التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

و (مُحَرَّماً) صفة لموصوف محذوف ، أى : شيئا محرما ، أو طعاما محرما ، وهو المفعول الأول لأجد ، أما المفعول الثاني فهو (فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) قدم للاهتمام به.

وقوله (يَطْعَمُهُ) في موضع الصفة لطاعم جيء به قطعا للمجاز كما في قوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حرمه فقال : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً ، أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

أى : لا أجد فيما أوحاه الله إلى الآن شيئا محرما من المطاعم إلا أن يكون هذا الشيء أو ذلك الطعام (مَيْتَةً) أى : بهيمة ماتت حتف أنفها.

(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أى : دما مصبوبا سائلا كالدم الذي يخرج من المذبوح عند ذبحه ، لا الدم الجامد كالكبد والطحال ، والسفح : الصب والسيلان.

(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أى اللحم لأنه المحدث عنه ، أو الخنزير لأنه الأقرب أو جميع ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير.

(رِجْسٌ) أى : قذر خبيث تعافه الطباع السليمة وضار بالأبدان (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أى : خروجا عن الدين ، لكونه عند ذبحه قد ذكر عليه غير اسمه ـ تعالى ـ من صنم أو وثن أو طاغوت أو نحو ذلك.

والإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا ، ومنه إهلال الصبى ، والإهلال بالحج ، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها ـ كاللات والعزى ـ ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا.

وإنما سمى (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) فسقا ، لتوغله في باب الفسق ، والخروج عن الشريعة الصحيحة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

ثم بين ـ سبحانه ـ حكم المضطر فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ) :

أى : فمن أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر ، بأن ألجئ بإكراه أو جوع مهلك ـ مع فقد الحلال ـ إلى أكل شيء من هذه المحرمات التي كانوا في الجاهلية يستحلونها ، فلا إثم عليه في أكلها.

واضطر : مأخوذ من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء ، يقال : اضطره إليه ، أى أحوجه والجأه فاضطر.

ثم قيد ـ سبحانه ـ حالة الاضطرار بقوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ).

٢٠١

أى : فمن أصابته ضرورة قاهرة ألجأته إلى الأكل من هذه الأشياء المحرمة حالة كونه غير باغ في أكله ، أى غير طالب للمحرم وهو يجد غيره. أو غير طالب له للذته ، أو على جهة الاستئثار به على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيها عن الآخر.

أو حالة كونه ـ أيضا ـ غير عاد فيما يأكل ، أى : غير متجاوز سد الجوعة فلا إثم عليه في هذه الأحوال.

وباغ : مأخوذ من البغاء وهو الطلب تقول : بغيته بغاء وبغى بغية وبغية أى : طلبته.

وعاد : اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول : فلان عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره فهو عاد ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ).

وقوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : فإن ربك واسع المغفرة والرحمة لا يؤاخذ المضطرين ، ولا يكلف الناس بما فوق طاقتهم ، وإنما هو رءوف رحيم بهم يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.

والجملة الكريمة جواب الشرط باعتبار لازم المعنى وهو عدم المؤاخذة. وقيل جواب الشرط محذوف : أى فمن اضطر ، فلا مؤاخذة عليه وهذه الجملة تعليل له.

هذا ، والآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات في هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين فيما حرموه بغير علم من البحائر والسوائب وغيرها.

قال ابن كثير : الغرض من سياق هذه الآية الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فأمر ـ تعالى ـ رسوله أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله ـ تعالى ـ؟! وعلى هذا فلا ينفى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهى عن الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير» (١).

وقال القرطبي : والآية مكية ، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وغير ذلك ، وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال :

الأول : ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية وكل محرم حرمه رسول الله أو جاء في الكتاب

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٤.

٢٠٢

مضموم إليها ، فهو زيادة حكم من الله على لسان نبيه. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر والفقه والأثر» (١).

والخلاصة : أن الآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات في هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين ، وذلك أن الكفار. كما قال الإمام الشافعى ـ لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرمه الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال ـ سبحانه ـ لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة. فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة لا للنفي والإثبات على الحقيقة.

فهو ـ تعالى ـ لم يقصد حل ما وراء الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.

قال امام الحرمين : وهذا في غاية الحسن ، ولو لا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك ـ رضى الله عنه ـ في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية» (٢).

وفي حكم هذه الآية وتأويلها أقوال أخرى بسطها العلماء فارجع إليها إذا شئت (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما حرمه الله على اليهود بسبب ظلمهم وبغيهم فقال ـ تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ).

فقوله ـ تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) بيان لما حرمه الله ـ تعالى ـ على بنى إسرائيل جزاء ظلمهم ، وفي هذا البيان رد على اليهود ، وتكذيب لهم ، إذ زعموا أن الله لم يحرم عليهم شيئا ، وإنما هم حرموا على أنفسهم ما حرمه إسرائيل على نفسه ، فجاءت هذه الآية الكريمة لتبين بعض ما حرمه الله عليهم من الطيبات ـ التي كانت حلالا لهم ـ بسبب فسقهم وطغيانهم.

