التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما ، كقوله : «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، وإنما يخرجان من أحدهما وهو الماء الملح دون العذب.

قال أبو السعود : والمعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم : لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من الإنس خاصة ، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما ذاتا ، واتحادهما تكليفا وخطابا. كأنهما من جنس واحد ، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر ، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنذروا بما سمعوه. أقوامهم ، إذ حكى القرآن عنهم أنهم (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وأنهم قالوا لهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) (١).

وقال صاحب المنار ، وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعى ، والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس ، لأن الكلام معهم ، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال إن الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه ألا ما ورد به النص. وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله ـ تعالى ـ» (٢).

ثم يحكى القرآن أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا ، ولم يقصروا في تبليغنا وإرشادنا.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، وباعوا آخرتهم بدنياهم. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أى : شهدوا على أنفسهم عند ما وقفوا بين يدي الله للحساب في الآخرة أنهم كانوا كافرين في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما لهم مقرين في هذه الآية ـ على أنفسهم بالكفر ـ جاحدين في قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟ قلت. يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون واخرى يجحدون ، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت :

الأولى : حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون.

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ١٣٧.

(٢) تفسير المنار ج ٨ ص ١٠٧.

١٨١

والثانية : ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة وكانت عاقبة أمرهم إن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، والاستسلام لربهم ، وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم» (١).

هذا ، وإنك لتقرأ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تصور مشهدا من مشاهد يوم القيامة فيخيل إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم ، والضالين والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

ثم يحدثنا القرآن بعد ذلك عن عدالة الله في أحكامه ، وعن سعة غناه ورحمته ، وعن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء مصير الكافرين فيقول :

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١٣٥)

قال الآلوسى : «ذلك» إشارة إلى إتيان الرسل ، أو السؤال المفهوم من (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) ، أو ما قص من أمرهم ، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى : الأمر ذلك ، أو مبتدأ خبره مقدر ، أو خبره قوله ـ سبحانه ـ (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٦.

١٨٢

الْقُرى) بخلاف اللام على أن (أَنْ) مصدرية ، أو مخففة من أن وضمير الشأن اسمها.

وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك ، أو فعلنا ذلك.

وفي قوله (بِظُلْمٍ) متعلق بمهلك أى : بسبب ظلم. أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى : ملتبسة بظلم ...» (١).

والمعنى : ذلك الذي ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله ، سببه أن ربك لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه ، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين ، فربك لا يظلم ، ولا يعذب أحدا وهو غافل لم ينذر قال ـ تعالى ـ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال ـ تعالى ـ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ).

فالآية الكريمة صريحة في أن ـ سبحانه ـ قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتبيين الآيات ، وإلزام الحجة (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الدرجات إنما هي على حسب الأعمال فقال ـ تعالى ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أى : ولكل من المكلفين جنا كانوا أو إنسا درجات أى منازل ومراتب (مِمَّا عَمِلُوا) أى : من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه ، والجزاء ينتظرهم عادلا لا ظلم فيه.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

ثم صرح ـ سبحانه ـ بغناه عن كل عمل وعن كل عامل ، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة ، والقدرة النافذة فقال : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).

أى : وربك يا محمد هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، وهو وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التي شملت جميع خلقه.

والجملة الكريمة تفيد الحصر. وقوله : وربك مبتدأ ، والغنى خبره ، وقوله (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر بعد خبر. وجوز أن يكون هو الخبر و «الغنى» صفة لربك.

وفي هذه الجملة تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره ، ليس لنفعه ـ سبحانه ـ ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٨٨.

١٨٣

بل لترحمه على العباد ، وتمهيد لقوله بعد ذلك. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أى : أنه ـ سبحانه ـ إن يشأ إذهابكم أيها الناس بالإهلاك لفعل ذلك فهو قدير على كل شيء وعلى أن ينشئ بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق الذين يعملون بطاعته ، ولا يكونون أمثالكم.

