التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0530-6
الصفحات: ٤٧٢

أحدها : أنها منصوبة على المصدر بفعل مضمر وقدره بعضهم أمرا ، أى : ولكن ذكروهم ذكرى ، وبعضهم قدره خبرا. أى : ولكن يذكرونهم ذكرى.

والثاني : أنه مبتدأ خبره محذوف : أى : ولكن عليكم ذكرى ، أى : تذكيرهم.

والثالث : أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : هو ذكرى أى : النهى عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى.

والرابع : أنه عطف على موضع شيء المجرور بمن أى : ما على المتقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات وأما على الأوجه السابقة فهو من عطف الجمل» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينطلق في تبليغ دعوته دون أن يشغل نفسه بسفاهة السفهاء ، وأن يذكر المعاندين بسوء مصيرهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٤.

١٠١

وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

والمعنى : واترك يا محمد هؤلاء الغافلين الذين اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا من تعاليمه واستهزءوا بها ، وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا إليها ، واشتغلوا بلذاتها وزعموا أنه لا حياة بعدها.

ولم يقل ـ سبحانه ـ اتخذوا اللعب واللهو دينا لأنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللعب واللهو دينا لهم ، وإنما هم عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسموها دينا.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : ومعنى (ذَرْهُمْ*) : أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا ، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه قال له بعده (وَذَكِّرْ بِهِ) وإنما المراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم .. ومعنى اتخاذ دينهم لعبا ولهوا ، أنهم اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم ، أو أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهى والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر ، ولم يكونوا يحتاطون في أمر الدين ، بل كانوا يكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله عنهم لذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. وأنهم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا قال ابن عباس : جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله ، ثم إن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا أما المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله ...» (١).

والضمير في قوله (وَذَكِّرْ بِهِ) يعود إلى القرآن : وقد جاء مصرحا به في قوله ـ تعالى ـ (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

وقوله (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أى : وذكر بهذا القرآن أو بهذا الدين الناس مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك ، أو تحبس أو ترتهن أو تفتضح ، أو تحرم الثواب بسبب كفرها واغترارها بالحياة الدنيا ، واتخاذها الدين لعبا ولهوا.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٦٥.

١٠٢

ولفظ تبسل مأخوذ من السبل بمعنى المنع بالقهر أو التحريم أو الحبس ومنه أسد باسل لمنعه فريسته من الإفلات. وشراب بسيل أى متروك وهذا الشيء بسيل عليك أى محرم عليك.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذه النفس المعرضة للحرمان ليس لها ما يدفع عنها السوء فقال : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أى : ليس لهذه النفس من غير الله ناصر ينصرها ولا شفيع يدفع عنها ، ومهما قدمت من فداء فلن يقبل منها ، فالمراد بالعدل هنا الفداء فهو كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

قال الإمام الرازي : والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولى يتولى دفع ذلك المحذور عنها ، ولا شفيع يشفع فيها ، ولا فدية تقبل منها ليحصل الخلاص بسبب قبولها ، حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت وجوه الخلاص هي الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله ، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصى الله» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة أولئك الغافلين فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

أى : أولئك الذين أسلموا للهلاك بسبب ما اكتسبوه في الدنيا من أعمال قبيحة لهم شراب من حميم أى من ماء قد بلغ النهاية في الحرارة يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم ، ولهم فوق ذلك عذاب مؤلم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ثم ساق القرآن صورة منفرة للشرك والمشركين تدعو المؤمنين إلى أن يزدادوا إيمانا على إيمانهم فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا).

قال ابن كثير : قال السدى : قال المشركون للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله ـ عزوجل ـ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) (٢).

والمعنى : قل يا محمد أو أيها العاقل لهؤلاء المشركين الذين يحاولون رد المسلمين عن الإسلام ، قل لهم : أنعبد من دون الله مالا يقدر على نفعنا إن دعوناه ولا على ضرنا إن تركناه

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٦٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٤٥.

