التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

ويقال إنه كان موجودا في زمن الملك «آحاب» ملك بنى إسرائيل في حوالى سنة ٩١٨ ق م.

١١ ـ إسماعيل وهو الابن الأكبر لإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وجد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٢ ـ اليسع وهو ابن شافاط وكانت وفاته حوالى سنة ٨٤٠ ق م ودفن بالسامرة.

١٣ ـ يونس وهو ابن متى أرسله الله إلى أهل نينوى من بلاد آشور في حوالى القرن الثامن ق م.

١٤ ـ لوط وهو ابن هاران بن تارح فهو ابن أخى إبراهيم وكانت رسالته إلى أهل سدوم من شرق الأردن.

وقوله (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أى : وكل واحد من هؤلاء الأنبياء المذكورين لا بعضهم دون بعض فضلناه بالنبوة على العالمين من أهل عصره.

قال الجمل : اعلم أن الله ـ تعالى ـ ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب وهي أن الله ـ تعالى ـ خص كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان وقد أعطى الله من ذلك داود وسليمان حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه أيوب. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة ، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر ، ومن المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، ثم ذكر الله بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة كان هذا الترتيب حسنا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (١)».

ومن المعروف أن الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم على التفصيل خمسة وعشرون نبيا. وهم هؤلاء الثماني عشرة الذين ذكروا في هذه الآيات ، يضاف إليهم سبعة نظمهم الناظم في قوله :

حتم على كل ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد علموا

في تلك حجتنا منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس ، هود ، شعيب ، صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩.

١٢١

ثم ذكر ـ سبحانه ـ فضائل من يتصل بهؤلاء الأنبياء الكرام فقال :

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) أى : ومن آباء هؤلاء الأنبياء وذرياتهم وإخوانهم من هديناه إلى الطريق المستقيم فمن هنا للتبعيض.

والجملة معطوفة على (كلًّا) أى : كلا من هؤلاء الأنبياء فضلنا ، وفضلنا بعض آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وهديناه.

وجملة (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) معطوفة على (فَضَّلْنا) أى : فضلنا هؤلاء الأنبياء واخترناهم وهديناهم إلى الطريق الواضح. قال الراغب : «والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال ـ تعالى ـ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) واجتباء العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء» (١).

وقوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أى : ذلك الهدى إلى صراط مستقيم الذي اهتدى إليه أولئك الأخيار هو هدى الله الذي يهدى به من يشاء هدايته من عباده وهم المستعدون لذلك.

وفي قوله : (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من الإبهام ما يبعث النفوس على طلب هدى الله ـ تعالى ـ والتعرض لنفحاته.

وقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى ، ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المختارون لبطل وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملونه من أعمال صالحة فكيف بغيرهم.

قال ابن كثير : في هذه الآية تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته ، كقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) والشرط لا يقتضى جواز الوقوع ، فهو كقوله ، (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وكقوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (٢).

وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) اسم الإشارة فيه يعود إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشرة والمعطوفين عليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة.

__________________

(١) مفردات القرآن ج ٨٧ للراغب الأصفهاني.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥٥.

١٢٢

وقصر بعضهم عودته على الأنبياء فحسب وإليه ذهب ابن جرير والرازي أى : أولئك المصطفون الأخيار هم الذين آتيناهم الكتاب أى جنسه المتحقق في ضمن أى فرد كان من أفراد الكتب السماوية.

والمراد بإيتائه : التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام ، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء ، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.

والحكم أى : الحكمة وهي علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. أو الإصابة في القول والعمل. أو القضاء بين الناس بالحق.

و (النُّبُوَّةَ) أى : الرسالة.

وقوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أى : فإن يكفر بهذه الثلاث التي اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة ، فلن يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين في وقت من الأوقات وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراض بعض قومه عن دعوته.

والمراد بالقوم الذين وكلوا بالقيام بحق هذه الرسالة ووفقوا للإيمان بها أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار مطلقا ، لأنهم هم الذين دافعوا عن دعوة الإسلام وبذلوا في سبيل إعلانهم نفوسهم وأموالهم ، ويدخل معهم كل من سار على نهجهم في كل زمان ومكان.

