التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

أما قوله (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته من التأثر بصلات القربى في المحاباة للأقرباء والظلم لغيرهم.

فالقرآن يرتفع بالضمير البشرى إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ، بأن يكلفه بتحرى العدل في كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه.

أما الوصية التاسعة والأخيرة في هذه الآية فهي قوله ـ تعالى ـ (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أى : كونوا أوفياء مع الله في كل ما عهد إليكم به من العبادات والمعاملات وغيرها.

إذ الوفاء أصل من الأصول التي يتحقق بها الخير والصلاح ، وتستقر عليها أمور الناس.

وقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) يفيد الحصر لتقديم المعمول ، وفي هذا إشعار بأن هناك عهودا غير جديرة بأن تنسب إلى الله ، وهي العهود القائمة على الظلم أو الباطل ، أو الفساد ، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام ، ويجب العمل على التخلص منها.

ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أى : ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي وصاكم الله به في كتابه رجاء أن تتذكروا وتعتبروا وتعملوا بما أمرتم به وتجتنبوا ما نهيتم عنه أو رجاء أن يذكّر بعضكم بعضا فإن التناصح واجب بين المسلمين.

أما الوصية العاشرة فهي قوله ـ تعالى ـ في الآية الثالثة من هذه الآيات : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

قرأ الجمهور بفتح همزة (أَنَ) وتشديد النون. ومحلها مع ما في حيزها الجر بحذف لام العلة. أى : ولأن هذا الذي وصيتكم به من الأوامر والنواهي طريقي وديني الذي لا اعوجاج فيه ، فمن الواجب عليكم أن تتبعوه وتعملوا به.

ويحتمل أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على (ما حَرَّمَ) أى : وأتلو عليكم أن هذا صراطي مستقيما.

وقرأ حمزة والكسائي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف.

وقوله (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) يعنى الأديان الباطلة ، والبدع والضلالات الفاسدة (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أى. فتفرقكم عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لكم.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : خط لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً).

٢٢١

وقد أفرد ـ سبحانه ـ الصراط المستقيم وهو سبيل الله ، وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل ما خالفه وهو كثير فيشمل الأديان الباطلة ، والبدع الفاسدة ، والشبهات الزائفة ، والفرق الضالة وغيرها.

ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى : ذلكم المذكور من اتباع سبيله ـ تعالى ـ وترك اتباع السبل وصاكم الله به لعلكم تتقون اتباع سبل الكفر والضلالة ، وتعملون بما جاءكم به هذا الدين.

قال أبو حيان : ولما كانت الخمسة المذكورة في الآية الأولى من الأمور الظاهرة الجليلة مما يجب تعلقها وتفهمها ختمت الآية بقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، ولما كانت الأربعة المذكورة في الآية الثانية خافية غامضة ولا بد فيها من الاجتهاد والتفكر حتى يقف الإنسان فيها على موضع الاعتدال ختمت بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وأمر ـ سبحانه ـ باتباعه ونهى عن اتباع السبل المختلفة ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار ، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية» (١).

وبعد : فهذه هي الوصايا العشر التي جاءت بها هذه الآيات الكريمة ، والمتأمل فيها يراها قد وضعت أساس العقيدة السليمة في توحيد الله ـ تعالى ـ وبنت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان بالوالدين والرحمة بالأبناء ، وحفظت المجتمع من التصدع عن طريق تحريمها لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض ، ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله التي هي منبع كل خير وسبيل كل فلاح.

فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا؟ إنهم لو عملوا بها لعزوا في دنياهم ولسعدوا في أخراهم ، فهل تراهم فاعلون؟.

اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك وجنبنا مالا يرضيك.

ولما كان هذا الصراط قديما ، والديانات قبله كانت في اتجاهه ، أشار ـ سبحانه ـ إلى موسى وكتابه ، وبين منزلة هذا القرآن ، وأمر الناس باتباعه فقال :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ

__________________

(١) البحر المحيط لأبى حيان ج ٤ ص ٢٥٤.

