التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧)

روى أن مشركي مكة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل بيننا حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزل قوله ـ تعالى ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) الآية (١).

وقوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) كلام مستأنف على إرادة القول ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام.

والحكم ـ بفتحتين ـ هو من يتحاكم إليه الناس ويرضون بحكمه ، وقالوا : إنه أبلغ من الحاكم «وأدل على الرسوخ ، كما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ، أأميل إلى زخارف الشياطين ، فأطلب معبودا سوى الله ـ تعالى ـ ليحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق منها من المبطل.

وأسند صلى‌الله‌عليه‌وسلم الابتغاء لنفسه لا إلى المشركين ، لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم : اجعل بيننا وبينك حكما.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٨.

١٦١

وغير مفعول لأبتغى و (حَكَماً) إما أن يكون حالا لغير أو تمييزا له. وجملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) حالية مؤكدة للإنكار أى : أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ، والحال أنه ـ سبحانه ـ هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، أى مبينا فيه الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والخير والشر ، وغير ذلك من الأحكام التي أنتم في حاجة إليها في دينكم ودنياكم ، وأسند الإنزال إليهم لاستمالتهم نحو المنزل واستدعائهم إلى قبول حكمه ، لأن من نزل الشيء من أجله ، من الواجب عليه أن يتقبل حكمه.

ثم ساق ـ سبحانه ـ دليلا آخر على أن القرآن حق فقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ).

أى : والذين آتيناهم الكتاب أى التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن منزل عليك من ربك بالحق. لأنهم يجدون في كتبهم البشارات التي تبشر بك ، ولأن هذا القرآن الذي أنزله الله عليك مصدق لكتبهم ومهيمن عليها.

فهذه الجملة الكريمة تقرير لكون القرآن منزلا من عند الله ، لأن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته وأنه منزل من عند الله.

وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أى : فلا تكونن من الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق ، لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك مرده إلى الحسد والجحود ، وهذا النهى إنما هو زيادة في التوكيد ، وتثبيت لليقين ، كي لا يجول في خاطره طائف من التردد في هذا اليقين.

قال ابن كثير : وهذا كقوله ـ تعالى ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) قال : وهذا شرط ، والشرط لا يقتضى وقوعه ، ولهذا جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أشك ولا أسأل» (١).

وقيل : الخطاب لكل من يتأتى له الخطاب على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه فلا ينبغي أن يشك في ذلك أحد.

وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود أمته ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاشاه من الشك.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا الكتاب كامل من حيث ذاته بعد أن بين كماله من حيث إضافته إليه ـ تعالى ـ بكونه منزلا منه بالحق فقال ـ تعالى ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) وقرئ (كلمات ربك).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٧.

١٦٢

والمراد بها ـ كما قال قتادة وغيره ـ القرآن.

أى : كمل كلامه ـ تعالى ـ وهو القرآن ، وبلغ الغاية في صدق أخباره ومواعيده ، وفي عدل أحكامه وقضاياه.

وصدقا وعدلا مصدران منصوبان على الحال من (رَبِّكَ) أو من (كَلِمَةُ) وقيل : هما منصوبان على التمييز.

وجملة (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) مستأنفة لبيان فضل هذه الكلمات على غيرها أثر بيان فضلها في ذاتها. أى : لا مغير لها بخلف في الأخبار ، أو نقض في الأحكام ، أو تحريف أو تبديل كما حدث في التوراة والإنجيل ، وهذا ضمان من الله ـ تعالى ـ لكتابه بالحفظ والصيانة ، قال ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ثم ختمت الآية بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أى : هو ـ سبحانه ـ السميع لكل ما من شأنه أن يسمع ، العليم بكل ما يسرون وما يعلنون.

وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة على وحدانيته وصدق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتبع ذلك بنهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات إلى جهالات أعدائه فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

أى : وإن تطع أكثر من في الأرض من الناس الذين استحبوا العمى على الهدى يضلوك عن الطريق المستقيم ، وعن الدين القويم الذي شرعه الله لعباده ، لأن هؤلاء المجادلين ما يتبعون في جدالهم وعقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي تزينه لهم أهواؤهم ، وما هم إلا يخرصون أى : يكذبون.

وأصل الخرص : القول بالظن. يقال : خرصت النخل خرصا ـ من باب قتل ـ حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين. واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص في قوله ـ كنصر ـ أى : كذب.