وقيل : المراد بهم أهل المدينة من الأنصار. وقيل : المراد بهم الأنبياء المذكورون وأتباعهم ، وقيل غير ذلك.

والذي نراه أن الرأى الأول أرجح لأن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المقابلون لكفار قريش الذين كفروا بها.

وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء ومراعاته ، وإيذان بفخامة وعلو قدرها.

قال الإمام الرازي : «دلت هذه الآية على أن الله ـ تعالى ـ سينصر نبيه ، ويقوى دينه ، ويجعله مستعليا على كل من عاداه ، قاهرا لكل من نازعه ، وقد وقع هذا الذي أخبر الله عنه في هذا الموضع ، فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزا» (١).

ثم قال ـ تعالى ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أى : أولئك الأنبياء الذين

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٨٦.

١٢٣

ذكرناهم لك ـ يا محمد ـ هم الذين هديناهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فبهداهم ، أى : فبطريقتهم في الإيمان بالله وفي تمسكهم بمكارم الأخلاق كن مقتديا ومتأسيا.

والمقصود إنما هو التأسى بهم في أصول الدين ، أما الفروع القابلة للنسخ فإنهم يختلفون فيها ويجوز عدم الاقتداء بهم بالنسبة لها قال ـ تعالى ـ (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ، ولما يقتضيه للتكرير من الاهتمام بالخبر. وفي قوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) تعريض بالمشركين إذ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا منهم ، أما هم فقد اختلقوا لأنفسهم عبادات ما أنزل الله بها من سلطان.

ثم ختم الله ـ تعالى ـ هذا السياق بقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أى : قل أيها الرسول الكريم لمن بعثت إليهم لا أطلب منكم على ما أدعوكم إليه من خير وما أبلغكم إياه من قرآن أجرا قليلا أو كثيرا.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أى : ما هذا القرآن إلا تذكيرا وموعظة للناس أجمعين في كل زمان ومكان.

قال بعضهم : وفي الآية دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق.

* * *

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما دار بين إبراهيم وقومه من مجالات تتعلق بإثبات وحدانية الله ، وإبطال الشرك ، وحكى جانبا من النعم التي أنعم بها على خليله وعلى كل من سار على نهجه ، وأخبر بأن هذا القرآن ما هو إلا تذكير للعالمين وأن المذكر به ـ لا يريد منهم أجرا على تبليغه ، بعد كل ذلك أخذ القرآن في الرد على منكري نزول الكتب السماوية وفي بيان عاقبتهم الوخيمة بسبب هذا الجحود فقال ـ تعالى ـ :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ

١٢٤

أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) كلمة (قَدَرُوا) مأخوذة من القدر ـ بفتح فسكون ـ ، وأصل القدر معرفة مقدار الشيء بالسبر والحزر ، يقال : قدر الشيء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ، ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه.

والمعنى : ما عظموا الله حق تعظيمه ، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده وفي الرحمة بهم ، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما ، وضلوا ضلالا كبيرا ، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال الكتب ، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء ، قاصدين بهذا القول الطعن في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أن القرآن من عند الله.

ولفظ (حَقَ) منصوب على المصدرية ، وهو في الأصل صفة للمصدر ، أى : قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم ، وأن يرد على سلبهم العام

١٢٥

بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أى : قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر شيئا من الأشياء : قل لهم من الذي أنزل التوراة وهو الكتاب الذي جاء به موسى (نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أى : ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة.

وكلمة (نُوراً) حال من الضمير في به أو من الكتاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).

القراطيس : جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.

أى : تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها ، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة.

فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله ، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع ، الذي قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.

وقوله (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أى : وعلمتم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب عاقل في أنها تنزيل رباني.

وقوله (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

أى : قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين : الله ـ تعالى ـ هو الذي أنزل الكتاب على موسى ، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون ، وفي غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين.

وفي أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب عنهم ، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.

