الرسائل الأربع - ج ٤

عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة

الرسائل الأربع - ج ٤

المؤلف:

عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٠٠

تصحيح عبادية العمل بأوامر الاحتياط

ذكر الشيخ (قدس‌سره) في فرائده ما حاصله : يمكن تصحيح الاحتياط في العبادة بأوامر الاحتياط الواردة في غير واحد من الأخبار واللازم قصد هذه الأوامر.

وأجاب (قدس‌سره) عن إشكال الدور هاهنا بقوله :

«المراد من الاحتياط والاتّقاء في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة : الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل وحينئذ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر.

ومن هنا تتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلّد كون ذلك الفعل مما شك في كونه عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبية. ولو أريد بالاحتياط في هذه الاوامر معناه الحقيقي وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلا مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال حتى يقصد عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه ، فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي» (١).

توضيح كلامه ملخصاً : هو أنّ لزوم الدور ناش ، من كون المراد من الاحتياط في هذه الأخبار معناه الحقيقي وهو إتيان العبادة بجميع ما يعتبر فيها حتى قصد التقرب ، ولكن المقصود منه معناه المجازي وهو إتيانها بجميع ما يعتبر

__________________

(١) فرائد الأُصول : ٢٢٩ ، طبعة رحمة الله.

٤١

فيها عدا القصد المذكور ، وحينئذ يرتفع إشكال الدور ويتحقّق الاحتياط في العبادات المشكوك تعلّق الأمر بها بقصد الأمر الاحتياطي.

وقد نوقش في كلامه من وجوه :

١ ـ ما أفاده صاحب الكفاية (قدس‌سره) وحاصله : أنّه لا يساعد دليل حينئذ على حسن الاحتياط بهذا المعنى بداهة أنّه ليس باحتياط حقيقة ، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوباً مولوياً نفسياً كسائر المستحبات والعقل لا يستقل إلّا بحسن الاحتياط بمعناه المصطلح لا بالمعنى المذكور ، فإشكال الدور باق بحاله.

٢ ـ ما عن المحقّق الخراساني (قدس‌سره) أيضاً وحاصله : أنّه التزام بالإشكال وتسليم لما ذكره المستشكل من عدم جريان الاحتياط بالمعنى المصطلح فيما نحن فيه وليس جواباً عنه.

٣ ـ إنّ الأمر الاحتياطي في الأخبار إرشادي لا يكون منشأ للقرب.

٤ ـ أنّه على فرض المولوية غيري ، وهو غير مصحح للعبادية.

٥ ـ أنّه على تسليم النفسية ، توصلي يسقط بإتيان متعلّقه كيف ما اتفق.

نظرية المحقّق الخراساني في دفع الإشكال :

قال ما حاصله : أنّ منشأ الإشكال هو تخيّل أنّ قصد القربة المعتبر في العبادة يكون كسائر الشروط المعتبرة فيها التي يكون اعتبارها شرعياً مع أنّا حقّقنا في موضعه أنّ اعتباره عقلي لا شرعي ، والعقل لا يحكم بأزيد من قصد الأمر جزمياً كان أو احتمالياً كما في المقام ، فلا مانع حينئذ من تحقق الاحتياط أصلاً ضرورة تمكن المكلّف من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ، غاية الأمر لا بد أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرباً بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر ولا يكتفي بذات العمل فحسب ، فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره

٤٢

تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه سبحانه ويستحق الثواب على كل حال إمّا على الطاعة وإمّا على الانقياد» (١).

ويلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ الإشكال ليس ناشئاً من تخيّل أنّ قصد الأمر معتبر في العبادة شرعاً ، ضرورة أنّه لا تفاوت في جريان الإشكال بين ما إذا قلنا باعتبار قصد الأمر عقلاً أو قلنا باعتباره شرعاً ، بل هو ناش عن أمر آخر وهو تخيّل لزوم الجزم في النية كما هو واضح من عبارة المستشكل.

