التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وسمى السحاب سماء لأن العرب تسمى كل ما علا سماء ، ونزول الماء من السحاب قد جاء صريحا في مثل قوله ـ تعالى ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ).

و (مِنَ) في قوله (مِنَ السَّماءِ) ابتدائية ، لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا الباردة عند تصاعد البخار الأرضى إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يتحول إلى ماء ، والباء في (بِهِ) للسببية. حيث جعل الله ـ تعالى ـ الماء سببا في خروج النبات ، والفاء في قوله (فَأَخْرَجْنا بِهِ) للتفريع و (فَأَخْرَجْنا) عطف على (أَنْزَلَ) والالتفات إلى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله.

ثم شرع ـ سبحانه ـ في تفصيل ما أجمل من الإخراج فقال : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) أى : فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له نباتا غضا أخضر ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ، وخضر بمعنى أخضر اسم فاعل. يقال : خضر الزرع ـ من باب فرح ـ وأخضر ، فهو خضر وأخضر.

وقوله (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً). أى : نخرج من هذا النبات الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أى : متراكما بعضه فوق بعض كما في الحنطة والشعير وسائر الحبوب ، يقال : ركبه ـ كسمعه ـ ركوبا ومراكبا. أى : علاه.

وجملة (نُخْرِجُ مِنْهُ) صفة لقوله «خضرا». وعبر عنها بصيغة المضارع لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة لأن إخراج الحب المتراكب من هذا الخضر الغض يدعو إلى التأمل والإعجاب بمظاهر قدرة الله.

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى فقال : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ).

الطلع : أول ما يبدو ويخرج من تمر النخل كالكيزان. وقشره يسمى الكفرى ؛ وما في داخله يسمى الإغريق لبياضه.

والقنوان. جمع قنو وهو العرجون بما فيه الشماريخ ، وهو ومثناه سواه لا يفرق بينهما إلا في الإعراب. أى : ونخرج بقدرتنا من طلع النخل قنوان دانية القطوف ، سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها.

قال صاحب الكشاف : و (قِنْوانٌ) رفع بالابتداء ، و (مِنَ النَّخْلِ) خبره و (مِنْ طَلْعِها)

١٤١

بدل منه. كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان دانية. وذكر القريبة وترك ذكر البعيدة ، لأن النعمة فيها أظهر وأدل ، واكتفى بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١).

وقوله : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) معطوف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أى : فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شيء وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب. وجعله : بعضهم عطفا على (خَضِراً). وقيل هو معطوف على (حَبًّا).

وقوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) منصوب على الاختصاص أى : وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان ، وقيل معطوف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).

قال الآلوسى : وقوله : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) إما حال من الزيتون لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه وهو الرمان والتقدير : والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك ، وإما حال من الرمان لقربه ويقدر مثله في الأول.

وأياما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض. أى بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها ، وحكمة منشئها ومبدعها كما قال ـ تعالى ـ (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (٢).

ثم أمر الله عباده أن يتأملوا في بديع صنعه فقال : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أى : انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمار كل واحد مما ذكرنا حال ابتدائه حين يكون ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به ، وحال ينعه أى : نضجه كيف يصير كبيرا أو جامعا لألوان من المنافع والملاذ.

يقال : أينعت الثمرة إذا نضجت.

وقوله (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى : إن في ذلكم الذي ذكرناه من أنواع النبات والثمار ، وذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار لهو المستحق للعبادة دون ما سواه أو هو القادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم.

قال الشيخ القاسمى : قال بعضهم : القوم كانوا ينكرون البعث فاحتج عليهم بتعريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٤٠.

١٤٢

وإخراج أنواع النبات والثمار منها. وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله ـ تعالى ـ فبين أنه ـ سبحانه ـ كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم ، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء ، ثم إنبات الأجساد كالنبات ، ثم جعلها خضرة بالحياة ثم تصوير الأعمال بصور كثيرة ، وإفادة أمور زائدة وتفريعها ، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة غير متشابهة في اللذة جزاء عليها» (١).