١٠٣

(وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أى نرجع إلى الشرك الذي كنا فيه ، بعد أن هدانا الله إلى الإسلام وأنقذنا من الكفر والضلال. يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها : قد رد على عقبيه.

والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار والنفي ، وجيء بنون المتكلم ومعه غيره ، لأن الكلام مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلهم.

والمراد بما لا ينفع ولا يضر : تلك الأصنام فإنها مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضر ، ولو كانت تستطيع الضر لأضرت بالمسلمين لأنهم خلعوا عبادتها ، وسفهوا أتباعها ، وأعلنوا حقارتها.

وجملة (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) معطوفة على (نَدْعُوا) و «على» داخلة في حيز الإنكار والنفي. والتعبير عن الشرك بالرد على الأعقاب لزيادة تقبيحه بتصويره ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى أن الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر ، ومن المستحيل أن يرجع إليها من ذاق حلاوة الإيمان.

وحرف (عَلى) في قوله (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) للاستعلاء ، أى رجع على طريق هي جهة عقبه أى مؤخر قدمه كما يقال : رجع وراءه ثم استعمل هذا التعبير في التمثيل للتلبس بحالة ذميمة كان قد فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبس بها.

وفي الحديث الشريف «اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم».

ثم ساق القرآن صورة مؤثرة دقيقة للضلالة والحيرة التي تناسب من يشرك بعد التوحيد فقال : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا).

(اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أى استغوته وزينت هواه ودعته إليه ، والعرب تقول : استهوته الشياطين ، لمن اختطف الجن عقله فسيرته كما تريد دون أن يعرف له وجهة في الأرض.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : أتريدون منا أن نعود إلى الكفر بعد أن نجانا الله منه فيكون مثلنا كمثل الذي ذهبت به مردة الشياطين فألقته في صحراء مقفرة وتركته تائها ضالا عن الطريق القويم ولا يدرى ماذا يصنع وله أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم قائلين له : ائتنا لكي تنجو من الهلاك ولكنه لحيرته وضلاله لا يجيبهم ولا يأتيهم.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : «إن مثل من يكفر بالله بعد إيمانه كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم ويقولون : ائتنا فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم ، فذلك مثل من

١٠٤

يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام» (١).

ثم أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد على الكفار بما يخرس ألسنتهم فقال :

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن هدى الله الذي أرسلت به رسله هو الهدى وحده وما وراءه ضلال وخذلان ، وأمرنا لنسلم وجوهنا لله رب العالمين.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما محل الكاف في قوله «كالذي استهوته» قلت : النصب على الحال من الضمير في (نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أى : أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت ما معنى (اسْتَهْوَتْهُ)؟ قلت هو استفعال من هوى في الأرض أى ذهب فيها ، كأن معناه : طلبت هويه وحرصت عليه ، فإن قلت : فما محل أمرنا؟ قلت : النصب عطفا على محل قوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) على أنهما مقولان كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم (٢).

وقوله (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) معطوف على محل (لِنُسْلِمَ) كأنه قيل أمرنا لنسلم وأمرنا أيضا بإقامة الصلاة والاتقاء.

وفي تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع وعطفها على الأمر بالإسلام ، وقرنها بالأمر بالتقوى دليل على تفخيم أمرها وعظمة شأنها.

وقوله (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر من الأمور الثلاثة ، أى : هو الذي تعودون إليه يوم القيامة للحساب لا إلى غيره.

وقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) معطوف على قوله (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

قال الآلوسى : «ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما ـ أيضا ـ وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات.

وقوله «بالحق» متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل «خلق» أى : قائما بالحق ، وجوز أن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أى : خلقا متلبسا بالحق».

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٤٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧.

١٠٥

والحق في الأصل مصدر حق إذا ثبت ، ثم صار اسما للأمر الثابت الذي لا ينكر ، وهو ضد الباطل.

وقوله (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) أى : وقضاؤه المعروف بالحقيقة كائن ، حين يقول ـ سبحانه ـ لشيء من الأشياء «كن فيكون» ذلك الشيء ويحدث.