وثانيا : بما حقّق في موضعه من أنّه لا مانع أصلاً من اعتبار قصد الأمر في متعلق الأمر شرعاً ، فانّ الشارع وإن فرض عدم تمكنه من أخذ قصد الأمر في المتعلق بنحو الدلالة المطابقية لتوجّه إيرادات حينئذ ، إلّا أنّه متمكن من أخذه بنحو الدلالة الالتزامية ، كأن يقول : أقم الصلاة لا للدواعي النفسانية من الرياء والسمعة ، فكأنّه قال : أقم الصلاة لأمره وطاعته ، كما يمكن له التوصّل إلى هذا الغرض بالجمل الخبرية كأن يقول : أقم الصلاة وأعلم أنّ الغرض لا يحصل من الصلاة إلّا بالإتيان بها بداعي أمرها. أو بقوله : يجب عليك الإتيان بالصلاة بهذا الداعي ، أو ما شاكل ذلك.

ويظهر ممّا ذكرنا : أنّه لا مجال للاستشكال عليه (قدس‌سره) بأنّه التزام بالإشكال كما يوجد ذلك في تعاليق بعض المحققين ـ قدس‌سرهم ـ ، فإنّه التزام بالإشكال على مبنى هو فاسد عنده وهو إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلق لا على مبنى آخر الذي هو مختاره.

نظرية الإمام القائد (قدس‌سره):

قال أعلى الله مقامه : إنّ الإشكال ناش من اعتبار الجزم في النية مع أنّه لا دليل على اعتباره ، لا من العقل ولا من النقل. أمّا الأوّل : فلأنّه لا يعقل أن يتجاوز

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢ / ١٩٥.

٤٣

الأمر عمّا تعلّق به ويبعث إلى غير ما تعلّق به ، والمفروض أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب ليس إلّا ذات العمل ونفس العمل فشرطية أمر آخر يحتاج إلى دليل.

وأمّا الثاني : فالدليل الوحيد هو الإجماع على أنّه يشترط في العبادات الإتيان بالعمل لله تعالى ، وأمّا العلم بأنّه عبادة والجزم في النية ، فليس مصباً للاجماع. والحاصل : أنّ ما دل عليه ضرورة الفقه والمسلمين ، أنّه يشترط أن يأتي المكلّف بأعماله ، لوجه الله وهو حاصل عند إتيانه بعنوان الاحتياط ، ضرورة أن داعي المحتاط في أعماله كلها هو طلب مرضاة الله» (١).

أقول : ما أفاده (قدس‌سره) متين لا غبار عليه ، وقد تقدم في رد مقالة المحقّق الخراساني (قدس‌سره) ما يكون مؤيّداً لكلامه الشريف.

نظريّة المحقق النّائيني (قدس‌سره) ونقدها :

قال المحقق النائيني (قدس‌سره) ـ على ما في تقريرات بعض الأجلّة من تلامذته ـ :

«إنّ للامتثال مراتب أربع : أحدها : الامتثال العلمي التفصيلي ، ثانيها : الامتثال العلمي الإجمالي ، ثالثها : الامتثال الظني ، رابعها : الامتثال الاحتمالي.

وهذه المراتب الأربع مترتبة عند العقل حسب ترتبها في الذكر ، بمعنى أنّه لا تحسن المرتبة اللاحقة إلّا عند تعذر المرتبة السابقة. وعلى كل حال ، بعد تعذر المراتب الثلاث من الامتثال التفصيلي والإجمالي والظني تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، والعقل يستقل بحسنه ، ويكون ذلك امتثالاً للأمر الواقعي على تقدير وجوده ، ولا يتوقف حقيقة الامتثال على قصد الأمر التفصيلي وإلّا كان اللازم عدم حصول الامتثال في موارد العلم الإجمالي» (٢).

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٩٠ و ١٩٢.

(٢) فوائد الاصول : ٣ / ٤٠٠ ، طبعة جماعة المدرسين.

٤٤

أقول : يمكن النظر في ما أفاده أوّلاً : بأنّه خروج عن محل الكلام ، لأنّ الإشكال يكون مبتنياً على توقف العبادة في وقوعها وصحتها على العلم بالأمر تفصيلاً أو إجمالاً ، ومعنى ذلك عدم كفاية الامتثال الاحتمالي في حصول المطلوب.