هذا وقد أفاض الإمام الرازي ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهذه الآية في بيان مظاهر قدرة الله وكمال رحمته وحكمته فقال ما ملخصه :

«اعلم أنه ـ تعالى ـ ذكره هنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان. وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجرى مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب. وإنما ذكر العنب عقيب النخيل ، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال. وأما الزيتون فهو ـ أيضا ـ كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل ـ أيضا ـ عنه دهن كثير عظيم النفع. وأما الرمان فحاله عجيب جدا. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر ـ سبحانه ـ هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي.

ثم قال : وقد أمر ـ سبحانه ـ بالنظر في حال ابتداء الثمر ونضجه لأن هذا هو موضوع الاستدلال ، والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية وذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها عن صفات مخصوصة وعند تمامها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة ، وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر أمرها حارة بحسب الطبيعة ـ أيضا ـ فحصول هذه المبتدلات والمتغيرات لا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك ، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة ، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسبابا لحدوث الحوادث المختلفة. ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسناده إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة ، والمصلحة الحكيمة» (٢).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٤٢٩.

(٢) راجع الفخر الرازي ج ٤ ص ١٠٧ طبع المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍.

١٤٣

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ تلك الدلائل الدالة على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ووافر نعمته. واستحقاقه الألوهية ، أتبعها بتوبيخ المشركين والرد عليهم بما يرشدهم إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال ـ تعالى ـ :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣)

قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أى : وجعل هؤلاء المشركون لله ـ سبحانه ـ شركاء في الألوهية والربوبية من الجن.

وفي المراد بالجن هنا أقوال :

أحدها : أنهم الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازا لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن.

والثاني : أن المراد بالجن هنا الشياطين. ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي كما يطاع الله ـ تعالى ـ.

والثالث : أن المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص الباري بألوهية الخير والنور. وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس ، وقد قال الرازي عن هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية.

أما ابن كثير فقد رجح الرأى الثاني وقال : فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟.

١٤٤

فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم لهم بذلك كقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وكقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) وتقول الملائكة يوم القيامة : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) ولم يقل : وجعلوا الجن شركاء لله. لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء. ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا. وليس الأمر كذلك ، بل المنكر أن يكون لله شريك من أى جنس كان.

وجملة : (وَخَلَقَهُمْ) حال من فاعل (جَعَلُوا) مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان.

أى : وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذي خلقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق ، وعليه فالضمير في خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله شركاء.

وقيل الضمير للشركاء أى : والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذي خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟.

وقوله (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى : واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية. أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره ، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه ـ تعالى ـ إلا ما قام الدليل على صحته.

قال الراغب : «أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر ، قال ـ تعالى ـ (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) ، وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق» (٢).

ثم ختمت الآية الكريمة بتنزيه الله ـ تعالى ـ عما نسبوه إليه فقال ـ تعالى ـ : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أى : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٠).

(٢) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٤٦.

١٤٥

ثم ساق ـ سبحانه ـ الأدلة المبطلة لما تفوه به المشركون من مزاعم فقال ـ تعالى ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

أى : هو مبدعهما ومنشئهما وخالقهما على غير مثال سبق ، ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف.

وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أى : من أين وكيف يكون له ولد ـ كما زعموا ـ والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها ، ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد ، وأيضا الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ولا مجانس له ـ سبحانه ـ.

وجملة (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) مستأنفة لتقرير تنزهه عن ذلك ، وجملة (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) حال مؤكدة لاستحالة ما نسبوه إليه من الولد.

وقوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) جملة أخرى مستأنفة لتحقيق ما ذكر من الاستحالة ، أو حال ثانيه مقررة لها.

أى : كيف يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا له ـ تعالى ـ فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟

قال صاحب الكشاف : «وفي هذه الآية الكريمة إبطال لأن يكون لله ولد من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة.

لأن الولادة من صفات الأجسام ، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا.

والثاني : أن الولادة لا تكون إلا لمن له صاحبة والله ـ تعالى ـ لا صاحبة له فلم تصح الولادة.

والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج (١).

وجملة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان أن يكون له ولد.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥٢.

١٤٦

أى : أنه ـ سبحانه ـ عالم بكل المعلومات ، فلو كان له ولد فلا بد أن يتصف بصفاته ومنها عموم العلم ، وهو منفي عن غيره بالإجماع.