و (يَوْمَ) خبر مقدم ، و (قَوْلُهُ) مبتدأ مؤخر ، و (الْحَقُ) صفته.

والجملة الكريمة بيان لقدرته ـ تعالى ـ على حشر المخلوقات بكون مراده لا يتخلف عن أمره ، وإن قوله هو النافذ وأمره هو الواقع قال ـ تعالى ـ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وفي قوله (قَوْلُهُ الْحَقُ) صيغة قصر للمبالغة أى : هو الحق الكامل ، لأن أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحق فهي معرضة للخطأ وما كان فيها غير معرض للخطأ فهو من وحى الله أو من نعمته بالعقل والإصابة للحق.

وقوله (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أى : أن الملك لله تعالى وحده في ذلك اليوم فلا ملك لأحد سواه.

قال أبو السعود : «وتقييد اختصاص الملك له ـ تعالى ـ بذلك اليوم مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات لغاية ظهور ذلك بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للملكية المجازية في الجملة ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ).

المراد «بالصور» القرن الذي ينفخ فيه الملك نفخة الصعق والموت ، ونفخة البعث والنشور والله أعلم بحقيقته.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : إن أعرابيا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصور فقال : «قرن ينفخ فيه» رواه أبو داود والترمذي والحاكم عنه أيضا.

وقيل المراد بالصور هنا جمع صورة والمراد بها الأبدان أى : يوم ينفخ في صور الموجودات فتعود إلى الحياة.

ثم ختمت الآية بما يدل على سعة علم الله ـ تعالى ـ وعظم إتقانه في صنعه فقال ـ تعالى ـ : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

الغيب. ما غاب عن الناس فلم يدركوه. الشهادة : ضد الغيب وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصلون إلى علمها.

١٠٦

وصفة (الْحَكِيمُ) تجمع إتقان الصنع فدل على عظم القدرة مع تعلق العلم بالمصنوعات.

وصفة (الْخَبِيرُ) تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيها.

أى : فهو ـ سبحانه ـ وحده العالم بأحوال جميع الموجودات ما غاب منها وما هو مشاهد ، وهو ذو الحكمة في جميع أفعاله والعالم بالأمور الجلية والخفية.

وبعد أن ساق القرآن ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وسعة علمه وقدرته أخذ في التدليل على بطلان الشرك وإثبات التوحيد عن طريق القصة ، فحكى لنا جانبا مما قاله إبراهيم لأبيه وقومه فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩)

والمعنى : واذكر يا محمد وذكر قومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن قال إبراهيم لأبيه آزر منكرا عليه عبادة الأصنام (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) تعبدها من دون الله الذي خلقك فسواك فعدلك (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) الذين يتبعونك في عبادتها في ضلال مبين ، أى في انحراف ظاهر بين عن الطريق المستقيم.

١٠٧

قال الآلوسى : (وآزر بزنة آدم علم أعجمى لأبى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وكان من قرية من سواد الكوفة ، وهو بدل من إبراهيم أو عطف بيان عليه ، وقيل : إنه لقب لأبى إبراهيم واسمه الحقيقي تارح وأن آزر لقبه ، وقيل هو اسم جده ومنهم من قال اسم عمه ، والعم والجد يسميان أبا مجازا) (١).

والاستفهام في قوله (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) للإنكار. والتعبير بقوله (أَتَتَّخِذُ) الذي هو افتعال من الأخذ ، فيه إشارة بأن عبادته هو وقومه لها شيء مصطنع ، والأصنام ليست أهلا للألوهية ، وفي ذلك ما فيه من التعريض بسخافة عقولهم ، وسوء تفكيرهم.

والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشىء المشاهد لوضوحه ، وعليه فقوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع المفعول.

ويجوز أن تكون الرؤية علمية وعليه فقوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع المفعول الثاني.

ووصف الضلال بأنه مبين يدل على شدة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئي.