والمراد بقوله تعالى (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير ، كالإبل والنعام والأوز والبط ، كما روى عن ابن عباس وسعيد ابن جبير وقتادة.

قال الإمام الرازي : قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١١٦.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٨٤ للسيوطي.

(٣) راجع تفسير القرطبي ج ٧ ص ١١٥ وما بعدها وتفسير المنار ج ٨ ص ٢٤٩ وما بعدها.

٢٠٣

الأول : أن قوله ـ تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة. لتقدم المعمول على عامله.

الثاني : أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) فائدة (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حرم عليهم من غير ذوى الظفر فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ، أَوِ الْحَوايا ، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).

والشحم : هو المادة الدهنية التي تكون في الحيوان وبها يكون لحمه سمينا والعرب تسمى سنام البعير ، وبياض البطن شحما ، وغلب إطلاق الشحم على ما يكون فوق أمعاء الحيوان.

والحوايا : ـ كما قال ابن جرير ـ جمع حاوياء وحاوية ، وحوية وهي ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار ، وفسرت بالمباعر ، والمرابض التي هي مجتمع الأمعاء في البطن (٢).

والمعنى : كما حرمنا على اليهود كل ذي ظفر ، فقد حرمنا عليهم كذلك من البقر والغنم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة ، إلا ما استثنيناه من هذه الشحوم وهو ما حملت ظهورهما أو ما حملت حواياهما ، أو اختلط من هذه الشحوم بعظمهما. فقد أحللناه لهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا التحريم كان نتيجة لطغيانهم فقال تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى. هذا الذي حرمناه على الذين هادوا من الأنعام والطير ومن البقر والغنم ، وهذا التضييق الذي حكمنا به عليهم ، إنما ألزمناهم به ، بسبب بغيهم وظلمهم ، وتعديهم حدود الله تعالى.

قال قتادة : إنما حرم الله عليهم ما ليس بخبيث عقوبة لهم وتشديدا عليهم.

ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود ، من الأنباء التي لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه يعلمون عنها شيئا لأميتهم ، وكان تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عليهم عقوبة لهم ، لما كان الأمر كذلك ، أكد الله هذا النبأ بقوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ). أى : وإنا لصادقون ـ يا محمد ـ فيما أخبرناك به ، ومن بينه ما أعلمناك عنه مما حرمناه على اليهود من الطيبات وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه ، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.

ومع أن الشحوم جميعا باستثناء ما أحله لهم منها محرمة عليهم ، فإنهم تحايلوا على شرع الله ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٦.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٧٥.

٢٠٤

وأخذوا يذيبونها ويستعملونها في شئونهم المختلفة أو يبيعونها ويأكلون ثمنها ، ولقد لعنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب هذا التحايل في أحاديث متعددة.

من ذلك ما روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قاعدا خلف المقام ، فرفع بصره إلى السماء وقال : «لعن الله اليهود ـ ثلاثا ـ إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها ، وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه» (١).

وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عام الفتح «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود ، وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس ، فقال : (لا. هو حرام) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك (قاتل الله اليهود) ، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها. أى : أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها» (٢).

ثم حذرهم الله من الكفر والطغيان ، فقال ـ تعالى ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أى : فإن كذبك ـ يا محمد ـ هؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين ، فيما أخبرناك عنه من أنا حرمنا على هؤلاء اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم ، فقل لهم. إن الله ـ تعالى ـ ذو رحمة واسعة حقا ورحمته وسعت كل شيء ، ومن مظاهر رحمته أنه لا يعاجل من كفر به بالعقوبة ، ولا من عصاه بالنقمة ، ولكن ذلك لا يقتضى أن يرد بأسه ، أو يمنع عقابه عن القوم المصرين على إجرامهم المستمرين على اقتراف المنكرات ، وارتكاب السيئات.

فالآية الكريمة قد جاءت لتزجرهم عن البغي والكفران ، حتى يعودوا إلى طريق الحق. إن كانوا ممن ينتفع بالذكرى ، ويعتبر بالموعظة.

ثم حكى القرآن بعد ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التي تمسك بها المشركون في شركهم وجهالاتهم ورد عليها بما يبطلها ويخرس ألسنة قائليها أو المتذرعين بها فقال :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٥.

٢٠٥

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

إن هذه الآيات الكريمة تعرض لشبهة قديمة جديدة : قديمة لأن كثيرا من مجادلى الرسل موهوا بها ، وحديثة لأنها دائما تراود كثيرا من المتمسكين بالأوهام في سبيل إرضاء نزواتهم من المتع الباطلة والشهوات المحرمة.

إنهم يقولون عند ما يرتكبون القبائح والمنكرات : هذا أمر الله ، وهذا قضاؤه ، وتلك مشيئته وإرادته ، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها وإذا كان الله قد قضى علينا بها فما ذنبنا؟ ولما ذا يعاقبنا عليها؟ إلى غير ذلك من اللغو الباطل ، والكلام العابث الذي يريدون من ورائه التحلل من أوامر الله ونواهيه.

