذار وللذكر» (١).

ثم أمر القرآن الناس باتباع تعاليم الإسلام التي جاء بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

أى : اتبعوا أيها الناس ملة الإسلام وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، لأن الذي أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم والعليم بما فيه مصلحتكم وحذار من أن تتركوا شريعة الإسلام التي تدعوكم إلى إفراد الله بالعبودية ، وتتخذوا معه شركاء يزينون لكم الأباطيل ، ويصرفونكم عن دينه القويم فالآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين لحضهم على إفراد الله بالعبودية ، ونهيهم عن اتباع أحد من الخلق فيما يتعلق بالأمور الدينية التي وضحتها الشريعة الإسلامية.

وقوله ـ تعالى ـ : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) معناه : تذكرا قليلا تتذكرون ، أو زمنا قليلا تتذكرون فهو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف. وما مزيدة لتأكيد القلة.

ثم ساق لهم بعد ذلك على سبيل الإنذار والتخويف جانبا من العذاب الذي نزل بمن سبقوهم بسبب ظلمهم وعنادهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

كم هنا خبرية بمعنى كثر. وهي في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ، و (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز.

والقرية تطلق على مكان اجتماع الناس. وبأسنا : أى عذابنا وعقابنا. وبياتا : أى ليلا ومنه البيت لأنه يبات فيه. يقال : بات يبيت بيتا وبياتا. وقائلون من القائلة وهي القيلولة وهي نوم نصف النهار. وقيل : هي الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. ودعواهم ، أى : دعاؤهم واستغاثتهم بربهم أو قولهم.

والمعنى : وكثيرا من القرى الظالمة أردنا إهلاكها ، فنزل على بعضها عذابنا في وقت نوم أهلها بالليل كما حصل لقوم لوط ، ونزل على بعضها في وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٨٦.

٢٤٥

شعيب ، فما كان منهم عند ما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم وراحتهم إلا أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا في الخلاص : إنا كنا ظالمين.

فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التي لا تختلف في أى زمان أو مكان. وأن الظالمين عند ما يفاجئون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبوا من ذنوبهم عند ما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب.

ولذا قال ابن كثير : قال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة في صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم (١)».

و (أَوْ) في قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهارا عند استراحتهم. وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع.

ومن العبر التي نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهي ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

وبعد أن بين القرآن ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى. عقبه ببيان ما سيحل بهم من عذاب أخروى ، فقال :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ : فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ).

والمراد بالذين أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل ، يسأل كل فرد منها عن رسوله إليه وعن تبليغه لدعوة الله ، ويسأل المرسلون عن التبليغ منهم وعن إجابة أقوامهم لهم ، وقد ورد ذلك في كثير من آيات القرآن. قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

وقال تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؟

والمعنى : فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم ، ولنسألن المرسلين عما أجيبوا به من أقوامهم وعن تبليغهم لرسالات الله ، ولنقصن على الرسل والمرسل إليهم كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ، لأننا لا يغيب عنا شيء من أحوالهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٠١.

٢٤٦

وعطفت جملة (فَلَنَسْئَلَنَ) على ما قبلها بالفاء ، لأن هذا السؤال سيكون في الآخرة ، وما ذكر قبل ذلك من عقوبات هو آخر أمرهم في الدنيا. فالآية الكريمة بيان لعذابهم الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوي.

وأكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد ، لأن المخاطبين كانوا ينكرون البعث والجزاء.

فإن قيل : قد أخبر الله عنهم قبل ذلك أنهم قالوا عند نزول العذاب بهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فلما ذا يسألون يوم القيامة مع أنهم اعترفوا بظلمهم في الدنيا؟

فالجواب : أنهم لما اعترفوا سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم ، والمقصود من هذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم لكفرهم وعنادهم.

فإن قيل : فما فائدة سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة؟

فالجواب من فوائده الرد على من أنكر من المشركين أن الرسل قد بلغوهم ، فقد حكى القرآن أن بعضهم قال : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) ومن فوائده ـ أيضا ـ مضاعفة الثواب لهؤلاء الرسل الكرام حيث إنهم قد بذلوا قصارى جهدهم في التبشير والإنذار ، ولم يصدر عنهم تقصير قط. فسؤال المرسل إليهم إنما هو سؤال توبيخ وإفضاح ، وسؤال المرسلين إنما هو سؤال استشهاد بهم وإفصاح.