قال الشيخ القاسمى : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين لا سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب فهو أهم ، ولهذا قال ـ تعالى ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقال ـ تعالى ـ : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولهذا بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلى وخديجة وزيد وكانوا معه في الدار فآمنوا وسبقوا ، ثم بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالي ، وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه ، وتدل هذه الآية ـ أيضا ـ على أن النصيحة في الدين ، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق ، وقد ثبت في الصحيح عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة «وعلى وجه آزر قترة وغبرة» فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأى خزي أخزى من أبى الأبعد؟ فيقول الله ـ تعالى ـ «إنى حرمت الجنة على الكافرين».

ثم قال الشيخ القاسمى : والآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا ، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه ، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ومثله لا يجزم به من غير نقل» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ١٤٩.

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٣٣٦٨.

١٠٨

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر نعمه على خليله إبراهيم فقال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

أى : وكما أرينا إبراهيم الحق في خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك ، نريه ـ أيضا ـ مظاهر ربوبيتنا ، ومالكيتنا للسموات والأرض ، ونطلعه على حقائقها. ليزداد إيمانا على إيمانه وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل.

والرؤية هنا المقصود بها الانكشاف والمعرفة. فتشمل المبصرات والمعقولات التي يستدل بها على الحق.

وإنما قال (نُرِي إِبْراهِيمَ) بصيغة المضارع ، مع أن الظاهر أن يقول «أريناه» لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته ـ تعالى ـ في ذلك الملكوت العظيم.

والملكوت : مصدر كالرغبوت والرحموت والجبروت ، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة ، والمراد به الملك العظيم وهو مختص بملكه ـ تعالى ـ كما قال الراغب في مفرداته.

ثم بين ـ سبحانه ـ ثمار تلك الإراءة التي أكرم بها نبيه إبراهيم فقال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي).

(جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) : أى ستره بظلامه وتغشاه بظلمته ، وأصل الجن : الستر عن الحاسة.

يقال : جنه الليل وجن عليه يجن جنا وجنونا ، ومنه الجن والجنة ـ بالكسر ـ والجنة ـ بالفتح ـ وهي البستان الذي يستر بأشجاره الأرض.

والمعنى : فلما ستر الليل بظلامه إبراهيم رأى كوكبا قال هذا ربي ، قال ذلك على سبيل الفرض وإرخاء العنان ، مجاراة مع عباد الأصنام والكواكب ليكر عليه بالإبطال ، ويثبت أن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال.

قال صاحب الكشاف : «كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال. ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها. لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقول إبراهيم (هذا رَبِّي) قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكى قوله كما روى غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٧٦.

١٠٩

وجملة (قالَ هذا رَبِّي) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة «رأى كوكبا» وهو أن يسأل سائل : فماذا كان منه عند ما رآه ، فيكون قوله : (قالَ هذا رَبِّي) جوابا لذلك.

وقوله (فَلَمَّا أَفَلَ) أى : غاب وغرب : يقال أفل الشيء يأفل أفلا وأفولا أى : غاب.

وقوله (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أى : لا أحب عبادة الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال ، لأن الأفول غياب وابتعاد ، وشأن الإله الحق أن يكون دائم المراقبة لتدبير أمر عباده.

وجاء بالآفلين بصيغة جمع المذكر المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة في الأكوان.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة ثانية من الحالات التي برهن بها إبراهيم على وحدانية الله فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) أى : فلما رأى إبراهيم القمر مبتدئا في الطلوع ، منتشرا ضوؤه من وراء الأفق قال هذا ربي.

وبازغا : مأخوذ من البزوع وهو الطلوع والظهور. يقال : بزغ الناب بزوغا إذا طلع.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).

أى : فلما أفل القمر كما أفل الكوكب من قبله قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي إلى جناب الحق وإلى الطريق القويم الذي يرتضيه لأكونن من القوم الضالين عن الصراط المستقيم ، لأن هذا القمر الذي يعتوره الأفول ـ أيضا ـ لا يصلح أن يكون إلها.