والكاف في قوله : (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) في موضع نصب والمعنى : إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. ونظيره قوله ـ تعالى ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

أى : «إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب ، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه ، وما أنتم بمعجزين ، أى : بجاعليه عاجزا عنكم ، غير قادر على إدراككم. من أعجزه بمعنى جعله عاجزا. أو : بفائتين العذاب ، من أعجزه الأمر. إذا فاته. أى لا مهرب لكم من عذابنا بل هو مدرككم لا محالة.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينفض يده من هؤلاء المشركين ، وإن يتركهم لأنفسهم. وأن ينذرهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم فقال ـ تعالى ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

أى : قل يا محمد لهؤلاء المصرين على كفرهم اعملوا على غاية تمكنكم من أمركم ، وأقصى استطاعتكم. مصدر مكن ـ ككرم ـ مكانة ، إذا تمكن أبلغ التمكن وأقواه ، أو المعنى اعملوا على جهتكم واثبتوا على كفركم وحالتكم التي أنتم عليها من قولهم. مكان ومكانة كمقام ومقامة.

قال الزمخشري : يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة : مكانك يا فلان أى : أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.

والأمر للتهديد والوعيد ، وإظهار ما هو عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاية التصلب في الدين ، ونهاية الوثوق بأمره ، وعدم المبالاة بأعدائه أصلا.

وقوله (إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أى : إنى عامل على مكانتى ، ثابت على الإسلام لا أتزحزح عن الدعوة إليه ، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدنيا.

وقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بجانب إفادته للإنذار ، فيه إنصاف في المقال ، وحسن أدب في

١٨٤

الخطاب ، حيث لم يقل ـ مثلا ـ العاقبة لنا ، وإنما فوض الأمر إلى الله ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه على الحق.

قال الجمل ـ وسوف لتأكيد مضمون الجملة ، وهذه الجملة. تعليل لما قبلها والعلم عرفان ، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وخبرها جملة تكون ، وهي مع خبرها في محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون. أى : فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها ، ويجوز أن تكون موصولة فيكون محلها النصب على أنها مفعول لتعلمون. أى : فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار» (١).

ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أى : لن يظفروا بمطلوبهم بسبب ظلمهم ، وقيل المراد بالظلم هنا الكفر ، ووضع الظلم موضع الكفر ، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد كان من أفراد الظلم ، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده.

قال ابن كثير ، وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمكن له في البلاد ، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب. ، وكل ذلك في حياته ، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته. قال ـ تعالى ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٢).

ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن أوهام المشركين وجهالاتهم التي تتعلق بمآكلهم ، ومشاربهم ، ونذورهم ، وذبائحهم ، وعاداتهم البالية ، وتقاليدهم الموروثة ، فتناقشهم في كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة ، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وترشدهم إلى الطريق السليم الذي من الواجب عليهم أن يسلكوه. استمع إلى سورة الأنعام وهي تحكى كل ذلك في بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٩٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٩.

١٨٥

وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٤٠)

لقد حكت هذه الآيات الكريمة بعض الرذائل التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلى ، أما الرذيلة الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا لله ونصيبا لأوثانهم ، فيشركونها في أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين ، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه بما للأوثان ، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها.

١٨٦

استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً).

«ذرأ» بمعنى خلق يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا أى : خلقهم وأوجدهم وقيل : الذرأ الخلق على وجه الاختراع.

أى : وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله ـ تعالى ـ من الزروع والأنعام نصيبا لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم ، وجعلوا لأصنامهم نصيبا آخر يقدمونه لسدنتها ، وإنما لم يذكر النصيب الذي جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا).

أى : فقالوا في القسم الأول : هذا لله نتقرب به إليه.

وقالوا في الثاني : وهذا لشركائنا نتوسل به إليها.

وقوله ـ تعالى ـ في القسم الأول (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) أى : بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى.

قال الجمل : ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب ، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله ، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم (١).

وقال أبو السعود : وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه في الحقيقة جعل لله ـ تعالى ـ غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله ـ لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني ، ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه ـ تعالى ـ به (٢).

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ).