فإن قيل : هناك بعض الآيات تثبت أن المجرمين لن يسألوا يوم القيامة كما في قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) وكما في قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) فكيف نجمع بين هذه الآيات التي تنفى السؤال والآيات التي تثبته كما في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)؟

فالجواب ، أن في يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون في موقف الحساب ولا يسألون في موقف العقاب. أو أن المراد بالسؤال في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ) التوبيخ والتقريع. والمنفي في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) سؤال الاستعلام ، أى أن المذنب لا يسأل يوم القيامة هل أذنبت أولا ، لأن الله لا تخفى عليه خافية ، وإنما يسأل : لم فعلت كذا؟ بعد أن يعرفه ـ سبحانه ـ بما فعله ، ويؤيد هذا القول قوله ـ تعالى ـ : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) أى : فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا.

قال بعض العلماء : «والذي يهمنا هنا ، أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار ، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد ، فليس في السائل مظنة أن يجهل ، ولا في المسئول مظنة أن ينكر : ، وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم ، وشعور المرسلين بتبليغهم ، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها وأعرض عنها في الوقت الذي كان يجديه

٢٤٧

الإقبال عليها والإيمان بها ، وهو نوع من زيادة الحسرة ، وقطع الآمال في النجاة بوضع يد المجرم على جسم جريمته ، وهو في الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن والطمأنينة للرسل في القيام بدعوتهم وتبليغهم ما أمروا بتبليغه ، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ).

الوزن : عمل يعرف به قدر الشيء ، يقال : وزنته وزنا وزنة. وهو مبتدأ ، ويومئذ متعلق بمحذوف خبره. والحق صفته. أى : والوزن الحق يوم القيامة.

ومعنى الآيتين الكريمتين : والوزن الحق ثابت في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والمرسل إليهم. ويخبرهم جميعا بما كان منهم في الدنيا ، فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان والعمل الصالح ، فأولئك هم الفائزون بالثواب والنعيم ، ومن خفت موازين أعماله بالكفر والمعاصي فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب.

قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).

وقد اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم : إن التي توزن هي صحائف الأعمال التي كتبت فيها الحسنات والسيئات تأكيدا للحجة وإظهارا للنصفة ، وقطعا للمعذرة. قال ابن عمر : توزن صحائف أعمال العباد يوم القيامة».

وقيل : إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوى ، والعدل التام في تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال ، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول : هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه. أى يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن.

والذي نراه أن من الواجب علينا أن نؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال ، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء ، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى في ذلك اليوم الهائل الشديد ، أما كيفية هذا الوزن فمرده إلى الله ، لأنه شيء استأثر الله بعلمه ، وعلينا أن نعفي أنفسنا من محاولة الكشف عن أمر غيبي لم يرد في حقيقته خبر قاطع في كتاب الله أو سنة رسوله.

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٢٠٤ لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت ـ رحمه‌الله ـ.

٢٤٨

قال الجمل في حاشيته على الجلالين : فإن قلت : أليس الله ـ تعالى ـ يعلم مقادير أعمال العباد ، فما الحكمة في وزنها؟ قلت فيه حكم : منها ، إظهار العدل وأن الله ـ تعالى ـ لا يظلم عباده ، ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى. ومنها تعريف العباد بما لهم من خير أو شر وحسنة أو سيئة ، ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه ـ سبحانه ـ أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ وفي صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن ، وثقل الموازين المراد به رجحان الأعمال الحسنة على غيرها ، كما أن خفة الموازين المراد بها رجحان الأعمال القبيحة على ما سواها.

وقوله ـ تعالى ـ : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) متعلق بخسروا ؛ أى : أن خسرانهم لأنفسهم في الآخرة كان سببه جحودهم لآيات الله واستهزاءهم بها في الدنيا.

ثم حكى القرآن جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

مكناكم : من التمكين بمعنى التمليك ، أو معناه : جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا وأقدرناكم على التصرف فيها ومعايش : جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وما تكون به الحياة.

والمعنى : ولقد جعلنا لكم ـ يا بنى آدم ـ مكانا وقرارا في الأرض ، وأقدرناكم على التصرف فيها ، وأنشأنا لكم فيها أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التي تتعيشون بها عيشة راضية ، ولكن كثيرا منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والكفران. وفضلا عن ذلك فنحن الذين خلقنا أباكم آدم من طين غير مصور ، ثم صورناه بعد ذلك.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٢٢.