وثانياً : هذه المراتب صحيحة عند من لا يعتبر قصد التمييز في العبادة وإلّا فالامتثال ينحصر في قسم واحد وهو الامتثال العلمي التفصيلي.

وثالثاً : أنّ الأمر في موارد العلم الإجمالي مقطوع الوجود فلا وجه لقياس المقام ، أعني : الشبهات البدوية التي ليس فيها إلّا احتمال الأمر به.

هذا مضافاً إلى إمكان الالتزام بالتالي ، أعني : القول بعدم حصول الامتثال في موارد العلم الإجمالي ، وقد منع بعض الأعاظم الاحتياط فيما يستلزم التكرار في مورد العلم الإجمالي.

هذا تمام الكلام حول مسألة الاحتياط في العبادات المشكوكة. فقد تحصل عدم صحة الاستدلال به في مسألة التسامح وإن ثبت إمكانه عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، كما لا إشكال في الإمكان عند دورانه بين الحرمة وغير الكراهة إذا كان الترك عبادياً.

***

٤٥

إشكالات المسألة :

قد أورد على القائلين بالتسامح إشكالات لا بأس بالتعرّض لها.

الإشكال الأوّل :

إنّ المستند لهم هو اخبار من بلغ وهي آحاد لا تكون حجة في المسألة الأُصولية.

وقد أُجيب عن ذلك بمنع كون المسألة أُصولية لأنّ الكلام ليس في حجية خبر الضعيف في المستحبات لأنّه غير حجة وغير معتبر مطلقاً ولا يجوز الركون إليه في حكم من الأحكام ، وإنّما الكلام في مسألة فرعية وهي استحباب كل فعل بلغ الثواب عليه ، فالخبر الضعيف ليس دليلاً على الحكم وإنّما هو محقق لموضوعه نظير يد المسلم واحتمال طهارة مجهول النجاسة ، فكما أنّ الدليل في ملكية كل ما في يد المسلم واحتمال طهارة مجهول النجاسة نفس أدلّة اليد وأصالة الطهارة ، فكذلك الدليل في ما نحن فيه على استحباب الفعل هذه الأخبار ، لا الخبر الضعيف.

أقول : هذا الكلام لا يخلو عن مناقشة ظاهرة.

أمّا أوّلاً : فلأنّ المسألة وإن لم تكن أُصولية على القول بدلالة الاخبار على استحباب كل فعل بلغ عليه الثواب إلّا أنّها أُصولية على القول المشهور ، أعني :

٤٦

القول بدلالتها على التسامح في أدلّة السنن ، فإنّ الظاهر من هذا العنوان هو حجية الأخبار الضعاف في السنن ، مع إمكان أن يقال : إنّ التعبير عن المسألة في كلماتهم باستحباب كل فعل دل على استحبابه خبر ضعيف ، عبارة أُخرى عن حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، كما يصح مثل هذا التعبير في حجية الخبر المعتبر أيضاً بأن يقال : إنّ الكلام في حكم كل فعل دل الخبر المعتبر عليه.

وبالجملة : عنوان المسألة في كلمات كثيرهم ، بل في معقد الشهرة والإجماعات المنقولة بقولهم : يتسامح في أدلّة السنن بما لا يتسامح في غيرها ، يناسب جعل المسألة أُصولية كما لا يخفى.

والصحيح في الجواب أن يقال :

إنّ هذه الأخبار إمّا متواترة معنى ، وإمّا محفوفة بالقرائن كتحقق الاتفاق على مضمونها وكثرة نقلها ، وعن البحار أنّه من المشهورات رواه العامة والخاصة بأسانيد (١) ، وفي عدة الداعي ـ بعد نقل الروايات المذكورة ـ ، قال : فصار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين مضافاً إلى إمكان الذهاب إلى جواز العمل بالآحاد في المسائل الأُصولية وإنّما الممنوع هو العمل بها في الأُصول الاعتقادية المطلوب فيها العلم والمعرفة.

***

الإشكال الثاني :

لا يمكن الذهاب إلى القول بالتسامح في أدلّة السنن إلّا على القول بأنّ أخبار من بلغ مخصّصة لما دل على اعتبار شرائط الحجية في الخبر كالوثاقة والعدالة ، مع أنّ النسبة بينهما هو العموم من وجه حيث إنّ ما دل على اعتبار الشرائط يعم الخبر الدال على الوجوب والاستحباب ، واخبار من بلغ وإن كانت

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ٢٥٦.