قال صاحب المنار : «وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ظاهر بما بيّنه به من اتباع الظن والخرص ولا سيما في ذلك العصر ـ تؤيده تواريخ الأمم كلها ، فقد اتفقت على أن أهل الكتاب كانوا قد تركوا هداية أنبيائهم وضلوا ضلالا بعيدا ، وكذلك أمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية رسلهم وهذا من أعلام نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أمى لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا شيئا يسيرا من شئون المجاورين لبلاد العرب خاصة» (١).

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ ص ١٦.

١٦٣

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تقرير للآية السابقة ، وتأكيد لما يفيده مضمونها ، أى : إن ربك الذي لا تخفى عليه خافية هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن طريق الحق وهو أعلم منك ومن سائر الخلق ـ أيضا ـ بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم ، فعليك ـ أيها العاقل ـ أن تكون من فريق المهتدين لتسعد كما سعدوا واحذر أن تركن إلى فريق الضالين ، فتشقى كما شقوا.

وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد قررت أن الله وحده هو الحكم العدل ، وأن كتابه هو المهيمن على الكتب السابقة ، وأن أهل الكتاب يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، وأنه ـ سبحانه ـ قد تكفل بحفظ كتابه من التغيير والتبديل ، وأن الطبيعة الغالبة في البشر هي اتباع الظنون والأهواء ، لأن طلب الحق متعب ، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث والتمحيص ، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين في أحكامهم ، والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده.

وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة على وحدانيته وكمال قدرته. وسعة علمه ورد على الشبهات التي أثارها المشركون حول الدعوة الإسلامية بما يخرس ألسنتهم. وأثبت ـ سبحانه ـ أنه هو الحكم الحق ، وأن كتابه هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ، وأن أكثر أهل الأرض يتبعون الظن في أحكامهم. بعد كل ذلك انتقل القرآن إلى الكلام في مسألة كثر فيها الجدل بين المسلمين والمشركين ، وهي مسألة الذبائح ما ذكر عليه اسم الله منها وما لم يذكر فقال ـ تعالى ـ :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى

١٦٤

أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢)

روى أبو داود بسنده عن ابن عباس قال : أتى ناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله ـ فأنزل الله ـ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). إلى قوله (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١).

وذكر الواحدي أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال الله قتلها. قالوا. فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر أو الكلاب حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الآية : (٢).

والخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين الذين ضايقهم جدال المشركين لهم في شأن الذبائح.

والمعنى كلوا أيها المؤمنون مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه واتركوا ما ذكر عليه اسم غيره كالأوثان أو ما ذبح على النصب ، أو ما ذكر اسم مع اسمه ـ تعالى ـ أو ما مات حتف أنفه ، ولا تضرنكم مخالفتكم للمشركين في ذلك فإنهم ما يتبعون في عقائدهم ومآكلهم وأعمالهم إلا تقاليد الجاهلية وأوهامها التي لا ترتكز على شيء من الحق.

والفاء في قوله : (فَكُلُوا) يرى الزمخشري أنها جواب لشرط مقدر والتقدير : إن كنتم محقين في الإيمان فكلوا ، ويرى غيره أنها معطوفة على محذوف والتقدير «كونوا على الهدى فكلوا».

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أى : إن كنتم بآياته التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن مؤمنين ، فإن الإيمان بها يقتضى استباحة ما أحله سبحانه واجتناب ما حرمه.

ثم أنكر ـ سبحانه ـ عليهم ترددهم في أكل ما أحله الله من طعام لأنهم لم يتعودوه قبل ذلك فقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الأضاحى ـ باب ذبائح أهل الكتاب. حديث رقم ٢٨١ طبعة فؤاد عبد الباقي.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٢.

١٦٥

أى : أى مانع يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأى فائدة تعود عليكم من ذلك؟ فالاستفهام لإنكار أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى اجتناب الأكل من الذبائح التي ذكر اسم الله عليها سواء أكانت تلك الذبائح من البحائر أو السوائب أو غيرها مما حرمه المشركون على أنفسهم بدون علم.