٢٤٩

أو المعنى نحن الذين خلقناكم في ظهر آدم. ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق ، ثم أمرنا بعد ذلك ملائكتنا بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين.

والسجود : لغة ، التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره ، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.

وللعلماء أقوال في كيفية السجود الذي أمر الله به الملائكة لآدم وأرجح هذه الأقوال. أن السجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة. أى : أن الله ـ تعالى ـ أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهرا من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيما ، وإقرارا له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة ، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه ، وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة.

وقيل إن السجود كان لله. وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له. وإلى هذا الرأى اتجه علماء المعتزلة ، وقد قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، إذ أن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة والصالحون من البشر أفضل من الملائكة. واحتجوا بسجود الملائكة لآدم وخالفت المعتزلة في ذلك ، وقالت الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.

والذي نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإظهار فضل آدم على الملائكة ، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود : وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، هو لون من الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وينفذ ما سبق به العلم واقتضته المشيئة والحكم.

وإبليس : اسم مشتق من الإبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس وفعله بلس. والراجح أنه اسم أعجمى ، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون ذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه. قال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).

وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أولا قولان :

أحدهما : أنه كان منهم ، لأنه ـ سبحانه ـ أمرهم بالسجود لآدم ، ولو لا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصيا ولما استحق الخزي والنكال ، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه.

٢٥٠

والثاني : أنه ليس منهم لقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة.

ففي هاتين الآيتين بيان لنعمتين عظيمتين من نعم الله على عباده :

أولاهما : نعمة التمكين في الأرض واتخاذهم إياها وطنا مزودا بضروب شتى مما يحتاجون إليه من معايشهم وما به قوام حياتهم وكمالها.

وثانيهما : نعمة خلقهم من أب واحد ، تجمعهم به رحم واحدة ، وبسببها كانوا خلفاء في الأرض وفي عمارة الكون ، وفضلوا على كثير من الخلق ، فكان الواجب عليهم أن يقابلوهما بالشكر والإيمان.

ثم حكى القرآن الكريم الأسباب التي حملت إبليس على عدم السجود لآدم فقال :

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس : ما ألزمك واضطرك إلى أن لا تسجد لآدم؟ فالمنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار. أو ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد؟ فالمنع مجاز عن الحمل. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.

و (لا) في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود. وتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك.

وقد حكى القرآن ما أجاب به إبليس فقال : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أى : قال إبليس أنا خير من آدم ، لأنى مخلوق من عنصر النار الذي هو أشرف من عنصر الطين ، والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه.

قال ابن كثير : «وقول إبليس ـ لعنه الله ـ (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) .. إلخ. من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، إذ بين بأنه خير من آدم لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله ـ تعالى ـ خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، فشذ من بين الملائكة لترك السجود فأبعده الله عن رحمته ، وكان قياسه فاسدا لأن النار ليست

٢٥١

أشرف من الطين ، فإن الطين من شأنه الرزانة والأناة والتثبت ، وهو محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (١).

وقد حكى القرآن ما رد الله به على إبليس بقوله :

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣)

أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس : فاهبط من الجنة بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي.

وقيل إن الضمير في (مِنْها) يعود على المنزلة التي كان فيها قبل أن يطرده الله من رحمته. أى : فاهبط من رتبة الملكية التي كنت فيها إلى رتبة العناصر الشريرة.

وقيل : إن الضمير يعود على روضة كانت على مرتفع من الأرض خلق فيها آدم ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) معناه : فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك أن تتكبر فيها ، لأنها ليست مكانا للمتكبرين وإنما هي مكان للمطيعين الخاشعين المتواضعين.

وقوله : (فَاخْرُجْ) تأكيد للأمر بالهبوط ومتفرع عليه.

وقوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تعليل للأمر بالخروج. أى : فاخرج منها فأنت من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك وغرورك.

ثم حكى القرآن ما طلبه إبليس من الله ـ تعالى ـ وما أجاب الله به عليه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٠٣ بتصرف وتلخيص.

٢٥٢

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

أى : قال إبليس لله ـ تعالى ـ أخرنى ولا تمتنى إلى يوم بعث آدم وذريته من القبور ، وهو وقت النفخة الثانية عند قيام الساعة. وقد أراد بذلك النجاة من الموت : إذ لا موت بعد البعث. كما أراد بذلك أن يجد فسحة من الإغواء لبنى آدم.

وقوله : (أَنْظِرْنِي) مأخوذ من الإنظار بمعنى الإمهال والتأخير. تقول أنظرته بحقي أنظره إنظارا أى : أمهلته.