٤٧

مختصة بالخبر القائم على الاستحباب إلّا أنّه أعم من أن يكون واجداً للشرائط أو فاقداً لها ، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقد للشرائط ، يقع التعارض ، فكيف تقدم أخبار من بلغ على ما دل على اعتبار الشرائط في الخبر؟

وقد التزم شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) للتفصّي عن هذا الإشكال باختصاص ما دل على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرّمات ، قال (قدس‌سره) ما لفظه :

«إنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع ، فهو في المقام غير ثابت وإن كان آية النبأ ، فهي مختصة بشهادة تعليلها بالوجوب والتحريم فلا بد في التعدي عنهما من دليل مفقود في المقام» (١).

ولكن الانصاف أنّ ما أفاده (قدس‌سره) لا يخلو عن النظر ، فانّ ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد ، لا ينحصر في الاجماع وآية النبأ ، لأنّ الدليل العمدة أو الوحيد على ذلك ، هو السيرة العقلائية وهي تعم الواجبات والمستحبات.

ثمّ إنّ المحقق النائيني (قدس‌سره) أجاب عن الإشكال بوجه آخر حاصله : أنّه لا بد من تقديم هذه الأخبار ورفع اليد عن دليل الاشتراط في مواردها وإن كانت النسبة بينهما هو العموم من وجه ، أمّا ما كان من أدلّة الاشتراط من قبيل قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، أو غيره المفيد لاشتراط العدالة مطلقاً ، فوجه تقديمها عليه واضح فإنّ هذه الأخبار أخص من تلك الأدلّة فيقدم عليها بالأظهرية.

وأمّا ما كان منها دالّا على اشتراط شرط مخصوص في خصوص مواردها وهي الأحكام غير الإلزامية حتى تكون النسبة بينهما التباين ، فلأنّ هذه الأخبار معمول بها عند المشهور ، فلا محالة يكون ما هو المعارض لها على تقدير وجوده معرضاً عنه عندهم فيسقط عن قابلية المعارضة لها.

__________________

(١) مجموعة رسائل : ٢٤ ، من منشورات مكتبة المفيد.

٤٨

مع أنّه يمكن أنّ يقال : إنّ هذه الأخبار ناظرة إلى إلغاء الشرائط في الأخبار القائمة على المستحبات ، فتكون حاكمة على ما دل على اعتبار الشرائط في الاخبار الآحاد وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة.

أضف إلى ذلك أنّه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار من بلغ مورد ، بخلاف ما لو قدمت أخبار من بلغ على تلك الأدلّة فانّ الواجبات والمحرّمات تبقى مشمولة لها» (١).

أقول : للمناقشة في كلامه (قدس‌سره) مجال واسع :

أمّا أوّلاً : فلأنّ آية النبأ لا تدل على شرائط الحجية مطلقاً ، إذ لا شبهة في اختصاصها بالواجبات والمحرّمات ، والشاهد على ذلك ما في ذيلها من التعليل لأن فرض المخافة من الوقوع في الندم إنّما يصح في الأحكام الالزامية فقط. فلا أخصية لأخبار من بلغ بالنسبة إلى آية النبأ.

وأمّا ثانياً : فلأنّ جعل عمل المشهور مرجّحاً لأخبار المقام ، ممّا لا وجه له لأنّ عملهم بها وإن كان مسلّماً إلّا أنّ وجهه غير معلوم لنا ، إذ يمكن توجيه عملهم على أحد الوجوه السالفة ولا ينحصر في هذا القول ، فمن المحتمل أنّهم فهموا منها ما لا ينافي ما دل على الشرائط ، فلم يبق تعارض بينهما بحسب نظرهم ، وعنوان المسألة في كلماتهم بالتسامح في أدلة السنن لا يدل على أنّ مضمون أخبار من بلغ عندهم هو إلغاء شرائط الحجية في المندوبات فانّ التسامح كما يمكن أن يكون لذلك يمكن أيضاً لوجوه أُخر.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ دعوى حكومة أخبار الباب على ما دل على شرائط الحجية ، غير مسموعة ، حيث إن مناط الحكومة هو أن تكون بعض الأدلة بحسب لسانها ناظراً إلى البعض الآخر تضييقاً أو تعميماً ، وهو مفقود في المقام ، ضرورة أنّه ليس

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ / ٢٠٨ ، وفوائد الأُصول : ٣ / ٤١٣.