وفي قول إبراهيم لقومه هذا القول تنبيه لهم لمعرفة الرب الحق وأنه واحد وأن الكواكب والقمر كليهما لا يستحقان الألوهية. وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب. ثم عرض بقومه بأنهم ضالون ، لأن قوله «لأكونن من القوم الضالين» يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أنه لون من الضلال.

وإنما استدل على بطلان كون القمر إلها بعد أفوله ، ولم يستدل على بطلان ذلك بمجرد ظهوره مع أن أفوله محقق ، لأنه أراد أن يقيم استدلاله على المشاهدة لأنها أقوى وأقطع لحجة الخصم.

ثم حكى القرآن الحالة الثالثة والأخيرة التي استدل بها إبراهيم على بطلان الشرك فقال ـ تعالى ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) أى : فلما رأى إبراهيم الشمس مبتدئة في الطلوع وقد عم نورها الآفاق ، قال مشيرا إليها (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) أى : أكبر الكواكب جرما وأعظمها قوة ، فهو أولى بالألوهية ان كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.

١١٠

فقوله (هذا أَكْبَرُ) تأكيد لما رامه من إظهار النصفة للقوم ، ومبالغة في تلك المجاراة الظاهرة لهم ، وتمهيد قوى لإقامة الحجة البالغة عليهم ، واستدراج لهم إلى ما يريد أن يلقيه على مسامعهم بعد ذلك.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما وجه التذكير في قوله (هذا رَبِّي) والإشارة للشمس؟ قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ومن كانت أمك ، وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث (١).

وقوله (فَلَمَّا أَفَلَتْ) قال : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أى فلما غابت الشمس واحتجب ضوؤها ، جاهر إبراهيم قومه بالنتيجة التي يريد الوصول إليها فقال : يا قوم إنى برىء من عبادة الأجرام المتغيرة التي يغشاها الأفول ، وبرىء من إشراككم مع الله آلهة أخرى.

قال الآلوسى : وإنما احتج ـ عليه‌السلام ـ بالأفول دون البزوغ مع أنه انتقال ، لأن الأفول متعدد الدلالة أيضا إذ هو انتقال مع احتجاب ولا كذلك البزوغ ، ولأن دلالة الأفول على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول (٢).

هذا والمتأمل في هذه الحالات الثلاث يرى أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قد سلك مع قومه أحكم الطرق في الاستدلال على وحدانية الله ، فقد ترقى معهم وهو يأخذ بيدهم إلى النتيجة التي يريدها بأسلوب يقنع العقول السليمة ، ورحم الله صاحب الانتصاف فقد بين ذلك بقوله : «والتعريض بضلالهم ثانيا أى في قوله (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أصرح وأقوى من قوله أولا (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وإنما ترقى إلى ذلك ، لأن الخصوم قد أقام عليهم بالاستدلال الأول حجة ، فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض ـ صلوات الله عليه ـ بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة ، وتبلج الحق ، وبلغ من الظهور غاية المقصود (٣).

ثم ختم إبراهيم هذا الترقي في الاستدلال على وحدانية الله بقوله ـ كما حكى القرآن

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٢٢.

(٣) الإنصاف على الكشاف لأحمد بن المنير ج ٢ ص ٤٠.

١١١

عنه ـ : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) أى : إنى صرفت وجهى وقلبي في المحبة والعبادة لله الذي أوجد وأنشأ السموات والأرض على غير مثال سابق.

ومعنى (حَنِيفاً) مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة كلها إلى الدين الحق ، وهو ـ أى حنيفا ـ حال من ضمير المتكلم في (وَجَّهْتُ).

وقوله (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أى : وما أنا من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى لا في أقوالهم ولا في أفعالهم. وقد أفادت هذه الجملة التأكيد لجملة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) .. إلخ.

وبذلك يكون إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قد أقام الأدلة الحكيمة والبراهين الساطعة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وسفه المعبودات الباطلة وعابديها.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض ما دار بين إبراهيم وبين قومه من مجادلات ومخاصمات فقال :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢)

المحاجة : المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة ، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى : المقصد المستقيم ـ كما قال الراغب ـ وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه.