وقوله : (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) معناه : قال الله ـ تعالى ـ له : إنك من المؤخرين إلى يوم الوقت المعلوم كما جاء في قوله ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*) وهو ـ على الراجع ـ وقت النفخة الأولى فيموت كما يموت غيره. وقيل : المراد به الوقت المعلوم في علم الله أنه يموت فيه.

قال ابن كثير : أجابه الله ـ تعالى ـ إلى ما سأل. لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

ثم حكى القرآن ما توعد به إبليس آدم وذريته من كيد وأذى فقال : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

الباء للقسم أو للسببية أى : فأقسم بإغوائك إياى ، أو بسبب إغوائك إياى ، لأترصدن لآدم وبنيه على طريق الحق وسبيل النجاة ، كما يترصد قطاع الطرق للسائرين فيها فأصدنهم عنها وأحاول بكل السبل أن أصرفهم عن صراطك المستقيم ، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم وإضلالهم.

٢٥٣

والإغواء : خلق الغي بمعنى الضلال. وأصل الغي الفساد ، ومنه غوى الفصيل ـ كرضى ـ غوى ، إذا بشم من اللبن ففسدت معدته ، أو منع الرضاع فهزل وكاد يهلك ، ثم استعمل في الضلال ، يقال : غوى يغوى غيا وغواية فهو غاو ، وغوى إذا ضل ، وأغواه غيره : أضله. وقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) زيادة بيان لحرص الشيطان على إضلال بنى آدم بشتى الوسائل ، أى : آتيهم من الجهات الأربع التي اعتاد العدو أن يهاجم عدوه منها ، والمراد : لأسولنّ لهم ولأضلنّهم بحيث لا أفتر عن ذلك ولا أيأس.

وقيل إن معنى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أى : من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية ، وما هو كذلك فكأنه بين الأيدى. (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أى من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة «وعن أيمانهم وعن شمائلهم» أى : من جهة حسناتهم وسيئاتهم بحيث أزين لهم السيئات وأزهدهم في الحسنات.

وقوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أى : مطيعين مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.

وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

ولقد وردت آيات كثيرة وأحاديث متعددة في التحذير من الشيطان وكيده ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن سبرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ان الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال : فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول ـ أى كالفرس المربوطة بالحبل. قال : فعصاه فهاجر. قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال. فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، قال فعصاه فجاهد : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة».

وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن عمر قال لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يترك هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي. يقول : اللهم إنى أسألك العفو والعافية في ديني ودنياى وأهلى ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي. اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقى ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي.

٢٥٤

ثم حكى القرآن ما توعد الله به الشيطان واتباعه فقال : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) أى : اخرج من الجنة أو من تلك الروضة مهانا محقرا.

يقال : ذأمه يذأمه ذأما إذا عاقبه وحقره فهو مذءوم ، وقوله : (مَدْحُوراً) أى : مطرودا مبعدا. يقال : دحره دحرا ودحورا طرده وأبعده.

(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : لمن أطاعك من الجن والإنس لأملأن جهنم من كفاركم. كقوله ـ تعالى ـ : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً).

واللام في قوله : (لَمَنْ) لتوطئة القسم والجواب (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) ثم حكى القرآن ما أمر الله ـ تعالى ـ به آدم فقال :

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

صدر الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به ، وتخصيص الخطاب بآدم ـ عليه‌السلام ـ للإيذان بأصالته بالتلقى وتعاطى المأمور به.

وقوله : (اسْكُنْ) من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار ، دون السكون الذي هو ضد الحركة.

والزوج. يطلق على الرجل والمرأة. والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ولا تكاد تقول زوجة.

والجنة. هي كل بستان ذي شجر متكاثف ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره من الجن وهو ستر الشيء عن الحواس.

وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.

ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإسكان آدم وزوجته. واختلفوا في مكانه ، فقيل انه بفلسطين ، وقيل بغيرها.

وقد ساق ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح» أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئا منها.

والذي نراه أن الأحوط والأسلم. الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدى في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة.

٢٥٥

وتوجيه الخطاب إليهما في قوله : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به. أى : كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا واسعا من أى مكان أردتم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

القرب : الدنو والمنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة. وتعليق النهى على القرب منها القصد منه المبالغة في النهى عن الأكل ، إذ في النهى عن القرب من الشيء نهى عن فعله من باب أولى. وأكد النهى بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلما. فقال : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلا منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية.