٢٢٢

رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

قال الآلوسى : قوله (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ). إلخ. كلام مستأنف مسوق من جهته ـ تعالى ـ تقريرا للوصية وتحقيقا لها ، وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه ، فعلنا ذلك (ثُمَّ آتَيْنا) وقيل عطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). وعند الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة ، كأنه قيل : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ثم أتل عليهم ما آتاه الله موسى (١).

وكلمة ثم لا تفيد الترتيب الزمنى هنا ، وإنما تفيد عطف معنى على معنى ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : لقد بينت لكم في هذه الوصايا ما فيه صلاحكم ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب وهو التوراة ليكون هدى ونورا.

وقوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قرأ الجمهور أحسن بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله ضمير الذي ، أى : آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على من أحسن القيام به كائنا من كان. فالذي لجنس المحسنين.

وتدل عليه قراءة عبد الله «تماما على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين».

ويجوز أن يكون فاعل أحسن ضمير موسى ـ عليه‌السلام ـ ومفعوله محذوف أى : آتينا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٥٩.

٢٢٣

موسى الكتاب تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل أمر وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ و «تماما» مفعول لأجله أى : آتيناه لأجل تمام نعمتنا ، أو حال من الكتاب ، أى : حال كونه أى الكتاب تاما. أو مصدر لقوله «آتينا» من معناه ، لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة. كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماما. فهو «كنباتا» في قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أى إنباتا.

وقرأ يحيى بن يعمر «على الذي أحسن» بضم النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، و «الذي» وصف للدين أى : تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه.

قال ابن جرير : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح ، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قراء الأمصار» (١).

وقوله : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) معطوف على ما قبله ، أى : وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه في أمور دينهم ودنياهم.

وقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أى : هذا الكتاب هداية لهم إلى طريق الحق ، ورحمة لمن عمل به لعلهم ـ أى قوم موسى وسائر أهل الكتاب ـ يصدقون بيوم الجزاء ، ويقدمون العمل الصالح الذي ينفعهم في هذا اليوم الشديد.

ثم بين ـ سبحانه ـ منزلة القرآن فقال : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أى : وهذا القرآن الذي قرأ عليكم أوامره ونواهيه رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب عظيم الشأن أنزلناه بواسطة الروح الأمين ، وهو جامع لكل أسباب الهداية الدائمة ، والسعادة الثابتة.

(فَاتَّبِعُوهُ) أى : اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام.

(وَاتَّقُوا) مخالفته واتباع غيره.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أى : لترحموا بواسطة اتباعه والعمل بما فيه.

ثم قطع ـ سبحانه ـ عذر كل من يعرض عن هذا الكتاب فقال : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ).

أى : أنزلنا هذا الكتاب لهدايتكم كراهة أن تقولوا يوم القيامة ، أو لئلا تقولوا لو لم ننزله : إنما أنزل الكتاب الناطق بالحجة على جماعتين كائنتين من قبلنا وهما اليهود والنصارى ، وإنا كنا عن تلاوة كتابهم لغافلين لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٦٧.

٢٢٤

فقوله : (أَنْ تَقُولُوا) مفعول لأجله والعامل فيه أنزلناه مقدرا مدلولا عليه بنفس أنزلناه الملفوظ به في الآية السابقة أى : أنزلناه كراهية أن تقولوا.

وقيل إنه مفعول به والعامل فيه قوله في الآية السابقة ـ أيضا ـ (وَاتَّقُوا ...) أى. واتقوا قولكم كيت وكيت. وقوله (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) معترض جار مجرى التعليل.

والمراد بالكتاب جنسه المنحصر في التوراة والإنجيل والزبور.

وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا من بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.

والخطاب لكل من أرسل إليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ آية أخرى لقطع أعذارهم فقال (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ).