وبعد أن أبطل ـ سبحانه ـ الشرك ونعى على معتنقيه سوء تفكيرهم ، دعا المكلفين إلى إخلاص العبودية لله وحده فقال ـ تعالى ـ :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ).

أى ذلكم الموصوف بما سمعتم من جلائل الصفات هو الله ربكم لا من زعمتم من الشركاء ، فأخلصوا له العبادة فهو ـ سبحانه ـ الخالق لكل شيء وما عداه فهو مخلوق يجب أن يعبد خالقه.

وقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أى وهو مع تلك الصفات الجليلة رقيب على عباده حفيظ عليهم ، يدبر أمرهم ، ويتولى جميع شئونهم.

وقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر ، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهي أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته. فكيف يكون له ولد؟.

والإدراك : اللحاق والوصل إلى الشيء والإحاطة به. والأبصار جمع بصر يطلق ـ كما قال الراغب ـ على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها.

والمعنى : لا تحيط بعظمته وجلاله على ما هو عليه ـ سبحانه ـ أبصار الخلائق ، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التي هي مجرد المعاينة ، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية ، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما.

هذا ، وهناك خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة رؤية الله ـ تعالى ـ في الآخرة.

أما أهل السنة فيجيزون ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله ـ تعالى ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).

١٤٧

قال الإمام ابن كثير : تواترت الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات» (١).

أما المعتزلة فيمنعون رؤية المؤمنين لله ـ تعالى في الآخرة ، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية ، وقالوا : إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته ببصرى ورأيته إلا في اللفظ.

والذي نراه أن رأى أهل السنة أقوى لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق ، فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام (٢).

وقوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أى : وهو يدرك القوة التي تدرك بها المبصرات. ويحيط بها علما ، إذ هو خالق القوى والحواس.

وقوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أى : هو الذي يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم بدقائق الأمور وجلياتها.

* * *

ثم أخذ القرآن في تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تسليته. وفي مدح ما جاء به من هدايات فقال ـ تعالى ـ :

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦١.

(٢) راجع تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٤٤٦ وما بعدها.

١٤٨

يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠)

قوله (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) البصائر : جمع بصيرة ، وهي للقلب بمنزلة البصر للعين ، فهي النور الذي يبصر به القلب ، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين.

والمراد بها آيات القرآن ودلائله التي يفرق بها بين الهدى والضلالة. أى : قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكي تميزوا بين الحق والباطل ، وتتبعوا الصراط المستقيم.

وإطلاق البصائر على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب.

وقوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أى : فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ولسعادتها ما قدم من ألوان الخير ، ومن عمى عن الحق وجهله بإعراضه عن هذه البصائر فعلى نفسه وحدها جنى وإياها ضرب العمى وهذا كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).

واختتمت الآية بقوله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أى : وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم ، وأحفظكم من الضلال ، وإنما أنا علىّ البلاغ والله وحده هو الذي يحصى عليكم أعمالكم ويجازيكم عليها بما تستحقون.

وقوله : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أى : وكما فصلنا الآيات الدالة على التوحيد في هذه السورة تفصيلا بديعا محكما نفصل الآيات ونبينها وننوعها في كل موطن لتقوم على الجاحدين الحجة ، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.

١٤٩

(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) يقال درس الكتاب يدرسه دراسة إذا أكثر قراءته وذلك للحفظ. وأصله من درس الحنطة يدرسها درسا ودراسا إذا داسها ، فكأن التالي يدوس الكلام فيخفف على لسانه.

والمعنى : وليقول المشركون في الرد عليك : إنك يا محمد قد قرأت الكتب على أهل الكتاب وتعلمت منهم ، وحفظت عن طريق الدراسة أخبار من مضى ، ثم جئتنا بعد كل ذلك تزعم أن ما جئت به من عند الله ، وما هو من عند الله.

وقد حكى القرآن في مواضع كثيرة التهم الباطلة التي وجهها المشركون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً* وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (١).

قال ابن عباس : (وَلِيَقُولُوا) يعنى : أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن (دَرَسْتَ) يعنى : تعلمت من يسار وخير ـ وكانا عبدين من سبى الروم ـ ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله.