وقد تكلم العلماء كثيرا عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل هي السنبلة ، وقيل هي الكرمة ... إلخ إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سياق القصة إلى بيانه.

وقد أحسن ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : «والصواب في ذلك أن يقال : ان الله ـ تعالى ـ نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل كانت شجرة البر ، وقيل شجرة العنب ، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به» (١)

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٥٢١.

٢٥٦

عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥)

قوله ـ تعالى ـ : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أى : ألقى إليهما إبليس الوسوسة ، والوسوسة في الأصل الصوت الخفى ، ومنه قيل لصوت الحلي. وسواس. والمراد بها هنا : الحديث الخفى الذي يلقيه الشيطان في قلب الإنسان ليقارف الذنب.

وقوله : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما). (وُورِيَ) من المواراة وهي الستر. والسوءة. فرج الرجل والمرأة ، من السوء. وسميت بذلك ، لأن انكشافها يسوء صاحبها. وقيل الكلام كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه.

والمعنى : أن إبليس وسوس إلى آدم وحواء بأن يأكلا من الشجرة المحرمة لتكون عاقبة ذلك أن يظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر. وفي هذا التعبير تصريح بأن كشف العورة من أقبح الفواحش التي نهى الله ـ تعالى ـ عنها.

وقد حكى القرآن أن إبليس لم يكتف بالوسوسة ، وإنما خدعهما بقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ).

أى قال لهما : ما نهاكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا كراهية أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.

وقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة. أى كراهية أن تكونا ملكين.

ثم حكى القرآن أن إبليس لم يكتف بالوسوسة أو بالقول المجرد ، وإنما أضاف إلى ذلك القسم المؤكد فقال : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أى : أقسم لهما بالله إنه لهما لمن الناصحين المخلصين الذين يسعون لما فيه منفعتهما.

قال الآلوسى : إنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة ، لأن من يبارى أحدا في فعل يجد فيه. وقيل

٢٥٧

المفاعلة على بابها ، والقسم وقع من الجانبين ، لكنه اختلف متعلقه ، فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول (١).

ثم حكى القرآن كيف نجح إبليس في خداع آدم وحواء فقال : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ). أى : فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية ، وأطمعهما في غير مطمع بسبب ما غرهما به من القسم.

ودلاهما مأخوذ من التدلية ، وأصله أن الرجل العطشان يدلى في البئر بدلوه ليشرب من مائها ، فإذا ما أخرج الدلو لم يجد به ماء ، فيكون مدليا فيها بغرور. والغرور إظهار النصح مع إضمار الغش ، وأصله من غررت فلانا أى أصبت غرته وغفلته ونلت منه ما أريد.

ثم بين القرآن الآثار التي ترتبت على هذه الخديعة من إبليس لهما فقال : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).

أى : فلما خالفا أمر الله ـ تعالى ـ بأن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها ، أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية ، فتساقط عنهما لباسهما ، وظهرت لهما عوراتهما. وشرعا يلزقان من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عوراتهما لسترها.

ويخصفان : مأخوذ من الخصف ، وهو خرز طاقات النعل ونحوه بإلصاق بعضها ببعض ، وفعله من باب ضرب.

قال بعض العلماء : «ولعل المعنى ـ والله أعلم ـ أنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأكل منها ظهر لهما أنهما قد زلا ، وخلعا ثوب الطاعة ، وبدت منهما سوأة المعصية ، فاستحوذ عليهما الخوف والحياء من ربهما ، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار والاستخفاء حتى لا يرى ، وذلك بخصف أوراق الجنة عليهما ليستترا بها ، وما لهما إذ ذاك حيلة سوى ذلك. فلما سمعا النداء الرباني بتقريعهما ولومهما ألهما أن يتوبا إلى الله ويستغفرا من ذنبهما بكلمات من فيض الرحمة الإلهية ، فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم ، وقال لهما فقط أولهما ولذريتهما ، أو لهما ولإبليس : اهبطوا من الجنة إلى الأرض ، لينفذ ما أراد الله من استخلاف آدم وذريته في الأرض ، وعمارة الدنيا بهم إلى الأجل المسمى. ومنازعة عدوهم لهم فيها ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٢).

ثم بين القرآن ما قاله الله ـ تعالى ـ لهما بعد أن خالفا أمره. فقال : (وَناداهُما رَبُّهُما) بطريق العتاب والتوبيخ (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ). أى عن الأكل منها (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٠٠.