٤٩

لإحدى الطائفتين تعرض لحال الأُخرى.

وأمّا رابعاً : فلأنّ قوله : «لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار من بلغ مورد بخلاف العكس». منظور فيه بما أفاده سيّدنا الأُستاذ ـ أعلى الله مقامه ـ من أنّ أخبار الباب لا تختص بخبر الثقة بل لها إطلاق يعم الثقة وغيرها ، فلو خرج مورد التعارض بقي الفرد الآخر تحته ، ولا يلزم أن يكون المورد الباقي مختصّاً بها.

نعم لو كان مضمونها إلغاء اعتبار الشرائط أو حجية الخبر الضعيف بالخصوص ، لكان لما ذكره وجه ، وأمّا لو كان مفادها حجية قول المخبر في المستحبات كان لها إطلاق يعم الثقة وغيره ، فلو خرج مورد التعارض عن الإطلاق لكان مفادها حجية قول الثقة في المستحبات. هذا مضافاً إلى أنّ عدم بقاء المورد ليس من المرجحات بعد فرض التعارض (١).

وقد يجاب عن الإشكال : بأنّه لا تعارض بينهما نظراً إلى أنّ هذه الأخبار لا تدل على جواز الركون إلى خبر الفاسق وتصديقه وإنّما تدل على استحباب ما روى الفاسق استحبابه.

وأنت خبير بأنّ الالتزام باستحباب ما روى الفاسق استحبابه هو عين الركون إلى خبره والتصديق لقوله ، مع أنّ المقصود من طرح خبر الفاسق جعل احتمال صدقه كالعدم وظاهر هذه الأخبار هو عدم جعله كالعدم ، ومن هنا لو وردت نظير هذه الأخبار في الخبر الفاسق الدال على الوجوب أو الحرمة ، لكانت أدلّة طرح خبر الفاسق معارضة لها بلا إشكال.

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّه لا تعارض بين أخبار من بلغ وأدلّة شرائط الحجية أصلاً ، لأنّ مفادها على المختار هو الأخبار بإعطاء الأجر والثواب

__________________

(١) لاحظ تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٩٧.

٥٠

لمن أتى بالفعل الذي بلغ فيه الثواب ، تفضلاً وعناية منه تعالى ، وقد عرفت أنّ هذا النحو من المضمون عام للواجبات والمستحبات ، ولا وجه لتخصيصه بالثاني ، حتى يكون النسبة هو العموم من وجه.

وعليه فلو كان بينهما تخالفاً ، كانت النسبة هو التباين ، لا العموم من وجه لأنّ لسان أخبار من بلغ حينئذ ، إسقاط الحجية عن كل خبر دل على عمل يثاب على فعله واجباً كان أو مستحباً ولسان أدلّة شرائط الحجية إثبات هذه الشرائط واعتبارها.

غير أنّ التحقيق عدم التخالف بينهما أصلاً ، لأنّه لا صلة ولا ارتباط بينهما رأساً ، فانّ كلاً منهما ورد في جهة الآخر ، ورد اخبار من بلغ لبيان أنّ كل عمل يفعله العبد المؤمن اتّكالاً على تفضله وعنايته سبحانه ، لا يكون بدون الجزاء والثواب ، سواء كان العمل واجباً أو مستحباً ، كان الواقع على طبق ما بلغ أو لم يكن ، كان الخبر معتبراً أو لم يكن ، وهذا النحو من البيان ، يصدر لدفع التشويش والاضطراب من نفس العبد الذي يحتمل عدم مطابقة الخبر الدال على الواجب أو المستحب للواقع وعدم نيله الثواب ، فانّ احتمال عدم مصادفة الخبر الواحد الواقع موجود حتى في ما بلغ الدرجة العليا من الاعتبار.