أى : فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذي يتقرب به إلى شركائهم ، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شيء ، وما كان منها من القسم الذي يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة ، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٩٣.

(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ١٩٣.

١٨٧

فهم يجعلون قسم الأصنام لسدنتها وأتباعها وحدهم ، بينما القسم الذي جعلوه لله بزعمهم ينتقصونه ويضعون الكثير منه في غير موضعه ، ويقولون : إن الله غنى وإن آلهتنا محتاجة.

وقد عقب القرآن على هذه القسمة الجائرة بقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أى : ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شيء ، على خالق قادر على كل شيء ، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا في القسمة.

هذه هي الرذيلة الأولى من رذائلهم ، أما الرذيلة الثانية فهي أن كثيرا منهم كانوا يقتلون أولادهم ، ويئدون بناتهم لأسباب لا تمت إلى العقل السليم بصلة وقد حكى القرآن ذلك في قوله.

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ).

أى : ومثل ذلك التزيين في قسمة الزروع والأنعام بين الله والأوثان ، زين للمشركين شركاؤهم من الشياطين أو السدنة قتل بناتهم خشية العار أو الفقر فأطاعوهم فيما أمروهم به من المعاصي والآثام.

والتزيين : التحسين ، فمعنى تزيينهم لهم أنهم حسنوا لهم هذه الأفعال القبيحة ، وحضوهم على فعلها.

سموا شركاء لأنهم أطاعوهم فيما امروهم به من قتل الأولاد ، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم ، أو سموا شركاء لأنهم كانوا يشاركون الكفار في أموالهم التي منها الحرث والأنعام.

و (شُرَكاؤُهُمْ) فاعل (زَيَّنَ) وأخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم واهتماما به ، لأنه موضع التعجب.

وقوله : (لِيُرْدُوهُمْ) أى ليهلكوهم ؛ من الردى وهو الهلاك. يقال ردى ـ كرضى ـ أى : هلك.

وقوله : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) معطوف على ليردوهم ، أى : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ حتى زالوا عنه إلى الشرك.

ويلبسوا مأخوذ من اللبس بمعنى الخلط بين الأشياء التي يشبه بعضها بعضا وأصله الستر بالثوب ، ومنه اللباس ، ويستعمل في المعاني فيقال : لبس الحق بالباطل يلبسه ستره به. ولبست عليه الأمر. خلطته عليه وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته ، فأنت ترى أن شركاءهم قد حسنوا لهم القبيح من أجل أمرين : إهلاكهم وإدخال الشبهة عليهم في دينهم عن طريق

١٨٨

التخليط والتلبيس. ثم سلى الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهدد أعداءه فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).

أى : ولو شاء الله ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بسبب ما يفعلونه ، بل دعهم وما يفترونه من الكذب ، فإنهم لسوء استعدادهم آثروا الضلالة على الهداية.

والفاء في قوله (فَذَرْهُمْ) فصيحة أى : إذا كان ما قصصناه عليك بمشيئة الله ، فدعهم وافتراءهم ولا تبال بهم ، فإن فيما يشاؤه الله حكما بالغة.

ثم حكى القرآن رذيلة ثالثة من رذائلهم المتعددة ، وهي أن أوهام الجاهلية وضلالاتها ساقتهم إلى عزل قسم من أموالهم لتكون حكرا على آلهتهم بحيث لا ينتفع بها أحد سوى سدنتها ، ثم عمدوا إلى قسم من الأنعام فحرموا ركوبها وعمدوا إلى قسم آخر فحرموا أن يذكر اسم الله عليها عند ذبحها أو ركوبها إلى آخر تلك الأوهام المفتراة.

استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ).

حجر : بمعنى المحجور أى : الممنوع من التصرف فيه ، ومنه قيل للعقل حجر لكون الإنسان في منع منه مما تدعوه إليه نفسه من اثام.

أى : ومن بين أوهام المشركين وضلالاتهم أنهم يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها ويقولون : هذه الأنعام وتلك الزروع محجورة علينا أى : محرمة ممنوعة ، لا يأكل منها إلا من نشاء ، يعنون : خدم الأوثان والرجال دون النساء أى : لا يأكل منها إلا خدم الأوثان والرجال فقط.