أى : وأنزلنا الكتاب ـ أيضا ـ خشية أن تقولوا معتذرين يوم القيامة لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الذين من قبلنا ، لكنا أهدى منهم إلى الحق وأسرع منهم استجابة لله ولرسوله لمزيد ذكائنا ، وتوقد أذهاننا ، وتفتح قلوبنا.

وقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) جواب قاطع لأعذارهم وتعلاتهم أى : فقد جاءكم من ربكم عن طريق نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الكتاب الواضح المبين ، والذي هو هداية لكم إلى طريق الحق ، ورحمة لمن يعمل بما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات.

وقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أى : لا تعتذروا فقد جاءكم ... وإما شرط له أى : إن صدقتم فيما كنتم تعدون به. فقد حصل ما فرضتم وجاءكم بينة من ربكم.

والاستفهام في قوله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) للإنكار والنفي. أى : لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها بعد أن جاءته ببيناتها الكاملة ، وهداياتها الشاملة.

والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه أى : وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم ..؟ ومعنى : وصدف عنها أى : أعرض عنها غير متفكر فيها ، أو صرف الناس عنها وصدهم عن سبيلها. فجمع بين الضلال والإضلال.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بتهديد أولئك المعرضين عن آياته بقوله : (سَنَجْزِي الَّذِينَ

٢٢٥

يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أى : سنجزيهم أسوأ العذاب وأشده بسبب تكذيبهم لآياتنا وإعراضهم عنها.

فالآيتان الكريمتان تقطعان كل عذر قد يتعلل به يوم القيامة المكذبون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللقرآن الكريم ، وتتوعدهم بأشد ألوان العذاب.

ثم يمضى القرآن في تهديدهم خطوة أخرى. ردا على ما كانوا يطلبون من الآيات الخارقة ، وتحذيرا من إعراضهم وتقاعسهم عن طريق الحق مع أن الزمن لا يتوقف ، والفرص لا تعود فيقول :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

أى : ما ينتظر مشركو مكة وغيرهم من المكذبين بعد إعراضهم عن آيات الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم من أجسادهم.

والجملة الكريمة مستأنفة لبيان أنهم لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى.

قال البيضاوي : وهم ما كانوا منتظرين لذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين.

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أى : إتيانا يناسب ذاته الكريمة بدون كيف أو تشبيه للقضاء بين الخلق يوم القيامة ، وقيل المراد بإتيان الرب ، إتيان ما وعد به من النصر للمؤمنين والعذاب للكافرين.

٢٢٦

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أى : بعض علامات قيام الساعة ، وذلك قبل يوم القيامة ، وفسر في الحديث بطلوع الشمس من مغربها.

فقد روى البخاري عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل».

وفي رواية لمسلم والترمذي عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض».

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه عند مجيء علامات الساعة لا ينفع الإيمان فقال :

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً).

أى : عند مجيء بعض أشراط الساعة ، يذهب التكليف ، فلا ينفع الإيمان حينئذ نفسا كافرة لم تكن آمنت قبل ظهورها ، ولا ينفع العمل الصالح نفسا مؤمنة تعمله عند ظهور هذه الأشراط ، لأن العمل أو الإيمان عند ظهور هذه العلامات لا قيمة له لبطلان التكليف في هذا الوقت.

قال الطبري : معنى الآية لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع ـ أى طلوع الشمس من مغربها ـ إيمان بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع ، بعد الطلوع. لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ. حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة ، وذلك لا يفيد شيئا. كما قال ـ تعالى ـ (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وكما ثبت في الحديث الصحيح : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (١).

وقال ابن كثير : إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لم يقبل منه ، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير عظيم ، وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته ، كما دلت عليه الأحاديث ، وعليه يحمل قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أى : لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك» (٢).

وقوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) تهديد لهم. أى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : انتظروا

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٧٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٩٥.