وكان العطف بثم في قوله (ثُمَّ ذَرْهُمْ) للدلالة على الترتيب الرتبى أى : أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى ، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.

هذا ، وللمفسرين لهذه الآية قولان :

الأول : أنها مكية النزول تبعا للسورة ، وأن الذين قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)

١٢٦

مشركو مكة ، وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها على موسى.

قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : عنى بذلك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى ..) (١).

وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال : وهذا الرأى هو الأصح ، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه من البشر كما قال ـ تعالى ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) وكذا قالوا هنا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٢).

الثاني : أن هذه الآية مدنية النزول ، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء.

ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها ، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء كتابا) فنزل قوله ـ تعالى ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير ـ مرسلا ـ قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له النبي : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» ـ وكان حبرا سمينا ـ فغضب وقال : (هل أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية (٣).

والذي نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين : فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع ، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.

وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية ، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٧٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥٦.

(٣) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي هامش الجلالين ص ٢٢٢.

١٢٧

وبعد أن أبطل ـ سبحانه ـ بالدليل قول من قال «ما أنزل الله على بشر من شيء» أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال ـ تعالى ـ :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

والمعنى : وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى : كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.

والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه ، إذا جعل له البركة ، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.

وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال ، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.

ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا ، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى : أن بركته ثابتة مستقرة.

قال الإمام الرازي : العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب ، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة» (١).

وقوله (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات التوحيد ونفى الشرك ، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.

وقوله : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أى : ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة ، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ تعالى ـ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وقال ـ تعالى ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل ، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٤ ص ٩٩.

١٢٨

ووجه الاقتصار على مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ).

قال الآلوسى : ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه» (١).

وقال صاحب المنار «وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا ، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة بقومه العرب. والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور ، فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم ، وقد ثبت عموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات أخرى كقوله ـ تعالى ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٢).

وقوله (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ).

أى : والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.

ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أى يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع واطمئنان ، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.

قال الإمام الرازي : «ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما في قوله ـ تعالى ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى صلاتكم ، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة ، ففي الحديث الشريف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام» (٣).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله ـ تعالى ـ ، وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعند ما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها الأفئدة فقال ـ تعالى ـ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢١٢.

(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٦٢٠.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٩٣.

١٢٩

والمعنى لا أحد أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فجعل له شركاء من خلقه ، وأنكر ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدايات ، وحلل وحرم بهواه ما لم يأذن به الله.

والاستفهام إنكارى فهو في معنى النفي. و (مَنْ) اسم موصول والمراد به الجنس. أى : كل من افترى على الله كذبا ، وليس المراد فردا معينا.

(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أى : قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه كاذب في دعواه ، فإن الله ما أوحى إليه شيئا ، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة الكذاب والأسود العنسي من أنهما نبيان يوحى إليهما. ويصدق ـ أيضا ـ على كل مدع للوحى والنبوة في كل زمان ومكان.

وهذه الجملة الكريمة معطوفة على صلة (مَنْ) من عطف الخاص على العام ، لأن هذا القول هو نوع من أنواع افتراء الكذب.

(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أى : ولا أحد أظلم ـ أيضا ـ ممن قال بأنى قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذي أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب ، وكل مدع أنه يوحى إليه شيء وكل من زعم أنه في قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.

ثم بين ـ سبحانه ـ مصير كل ظالم أثيم فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أى : ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم في غمرات الموت أى : في شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان ، فجواب الشرط محذوف.

والغمرات : جمع غمرة وهي الشدة. وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ، يقال غمره الماء إذا علاه وستره ثم استعمل في الشدائد والمكاره.

وتقييد الرؤية بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية ، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر.

وقوله (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم.

١٣٠

والأمر هنا للتعجيز أى : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم إلى ذلك سبيلا.

قال الآلوسى : وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج مالي عليك الساعة ولا أبرح مكاني حتى انتزعه منك (١). وفي الكشاف : أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها».