فمعنى (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أى : جادلوه وخاصموه أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة

١١٢

بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد ، وأخرى بالتهديد والتخويف ، فقد حكى القرآن أنهم قالوا له عند ما نهاهم عن عبادة الأصنام (وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ).

وقد رد عليهم إبراهيم ردا قويا جريئا فقال لهم : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أى أتجادلونني في شأنه ـ تعالى ـ وفي أدلة وحدانيته ، والحال أنه ـ سبحانه ـ قد هداني إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة.

والاستفهام للإنكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم.

وجملة (وَقَدْ هَدانِ) حال مؤكدة للإنكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن هداني الله إلى الطريق المستقيم ، وجعلني من المبغضين للأصنام المحتقرين لها.

ثم صارحهم بأنه لا يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تقرب ولا تشفع. ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنامهم وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح.

وقوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استثناء مما قبله أى : لا أخاف معبوداتكم في جميع الأوقات إلا وقت مشيئة ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى ، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئة لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها ، وعلى هذا التفسير الذي ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا.

ويرى ابن عطية وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى : لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي مما أشركتم به.

وهذه الجملة الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع ربه ، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته ، فمع أنه مؤمن بخالقه كل الإيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران ، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة الله ، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه.

وقوله (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أى : أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به ، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال ما يخفيني من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب.

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا فكأن قومه قد قالوا : كيف يشاء ربك شيئا تخافه فكان جوابه عليهم : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو النفع بمن يشاء من عباده.

و (عِلْماً) منصوب على التمييز المحول عن الفاعل ، إذ الأصل في هذا التعبير «أن يقال :

١١٣

وسع علم ربي كل شيء ، ولكن عدل به عن هذا النسق ، وأسند الفعل فيه إلى الله لا إلى علمه ، وجعل لفظ العلم تمييزا لا فاعلا ليكون الوسع والإحاطة والشمول لله ، فيخلع التعبير ظلا أشمل وأفخم وأعمق وقعا في النفس.

وقوله (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أى تعرضون أيها الغافلون عن التأمل والتذكير بعد أن أوضحت لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات التي سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.

فالاستفهام للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل.

وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول ولا يتوقف إلا على التذكير.

ثم حكى القرآن عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه بعد أن صارح قومه بأنه لا يخشى آلهتهم ، أخذ في التهكم بهم والتعجب من شأنهم لأنهم يخوفونه مما لا يخيف فقال : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً).

أى : كيف ساغ لكم أن تظنوا أنى أخاف معبوداتكم الباطلة وهي مأمونة الخوف لأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنتم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم دون أن يكون معكم على هذا الإشراك حجة أو برهان من العقل أو النقل.

فالاستفهام للإنكار التعجبي من إنكارهم عليه الأمن في موضع الأمن ، وعدم إنكارهم على أنفسهم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهوالها وهو إشراكهم بالله.

قال بعض العلماء : وجملة (وَكَيْفَ أَخافُ) .. إلخ. معطوفة على جملة (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من الله ، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك (١).

وقال الآلوسى : وقوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لنفى الخوف عنه ـ عليه‌السلام ـ بحسب زعم الكفر بالطريق الإلزامى بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر ، وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية ، فإذا انتفت جميع كيفياته فقد انتفى من جميع الجهات بالطريق البرهاني» (٢).

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد عاشور ج ٧ ص ٣٣٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٠٦.

١١٤

وما في قوله (ما أَشْرَكْتُمْ) موصولة والعائد محذوف أى : ما أشرككم به ، ثم ركب ـ عليه‌السلام ـ على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له فقال : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أى : فأى الفريقين فريق الموحدين أم فريق المشركين أحق وأولى بالأمن من لحوق الضرر به ، إن كنتم تعلمون ذلك فأخبرونى به وأظهروه بالدلائل والحجج. فجواب الشرط محذوف تقديره أخبرونى بذلك.

وهذا لون من إلجائهم إلى الاعتراف بالحق إن كانوا ممن يعقل أو يسمع ، وحث لهم على الإجابة.