(٢) صفوة البيان لمعانى القرآن ص ٢٥٥ ، لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف.

٢٥٨

لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) أى : ظاهر العداوة لا يفتر عن إيذائكما وإيقاع الشر بكما.

وهنا التمس آدم وحواء من ربهما الصفح والمغفرة (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أى : أضررناها بالمعصية والمخالفة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) ما سلف من ذنوبنا (وَتَرْحَمْنا) بقبول توبتنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى : لنصيرن من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة».

وقد حكى القرآن ما رد به الله على آدم وحواء وإبليس ، فقال : (قالَ اهْبِطُوا) أى من الجنة إلى ما عداها. وقيل الخطاب لآدم وحواء وذريتهما. وقيل الخطاب لهما فقط لقوله ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) والقصة واحدة ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر.

وجملة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال من فاعل اهبطوا ، والمعنى اهبطوا إلى الأرض حالة كون العداوة لا تنفك بين آدم وذريته ، وبين إبليس وشيعته (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أى موضع استقرار (وَمَتاعٌ) أى : تمتع ومعيشة (إِلى حِينٍ) أى : إلى حين انقضاء آجالكم.

قال : (فِيها) أى في الأرض (تَحْيَوْنَ) تعيشون (وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أى : يوم القيامة للجزاء ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).

وبعد أن قص القرآن على بنى آدم قصة خلقهم وتصويرهم وما جرى بين أبيهم وبين إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدع آدم وزوجه خداعا ترتب عليه إخراجهما من الجنة. بعد كل ذلك أورد القرآن أربع نداءات لبنى آدم حضهم فيها على تقوى الله وحذرهم من وسوسة الشيطان وذكرهم بنعمه عليهم ، فقال في النداء الأول :

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

السوءة : العورة. والريش : لباس الزينة ، استعير من ريش الطائر ، لأنه لباسه وزينته. وقال الجوهري : الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس ، وهو اللباس الفاخر».

والمعنى : يا بنى آدم تذكروا واعتبروا واشكروا الله على ما حباكم من نعم ، فإنه ـ سبحانه ـ قد هيأ لكم سبيل الحصول على الملبس الذي تسترون به عوراتكم ، وتتزينون به في مناسبات التجمل والتعبد.

٢٥٩

والمراد بإنزال ما ذكر أنه خلق لبنى آدم مادة هذا اللباس التي تتكون من القطن والصوف والحرير وما إليها ، وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وصناعتها بالغزل والنسج والخياطة.

والتعبير بأنزلنا يفيد خصوصية البشر باللباس الذي يستر العورة ، وبالرياش التي يتزينون بها ، أى أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يوارى سوآتكم ، ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح وحبها من طبيعة البشر. قال ـ تعالى ـ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).

قال الجمل : «وقوله ـ تعالى ـ : (وَرِيشاً) يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات. والمعنى : أنه وصف اللباس بوصفين : مواراة السوأة ، والزينة. ويحتمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره. أى : أنزلنا عليكم لباسا موصوفا بالمواراة ، ولباسا موصوفا بالزينة» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هناك لباسا آخر أفضل وأكمل من كل ذلك فقال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) أى : أن اللباس الذي يصون النفس من الدنايا والأرجاس ، ويسترها بالإيمان والعمل الصالح هو خير من كل لباس حسى يتزين به البشر. فاسم الإشارة هنا يعود على لباس التقوى. وقد عبر القرآن هنا عن التقوى بأنها لباس ، وعبر عنها في موضع آخر بأنها زاد مشاكلة للسياق الذي وردت فيه هنا أو هناك. وذلك من باب تجسيم المعنويات وتنسيقها مع الجو العام الذي وردت فيه ، وتلك طريقة انفرد بها القرآن الكريم.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) مبتدأ ، وخبره إما الجملة التي هي (ذلِكَ خَيْرٌ) كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وإما المفرد الذي هو خير ، وذلك صفة للمبتدأ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) معناه : ذلك الذي أنزله الله على بنى آدم من النعم من دلائل قدرته وإحسانه عليهم ، لعلهم بعد ذلك لا يعودون إلى النسيان الذي أوقع أبويهم في المعصية.

قال صاحب الكشاف : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر ظهور العورات وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى (٣).

ثم أتبع القرآن النداء الأول بنداء آخر مبالغة في وعظ بنى آدم وتذكيرهم بفضل الله عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٣٢.

(٢ ، ٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٩٧.

٢٦٠