ولعل مما يؤيد قول ابن المنير في تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء في آية أخرى وهي قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢).

وقوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين.

أى : تقول لهم أخرجوا أنفسكم ، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن ، وإنما بسبب أنكم كنتم في دنياكم تفترون على الله الكذب ، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته ، مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها ، ولا تعتبرون بها.

والمراد باليوم مطلق الزمن لا اليوم المتعارف عليه ، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده.

والهون معناه : الهوان والذل ، وفسره صاحب الكشاف ، بالهوان الشديد وقال : «وإضافة العذاب إليه كقولك ، رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه» (٣).

ثم صور ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يعرضون للحساب فقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

أى : ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا من متاع ، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٢٤.

(٢) سورة الأنفال الآية ٥٠.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧.

١٣١

وفرادى قيل هو جمع فرد ، وفريد وقيل : هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع : أراد أنه جمع له في المعنى :

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة ، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم.

وقوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين.

أى : جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الدنيا ، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة. فالكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف.

روى الشيخان عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال : «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١).

ورويا ـ أيضا ـ عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تحشرون حفاه عراة غرلا. قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» (٢).

وروى الطبراني بسنده عن عائشة أنها قالت قرأت قول الله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقالت : يا رسول الله وا سوأتاه! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض.

قوله : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أى : تركتم ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عند ما جئتمونا للحساب.

الخول : ما أعطاه الله لعباده من النعم : يقال : خوله الشيء تخويلا ، ملكه إياه ومكنه منه. ومنه التخول بمعنى التعهد.

والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم ، لأنهم لم يقدموا منه شيئا في دنياهم ليكون نافعا لهم في أخراهم ، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به في معادهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قوله ـ تعالى ـ (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) وأخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق. باب كيف الحشر.

١٣٢

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول ابن آدم : مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» (١).

وقوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) تقريع وتوبيخ لهم على شركهم.

أى : ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التي توهمتم أنهم شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم.

وقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أى : لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل. ففاعل (تَقَطَّعَ) ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ (شُرَكاءُ) و (بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرفية.

وقرئ بالرفع أى : لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك ؛ والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به أى : تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات.

(وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أى : وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، ورجاء الأنداد والأصنام. كما قال ـ تعالى ـ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (٢).

وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التي تهز النفوس ، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح.

* * *

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ ألوانا من الدلائل على وحدانيته ، وعلى صدق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، شرع ـ سبحانه ـ في سرد مظاهر قدرته ، وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل في هذا الكون العجيب ، وفي بدائع مخلوقاته فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق.

(٢) سورة البقرة الآيتان : ١٦٦ ، ١٦٧.

١٣٣

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى).

فالق : أى شاق ، والفلق هو الشق وقيل ، فالق بمعنى خالق وأنكر ابن جرير الطبري ذلك وقال : لا يعرف في كلام العرب فلق الشيء بمعنى خلق.

والحب. ما ليس له نوى كالحنطة والشعير.

والنوى : جمع نواة وهو الموجود في داخل الثمرة ، مثل نوى التمر وغيره.

والمعنى : إن الله وحده هو الذي يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي ، ويشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية ، وفي ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره.

١٣٤

هذا ، وقد أفاض الإمام الرازي وهو يتحدث عن هذه الآية في بيان قدرة الله فقال ما ملخصه :

«إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله ـ تعالى ـ في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر ، فالأول يخرج منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض ثم إن ها هنا عجائب.

فإحداها : أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى ـ علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين.

وثانيهما : أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوى فيه ، ثم إنا نشاهد طراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة وبحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة ، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة. فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ بعد كلام طويل : فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة ، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة» (١).

وقوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أى : يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو كالنطفة والحبة.

والجملة الكريمة مستأنفة مبينة لما قبلها ولذلك ترك العطف ، وقيل خبر ثان ولم يعطف لاستقلاله في الدلالة على عظمة الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٩٧.

١٣٥

وقوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أى : مخرج الميت كالحب والنوى من النبات والبيضة والنطفة من الحيوان.