وقوله (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) جملة حالية مؤكدة للإنكار السابق أى والحال أن الله ـ تعالى ـ قد فصل لكم على لسان رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حرمه عليكم من المطعومات ، وبين لكم ذلك في كتابه كما في قوله ـ تعالى ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إذا فمن الواجب عليكم أيها المسلمون أن تأكلوا وأنتم مطمئنون من جميع المطاعم التي أحلها الله لكم وذكر اسمه عليها ولو خالفتم في ذلك المشركين وأن تتجنبوا أكل ما حرمه الله عليكم ولو كان مما يستبيحه المشركون.

وقوله (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) استثناء مما حرم الله عليهم أكله.

أى : إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات بسبب شدة الجوع ففي هذه الحالة يباح لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات ما يحفظ عليكم حياتكم. هذا هو حكم الله الذي يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فعليكم أن تتبعوه ، وألا تلقوا بالا إلى أوهام المتخرصين وأصحاب الظنون الباطلة.

ثم نعى على المشركين جهالاتهم فقال (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

قرأ الجمهور «ليضلون» بضم الياء ، والمعنى عليه : وإن كثيرا من الكفار ليضلون غيرهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام بسبب أهوائهم الزائفة وشهواتهم الباطلة ، دون أن يكون عندهم أى علم مقتبس من وحى الله ومستنبط من عقل سليم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلون» بفتح الياء ، والمعنى عليه : وإن كثيرا من الكفار لينحرفون عن الحق ويقعون في الضلال بسبب اتباعهم لأهوائهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

وقراءة الجمهور أبلغ في الذم لأنها تتضمن قبح فعلهم حيث ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف وقع حالا أى : يضلون مصاحبين للجهل.

١٦٦

وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أى : أعلم منك يا محمد ومن كل مخلوق بالمتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل والحلال والحرام.

ففي الجملة الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام الرازي : وقد دلت هذا الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام ، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة ، والآية دلت على أن ذلك حرام (١).

ثم أمر الله عباده أن يتركوا ما ظهر من الآثام وما استتر فقال :

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أى اتركوا جميع المعاصي ما كان منها سرا وما كان منها علانية ، أو ما كان منها بالجوارح وما كان منها بالقلوب ، لأن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء.

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة المرتكبين للآثام فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أى : إن الذين يعملون المعاصي ويرتكبون القبائح الظاهرة والباطنة لن ينجو من المحاسبة والمؤاخذة بل سيجزون بما يستحقونه من عقوبات بسبب اجتراحهم للسيئات.

وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال ـ تعالى ـ :

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أى : لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه ، بأن ذكر عليه اسم غيره ، أو ذكر اسم مع اسمه ـ تعالى ـ ، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات.

وقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذي لم يذكر اسم الله عليه ، أى : وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذي لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله ـ تعالى ـ وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح ، وفي ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.

ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذي يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ).

أى : وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم في تحليل الميتة وفي غير ذلك من الشبهات الباطلة (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال ما حرمه الله عليكم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

قال ابن كثير : أى : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٢٧.

١٦٧

فهذا هو الشرك ، كقوله ـ تعالى ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) الآية ، وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» (١).

هذا ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال.

فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التي يترك ذكر اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا ، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبي ومحمد بن سيرين ، وداود الظاهري وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.

واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التي وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق ، كما احتجوا بقوله ـ تعالى ـ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) وبالأحاديث التي وردت في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» (٢).

وحديث رافع بن خديج وفيه «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» (٣)

أما القول الثاني فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هي مستحبة ، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر ، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.

وحجتهم أن هذه الآية (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم.

واحتجوا أيضا بما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال : «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» (٤).

أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر ، أما عمدا فلا تحل الذبيحة ، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧١.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد ، حديث رقم ١٤١ طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد».

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٩.

١٦٨

واحتجوا لمذهبهم بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١).

ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب ، لأن المتعمد هو الذي يؤاخذ على عمله أما الناسي فليس مؤاخذا.

وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء (٢).

ثم ضرب الله مثلا لحال المؤمن والكافر فقال :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ).

الهمزة للاستفهام الإنكارى ، وهي داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق.

والتقدير : أأنتم أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان ميتا فأعطيناه الحياة وجعلنا له نورا عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.

فالآية الكريمة تمثيل بليغ للمؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة عن طاعتهم قبل ذلك في قوله (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

فمثل المؤمن المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نورا يستضيء به في مصالحه ، ويهتدى به إلى طرقه. ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس في الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان؟.