وقال الفراء : معناه ، تعلمت من اليهود لأنهم كانوا معروفين عند أهل مكة بالعلم والمعرفة.

وقرئ (دارست) ـ بالألف وفتح التاء ـ أى : دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية كأهل الكتاب ، من المدارسة بين الإثنين ، أى : قرأت عليهم وقرءوا عليك.

قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

وقرئ ـ أيضا ـ (درست) ـ بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء ـ أى : وليقولوا مضت وقدمت وتكررت على الأسماع ، وقد حكى القرآن أنهم قالوا أساطير الأولين قال ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وهذه القراءات الثلاث متواترة وهناك قراءات أخرى شاذة لا مجال لذكرها هنا.

وقوله : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى : ولنبين ونوضح هذا القرآن لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه ، فهم المنتفعون به دون سواهم.

فالضمير في (وَلِنُبَيِّنَهُ) يعود إلى القرآن لكونه معلوما وإن لم يجر له ذكر ، وقيل : يعود إلى الآيات لأنها في معنى القرآن.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين اللامين في (وَلِيَقُولُوا) و (لِنُبَيِّنَهُ)؟

__________________

(١) سورة الفرقان آية ٤ ، ٥.

١٥٠

قلت : الفرق بينهما أن الأول مجاز والثانية حقيقة ، وذلك لأن الآيات صرفت للنبيين ولم تصرف ليقولوا درست ، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل للنبيين شبه به فسيق مساقه (١).

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستمر في دعوته دون أن يعول على تعنت المشركين فقال ـ تعالى ـ (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

أى عليك يا محمد أن تداوم على تبليغ رسالتك ، متبعا في ذلك ما أوحاه إليك ربك الذي لا إله إلا هو من آيات وهدايات ، معرضا عن المشركين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون.

وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة لقوله «من ربك» بمعنى : منفردا في الألوهية.

ثم هون عليه أمر إعراضهم فقال ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا). أى : ولو شاء الله عدم إشراكهم لما أشركوا ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك لأنه جرت سنته برعاية الاستعدادات.

قال الآلوسى : وهذا دليل أهل السنة على أنه تعالى ـ لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه يمنعه عنه مع توجهه إليه ، ولكن بمعنى أنه ـ تعالى ـ لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده» (٢).

وقوله (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أى : وما جعلناك عليهم حفيظا يحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم وتجازيهم عليها وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم وتتصرف فيها ، وإنما أنت وظيفتك التبليغ قال ـ تعالى ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا* فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وقال ـ تعالى ـ (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

ثم أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، فنهاهم عن سب آلهة المشركين حتى لا يقابلهم المشركون بالمثل فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

السب : الشتم الوضيع وذكر مساوئ الغير لمجرد التحقير والإهانة.

وعدوا : مصدر بمعنى العدوان والظلم والتجاوز من الحق إلى الباطل وهو مفعول مطلق

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٥٠.

١٥١

«لتسبوا». من معناه ، لأن السب عدوان ، وقيل هو حال من ضمير (فَيَسُبُّوا) مؤكدة لمضمون الجملة وكذلك قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ).

والمعنى : ولا تسبوا ايها المؤمنون آلهة المشركين الباطلة فيترتب على ذلك أن يسب المشركون معبودكم الحق جهلا منهم وضلالا.

قال الآلوسى : ومعنى سبهم لله ـ تعالى ـ إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن يأمره وقد فسر (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بذلك أى : فيسبوا الله ـ تعالى ـ بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله ـ تعالى ـ وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده ـ سبحانه ـ فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له ـ عزوجل ـ صراحة ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك ، ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر! ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام رأى بعض الرافضة يسب الشيخين ـ أبا بكر وعمر ـ فغاظه ذلك جدا فسب عليا ـ كرم الله وجهه ـ فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم» (١).

وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه معمر عن قتادة قال. كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فنزلت» (٢).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : سب الآلهة الباطلة حق وطاعة فكيف صح النهى عنه وإنما يصح النهى عن المعاصي؟ قلت رب طاعة علم أنها تؤدى إلى مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها لأنها معصية لا لأنها طاعة. كالنهى عن المنكر هو من أجل الطاعات ، فإذا علم أنه يؤدى إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ووجب النهى عن ذلك كما يجب النهى عن المنكر» (٣).