ولنتدبر سويا أيها القارئ الكريم ـ هذه الآيات ، وهي تحكى تلك الشبهات الباطلة ، ثم تقذفها بالحق الواضح ، والبرهان القاطع ، فإذا هي زاهقة.

يقول ـ سبحانه ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ).

أى : سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله ـ تعالى ـ ألا نشرك به وألا يشرك به آباؤنا من قبلنا ، لنفذت مشيئته ، ولما أشركنا نحن ولا آباؤنا.

ولو شاء كذلك ألا نحرم شيئا مما حرمناه من الحرث والأنعام وغيرها لتمت مشيئته ولما حرمنا شيئا مما حرمنا.

ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام ، وأن نحرم ما نحرم من الحرث والأنعام وقد رضى لنا ذلك فلما ذا تطالبنا يا محمد بتغيير مشيئة الله ، وتدعونا إلى الدخول في دينك الذي لم يشأ الله دخولنا فيه؟.

٢٠٦

قال الآلوسى ما ملخصه : «وهم لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح ، لأنهم لم يعتقدوا قبح أفعالهم وإنما مرادهم من هذا القول الاحتجاج على أن ما ارتكبوه ـ من الشرك والتحريم ـ حق ومشروع ومرضى عند الله ، بناء على أن المشيئة والإرادة تسابق الأمر وتستلزم الرضا ، فيكون حاصل كلامهم :

إن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله وإرادته ، وكل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنده. فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضى عند الله» (١).

وقد حكى القرآن في كثير من آياته ما يشبه قولهم هذا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٣). وقد رد القرآن على قولهم بما يبطله فقال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا).

أى : مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك ، قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم ، واستمروا في تكذيبهم لهم حتى أنزلنا على هؤلاء المكذبين عذابنا ونقمتنا.

ومن مظاهر تكذيب هؤلاء المشركين لرسلهم ، أنهم عند ما قال لهم الرسل عليهم‌السلام ـ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. كذبوهم واحتجوا عليهم بأن ما هم عليه من شرك واقع بمشيئة الله ، وزعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده ـ سبحانه ـ فكان الرد عليهم بأنه لو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده ـ سبحانه ـ : لما أذاق أسلافهم المكذبين ـ الذين قالوا لرسلهم مثل قولهم ـ عذابه ونقمته. ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

قال الآلوسى ما ملخصه : وحاصل هذا الرد أن كلام المشركين يتضمن تكذيب الرسل وقد دلت المعجزة على صدقهم ، ولا يخفى أن المقدمة الأولى وهي أن كل شيء بمشيئة الله : لا تكذيب فيها ، بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل شيء بمشيئة الله ، وامتناع أن يجرى في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية ، وهي أن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٥٠.

(٢) سورة النحل الآية ٣٥.

(٣) سورة الزخرف الآية ٢٠.

٢٠٧

كل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنه ، لأن الرسل عليهم‌السلام : يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء ، فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع ومرضى عنده سبحانه : تكذيب لقول الرسل. وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة ، وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضى عنده ـ سبحانه ـ بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر (١).

ثم بعد هذا الرد المفحم للمشركين أمر الله : تعالى : رسوله أن يطالبهم بدليل على مزاعمهم فقال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا).

أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتعجيز : هل عندكم من علم ثابت تعتمدون عليه في قولكم (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا)! إن كان عندكم هذا العلم فأخرجوه لنا لنتباحث معكم فيه ، ونعرضه على ما جئتكم به من آيات بينة ودلائل ساطعة. فإن العاقل هو الذي لا يتكلم بدون علم ، ولا يحيل على مشيئة الله التي لا ندري عنها شيئا.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ عِلْمٍ) زائدة ، وعلم مبتدأ ، وعندكم خبر مقدم.

وقوله : (فَتُخْرِجُوهُ) منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الاستفهام الإنكارى.

ثم بين حقيقة حالهم فقال : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).

أى : أنتم لستم على شيء ما من العلم ، بل ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن الباطل الذي لا يغنى من الحق شيئا. وما أنتم إلا تخرصون أى تكذبون على الله فيما ادعيتموه.

وأصل الخرص : القول بالظن. يقال : خرصت النخل خرصا ـ من باب قتل ـ حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين ، واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص في قوله ـ كنصر ـ أى كذب.

وبعد أن نفى ـ سبحانه ـ عنهم أدنى ما يقال له علم وحصر ما هم عليه من دين في أدنى مراتب الظن مع أن أعلاها لا يغنى من الحق شيئا ، ووصمهم بالكذب فيما يدعون ، بعد كل ذلك أثبت لذاته ـ سبحانه ـ في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٥٠.

٢٠٨

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

الحجة : كما قال الراغب في مفرداته : الدلالة المبينة للمحجة ، أى : المقصد المستقيم.

أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين الذين بنوا قواعد دينهم على الظن والكذب بعد أن عجزوا عن الإثبات بأدنى دليل على مزاعمهم ، قل لهم : لله وحده الحجة البالغة. أى البينة الواضحة التي بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة ، والتي وصلت إلى أعلى درجات الكمال في قطع عذر المحجوج وإزالة الشكوك عمن تدبرها وتأملها.

وقوله. (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : لو شاء ـ سبحانه ـ هدايتكم جميعا لفعل ؛ لأنه لا يعجزه شيء ، ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء هداية البعض لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق ، وشاء ضلالة آخرين ، لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل.

ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله.

نحن معكم في أنه لا يقع في ملكه ـ سبحانه ـ إلا ما يشاؤه ، فالطائع تحت المشيئة والعاصي تحت المشيئة ، ولكن المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية وقضاء الله وقدره هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون ، وليس العلم صفة تأثير وجبر.

ولقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يجعل في طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر ، ووهبهم العقل ليهتدوا به وأرسل إليهم الرسل لينمو فيهم استعدادهم وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون وما يدعون ، كي لا يتركهم لعقولهم وحدها.

وإذن فمشيئة الله متحققة حسب سنته التي ارتضاها مختارا ـ وهو قادر على اختيار غيرها وعلى تغييرها وتبديلها ـ متحققة سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال ، وهو مؤاخذ إن ضل ومأجور إذا اهتدى. غير أن سنة الله اقتضدت أن من يفتح عينه يبصر النور ، ومن يغمضها لا يراه ، كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى. ومن يحجب قلبه عنها يضل ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وإذن فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا على معنى أنه أجبرهم عليه فهم لا يستطيعون عنه فكاكا ، إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح فإن المشيئة الإلهية لها سنة تقيدت بها ، وهذه السنة هي أنه لا جبر على طاعة ولا قسر على معصية.

وتقرير ذلك يؤخذ من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : فلو شاء أن يكرهكم ويفرض هدايتكم بقدرته وقدره لهداكم ، ولكنه لم يشأ إجباركم على الضلالة ، فهي مشيئة المنح والتيسير وليست مشيئة الإلجاء والتسخير قال ـ تعالى ـ (فَأَمَّا مَنْ

٢٠٩

أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يطالب المشركين بإحضار من يشهد لهم بأن الله قد حرم عليهم ما زعموا تحريمه من الحرث والأنعام وغيرها فقال :

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا).

هلم : لفظ يقصد به الدعوة إلى الشيء ، وهي اسم فعل بمعنى أقبل إذا كان لازما ، وبمعنى أحضر وائت إذا كان متعديا كما هنا ، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث في لغة الحجازيين.

أى : أحضروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه ، وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم.

والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم الحجة ، وإظهار أنه لا متمسك لهم كمقلدين ، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ، ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم.

ثم قال ـ سبحانه ـ (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أى : فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود الذين عرفوا بضلالهم فلا تصدقهم ولا تقبل شهادتهم ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها فإن السكوت عن الباطل في مثل هذا المقام كالشهادة به وإنما عليك أن تبين لهم بطلان زعمهم بواسطة ما آتاك الله من حجج وبينات.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت : أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر ، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوى أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) يعنى فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم ، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهيد معهم مثل شهادتهم وكان واحدا منهم (١).

ثم قال ـ سبحانه ـ (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى : ولا تتبع أهواء هؤلاء الناس الذين كذبوا بآياتنا التي أنزلها الله عليك لتكون هداية ونورا لقوم يعقلون ، فإن شهادتهم ـ إن وقعت ـ فإنما هي صادرة عن هوى وضلال.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٧٨.

٢١٠

ولم يقل ـ سبحانه ـ ولا تتبع أهواءهم بل قال : ولا تتبع أهواء الذين كذبوا ، فوضع الظاهر موضع الضمير لبيان أن المكذب بهذه الآيات والحجج الظاهرة إمعانا في التمسك بتقاليده الباطلة ، إنما هو صاحب هوى وظن لا صاحب علم وحجة.

وقوله (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) عطف على الموصوف قبله لتعدد صفاتهم القبيحة.

أى : ولا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله ، وبين الكفر بالآخرة ، وبين جعلهم لله عديلا أى شريكا مع أنه ـ سبحانه ـ هو الخالق لكل شيء ، لأن هذه الصفات لا تؤهلهم لشهادة حق ، ولا للثقة بهم ، وإنما للاحتقار في الدنيا ، ولسوء العذاب في الآخرة.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حكت في بضع عشرة آية جانبا من رذائل المشركين وسخف تقاليدهم وعبث أهوائهم وفساد معاذيرهم وبطلان شبهاتهم وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويبطل حجتهم ، فيما أحلوه وحرموه في شأن النذور والذبائح والمطاعم والمشارب وغير ذلك مما حكته الآيات الكريمة.

ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى أفق أرحب وأوسع ، وإلى ميدان أفسح وأشمل فتناديهم بأسلوب مؤثر بليغ ليستمعوا إلى ما حرم الله عليهم فيجتنبوه وإلى ما كلفهم به فيعملوه ، تناديهم ليتدبروا في الأصول الكلية التي تقوم عليها العقيدة السليمة ، ويسعد بها المجتمع ، ويحيا في ظلها الأفراد والجماعات في أمان واطمئنان. تناديهم ليسمعوا البيان الصحيح الحق فيما أحل الله وحرم من الأفعال والأقوال ليسمعوه ممن له وحده الحق في أن يقوله ، وفي أن يتلقى عنه تناديهم فتقول :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

٢١١

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)

إن المتأمل في هذه الآيات يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه علاقة ينال بها السعادة والثواب ، ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والمحبة وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدى إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ، وقد أطلق العلماء على هذه الآيات الكريمة اسم «الوصايا العشر» نظرا لتذييل آياتها الثلاث بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).

روى الترمذي ـ بسنده ـ عن ابن مسعود أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ). إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وروى الحاكم وصححه ، وابن أبى حاتم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ). حتى فرغ منها ثم قال : من وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله ، إن شاء الله أخذه ، وإن شاء عفا عنه» (١).

وروى البيهقي عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : لما أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج إلى منى وأنا وأبو بكر معه ، فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منازل القوم ومضاربهم. فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان في القوم مفروق بن عمرو وهاني بن قبيصة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٧.

٢١٢

والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان مفروق بن عمر وأغلب القوم لسانا وأفصحهم بيانا ، فالتفت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له :

إلام تدعو يا أخا قريش؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدعوكم إلى شهادة أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله ، وأن تؤوونى وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرنى به ، فإن قريشا تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغنى الحميد.

فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ). إلى آخر الآيات الثلاث.

فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه. فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). الآية.

فقال له مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

وقال هانئ بن قبيصة : قد سمعت مقالتك ، واستحسنت قولك يا أخا قريش ، ويعجبني ما تكلمت به ، فبشرهم الرسول ـ إن آمنوا ـ بأرض فارس وأنهار كسرى. فقال له النعمان : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) ثم نهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث ، وذلك هو تأثيرها في نفوس العرب ، والآن فلنبدأ في التفسير التحليلى لها فنقول :

لقد بدئت الآيات بقوله ـ تعالى ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ).

أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم ، تعالوا إلى وأقبلوا نحوي لأبين لكم ما حرمه ربكم عليكم ، ولأتلو على مسامعكم ما أمركم به ، وما نهاكم عنه خالقكم ومربيكم ، فإنكم إن أقبلتم نحوي وأطعمتمونى سعدتم في دينكم ودنياكم.

وفي تصدير هذه الوصايا بكلمة (قُلْ) إشعار من أول الأمر بأن هذا بيان إليه ، ليس الرسول فيه إلا ناقلا مبلغا ، وفيه ـ أيضا ـ دلالة على أن المأمور به يحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقد سبق أن بينا أن سورة الأنعام زاخرة بهذا الأسلوب التلقينى الذي يبدأ بكلمة (قُلْ).

والأصل في كلمة تعال أن يقولها من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم اتسع فيها

٢١٣

حتى عمت ، وهي تتضمن إرادة تخليص المخاطبين ورفعتهم من انحطاط هم فيه إلى علو يراد لهم ويدعون إليه ، وتتضمن كذلك أن المتكلم يريد منهم أن يلتفوا من حوله لتتحد وجهتهم ، ولا تتفرق بهم الأهواء والسبل.

وفي قوله (أَتْلُ) إيماء قوى بأن المتكلم يقدر المخاطبين ، ويرتفع بهم إلى درجة أنهم لا يحتاجون في الإرشاد إلا لأن يتلو عليهم ما يريدهم أن يعملوه ثم هم بعد ذلك سيمتثلون لحسن استعدادهم لقبول الحق.

ـ وإنه لأسلوب قد بلغ الغاية في اللطف وفي التكريم وفي حسن الموعظة وتوجيه الخطاب.

ـ وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا قد اشتملت على المحرمات وعلى غيرها لأن سياق الآيات قبل ذلك كان منصبا على كشف ما اخترعه المشركون من تحريم في الحرث والنسل ما أنزل الله به من سلطان ، ولأن بيان أصول المحرمات يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل.

وفي نسبة التحريم إلى الرب الذي هو منبع الخير والإحسان. حض لهم على التدبر والاستجابة. لأن الذي حرم عليهم ذلك هو مربيهم ، فليس معقولا أن يحرم عليهم ما فيه منفعة لهم ، وإنما هو بمقتضى ربوبيته قد حرم عليهم ما فيه ضررهم.

ـ وقوله (أَتْلُ) جواب الأمر ، أى : إن تأتونى أتل. و (ما) في قوله (ما حَرَّمَ) موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أى : أقرأ الذي حرمه ربكم عليكم ، وهي في محل نصب مفعول به ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أى أتل تحريم ربكم ، ونفس التحريم لا يتلى وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به ، أى : أتل محرم ربكم الذي حرمه هو. و (عَلَيْكُمْ) متعلق بـ (حَرَّمَ) أو بـ (أَتْلُ).