والمراد بالنور : القرآن أو الإسلام ، والمراد بالظلمات : الكفر والجهالة وعمى البصيرة. فهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).

وقوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : مثل ذلك التزيين الذي تضمنته الآية ـ وهو تزيين نور الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذبح القرابين لغير الله ـ تعالى ـ وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال وغير ذلك من المنكرات.

وجمهور المفسرين يرون أن المثل في الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله وهداه عمر بن الخطاب ، والمراد بمن بقي في الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٠.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٨ وما بعدها وتفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٤ وما بعدها.

١٦٩

فقد أخرج ابن أبى الشيخ أن الآية نزلت فيهما ، وقيل نزلت في عمار بن ياسر وأبى جهل ، وقيل في حمزة وأبى جهل.

والذي نراه أن الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا ، وفي كل من بقي على ضلاله مؤثرا الكفر على الإيمان ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.

ثم سلى الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن المترفين في كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح ، وأن ما لقيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شيء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال ـ تعالى ـ :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦)

أكابر : جمع أكبر ، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون : جمع مجرم ، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا ، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.

والمعنى : وكما جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية

١٧٠

من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.

قال الجمل : وقوله : (أَكابِرَ) مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) المفعول الثاني لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ، فهو على حد قوله :

كذا إذا عاد عليه مضمر

مما به عنه مبينا يخبر

هذا أحسن الأعاريب (١) وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.

وخص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.

قال ابن كثير : والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله ـ تعالى ـ إخبارا عن قوم نوح (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) ، وكقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ* وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) ... الآية (٢). وقوله ـ سبحانه ـ (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).

أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.

فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.

وجملة (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير يمكرون ، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٢ ص ٨٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٣.

١٧١

ثم حكى القرآن لونا من ألوان مكرهم فقال : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

أى : وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله ، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى والرسالة.

روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية».

وقال مقاتل : نزلت في أبى جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية» (١).

وقد رد الله ـ تعالى ـ على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أى : الله ـ سبحانه ـ أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو ـ سبحانه ـ يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها. ويهب نفسه لها ، وينسى في سبيلها ذاته.

قال الإمام الرازي : وقوله ـ تعالى ـ (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أى : أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله ـ تعالى ـ ثم قال : وفي هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات» (٢).

وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.

ولذا قال الإمام الآلوسى : وجملة (اللهُ أَعْلَمُ) ... إلخ. استئناف بيانى ، والمعنى : أن

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٨٦.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٤٢.

١٧٢

منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد ، وتعاضد الأسباب والعدد ، وإنما ينال بفضائل نفسانية ، ونفس قدسية أفاضها الله ـ تعالى ـ بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده» (١).

هذا. وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه ، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ـ عزوجل ـ اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢).

وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله فقال : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).

قال القرطبي ما ملخصه : الصغار : الضيم والذل والهوان. والمصدر الصغر بالتحريك ـ وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل : أصله من الصغر وهو الرضا بالذل. والصاغر : الراضي بالذل. وأرض مصغرة : نبتها صغير لم يطل. ويقال : صغر ـ بالكسر ـ يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر إذا ذل وهان» (٤).

والمعنى : سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله في الدنيا والآخرة ، وبسبب مكرهم المستمر ، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه.

والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله ، والسين للتأكيد.

والعندية في قوله «عند الله» مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه سبحانه ـ وقضائه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢١.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل.

(٣) المسند للإمام أحمد ج ١ ص ٢١٠ طبعة الحلبي.

(٤) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٨٠.

١٧٣

فيهم بذلك ، كقولهم : ثبت عند فلان القاضي كذا أى : في حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا.

قال ابن كثير : ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حال المستعد لهداية الإسلام ، وحال المستعد للضلال فقال :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).

أى : فمن يرد الله أن يهديه للإسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه.

وشرح الصدر : توسعته ، يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.

روى عبد الرازق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره؟ فقال : «نور يقذف فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (٢).

وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.

والحرج : مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج ، أى : ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق ، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال : للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.

وقرئ حرجا ـ بكسر الراء ـ صفة لقوله (ضَيِّقاً).