وقوله : (بِزَعْمِهِمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالوا. أى : قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.

وقوله : (وَقالُوا هذِهِ) الإشارة إلى ما جعلوه لآلهتم ، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله : (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) وقوله (حِجْرٌ) صفة لأنعام وحرث ، وقوله (لا يَطْعَمُها) صفة ثانية لأنعام وحرث.

هذا هو النوع الأول الذي ذكرته الآية من أنواع ضلالاتهم.

أما النوع الثاني فهو قوله ـ تعالى ـ (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أى : وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم : هذه أنعام حرمت ظهورها فلا تركب ولا يحمل عليها ، يعنون بها

١٨٩

البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (١) التي كانوا يزعمون أنها تعتق وتقصى لأجل الآلهة. فقوله (وَأَنْعامٌ) خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله (هذِهِ أَنْعامٌ).

وأما النوع الثالث من أنواع اختراعاتهم الذي ذكرته الآية فهو قوله : (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا).

أى : وقالوا أيضا هذه أنعام لا يذكر اسم الله عليها عند الذبح ، وإنما يذكر عليها أسماء الأصنام لأنها ذبحت من أجلها.

وقد عقب ـ سبحانه ـ على تلك الأقسام الثلاثة الباطلة بقوله : (افْتِراءً عَلَيْهِ) أى فعلوا ما فعلوا من هذه الأباطيل وقالوا ما قالوا من تلك المزاعم من أجل الافتراء على الله وعلى دينه ، فإنه ـ سبحانه ـ لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم.

ثم ختمت الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال : ـ سبحانه ـ (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أى : سيجزيهم الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء القبيح.

ثم يحكى القرآن الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها : أنهم زعموا أن الأجنة التي في بطون هذه الأنعام المحرمة ، ما ولد منها حيا فهو حلال للرجال ومحرم على النساء ، وما ولد ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء.

استمع إلى القرآن وهو يفضح زعمهم هذا فيقول : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) ومرادهم بما في بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب.

أى : ومن فنون كفرهم أنهم قالوا ما في بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حيا فأكله حلال للرجال دون والنساء ، وإذا نزل ميتا فأكله حلال للرجال والنساء على السواء.

وفي رواية العوفى عن ابن عباس أن المراد بما في بطونها اللبن ، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.

قال بعضهم : «ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله «خالصة» فيه وجوه :

__________________

(١) البحيرة : الناقة التي تلد خمسة أبطن آخرها ذكر كانوا يشقون أذنها ويتركونها لآلهتهم والسائبة : اسم للناقة التي يتركها صاحبها فلا تنحر لأنها نجت في الحرب أو نذرها للأصنام.

والوصيلة : اسم للناقة التي تلد أول ما تلد أنثى ثم تثنى بأنثى كانوا يتركونها للأصنام والحام : اسم للفحل إذا لقح ولد ولده قالوا حمى ظهره فلا يركب ويترك حتى يموت.

١٩٠

أحدها : أن التاء قيد للمبالغة في الوصف كراوية وداهية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر.

وثانيا : أن المبتدأ وهو (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) مذكر اللفظ مؤنث المعنى ، لأن المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى.

وثالثها : أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة.

ورابعها : أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ (لِذُكُورِنا) (١).

وقوله : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تهديد لهم أى : سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله في أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم والتهجم بالباطل على شرعه. إنه ـ سبحانه ـ حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه ، عليم بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها.

قال الآلوسى : ونصب (وَصْفَهُمْ) ـ على ما ذهب إليه الزجاج ـ لوقوعه موقع مصدر (سَيَجْزِيهِمْ) فالكلام على تقدير مضاف. أى : جزاء وصفهم. وقيل : التقدير. سيجزيهم العقاب بوصفهم أى : بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم.

ثم قال : وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون ، كلامه يصف الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر ، أى ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق. مبالغة ، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له» (٢).

وإلى هنا تكون الآيات الأربعة التي بدأت بقوله ـ تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) .. إلخ. قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين وأقوالهم.