وقال الشيخ القاسمى : قال ابن الفارس في الآية : إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا آلهتهم ولا دينهم ، وهذا أصل في سد الذرائع».

وقال السيوطي : «وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى وكذا كل مفعول مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٤٥١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٤.

(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٦.

١٥٢

وقال الحاكم : نهوا عن سب الأصنام لوجهين :

أحدهما : أنها جماد لا ذنب لها.

والثاني : أن ذلك يؤدى إلى المعصية بسب الله ـ تعالى ـ. والذي يجب علينا إنما هو بيان بغضها وأنه لا تجوز عبادتها ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنها لا تستحق العبادة ، وهذا ليس بسب. ولهذا قال أمير المؤمنين على ـ يوم صفين ـ «لا تسبوهم ولكن اذكروا قبيح أفعالهم» (١).

وقال بعض العلماء : ووجه النهى عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية ، لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله ـ تعالى ـ فذلك الذي يتميز به المحق من المبطل ، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما ، وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق ، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق. على أن سب آلهتهم لما كان يحمى غيظهم ويزيد تصلبهم صار منافيا لمراد الله من الدعوة فقد قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وأصبح هذا السب متمحضا للمفسدة وليس مشوبا بمصلحة ، وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة ، لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض. وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا وتحققا واحتمالا ، وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها (٢).

وهذه الآية الكريمة ليست منسوخة بآية السيف ـ كما قيل ـ وإنما هي محكمة ولذا قال القرطبي : قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الله ـ تعالى ـ فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك ، لأنه بمنزلة البعث على المعصية» (٣).

وقوله (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ).

التزيين تفعيل من الزين وهو الحسن.

والمعنى : مثل ذلك التزيين الذي حمل المشركين على الدفاع عن عقائدهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا ، زينا لكل أمة من الأمم عملهم ، من الخير والشر والإيمان والكفر ، فقد مضت سننا في أخلاق البشر أن يستحسنوا ما تعودوه ، وأن يتعلقوا بما ألفوه.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٤٦٣.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ٧ ص ٤٣٠ للشيخ محمد بن عاشور.

(٣) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٦٠.

١٥٣

وقيل : المراد بكل أمة أمم الفكر لأن الكلام فيهم. والمراد بعملهم. شرورهم ومفاسدهم. والمشبه به تزيين سب الله ـ تعالى ـ لهم.

أى : كما زينا لهؤلاء المشركين سوء أعمالهم زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال عملهم السيئ.

قال الآلوسى : «وقد استدل بالآية على أنه ـ تعالى ـ هو الذي زين للكافر كفره كما زين للمؤمن إيمانه. وأنكر ذلك المعتزلة فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه».

وقال صاحب المنار : فظهر بهذا التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر ، وفي قلوب بعضها الآخر تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك ، إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائب الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها وما يقابلهما من النهى والترهيب عنها من العبث الذي يتنزه الله عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله. وقد غفلت المعتزلة عن هذا التحقيق فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم الإيمان ، وبعضهم بغير ذلك» (١).

ثم ختم الله ـ تعالى ـ الآية بقوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : ثم إلى ربهم أمورهم ورجوعهم ومصيرهم بعد البعث ، فيخبرهم من غير تسويف أو تأخير بما كانوا يعملونه في الدنيا ، ويجازيهم على ذلك بما يستحقونه. وفي هذه الجملة الكريمة تهديد وتوبيخ لأولئك المشركين الذين تجاسروا على مقام الله ، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا.

ثم حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التي كان يقترحها المشركون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).

الجهد : الوسع والطاقة من جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه.

وهو مصدر في موضع الحال.

أى : وأقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين في أيمانهم ، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد ، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.

وقد لقن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرد المفحم لهم فقال : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ).

أى : قل لهم يا محمد إن هذه الآيات التي اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله ، فهو وحده

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ ص ٦٦٩.

١٥٤

القادر عليها والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته ، إن شاء أنزلها وإن شاء منعها ، أما أنا فليس ذلك إلىّ.