وأمّا أدلّة شرائط الحجية من الوثاقة والعدالة ، فهي في صدد بيان أنّ الخبر لا يكون حجة ومعتبراً في إثبات الأحكام الشرعية ، إلّا إذا كان واجداً لتلك الشرائط ، فهي ساكتة من جهة إعطاء الثواب على العمل الذي دل الخبر عليه تفضلاً منه تعالى ، كما أنّ أخبار من بلغ أيضاً ساكتة من جهة الحجية والاعتبار ، فلا مجال لوقوع التعارض بينهما أصلاً.

ومن هذا البيان يظهر ضعف ما أفاده بعض الأجلّة في تعليقته على الكفاية ، من أنّ الظاهر اختصاص هذه الأخبار بالأخبار غير المعتبرة لسوقها للتعرّض لما

٥١

لا يكون داعياً في نفسه والمعتبر محرك في نفسه ، مضافاً إلى لزوم التضاد فيما كان الخبر المعتبر ظاهراً في الوجوب.

وجه الضعف : أن لسان هذه الأخبار ، غير مختص بالأخبار غير المعتبرة وقد عرفت وجهه. وعدم كون هذه الأخبار محركة في نفسها لا يفيد في إثبات الدعوى لأنّ هذا الكلام يأتي في الأخبار المعتبرة أيضاً ، فإنّ المحرك للعبد في جميع الموارد هي الحالات النفسانية من الإيمان والاعتقاد والخوف من العذاب والشوق إلى الثواب ، لا الأخبار حتى يفرق بين معتبرها وغيرها ، والشاهد على ذلك وجود الأخبار ، بل الآيات في مرأى كثير من الناس مع عدم تحركهم نحو العمل بها. ومما ذكرنا يعلم عدم لزوم التضاد فيما إذا كان الخبر المعتبر قائماً على الوجوب.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ ـ أعلى الله مقامه ـ قال في بيان عدم التنافي ما حاصله :

«لا منافاة بين أن يكون خبر الثقة حجة وأن يكون مطلق الخبر حجة في المستحبات ، وما دل على حجية قول الثقة غير دال على عدم حجية غيره وما دل على عدم اعتبار قول خبر الفاسق أو غير الثقة ، قابل للمناقشة» (١).

أقول : لو لم تدل أدلّة حجية قول الثقة على عدم حجية قول غيره ولو بالالتزام ، فما هو الفائدة في جعل الحجية لقول الثقة؟ أليس معنى ذلك هو عدم الاستواء بين قول الثقة وقول غيره؟ مع أنّ كثيراً منهم استدلوا على اعتبار العدالة في الراوي بآية النبأ وهو بمنطوقه يدل على عدم اعتبار قول غير الثقة. فكلامه بظاهره غريب جداً ، اللهمّ إلّا أن يكون مراده (قدس‌سره) اختصاص ما دل على حجية قول الثقة بالواجبات والمحرّمات حتى لا يعارض ذلك مع ما يدل على اعتبار مطلق الخبر في المستحبات وهو أخبار من بلغ.

ولكن ذلك وإن صح بالنسبة إلى آية النبأ لما ذكرنا من اختصاصها ظاهراً

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٩٦.

٥٢

بالأحكام الإلزامية بقرينة التعليل في ذيلها ، إلّا أنّه لا يلائم ما اختاره (قدس‌سره) في دليل حجية قول الثقة ، أعني : السيرة العقلائية ، لعدم اختصاصها بالأحكام الإلزامية كما لا يخفى.

وقد يجاب عن الإشكال : بأنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع ، فهو في المقام غير ثابت ، وإن كان آية النبأ ، فهي مختصة بشهادة تعليلها بالوجوب والتحريم فلا بد في التعدي عنهما من دليل مفقود في المقام.