وإن العاقل ليعجب وهو يستعرض هذه الضلالات ـ التي حكتها الآيات. يعجب لما تحملوه في سبيل ضلالاتهم من أعباء مادية وخسائر وتضحيات ، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها ، وعلى التقيد بأغلالها ، وأوهامها ، وتبعاتها.

لكأن القرآن وهو يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها في سبيلها يقول لأتباعه ـ من بين ما يقول ـ إذا كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بفلذات أكبادهم إرضاء

__________________

(١) تفسير المنار ج ٨ ص ١٢٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢٦.

١٩١

لشركائهم. فأولى بكم ثم أولى أن تضحوا في سبيل عقيدتكم الصحيحة ، وملتكم الحنيفة السمحاء بالأنفس والأموال.

هذا وقد عقب القرآن بعد إيراده لتلك الرذائل بقوله.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ).

قال الإمام ابن كثير : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم ، وضيقوا على أنفسهم في أموالهم ، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم. وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم» (١).

والتعبير بخسر بدون ذكر مفعول معين يقع عليه الفعل للإشارة إلى أن خسارتهم خسارة مطلقة من أى تحديد ، فهي خسارة دينية وخسارة دنيوية ـ كما قال ابن كثير.

وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد. أى : فعلوا ذلك كثيرا ، إذ التضعيف يفيد التكثير.

و (سَفَهاً) منصوب على أنه علة لقتلوا أى : لخفة عقولهم وجهلهم قتلوا أولادهم. أو منصوب على أنه حال من الفاعل في قتلوا وهو ضمير الجماعة.

والسفه : خفة في النفس لنقصان العقل في أمور الدنيا أو الدين.

وقوله (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) أى من البحائر والسوائب ونحوهما ، وهو معطوف على (قَتَلُوا).

ثم بين ـ سبحانه ـ نتيجة ذلك القتل والتحريم فقال : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أى : قد ضلوا عن الصراط المستقيم بأقوالهم وأفعالهم القبيحة وما كانوا مهتدين إلى الحق والصواب.

قال الشهاب ، وفي قوله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) بعد قوله (قَدْ ضَلُّوا) مبالغة في نفى الهداية عنهم ، لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال ، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض» (٢).

روى البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨١.

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٥٢٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨١.

١٩٢

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه هو الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت له فقال ـ تعالى ـ :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤)

١٩٣

قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ).

أنشأ : أى أوجد وخلق. والجنات : البساتين والكروم الملتفة الأشجار.

ومعروشات : أصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا من بابى ـ ضرب ونصر ـ ، وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف. فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك. قال ابن عباس : المعروشات. ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك. وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر.

وقيل المعروشات وغير المعروشات كلاهما في الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا.

وقيل المعروشات ما غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات. هو ما أنبته الله في البراري والجبال من كرم وشجر.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التي منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع.

وقوله : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ، والمراد بالزرع جميع الحبوب التي يقتات بها.

وإنما أفردهما مع أنهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات.

و (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أى ، ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة.

والضمير في أكله راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف المأكول في كل منهما في الهيئة والطعم.

قال الجمل : وجملة. (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائدا له غدا».

وقوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم أو متشابها بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة «وغير متشابه في بعضها.

قال القرطبي : وفيه أدلة ثلاثة.

أحدها : ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير.

١٩٤

الثاني : على المنة منه ـ سبحانه ـ علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شيء.

الثالث : على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأسسها ، هل هي في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب. كلا ، لا يتم ذلك في العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية.

ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب. وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم» (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التي أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك. والأمر للإباحة. وفائدة التقييد بقوله (إِذا أَثْمَرَ) إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك.

وقيل فائدته : الترخيص للمالك في الأكل من قبل أداء حق الله ـ تعالى ـ لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شيء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل.

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أى : كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده.

ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير.

وأصحاب هذا الرأى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة.

وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٩٩.

١٩٥

ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية.

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات ، وفي الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة في العزم على المبادرة إليه.