روى أن جماعة من الصحابة قرءوا أمام عمر ـ رضى الله عنه ـ «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» بكسر الراء فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير» (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٤.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢.

١٧٤

وقوله (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) استئناف ، أو حال من ضمير الوصف ، أو وصف آخر لقلب الضال ، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه. فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة.

أى : كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال. ويصعد أى : يتصعد ، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه.

وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود.

وقوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أى : مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام ، يجعل الله الرجس. أى : العذاب ، أو الخذلان ، أو اللعنة في الدنيا على الذين لا يؤمنون بالإسلام.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن طريق الإسلام هو الطريق الحق المستقيم فقال :

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أى : وهذا البيان الذي جاء به القرآن ، أو سبيل التوحيد ، وإسلام الوجه إلى الله ، هو طريق ربك الواضح المستقيم الذي ارتضاه لعباده ، والذي لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.

و (مُسْتَقِيماً) حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل : هذا أبوك عطوفا ، وقيل حال مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو (ها) التي للتنبيه.

وقوله : (فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أى : جعلناها بينة واضحة مفصلة لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون بها لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.

* * *

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده للمتذكرين فقال :

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ

١٧٥

رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠)

أى : أن هؤلاء المتذكرين المتقين لهم جنة عرضها السموات والأرض في جوار ربهم وكفالته ، وهو ـ سبحانه ـ (وَلِيُّهُمْ) أى : متولى إيصال الخير إليهم ، أو محبهم أو ناصرهم بسبب أعمالهم الصالحة. وسميت الجنة بدار السلام ، لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة من جميع المكاره.

قال الجمل : وقوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في المراد بهذه العندية وجوه :

أحدها : أنها معدة عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

وثانيها : أن هذه العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا بالمكان والجهة لتنزهه ـ تعالى ـ عنهما.

وثالثها : هي كقوله ـ تعالى ـ في صفة الملائكة (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ). وقوله : أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بي» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ).

ففي هذه الآيات عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهي تصور مشاهد المجرمين يوم القيامة.

وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٩٠.

١٧٦

المعشر : الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا أو الذين يربطهم أمر مشترك بينهم والمراد بالجن شياطينهم ومردتهم.

والمعنى : واذكر يا محمد ـ أو أيها العاقل ـ يوم نحشر الضالين والمضلين جميعا من الإنس والجن ، فنقول للمضلين من الجن : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أى : قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإضلالكم إياهم ، أو قد أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم ، وأهل طاعتكم ، ووسوستكم لهم بالمعاصي حتى غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم.

و «يوم» منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر ، أى : اذكر يوم نحشرهم جميعا. والضمير المنصوب في «نحشرهم» لمن يحشر من الثقلين. وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات.

ووجه الخطاب إلى معشر الجن ، لأنهم هم الأصل في إضلال أتباعهم من الإنس ، وهم السبب في صدهم عن السبيل القويم.

والمقصود من هذا القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس.

وهنا يحكى القرآن رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا).

أى : وقال الذين أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا ، لقد استمتع بعضنا ببعض.

أى : انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس ، حيث أطاعوهم واستجابوا لوسوستهم ، وخالفوا أمر ربهم.

وقال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. أى : فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة.

وقيل : استمتاع الإنس بالجن معناه أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه من الجن فيقول. أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جوارهم. وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا. سدنا الإنس حتى عاذوا بنا ، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.

وقيل : استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، واستمتاع الجن بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصي فصاروا كالرؤساء لهم.

والذي نراه. أن استمتاع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك ، حيث انتفع كل

١٧٧

فريق من صاحبه باللذة العاجلة التي أوردته إلى سوء المصير.

وقولهم هذا ، هو تحسر منهم على حالهم ، إذ قالوه اعترافا بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى ، وتكذيب أمر البعث.

وإنما قال الأتباع من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن ، للإيذان بأن شياطين الجن قد أفحموا. ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا. ثم أتبعوا تحسرهم هذا بتحسر آخر وهو قولهم : «وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا».

أى : ها نحن يا ربنا قد استمتع بعضنا ببعض في الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة. واللذات الفانية القبيحة ، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا ، وهو يوم القيامة والجزاء. ونحن في أقبح صورة وأسوأ عيش.