أقول : يكفي في التعدي عنهما العمومات الناهية عن العمل بغير العلم ، بل يستفاد منها أنّ الأصل في المظنون هو عدم الحجية وإنّما التعدي عنه يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

***

الإشكال الثالث :

إنّ هذه الأخبار لو نهضت للدلالة على استحباب الشيء بمجرد ورود الرواية الضعيفة ، لنهضت للدلالة على وجوب الشيء بذلك لأنّ الرواية إذا دلّت على الوجوب فيؤخذ بها ويحكم بكون الفعل طاعة ، والمفروض أنّ المستفاد من الرواية كون طلبه على وجه يمنع من نقيضه فيثبت الوجوب.

وقد يجاب بأنّا لو قلنا بحجية الخبر الضعيف لهذه الأخبار ، فإنّما نقول بحجيته في أصل الرجحان دون خصوصياته من الندب أو الوجوب ، فانّ الواجب فيها التوقف والرجوع إلى الأُصول العملية كأصالة البراءة ، وكم من حجة شرعية يبعّض في مضمونها من حيث الأخذ والطرح.

وأنت خبير بضعف هذا المقال ، فانّ الظاهر من تعابير المشهور للمسألة وعنوانها بالتسامح في أدلّة السنن ، هو الالتزام بحجيتها في إثبات الاستحباب

٥٣

الشرعي لا في أصل الرجحان بل في كلمات بعضهم يوجد التصريح بذلك.

والأولى في الجواب ما عن بعضهم وهو أنّا لم نعمل بالرواية الضعيفة بحسب الواقع حتى يلزمنا الأخذ بمضمونها ، وهو الطلب البالغ حد الإلزام والمنع من النقيض وإنّما عملنا بالأخبار الدالّة على استحباب ما ورد به الرواية بأنّ فيه الثواب وهذا منه فيستحب وإن كان واجباً على تقدير صدق الرواية في الواقع ، ولا تنافي بين وجوب الشيء واقعاً واستحبابه ظاهراً.

***

الإشكال الرابع :

إنّ الأخبار بترتب الثواب على العمل المذكور لا يستلزم الاستحباب.

وقد يقال في تقدير الإشكال : إنّ الثواب يمكن أن يكون على إتيان الشيء لاحتمال كونه مطلوباً وراجحاً ، وترتب الثواب لا يتوقف على رجحان آخر غير الرجحان المحتمل فانّ هناك شيئين :

أحدهما : فعل محتمل المطلوبية لداعي احتمال كونه مطلوبا وهو معنى الاحتياط وهذا لا يحتاج في ترتب الثواب عليه إلى صدور طلبه من الشارع ، بل يكفي احتمال كون الفعل مطلوباً مع كون داعي الفاعل هو الاحتمال.

ثانيهما : مجرد إتيان محتمل المطلوبية ، من دون ملاحظة كون الداعي هو الاحتمال ، وهذا لا يترتب الثواب عليه إلّا إذا ورد الأمر به شرعاً ، لأنّ ترتب الثواب لا يكون في فعل إلّا إذا كان الداعي عليه طلباً محققاً أو محتملاً واحتمال الأمر موجود لكنّه لم يصر داعياً بالفرض ، فاذا كان الأمر المحقق غير موجود فلا ثواب.

فحاصل الايراد : أنّه كما يمكن أن تكون الأخبار محمولة على الوجه الثاني بأن يكون الشارع قد طلب بهذه الأخبار مجرد فعل محتمل المطلوبية ، فيكون اخباره

٥٤

بالثواب كاشفا عن أمره ، ليكون هذا الثواب المخبر به بازاء موافقة الاستحباب الذي كشف عنه ببيان الثواب ، كذلك يمكن أن يكون اخباره هذا بالثواب على الوجه الأوّل ويكون بياناً لما يحكم به العقل من استحقاق العامل الثواب المزبور ولو على فرض مخالفة ما رجاه للواقع.

أقول : هذا الإشكال وارد جداً ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.

والجواب عنه : بأنّ الثواب لا يكون إلّا فيما يرجح فعله على تركه وليس المستحب إلّا ما كان كذلك ، غير مسموع ، لما عرفت سابقاً من أنّ هذا العنوان ، أعني : الثواب ، لا يختص بالمستحب ، لأنّ معناه جزاء العمل خيراً كان أو شراً ، والخير واجبا كان أو مستحباً. فترتب الثواب على العمل ، غير كاشف عن الاستحباب قطعا بل هو كاشف عن ما هو مطلوب للشارع بوجه عام.