قال صاحب المنار : فإن قيل إن علماء المواليد يزعمون أن في كل أصول الأحياء حياة فكل ما ينبت من ذلك ذو حياة كامنة إذا عقم بالصناعة لا ينبت ، قلنا : إن هذا اصطلاح لهم يسمون القوة أو الخاصية التي يكون بها الحب قابلا للإنبات حياة ، ولكن هذا لا يصح في اللغة إلا بضرب من التجوز وإنما حقيقة الحياة في اللغة ما يكون به الجسم متغذيا ناميا بالفعل ، وهذا أدنى مراتب الحياة عند العرب ، ولها مراتب أخرى كالإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام ، وهذا أعلى مراتب الحياة في المخلوق» (١).

ونقل بعض المفسرين عن ابن عباس أن معنى الجملتين : يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ومثله إخراج البار من الفاجر والصالح من الطالح والعالم من الجاهل وعكسه ، وذلك بحمله الحياة والموت على المعنوي منها كما في قوله ـ تعالى ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ).

ويبدو لنا أن حمل الحياة والموت هنا على المعنى المعنوي لا يناسبه سياق الآيات التي معنا ، لأنها تتحدث عن آثار قدرة الله المحسوسة ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويتأمل كل ذي عقل في مظاهر قدرة الله في كونه يهتدى إلى طريق الحق والصواب.

وقوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معطوف على ما قبله وهو قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) لأنه إخبار بضد مضمونه وهو وضع آخر عجيب دال على كمال القدرة.

وجيء بجملة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فعليه لإرادة تصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع. وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي.

ويرى صاحب الكشاف أن قوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معطوف على (فالِقُ) لا على (يُخْرِجُ) لأنه بيان لفالق الحب والنوى.

قال ـ رحمه‌الله : فإن قلت : كيف قال (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) بلفظ اسم الفاعل بعد قوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)؟ قلت : عطفه على فالق الحب والنوى لا على الفعل ، ويخرج الحي من الميت : موقعه موقع الجملة المبينة لقوله (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) لأن فالق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت ، لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ ص ٦٣١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨.

١٣٦

(ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الأفك ـ بفتح الهمزة ـ مصدر أفكه يأفكه من باب ضرب إذا صرفه عن مكان أو عن عمل ، ويقال أفكت الأرض أفكا : أى صرف عنها المطر.

والإشارة بذلكم لزيادة التمييز ، وللتعريض بغباوة المخاطبين والمشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على أنه هو المستحق للعبادة.

والمعنى : ذلكم المتصف بما ذكر من مقتضى الحكمة البالغة والقدرة النافذة هو الله خالق كل شيء فكيف تصرفون عن عبادة من يخلق إلى عبادة من لا يخلق ، وتشركون معه من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟.

قال الإمام الرازي : والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان ، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ألوانا أخرى من مظاهر قدرته وحكمته فقال : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً).

الإصباح : مصدر سمى به الصبح ، أى : شاق ظلمة الصبح ـ وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الفجر المستطيل الكاذب ـ عن بياض النهار فيضيء الوجود ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بسواده ، ويجيء النهار بضيائه.

وجملة «فالق الإصباح» خبر لمبتدأ محذوف أى : هو فالق ، أو خبر آخر لإنّ (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أى وجعل الليل محلا لسكون الخلق فيه ، وراحة لهم بعد معاشهم بالنهار وسعيهم للحصول على رزقهم.

قال صاحب الكشاف : السكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه ، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ، ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه ، ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكونا فيه من قوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) (٢).

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) الحسبان في الأصل مصدر حسب ـ بفتح السين ـ كالغفران والشكران تقول حسبت المال حسبانا : أى أحصيته عددا. والمعنى : وجعل الشمس والقمر يجريان في الفلك بحساب مقدر معلوم لا يتغير ولا يضطرب حتى ينتهى إلى أقصى منازلهما بحيث

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨.

(٢) تفسير الكشاف : ج ٢ ص ٤٩.