قال بعض العلماء : وهذه العبارة التي قدمت بها الوصايا ـ وهي (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) فيها إشعار بأن الحقائق الأولى التي قام عليها الجدال في السورة قد أصبحت واضحة. لا مفر من قبولها والبناء عليها ، فالله ـ تعالى ـ يأمر رسوله بأن يبلغهم ، وإذن فهناك إله من شأنه أن يرسل الرسل ، وهناك رسل من شأنهم أن يتلقوا عن الله ، وهناك محرمات وردت من المصدر الذي يحق له التحريم وحده لأنه هو الرب (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ثم هناك لازم عقلي لهذا التحريم هو أن من تعداه وانتهكه كان مغضبا للرب الذي قرره. مستحقا لعقوبته ، وإذن فهناك دار للجزاء» (١). ولننظر بعد ذلك في الوصايا.

الوصية الأولى : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أى : أوصيكم ألا تشركوا مع الله في عبادتكم آلهة

__________________

(١) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص ٩١ لفضيلة الأستاذ محمد المدني ـ رحمه‌الله ـ.

٢١٤

أخرى. بل خصوه وحده بالعبادة والخضوع والطاعة فإنه هو الخالق لكل شيء.

وصدر ـ سبحانه ـ هذه الوصايا بالنهى عن الشرك ، لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إفسادا للفطرة ، ولأنه هو الجريمة التي لا تقبل المغفرة من الله ، بينما غيره قد يغفره ـ سبحانه ـ قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

وقد ساق القرآن مئات الآيات التي تدعو إلى الإيمان وتنفر من الشرك وتقيم الأدلة الساطعة ، والبراهين الدامغة على وحدانية الله ـ عزوجل ـ.

هذا ، وقد ذكر الشيخ الجمل في إعراب هذه الجملة الكريمة ألا تشركوا به شيئا عدة آراء منها :

١ ـ أنّ تكون أن تفسيرية ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ، ولا ناهية ولا تشركوا مجزوم بها.

٢ ـ أن تكون أن ناصية للفعل بعدها ، وهي وما في حيزها في محل نصب بدلا من (ما حَرَّمَ) ولا زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) ، ولئلا يعلم.

٣ ـ تكون أن ناصبة وما في حيزها منصوب على الإغراء بعليكم ويكون الكلام قد تم عند قوله (رَبُّكُمْ) ثم ابتدأ فقال : عليكم ألا تشركوا أى الزموا نفى الشرك.

٤ ـ أنها وما في حيزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة ، والتقدير تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئا.

٥ ـ أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمار فعل تقديره : أوصيكم ألا تشركوا.

ونكتفي بهذا القدر من وجوه الإعراب التي توسع فيها النحاة توسعا كبيرا ، بسبب ورود بعض هذه الوصايا بصيغة النهى ، وبعضها بصيغة الأمر ، مع تقدم فعل التحريم على جميعها (١).

أما الوصية الثانية : في قوله ـ تعالى ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أى : أحسنوا بهما إحسانا كاملا لا إساءة معه.

وقد قرن ـ سبحانه ـ هذه الوصية بالوصية الأولى التي هي توحيده وعدم الإشراك به ، في هذه الآية وفي غيرها ، للإشعار بعظم هذه الوصية وللتنبيه إلى معنى واحد ـ يجمعها مع الأولى وهو أن المنعم يجب أن يشكر ؛ فالوالدان سبب في حياة الولد فيجب أن يشكرهما ويحسن إليهما ، والله ـ تعالى ـ هو الخالق المنعم فيجب أن يشكر ويفرد بالعبادة والطاعة.

__________________

(١) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٠٧ وتفسير الآلوسى ج ٨ ص ٥٧.

٢١٥

ـ قال بعض العلماء : وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى عن المحرم وهو الإساءة ، سموا بالإنسان عن أن تظن به الإساءة إلى الوالدين ، وكأن الإساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها ، ولأن الخير المنتظر من هذه الوصية وهو تربية الأبناء على الاعتراف بالنعم وشكر المنعمين عليها إنما يتحقق بفعل الواجب ، وهو الإحسان لا بمجرد ترك المحرم وهو الإساءة. لهذا وذاك قال ـ سبحانه ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

ـ والإحسان يتعدى بحرفى الباء وإلى ، فقال : أحسن به ، وأحسن إليه ، وبينهما فرق واضح ، فالباء تدل على الإلصاق ، وإلى تدل على الغاية ، والإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول «الباء» دون انفصال ولا مسافة بينهما ، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول إلى ولو كان منه على بعد أو كان بينهما واسطة ، ولا شك أن الإلصاق في هذا المقام أبلغ في تأكيد شأن العناية والإحسان بالوالدين ، ومن هنا لم يعد الإحسان بالباء في القرآن إلا حيث أريد ذلك التأكيد ، وقد جاءت جميع الآيات القرآنية التي توحى بالإحسان بالوالدين على هذا الأسلوب» (١).