أخرج ابن جرير ـ بسنده ـ عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم نفر من قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له ، يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيى الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أى شيء تحبون أن آتيكم به»؟ قالوا ، تجعل لنا الصفا ذهبا ، فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني»؟ قالوا نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال ، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل أتركهم حتى يتوب تائبهم» ، فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ). إلى قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١).

وقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

أى : وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون في إنزال هذه الآيات طمعا في إسلام هؤلاء المشركين أنها إذا جاءت لا يؤمنون أى : إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول الآيات.

فالخطاب هنا للمؤمنين ، والاستفهام في معنى النفي ، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار عليهم.

أى : إنكم أيها المؤمنون ليس عندكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التي يقترحونها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعنتا وجهلا.

قال صاحب الكشاف : (وَما يُشْعِرُكُمْ) وما يدريكم (أَنَّها) أى الآية التي تقترحونها (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك ، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها ، فقال ـ عزوجل ـ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، وقيل : إنها بمعنى «لعل» من قول العرب : ائت السوق أنك تشترى حمارا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٤.

١٥٥

وقال امرؤ القيس.

عوجا على الطلل المحيل لأننا

نبكي الديار كما بكى ابن خذام

أى : لعلنا نبكي الديار.

وقرئ بكسر «إنها» على أن الكلام قد تم قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة» (١).

وقوله (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) معطوف على (لا يُؤْمِنُونَ) وداخل معه في حكم (وَما يُشْعِرُكُمْ) مقيد بما قيد به.

أى : وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ، كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من آيات. وهدايات على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يقترحوا عليه تلك المقترحات الباطلة.

إنكم أيها المؤمنون لا تدرون ذلك ولا تشعرون به لأن علمه عند الله وحده.

قال الآلوسى : وهذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له ، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر ، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه ـ تعالى ـ مشاعرهم بطريق الإجبار» (٢).

وقوله (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) معطوف على (لا يُؤْمِنُونَ).

والعمه : التردد في الأمر مع الحيرة فيه ، يقال : عمه ـ كفرح ومنع ـ عمها إذا تردد وتحير.

أى : ونتركهم في تجاوزهم الحد في العصيان يترددون متحيرين ، لا يعرفون لهم طريقا ، ولا يهتدون إلى سبيل.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون في أيمانهم الفاجرة ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٥٥.

١٥٦

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (١١٣)

والمعنى : ولو أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية ، بل أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا بحقيقة الإيمان ، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم بأنك على الحق ، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء استعدادهم وفساد فطرهم ، وانطماس بصيرتهم ، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية التي زخر بها هذا الكون والتي استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم ، ولا تتحرك لها مشاعرهم ، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم ، والذي ينقصهم إنما هو القلب الحي الذي يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التي يقترحونها فإن أمامهم الكثير منها ، واقترحاتهم إنما هي نوع من العبث السخيف ، والتعنت المرذول الذي لا يستحق أن يهتم به.

و (قُبُلاً) ـ بضم القاف والباء ـ حال من «كل شيء» وفيه أوجه :

الأول : أنه جمع قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب ، أى : وحشرنا عليهم كل شيء من المخلوقات ليكونوا كفلاء بصدقك.

والثاني : أنه مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا أى آتيك من قبل وجهك والمعنى. وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على الحق.

والثالث : أن يكون قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفا صنفا والمعنى : وحشرنا

١٥٧

عليهم كل شيء فوجا فوجا ونوعا نوعا من سائر المخلوقات ليشهدوا بصدقك.

وجملة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) جواب لو.

أى : لو فعلنا لهم كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال بسبب غلوهم في التمرد والعصيان ، إلا في حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا ، لأنه ـ سبحانه ـ هو القادر على كل شيء.

وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).

أى : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.

وقيل الضمير يعود على المؤمنين فيكون المعنى. ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله ـ تعالى ـ لإيمانهم ، فيتمنون مجيء الآيات طمعا في إيمانهم.

قال الشيخ القاسمى : في قوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله ـ تعالى ـ حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها على أنه «ما شاء الله كان وما لم يشأ لهم يكن». والمعتزلة يقولون «إلا أن يشاء الله مشيئة قسر وإكراه» (١).