٢٢٧

ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أى شيء تنتظرون ، فإنا منتظرون معكم لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الفرق الضالة بوجه عام فقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

أى : إن الذين فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة ، ومذاهب متباينة : (وَكانُوا شِيَعاً) أى فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها ومتعها ومنافعها بدون نظر إلى الحق.

وقوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) تهديد لهم. أى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أى شيء تنتظرون ، فإنا منتظرون معكم لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الفرق الضالة بوجه عام فقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

أى : إن الذين فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة ، ومذاهب متباينة : (وَكانُوا شِيَعاً) أى فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها ومتعها ومنافعها بدون نظر إلى الحق.

وقوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أى : أنت برىء منهم محمى الجناب عن مذاهبهم الباطلة ، وفرقهم الضالة. أو لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء إذ هم قد انطمست قلوبهم فأصبحوا لا يستجيبون لمن يدعوهم إلى الهدى.

وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) تعليل للنفي المذكور قبله أى : هو يتولى وحده أمرهم جميعا ، ويدبره حسب ما تقتضيه حكمته ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون».

وقوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أى : ثم يخبرهم يوم القيامة بما كانوا يفعلونه في الدنيا من آثام وسيئات ، ويعاقبهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات.

والآية الكريمة عامة في كل من فارق تعاليم الإسلام سواء أكان مشركا أم كتابيا ، ويندرج فيها أصحاب الفرق الباطلة والمذاهب الفاسدة في كل زمان ومكان ، كالقاديانية ، والباطنية ، والبهائية ، وغير ذلك من أصحاب الأهواء والبدع والضلالات.

قال ابن كثير : «والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له ، فإن الله

٢٢٨

بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف فيه (وَكانُوا شِيَعاً) أى : فرقا كأهل الأهواء والملل والنحل والضلالات ، فإن الله قد برأ رسوله منهم. وهذه الآية كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). الآية.

وفي الحديث : «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات. ديننا واحد» فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء ، والرسل برآء منها كما قال ـ تعالى ـ (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ لطفه في حكمه ، وفضله على عباده ، بمناسبة الحديث عن الجزاء فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

أى : من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة. فله عشر حسنات أمثالها في الحسن ، فضلا من الله ـ تعالى ـ وكرما.

قال بعضهم : وذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته لا قيمة العنقود. والعشر أقل ما وعد من الأصناف ، وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أى : بالأعمال السيئة (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أى : فلا يجزى بحكم الوعد إلا بمثلها في العقوبة واحدة بواحدة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ربك لا يظلم أحدا.

وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية منها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله ـ تعالى ـ : إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة. فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة».

ثم ختمت السورة الكريمة بخمس آيات جامعة لوجوه الخير ، من تأملها تجلى له أنها ختام حكيم يناسب هذه السورة التي هي سورة البلاغ والإعلان ، والمبادئ العليا لدعوة الإيمان.

أما الآيات الخمس فهي قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٩٦.

٢٢٩

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

أى : قل يا محمد لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم ، قل لهم جميعا : لقد هداني خالقي ومربينى إلى دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده (دِيناً قِيَماً) أى : ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب.

وقوله (دِيناً) نصب على البدل من محل (إِلى صِراطٍ) لأن معناه هداني صراطا ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أى : عرفني دينا.

وقوله (قِيَماً) صفة ل (دِيناً) والقيّم والقيم لغتان بمعنى واحد وقرئ بهما.

وقوله (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) منصوب بتقدير أعنى أو عطف بيان ل (دِيناً) و (حَنِيفاً) حال من إبراهيم. أى : هداني ربي ووفقني إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم والدين القيم المتفق مع ملة إبراهيم الذي كان مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق ، والذي ما كان أبدا (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مع الله آلهة أخرى في شأن من شئونه. لا كما يزعم المشركون وأهل الكتاب أن إبراهيم كان على دينهم.