ثم جاءت الوصية الثالثة وهي قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

الإملاق : الفقر ، مصدر أملق الرجل إملاقا إذا احتاج وافتقر.

أى : لا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها).

ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم. فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص منهم خوفا من الفقر ، مع أن الله ـ تعالى ـ هو الرازق لكم ولهم.

والمجتمع الذي يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه مجتمع نفعي تسوده الأثرة والأنانية ، ويكون في الوقت نفسه مجتمعا أفراده يسودهم التشاؤم ، وتتغشاهم الأوهام ، لأنهم يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم حقهم من الرزق ، ويعتدون على روح بريئة طاهرة تخوفا من جريمة متوهمة ، وذلك هو الضلال المبين.

ـ وقد روى النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد في سورة الإسراء بصيغة أخرى هي قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) وليس إحداهما

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٤٣٤ لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت.

٢١٦

تكرارا للأخرى. وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة.

ـ فهنا يقول ـ سبحانه ـ (مِنْ إِمْلاقٍ) أى : لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم أيها الآباء لذا قال : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فجعل الرزق للآباء ابتداء ، لأن الفقر الذي يقتلون من أجله أولادهم حاصل لهم فعلا.

ـ وفي سورة الإسراء يقول : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أى : خوفا من فقر ليس حاصلا ، ولكنه متوقع بسبب الأولاد ولذا قال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، ليكف الآباء عن هذا التوقع ، وليضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.

ففي كلتا الحالتين القرآن ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس في نفوس الآباء الثقة بالله ، والاعتماد عليه.

وجملة (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) تعليلية لإبطال ما اتخذوه سببا لمباشرة جريمتهم ، وضمان منه ـ سبحانه ـ لأرزاقهم أى : نحن نرزق الفريقين لا أنتم وحدكم ، فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء وهي قتل الأولاد لأن الأولاد قطعة من أبيهم ، والشأن حتى في الحيوان الأعجم أنه يضحى من أجل أولاده ، ويحميهم ويتحمل الصعاب في سبيلهم.

أما الوصية الرابعة فتقول : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) الفواحش. جمع فاحشة وهي كما قال الراغب في مفرداته ـ ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال يقال : فحش فلان ، أى صار فاحشا مرتكبا للقبائح ، والمتفحش هو الذي يأتى بالفحش من القول أو الفعل ، كالسرقة والزنا والنميمة وشهادة الزور.

وأنهاكم عن أن تقتربوا من الأقوال والأفعال القبيحة ما كان منها ظاهرا وما كان منها خافيا.

وقد تعلق التحريم والنهى بهذا الوصف الذي يشعر بالعلة ـ كما يقول علماء الأصول ـ فكأنه قال. إن كل قول أو فعل تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب البعد عنها.

والمجتمع الذي يؤمن بأن هناك «فواحش» يجب أن تجتنب ، و «محاسن» يجب أن تلتمس هو المجتمع الفاضل الطهور.

أما المجتمع الذي يسوى بين القبيح والحسن ، ويقوم على الإباحية التي لا تفرق بين ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ، فلا بد أن يكون مصيره إلى التدهور والتعاسة والمهانة.

وجملة (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل اشتمال من الفواحش.

وتعليق النهى بقربانها للمبالغة في الزجر عنها لأن قربانها قد يؤدى إلى مباشرتها ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وهذا لون حكيم من ألوان الإصلاح ، لأنه إذا حصل النهى

٢١٧

عن القرب من الشيء ، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى.

ثم جاءت الآية في ختامها بالوصية الخامسة فقالت : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).

أى : لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بأن عصمها بالإسلام إلا بالحق الذي يبيح قتلها شرعا كردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم.

قال ابن كثير : وهذا مما نص ـ تبارك وتعالى ـ على النهى عنه تأكيدا ، وإلا فهو داخل في النهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (١).

وقوله (إِلَّا بِالْحَقِ) في محل نصب على الحال من فاعل (تَقْتُلُوا) أى : لا تقتلوها ملتبسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف أى : قتلا ملتبسا بالحق ، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أى : لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق.

وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناه الله فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق ، وبذلك يقرر عصمة الدم الإنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

أى : ذلكم الذي ذكرناه لكم من وصايا جليلة ، وتكاليف حكيمة ، وصاكم الله به ، وطلبه منكم. لعلكم تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح.

فاسم الإشارة (ذلِكُمْ) مشار به إلى الوصايا الخمس السابقة ، وهو مبتدأ وجملة وصاكم به خبر. ولفظ وصاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له ـ تعالى ـ ما يحمل النفوس على الطاعة والاستجابة.