١٣٧

تتم الشمس دورتها في سنة ويتم القمر دورته في شهر ، وبذلك تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة وغيرها ، قال ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١).

وقوله (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أى : ذلك الجعل والتسيير البديع الشأن تقدير العزيز ، أى : الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص ، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما ملخصه :

«اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم ـ أى قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ) ... إلخ ـ كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان ، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية ، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية».

وبعد أن ساق ـ رحمه‌الله ـ الأدلة على ذلك قال : والعزيز إشارة إلى كمال قدرته ، والعليم إشارة إلى كمال علمه ، ومعناه : أن تقدير الأفلاك بصفاتها المخصوصة ، وهيآتها المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة ، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة ، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم» (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ نوعا ثالثا من الدلائل على كمال قدرته ورحمته وحكمته فقال ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي أنشأ لكم هذه الكواكب النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم في ظلمات الليل بالبر والبحر حيث لا ترون شمسا ولا قمرا.

وجملة (لِتَهْتَدُوا بِها) بدل اشتمال من ضمير (لَكُمُ) بإعادة العامل ، فكأنه قيل : جعل النجوم لاهتدائكم.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى : قد وضحنا وبينا الآيات الدالة على قدرته ـ تعالى ـ

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٥.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٩٩.

١٣٨

ورحمته بعباده ، لقوم يعلمون وجه الاستدلال بها فيعملون بموجب علمهم ، ويزدادون إيمانا على إيمانهم.

فالجملة الكريمة مستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.

والتعريف في الآيات للاستغراق فيشمل آية خلق النجوم وغيرها.

ثم ساق ـ سبحانه ـ لونا رابعا من دلائل كمال قدرته ورحمته. فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ).

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم ـ عليه‌السلام ـ قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

وفي هذه الجملة الكريمة تذكير بنعمة أخرى من نعم الله على خلقه ، لأن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتراحم والتعاطف ، وفيها ـ أيضا ـ دليل على عظيم قدرته ـ عزوجل ـ. والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) للتفريع عن أنشأكم.

أى : أنشأكم من نفس واحدة فلكم موضع الاستقرار في الأرحام أو في الأرض وموضع استيداع في الأصلاب أو في القبور.

وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس ، وقد زكاه الإمام الرازي فقال : ومما يدل على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا فالمستقر أقرب إلى الثبات من المستودع» (١).

وقيل المستقر حالة الإنسان بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة ، وكذلك إن كان شقيا ، والمستودع حالة قبل الموت لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا.

وقيل : المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها ، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق.

والذي نراه أن الرأى الأول هو الصحيح لأنه رأى جمهور المفسرين ، ولأن شواهد القرآن تؤيده كما في قوله ـ تعالى ـ (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وكما في قوله ـ تعالى ـ (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

وقرئ (فَمُسْتَقَرٌّ) ـ بكسر القاف ـ أى : فمنكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٠٤.

١٣٩

وقوله (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أى : قد فصلنا الآيات الدالة على قدرتنا ووضحناها لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ويتدبرونه فينتفعون بذلك.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قيل «يعلمون» مع ذكر النجوم و (يَفْقَهُونَ) مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنته وتدقيق نظره مطابقا له (١).

وقد علق صاحب الانتصاف على كلام الزمخشري بما ملخصه : «جواب الزمخشري صناعى ، والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة ، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ ، لما في ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة ، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآية الأولى خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة ، وتقلباتهم في أطوار مختلفة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها ، فإذا تمهد ذلك فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أشبع القبيلين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا .. وإذا قيل : فلان «لا يفقه شيئا» كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا وكأن معنى قولك لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك «لا يعلم شيئا» فغايته نفى حصول العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم» (٢).

ثم ساق ـ سبحانه ـ حجة خامسة تدل دلالة واضحة على كمال قدرته وعلمه ورحمته وإحسانه إلى خلقه فقال ـ تعالى ـ :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة في الكم والكيف والطعوم والألوان ، قال ـ تعالى ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥١.

(٢) حاشية الانتصاف على تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥ لابن المنير.

١٤٠