قال صاحب المنار : «ونكتة عدوله عن قوله «فأينا أحق بالأمن» إلى قوله «فأى الفريقين» هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك ، لا خاصة به وبهم ، فهي متضمنة لعلة الأمن. وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس ، واسم التفضيل على غير بابه ، فالمراد أينا حقيق بالأمن ، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن وأنه الحقيق بالخوف إلى الوسط النظري بين الأمرين ؛ وهو أى الفريقين أحق ، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ من هو الفريق الأحق بالأمن فقال ـ تعالى ـ :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بأى لون من ألوان الشرك كما يفعله فريق المشركين حيث إنهم عبدوا الأصنام وزعموا أنهم ما عبدوها إلا ليتقربوا بها إلى الله زلفى ، أولئك المؤمنون الصادقون لهم الأمن دون غيرهم لأنهم مهتدون إلى الحق وغيرهم في ضلال مبين.

هذا وقد وردت أحاديث صحيحة فسرت الظلم في هذه الآية بالشرك ، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال الصحابة : وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم نفسه؟ قال : «إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) إنما هو الشرك».

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ ص ٢٧٩.

١١٥

قال الإمام الرازي : والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفى الشركاء والأضداد والأنداد ، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ها هنا على ذلك» (١).

وقد فسر الزمخشري في كشافه الظلم بالمعصية فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس (٢). أى : لأن لبس الإيمان بالشرك أى خلطه به مما لا يتصور لأنهما ضدان لا يجتمعان في رأى الزمخشري.

قال الشيخ القاسمى : وفهم الزمخشري هذا مدفوع بأنه يلابسه ، لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب لجواز أن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته لما في قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر ، فلا يلزم من لبس الإيمان بالكفر الجمع بينهما ، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك ، بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا ، أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا» (٣).

وقال صاحب الانتصاف : «وإنما يروم الزمخشري بذلك تنزيل الآية على معتقده في وجوب وعيد العصاة وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين : الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار ، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود ، وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما» (٤).

والذي نراه أنه مادام قد ورد عن الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح أنه قد فسر الظلم في الآية بالشرك فيجب أن نسلم به وأن نعض عليه بالنواجذ ، واجتهاد الزمخشري هنا ـ لتأييد مذهبه ـ مجانب للصواب ، لأنه لا اجتهاد مع النص. لا سيما وأن حديث عبد الله بن مسعود المتقدم قد خرجه الشيخان وغيرهما من أعلام السنة.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر فضله على نبيه إبراهيم ـ فقال ـ تعالى :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٨٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢.

(٣) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٢٠٩.

(٤) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ٢ ص ٤٢.

١١٦

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه أظهر حجة الله في التوحيد ونصرها ، وذب عنها ، عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه.

فأولها : قوله (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها ، وأوقفنا عقله على حقيقتها.

١١٧

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية وهي قوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).

وثالثها : أنه جعله عزيزا في الدنيا وذلك لأنه ـ تعالى ـ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة ، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك (١).

والإشارة في قوله ـ تعالى ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في مجادلة قومه في شأن وحدانية الله وبطلان الشرك.

وأضاف ـ سبحانه ـ الحجة إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو «نا» تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها ، والمراد بالحجة جنسها لا فرد من أفرادها.

أى : وتلك الحجة التي لا يمكن نقضها أو مغالبتها في إثبات الحق وتزييف الباطل أعطيناها إبراهيم ليكون مستعليا بها على قومه ، قاطعا لألسنتهم عن المجادلة والمخاصمة.

وجملة (آتَيْناها) في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة.

وقوله (عَلى قَوْمِهِ) متعلق «بحجتنا» إن جعل خبرا لتلك ، وبمحذوف إن جعل بدله. أى : آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين لتكون الغلبة عليهم.

وقوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أى نرفع من شئنا من عبادنا درجات عالية من العلم والحكمة.

والدرجات في الأصل تطلق على مراقى السلم. والمراد بها هنا المراتب المعنوية في الخير على سبيل التمثيل ، فقد شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقى في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة.