ثم قل لهم للمرة الثانية : إن صلاتي التي أتوجه بها إلى ربي (وَنُسُكِي) أى عبادتي وتقربي إليه ـ وهو من عطف العام على الخاص ـ وقيل المراد به ذبائح الحج والعمرة. (وَمَحْيايَ

٢٣٠

وَمَماتِي) أى : ما أعمله في حياتي من أعمال وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح.

كل ذلك (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فأنا متجرد تجردا كاملا لخالقي ورازقي بكل خالجة في القلب ، وبكل حكة في هذه الحياة.

فهو ـ سبحانه ـ رب كل شيء. ولا شريك له في ملكه ، بذلك القول الطيب ، وبذلك العمل الخالص أمرت وأنا أول المسلمين الممتثلين لأوامر الله والمنتهين عن نواهيه من هذه الأمة.

ثم قل لهم للمرة الثالثة على سبيل التعجب من حالهم ، والاستنكار لواقعهم : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أى : أغير الله ـ تعالى ـ تريدونني أن أطلب ربا فأشركه في عبادته ، والحال والشأن أنه ـ سبحانه ـ هو رب كل شيء ومليكه ، وهو الخالق لكل شيء.

فجملة (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) حال في موضع العلة لإنكار ما هم عليه من ضلال.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل إنسان مجازى بعمله فقال : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها). أى : لا تجترح نفس إثما إلا عليها من حيث عقابه. فلا يؤاخذ سواها به ، وكل مرتكب لإثم فهو وحده المعاقب به.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أى : ولا تحمل نفس مذنبة ولا غير مذنبة ذنب نفس أخرى ، وإنما تتحمل الآثمة وحدها عقوبة إثمها الذي ارتكبته بالمباشرة أو بالتسبب.

قال القرطبي : وأصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) وهو هنا الذنب كما في قوله تعالى (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ).

ثم بين ـ سبحانه ـ نهايتهم فقال : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أى : رجوعكم بعد الموت يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) بتمييز الحق من الباطل ، ومجازاة كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر على حسب عمله.

ثم ختمت السورة بهذه الآية (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أى : خلائف القرون الماضية ، فأورثكم أرضهم لتخلفوهم فيها وتعمروها بعدهم.

وخلائف : جمع خليفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة ، لأنه يخلفه.

وقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أى : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ العلة في ذلك فقال : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أى : ليختبركم في الذي أنعم به عليكم ، يختبر الغنى في غناه ويسأله عن شكره ، ويختبر الفقير في فقره ويسأله عن صبره.

٢٣١

وفي الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء».

ثم رهب ـ سبحانه ـ من معصيته ، ورغب في طاعته فقال. (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه وخالف رسله. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أطاعه واتبع سبيل المؤمنين الصادقين.

أما بعد : فهذه هي سورة الأنعام التي عالجت من مبدئها إلى نهايتها قضية العقيدة بكل مقوماتها علاجا قويا حكيما يهدى إلى الرشد لمن عنده الاستعداد لذلك ، والتي طوفت بالنفس البشرية في الكون كله لترشدها إلى خلق هذا الكون ، وتجعلها تستجيب له وتنتفع بما منحها من نعم ، والتي كشفت عن مواطن الشرك ومظاهره في كل مظانه ومكانه. لتدمغه وتدحضه وتخلص النفس البشرية والحياة الإنسانية من أمراضه وأدرانه.

تلك هي سورة الأنعام التي نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة وذلك تفسير تحليلي لها ، لا نزعم أننا استقصينا فيه كل ما يتعلق بهذه السورة الكريمة ، من توجيهات وهدايات ، وإنما هو قبسات من نور القرآن الكريم ، نرجو الله أن ينفع به ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

٢٣٢

تفسير

سورة الأعراف

٢٣٣
٢٣٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمه

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة الأعراف ، توخينا فيه أن نبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات شاملة ، وحكم جليلة.

والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

١٤ / ٢ / ١٤٠٥ ه‍ ـ ٧ / ١٢ / ١٩٨٤ م

د. محمد سيد طنطاوى

٢٣٥
٢٣٦

تمهيد بين يدي السورة

١ ـ سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفى ، وهي أطول سورة مكية في القرآن الكريم ، وعدد آياتها ست ومائتا آية.

والرأى الراجح عند العلماء أنها جميعها مكية ، وقيل إن الآيات من ١٦٣ ـ ١٧٠ مدنية ، وكان نزولها بعد سورة «ص».

٢ ـ ومناسبتها لسورة الأنعام التي قبلها أن سورة الأعراف تعتبر كالتفصيل لها ، فإن سورة الأنعام قد تكلمت عن أصول العقائد وكليات الدين كلاما إجماليا ، ثم جاءت سورة الأعراف فكانت كالشرح والتفصيل لذلك الإجمال ، خصوصا فيما يتعلق بقصص الأنبياء مع أقوامهم وبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ مقاصدها ومميزاتها : وقد اشتملت سورة الأعراف على المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السور المكية ، كإقامة الأدلة على وحدانية الله ، وعلى صدق رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أن يوم القيامة حق .. إلخ.

والذي يتأمل هذه السورة الكريمة يراها تهتم بعرض الحقائق في أسلوبين بارزين فيها ، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم ، والآخر أسلوب التخويف من العذاب والنقم.

أما أسلوب التذكير بالنعم فتراه واضحا في لفتها لأنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم في الأرض ، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها الله له.

وأما أسلوب التخويف بالعذاب فالسورة الكريمة زاخرة به ، تلمس ذلك في قصص نوح ، وهود ، وصالح. ولوط ، وشعيب ، وموسى ـ عليهم‌السلام ـ مع أقوامهم.

وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة الكريمة ما دار بين الأنبياء وبين أقوامهم ، وما آل إليه أمر أولئك الأقوام الذين لم يستجيبوا لنصائح المرسلين إليهم.

٤ ـ عرض إجمالى لها : ونحن عند ما نستعرض سورة الأعراف نراها في الربع الأول منها تطالعنا بالحديث عن عظمة القرآن وتأمرنا باتباعه ، وتحذرنا من مخالفته ، وتحثنا على المسارعة إلى العمل الصالح الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة.

٢٣٧

قال تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

ثم ساقت لنا بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة ، فلما أكل منها هو وزوجه.

(بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).

ثم وجهت إلى بنى آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان.

قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن الله ـ تعالى ـ ، قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا ، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل الله ، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عند ما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها.

قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ* وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكى لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ).

فيجيبهم أصحاب الجنة : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله.

٢٣٨

وفي الربع الرابع منها وكذلك في أواخر الثالث ، تحدثنا السورة الكريمة عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه. ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر والعظات ما يهدى القلوب ، ويشفى الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين.

أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه ، ومن مظاهر هذه ـ السنن أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ، وأن الناس لو آمنوا لفتح ـ سبحانه ـ عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون.

قال تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ* وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ).

ثم عقب على ذلك ببيان أن الله ـ تعالى ـ قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار.

ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ فقصت علينا في زهاء سبعين آية ـ استغرقت الربع السادس والسابع والثامن ـ ما دار بينه وبين فرعون من محاورات ومناقشات ، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بنى إسرائيل من تكذيب وجهالات ، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان.

وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم حضتنا على التفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله ، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، ووبخت المشركين على شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ* إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).

٢٣٩

وبعد : فهذا عرض سريع لما اشتملت عليه سورة الأعراف من توجيهات حكيمة ، وآداب عالية ، وعظات سامية ، ولعلنا بذلك نكون قد أعطينا القارئ الكريم فكرة مجملة عنها قبل أن نفسرها تفسيرا تحليليا مفصلا. والله نسأل أن يلهمنا جميعا الرشد والسداد فيما نقول ونعمل.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢٤٠