هذه هي الوصايا الخمس التي تضمنتها الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث وكلها تشترك في معنى واحد هو أنها حقائق أو حقوق ثابتة في نفسها ، ولم يكن ثبوتها إلا تجاوبا مع الفطرة ، فالله واحد سواء آمن الناس بهذه الحقيقة عقيديا وعمليا أم لم يؤمنوا ، وشكر النعمة يقتضى الإحسان

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٩٠.

٢١٨

إلى الوالدين طبعا ووضعا ، وللنسل حق الحياة والحفظ ، والفواحش فحش ونكر في ذاتها فيجب أن تجتنب ، والنفوس معصومة فليس لأحد أن يهدمها إلا بحق ، ولاتفاقها كلها في هذا المعنى جاءت في آية واحدة ، وختمت بعبارة تفيد أن هذا مرجعه إلى حكم العقول (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

والوصية السادسة تأتى في مطلع الآية الثانية فتقول : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

أى : لا تقربوا مال اليتيم الذي فقد الأب الحانى ، ولا تتعرضوا لما هو من حقه بوجه من الوجوه إلا بالوجه الذي ينفعه في الحال أو المآل ، كتربيته وتعليمه ، وحفظ ماله واستثماره.

وإذن ، فكل تصرف مع اليتيم أو في ماله لا يقع في تلك الدائرة ـ دائرة الأنفع والأحسن ـ محظور ، ومنهى عنه.

قال بعض العلماء : وكثيرا ما يتعلق النهى في القرآن بالقربان من الشيء ، وضابطه بالاستقراء : أن كل منهى عنه كان من شأنه أن تميل إليه النفوس وتدفع إليه الأهواء النهى فيه عن «القربان» ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل في النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم ، وكان من ذلك في الوصايا السابقة النهى عن الفواحش ، ومن هذا الباب (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ*) و (لا تَقْرَبُوا الزِّنى وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) إلخ.

أما المحرمات التي لم يؤلف ميل النفوس إليها ولا اقتضاء الشهوات لها ، فإن الغالب فيها أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه. ومن ذلك في الوصايا السابقة الشرك بالله ، وقتل الأولاد ، وقتل النفس التي حرم الله قتلها ، فإنها وإن كان الفعل المنهي عنه فيها أشد قبحا وأعظم جرما عند الله من أكل مال اليتيم وفعل الفواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية يميل إليها الإنسان بشهوته ، وإنما هي في نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإنسان في نفسه مرارة من ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها أو في حكم الكاره» (١).

وقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى فإذا بلغ أشده فاقربوه لأن هذا يقتضى إباحة أكل الولي له بعد بلوغ الصبى ، بل هو غاية لما يفهم من النهى كأنه قيل : احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموا إليه ماله.

والخطاب للأولياء والأوصياء. أى : احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغه فادفعوه إليه.

والأشد : قوة الإنسان واشتعال حرارته : من الشدة بمعنى القوة والارتفاع. يقال : شد النهار إذا ارتفع. وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. ولا واحد له.

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٤٤١ لفضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت.

٢١٩

والوصية السابعة : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

أى : أتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون.

فالجملة الكريمة أمر من الله ـ تعالى ـ لعباده بإقامة العدل في التعامل : بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ولا بخس ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة.

والكيل والوزن : مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن ، كالعيش بمعنى ما يعاش به. وبالقسط حال من فاعل أوفوا أى : أوفوهما مقسطين أى : متلبسين بالقسط. ويجوز أن يكون حالا من المفعول أى : أوفوا الكيل والميزان بالقسط أى : تامّين.

وهذه الوصية هي مبدأ العدل والتعادل ، وكل مجتمع محتاج إليها ، فالناس لا بد لهم من التعامل ، ولا بد لهم من التبادل ، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك ، فلا بد من أن يكونا منضبطين بالقسط.

والمجتمعات الأمينة التي لا تجد فيها أحدا يغبن عن جهل أو غفلة ، وهي أيضا المجتمعات الأمينة التي لا تجد فيها من يحاول أن يأخذ أكثر من حقه. أو يعطى أقل مما يجب عليه.

وقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أى : لا نكلف نفسا إلا ما يسعها ولا يعسر عليها.

والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، للترخيص فيما خرج عن الطاقة ، ولبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج وذلك لأن التبادل التجارى لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة أو التعادل ، فلا بد من تقبل اليسير من الغبن في هذا الجانب أو ذاك.

والوصية الثامنة تقول : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى).

أى : وإذا قلتم قولا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو عليه صاحب قرابة منكم.

إذ العدل هو أساس الحكم السليم : العدل في القول ، والعدل في الحكم ، والعدل في كل فعل.

وإنما خصصت الآية العدل في القول مع أن العدل مطلوب في الأقوال والأفعال وفي كل شيء ، لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال كالشهادة ، والحكم ، ثم الأقوال هي التي تراود النفوس في كل حال. فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية يحدث نفسه في شأنها ، ويراوده معنى العدل وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده ، فيقول في نفسه سأفعل كذا لأنه العدل ، فإذا لم يكن صادقا في هذا القول فقد جافى العدل وقال زورا وكذبا.

٢٢٠