والمعنى : اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.

وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله.

ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). أى لا تسرفوا في أكلكم قبل الحصاد ولا في صدقاتكم ولا في أى شأن من شئونكم ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يحب المسرفين.

وقال ابن جريج ، نزلت في ثابت بن قيس ، قطع نخلا له فقال. لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية.

وقال عطاء ، نهوا عن السرف في كل شيء.

وقال إياس بن معاوية ، ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال الأنعام. وأبطل ما تقولوه عليه في شأنها بالتحريم والتحليل فقال. (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً).

الحمولة ، هي الأنعام الكبار الصالحة للحمل. والفرش هي صغارها الدانية من الأرض ، مثل الفرش المفروش عليها.

وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش.

أى : وأنشأ لكم ـ سبحانه ـ من الأنعام حمولة وهي ما تحملون عليه أثقالكم ، كما أنشأ لكم منها فرشا وهي صغارها التي تفرش للذبائح من الضأن والمعز والإبل والبقر.

والجملة معطوفة على جنات. والجهة الجامعة بينهما إباحة الانتفاع بهما.

وقوله (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

أى : كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها ، وانتفعوا منها بسائر أنواع

١٩٦

الانتفاع المشروعة ، ولا تتبعوا وساوس الشيطان وطرقه في التحريم والتحليل كما اتبعها أهل الجاهلية ، إذ حرموا ما رزقهم الله افتراء عليه ، إن الشيطان عداوته ، ظاهرة واضحة لكم ، فهو يمنعكم مما يحفظ روحكم ، ويطهر قلوبكم ، فالجملة الكريمة (إِنَّهُ لَكُمْ) تعليل للنهى عن اتباع خطوات الشيطان.

ثم بين القرآن بعد ذلك بعض ما كان عليه الجاهليون من جهالات ، وناقشهم فيما أحلوه وحرموه مناقشة منطقية حكيمة فقال :

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).

وقوله ـ سبحانه ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدل من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على الراجح ، وقيل أن لفظ ثمانية منصوب بفعل مضمر أى : وأنشأ لكم ثمانية أزواج ، أو هو مفعول به لفعل (كُلُوا) وقوله (وَلا تَتَّبِعُوا) ... إلخ» معترض بينهما.

والزوج يطلق على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل ، وكذا يطلق على الاثنين فهو مشترك والمراد هنا الإطلاق الأول.

والمعنى : ثمانية أصناف خلقها الله لكم ، لتنتفعوا بها أكلا وركوبا وحملا وحلبا وغير ذلك.

ثم فصل الله ـ تعالى ـ هذه الأزواج الثمانية فقال : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) أى. من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة ، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) أى. ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبكتهم على جهلهم فقال (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ).

أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ وإلزامهم الحجة. أحرم الله الذكرين وحدهما من الضأن والمعز أم الأنثيين وحدهما ، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكورا أم إناثا؟

وقوله : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى : أخبرونى بأمر معلوم من جهته ـ تعالى ـ جاءت به الأنبياء ، يدل على أنه ـ سبحانه ـ قد حرم شيئا مما حرمتموه إن كنتم صادقين في دعوى التحريم.

والأمر هنا للتعجيز لأنهم لا دليل عندهم من العقل أو النقل على صحة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض.

وقوله ـ تعالى ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) عطف على قوله (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) أى : وأنشأ لكم

١٩٧

من الإبل اثنين هما الجمل والناقة (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) هما الثور وأنثاه البقرة.

(قُلْ) إفحاما في أمر هذين النوعين أيضا (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الله ـ تعالى ـ منهما ، (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من ذينك النوعين؟

قال الآلوسى : والمعنى ـ كما قال كثير من أجلة العلماء : إنكار ان الله ـ تعالى ـ حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة ، وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم ، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة ، وإناثها تارة. وأولادها كيفما كانت تارة أخرى ، مسندين ذلك كله إلى الله ـ سبحانه ـ.

ثم قال : وإنما لم يل المنكر ـ وهو التحريم ـ الهمزة ، والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.