والجملة مستأنفة على سبيل التقرير لما قبلها ، وقيل هي حال من فاعل آتينا أى حال كوننا رافعين.

ومفعول المشيئة محذوف. أى : من نشاء رفعه على حسب ما تقتضيه حكمتنا. وقد دل قوله (مَنْ نَشاءُ) على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، أى : إن ربك الذي

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٨٢.

١١٨

خلقك فسواك فعدلك (حَكِيمٌ) في كل ما يفعل من رفع هذا وخفض ذاك ، (عَلِيمٌ) كل العلم بحال خلقه وسياسة عباده.

قال الإمام الرازي : واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية لا في الصفات الجسمانية ، والدليل على ذلك أن الله ـ تعالى ـ قال (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ثم قال بعده (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضى أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة واطلاعها على إشراقها اقتضى ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالى العالم الروحاني ، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات» (١).

وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) أى : ووهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما وعوضا عن قومه لما اعتزلهم ؛ إسحاق وهو ولده من زوجه سارة ، ويعقوب وهو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء عقبه ؛ إذ في رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس ، وراحة للفؤاد.

وقوله (كُلًّا هَدَيْنا) أى : كلا من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة.

ولفظ (كُلًّا) مفعول لما بعده وقدم لإفادة اختصاص كل منهما بالهداية على سبيل الاستقلال والتنويه بشأنهما.

وقوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أى : وهدينا نوحا من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا إليه إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة.

وهذا لون آخر من تشريف إبراهيم حيث أنه من نسل نوح الذي وصفه الله بالهداية ، ولا شك أن شرف الآباء يسرى على الأبناء.

وقال ابن كثير ، «وكل منهما له خصوصية عظيمة. أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته كما قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (٢).

ثم قال ـ تعالى ـ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٨٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٠٤.

١١٩

الضمير في قوله ـ تعالى ـ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يرى ابن جرير وغيره أنه يعود إلى نوح لأنه أقرب مذكور.

ويرى جمهور المفسرين أنه يعود على إبراهيم لأن الكلام في شأنه وفي شأن النعم التي منحها الله إياه.

وقد ذكر الله في هذه الآيات أربعة عشر نبيا وهم :

١ ـ داود بن يسى من سبط يهوذا من بنى إسرائيل وكانت ولادته في بيت لحم سنة ١٠٨٥ ق. م تقريبا وهو الذي قتل جالوت كما جاء في القرآن الكريم (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) وكانت وفاته سنة ١٠٠٠ ق م تقريبا.

٢ ـ سليمان بن داود ـ عليهما‌السلام ـ ولد بأورشليم حوالى سنة ١٠٤٣ ق. م. وتوفى سنة ٩٧٥ ق. م. وقد جاء ذكر داود وسليمان في كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

٣ ـ أيوب ، قال ابن جرير : هو ابن موصى بن روم بن عيص بن إسحاق ، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة.

٤ ـ يوسف وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وكانت ولادته قبل ميلاد عيسى ـ عليه‌السلام ـ بألفى سنة تقريبا.

٥ ـ موسى وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب وكانت ولادته حوالى القرن الرابع عشر ق. م.

٦ ـ هارون وهو أخو موسى لأمه وقيل لأبيه وأمه ، وقيل مات قبيل موسى بزمن يسير.

٧ ـ زكريا وهو ابن أزن بن بركيا ويتصل نسبه بسليمان ـ عليه‌السلام ـ وكان قريب العهد بعيسى حيث تولى كفالة أمه مريم كما جاء في القرآن الكريم (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).

٨ ـ يحيى وهو ابن زكريا.

٩ ـ عيسى وهو ابن مريم. قال ابن كثير. وفي ذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم.

١٠ ـ الياس وهو ابن فنحاص بن العيزار بن هارون أخى موسى وهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم «إيليا» وقد أرسله الله إلى بنى إسرائيل حين عبدوا الأوثان قال ـ تعالى ـ (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

١٢٠