وهنا يأتيهم الرد الحاسم. والحكم النافذ من الله العلى الكبير. حيث يقول ـ سبحانه ـ (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

مثواكم : الثواء مع الإقامة مع الاستقرار. يقال : ثوى يثوى ثواء أى : استقر ، والثوية مأوى الغنم.

والمعنى : قال الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات : النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة. فأنتم خالدون فيها في كل وقت إلا في وقت مشيئة الله بخلاف ذلك ، لأن الأمور كلها متروكة إليه ، وخاضعة لمشيئته.

والأرجح أن المراد بهذا الاستثناء وبنظائره في آيات أخر ، المبالغة في الخلود.

أى : أنه لا ينتفى في وقت ما إلا وقت مشيئته ـ تعالى ـ وهو سبحانه لا يشاء ذلك. فقد أخبر في آيات متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا.

وفي إيراد هذا المعنى بتلك الصورة ، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله ، وأن خلود المشركين في نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته ، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا ، وفيه إلى جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا في حيرة دائمة من أمرهم. تجعلهم مشتتين بين الطمع في الخروج مما هم فيه ، واليأس منه.

وهذا التفسير للجملة الكريمة هو الذي نختاره ونرجحه ، وهناك وجوه أخرى في تفسيرها منها ما ذهب إليه الزمخشري حيث قال :

وقوله : (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أى : يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من

١٧٨

الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، أو أن يكون من قول الموتور ـ أى المظلوم ـ الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب أن ينفس عن خناقه. أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت ، علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنت والتشديد. فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع (١).

ومنها : ما نقل عن ابن عباس أنه ـ تعالى ـ استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يدخلون في الإسلام ، وهو مبنى على أن الاستثناء. ليس من المحكي وأن «ما» بمعنى «من».

ومنها : أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. فهم فيها إلا الوقت الذي يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل في وجوههم ليكون ذلك أعظم في حسرتهم.

ومنها : أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أى : إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها. وهي مسألة خلافية بين العلماء.

وهناك أقوال أخرى لا مجال لذكرها. والقول الذي نرجحه ونعتمده هو الذي سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ؛ ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال قدرته. ونفاذ إرادته.

وجملة «إن ربك حكيم عليم» تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته. أى : إن ربك حكيم في التعذيب والإثابة وفي كل أفعاله. عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من جزاء.

ثم يعقب القرآن على هذا الاستمتاع المتبادل بين الضالين والمضلين من الجن والإنس فيقول : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

ونولي : من الولاية بمعنى القرابة ، والنصرة ، والمحالفة وما إلى ذلك من أنواع الاتصال.

أى : ومثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم لما بينهم من التناسب والمشاكلة ، نولي بعض الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم بأن نجعلهم يزينون لهم السيئات ، ويؤثرون فيهم بالإغواء. بسبب ما كانوا مستمرين على اكتسابه من الكفر والمعاصي.

قال الإمام الرازي : «لأن الجنسية علة الضم» فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة ، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. ثم قال : والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله ـ تعالى ـ يسلط عليهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٥.

١٧٩

ظالما مثلهم. فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم» (١).

وقال ابن كثير : معنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم» (٢).

وقال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم. فقف وانظر فيه متعجبا.

فالآية الكريمة تصور لنا مشهدا واقعا في حياة الأمم ، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا ، ويناصر بعضهم بعضا ، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع وأن الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة في الحق.

والآية في الوقت ذاته تهدد الظالمين ، وتتوعدهم بسوء المصير إذا لم يقلعوا عن ظلمهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، ويقيدوا أنفسهم بمبدأ العدالة ورعاية الحق ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية التي بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)؟.

قال الإمام ابن جرير : وهذا خبر من الله ـ جل ثناؤه ـ عما هو قائل يوم القيامة ، لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن ، يخبر أنه ـ تعالى ـ يقول لهم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يقول : يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع حججي ، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدي وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى حدودي ، (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يقول : يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى ، وهذا من الله ـ تعالى ـ تقريع لهم وتوبيخ على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ومعناه ، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله ، فلم تقبلوا ولم تتذكروا» (٣).

وقوله (رُسُلٌ مِنْكُمْ) استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس ، وإنما قيل : رسل منكم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٥١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٧.

(٣) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٢٧.

١٨٠