وبيانه ـ على ما قاله السكاكي ـ أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة ، فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني. كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد تم ، وطالبه ببيان محله كي يتبين كذبه ، ويفتضح عند الحاجة.

وإنما لم يورد ـ سبحانه ـ الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة ، بأن يقال : قلءآلذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث ، لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) تكرير للإفحام والتبكيت.

أى : أكنتم حاضرين حين وصاكم الله وأمركم بهذا التحريم؟ لا ، ما كنتم حاضرين فمن أين لكم هذه الأحكام الفاسدة؟.

فالجملة الكريمة تبكتهم غاية التبكيت على جهالاتهم وافترائهم الكذب على الله ، والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) للنفي والإنكار.

أى : لا أحد أشد ظلما من هؤلاء المشركين الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم إليه ـ سبحانه ـ تحريم ما لم يحرمه لكي يضلوا الناس عن الطريق القويم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٤١.

١٩٨

وقوله ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى ، أى : افترى عليه ـ تعالى ـ جاهلا بصدور التحريم.

وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفترى عالم بعدم الصدور ، إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات ، لأنه إذا كان المفترى بغير علم يعد ظالما فكيف بمن يفترى الكذب وهو عالم بذلك.

ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى لا يهديهم إلى طريق الحق بسبب ظلمهم ، وإيثارهم طريق الغي على طريق الرشد.

هذا ، والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين يراهما قد ردتا على المشركين بأسلوب له ـ مع سهولته وتأثيره ـ الطابع المنطقي الذي يزيد المؤمنين إيمانا بصحة هذا الدين ، وصدق هذا القرآن ، ويقطع على المعارضين والملحدين كل حجة وطريق.

وتقرير ذلك ـ كما قال بعض العلماء ـ أن تطبق قاعدة (السير والتقسيم) فيقال ، إن الله ـ تعالى ـ خلق من كل صنف من المذكورات نوعين : ذكرا وأنثى ، وأنتم أيها المشركون حرمتم بعض هذه الأنعام ، فلا يخلو الأمر في هذا التحريم من :

١ ـ أن يكون تحريما معللا بعلة.

٢ ـ أو أن يكون تحريما تعبديا ملقى من الله ـ تعالى ـ.

ولا جائز أن يكون تحريما معللا ، لأن العلة إن كانت هي (الذكورة) فأنتم أبحتم بعض الذكور وحرمتم بعضا ، فلم تجعلوا الأمر في الذكورة مطردا وإن كانت العلة هي (الأنوثة) فكذلك الأمر : حيث حرمتم بعض الإناث وحللتم بعضا ، فلم تطرد العلة ، ومثل هذا يقال إذا جعلت العلة هي اشتمال الرحم من الأنثى على النوعين ، لأنها حينئذ تقتضي أن يكون الكل حراما فلما ذا أحلوا بعضه.

وهذا كله يؤخذ من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ).

فبطل إذن أن يكون التحريم معللا.

ولا جائز أن يكون التحريم تعبديا لا يدرى له علة ، أى : مأخوذ عن الله ، لأن الأخذ عن الله إما بشهادة توصيته بذلك وسماع حكمه به ، وقد أنكر هذا عليهم بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) وإما أن يكون برسول أبلغهم ذلك ، وهم لم يأتهم رسول بذلك ، وفي هذا يقول ـ جل شأنه متحديا لهم (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

١٩٩

وإذن فما قالوه من التحريم إنما هو افتراء وضلال» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم ، وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء محض ـ بعد كل ذلك أمره بأن يبين لهم ما حرمه الله عليهم فقال :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧)

أى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب في أمر التحليل والتحريم وغيرهما (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ).

أى : لا أجد فيما أوحاه الله إلى من القرآن طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله من ذكر أو أنثى ردا على قولهم (مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا).

والجملة الكريمة تفيد أن طريق التحريم والتحليل إنما هو الوحى وليس مجرد الهوى والتشهى ، وأن الأصل في الأشياء الحل إلا أن يرد نص بالتحريم.

__________________

(١) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص ٨٣ لفضيلة الأستاذ محمد المدني.

٢٠٠