ثم سلى الله ـ تعالى ـ نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم في الباطل ببيان أن كل نبي كان له أعداء يسيئون إليه ويقفون عقبة في طريق دعوته فقال :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ).

والمعنى : ومثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك ـ أيضا ـ أعداء ، فلا يحزنك ذلك ، قال ـ تعالى ـ (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣).

والمراد بشياطين الإنس والجن ، والمردة من النوعين. والشيطان : كل عات متمرد من الإنس والجن.

__________________

(١) تفسير للقاسمى ج ٧ ص ٢٤٧١.

(٢) سورة فصلت الآية ٤٣.

(٣) سورة الفرقان الآية : ٣١.

١٥٨

وجملة (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) إلخ مستأنفة لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يشاهده من عداوة قريش له ، والكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر مؤكد لما بعده.

وجعل ينصب مفعولين أولهما (عَدُوًّا) وثانيهما (لِكُلِّ نَبِيٍ) و (شَياطِينَ) بدل من المفعول الأول ، وبعضهم أعرب (شَياطِينَ) مفعولا أولا و (عَدُوًّا) مفعولا ثانيا ، و (لِكُلِّ نَبِيٍ) حالا من (عَدُوًّا).

وقوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

الوحى : الإعلام بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع. زخرف القول : باطله الذي زين وموه بالكذب. وأصل الزخرف. الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، ولكل شيء حسن مموه : زخرف.

والغرور : الخداع والأخذ على غرة وغفلة.

والمعنى : يلقى بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذي حسن ظاهره وقبح باطنه لكي يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل.

والجملة مستأنفة لبيان إحكام عداوتهم ، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن ، فعن أبى ذر قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس. قد أطال فيه الجلوس فقال : «يا أبا ذر هل صليت؟ قلت : لا يا رسول الله. قال : قم فاركع ركعتين قال : ثم جئت فجلست إليه فقال : يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ قال : قلت لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن».

وقد ساق الإمام ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر في هذا المعنى ، ثم قال في نهايتها : فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته» (١).

وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).

أى : ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل لتم له ذلك ، لأنه ـ سبحانه ـ هو صاحب المشيئة النافذة ، والإرادة التامة ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم ، لكي يميز الله

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٦.

١٥٩

الخبيث من الطيب. فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر وغيره من ألوان الشرور ، فسوف يعلمون سوء عاقبتهم.

وقوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ). معطوف على (غُرُوراً) فيكون علة أخرى للإيحاء ، والضمير في (إِلَيْهِ) يعود إلى زخرف القول.

وأصل الصغو : الميل. يقال : صغا يصغو ويصغى صغوا ، وصغى يصغى صغا أى : مال ، وأصغى إليه مال إليه يسمعه ، وأصغى الإناء : أماله. ويقال : صغت الشمس والنجوم صغوا : مالت إلى الغروب.

والمعنى : يوحى بعضهم إلى بعضهم زخرف القول ليغروا به الضعفاء ، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل من القول قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم وشهواتهم.

وخص عدم إيمانهم بالآخرة بالذكر ـ مع أنهم لا يؤمنون بأمور أخرى يجب الإيمان بها ـ لأن من لم يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يمشى دائما وراء شهواته وأهوائه ولا يتبع إلا زخرف القول وباطله.

ثم بين ـ سبحانه ـ تدرجهم السيئ في هذا العمل الأثيم فقال : (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ).

أى : وليرضوا هذا الفعل الخبيث لأنفسهم بعد أن مالت إليه قلوبهم ، وليقترفوا ما هم مقترفون أى : وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأعمال السيئة فإن الله ـ تعالى ـ سيجازيهم عليها بما يستحقونه.

وأصل القرف والاقتراف. قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح. واستعير الاقتراف للاكتساب مطلقا ولكنه في الإساءة أكثر. فيقال : قرفته بكذا إذا عبته واتهمته.

قال أبو حيان : وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة ، لأنه أولا يكون الخداع ، فيكون الميل ، فيكون الرضا ، فيكون الاقتراف ، فكل واحد مسبب عما قبله (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق ، وإن كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير أبى حيان ج ٤ ص ٤٠٨.

١٦٠