***

الإشكال الخامس :

إنّ الروايات مختصّة بما ورد فيه الثواب فلا يشمل ما دل على أصل الرجحان ولو استلزمه الثواب ، مع أنّ الظاهر من كلمات القائلين بالتسامح وفتاويهم هو العموم من هذه الناحية.

وإن شئت قلت : إنّ كلمة «من» في مثل صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن ، إمّا تبعيضية أو بيانية ، فيكون المراد من الشيء هو الثواب ، وحينئذ يكون المقصود ، أنّه إذا بلغ مقدار من الثواب أو ثواب من الثوابات الخ فلا تشمل ما إذا قام خبر على أصل الرجحان من دون بيان ثواب منه.

والجواب عنه مضافاً إلى خلو بعض الأخبار المتقدمة من اعتبار بلوغ الثواب على العمل مثل رواية ابن طاوس (رضي الله عنه) وخبر عدة الداعي : أنّه لو ثبت الرجحان

٥٥

فهو مستلزم للثواب قطعاً.

فان قلت : إنّ المخبر بأنّ الله تعالى قال : افعلوا كذا ، ليس مخبراً بأنّ الله يثيب عليه إذ الأمر لا يدل على ترتب الثواب على فعل المأمور به بإحدى الدلالات.

قلت : مضافاً إلى أنّ العقل يحكم حينئذ باستحقاق الثواب عليه ، أنّ الاخبار بالطلب يستلزم عرفاً الاخبار بالثواب كما لا يخفى.

***

الإشكال السادس :

إنّ مفاد تلك الروايات أنّه إذا ورد في العمل الفلاني ثواب كذا ، فهي دالة على أنّ مقدار الثواب الذي أخبر به في العمل الثابت استحبابه كزيارة عاشوراء مثلاً ، يعطي العامل ، وإن لم يكن ثواب هذا العمل على ذلك المروي فهي ساكتة عن ثبوت الثواب على الفعل الذي أخبر بأصل الثواب عليه.

أقول : يمكن استفادة كلا المفادين من تلك الروايات ، أمّا المفاد الأوّل : أعني به : إعطاء العامل مقدار الثواب الذي أخبر به في العمل. فهو مستفاد من مثل رواية محمد بن مروان ، لأنّ المذكور فيها «كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله» ورواية عدة الداعي ، فانّ المذكور فيها «كان له من الثواب ما بلغه».

وأمّا المفاد الثاني ، أعني به : ثبوت الثواب على الفعل الذي أخبر بأصل الثواب عليه ، فهو مستفاد من قوله (عليه‌السلام) : «كان له أجر ذلك» في رواية صفوان ، ومن قوله (عليه‌السلام) : «كان أجر ذلك له» في صحيحة المحاسن.

والحاصل : أنّه لا محذور في دلالة تلك الروايات على كلتا الجهتين ولا تنافي بينهما أصلاً.

٥٦

قال الشيخ (قدس‌سره) في دفع الاشكال ما لفظه :

ويجاب عن ذلك بإطلاق الأخبار ، نعم قوله (عليه‌السلام) في رواية صفوان المتقدمة : «من بلغه من الثواب على شيء من الخير فعمل ... الخ» ظاهر فيما ذكره المورد ، بل لا يبعد استظهار ذلك من بعض آخر ، مثل الرواية الثانية لمحمد بن مروان عن أبي جعفر (عليه‌السلام) كما لا يخفى ، لكنّه ظهور ضعيف مع أنّ في إطلاق البواقي كفاية والمقيّد هنا لا يعارض المطلق حتى يحمل المطلق عليه ، مع أنّ صريح بعضها الاختصاص بمورد الرواية في أصل الرجحان والخيرية مثل قوله (عليه‌السلام) في رواية الاقبال المتقدمة : «من بلغه شيء من الثواب فعمله» فانّ الظاهر من «شيء من الثواب» بقرينة فعله هو نفس الفعل المستحب ، وكذا الرواية الأُولى لمحمد بن مروان والنبوي العامي» (١).

***

الإشكال السابع :

التمسّك بقاعدة التسامح والحكم باستحباب العمل المشكوك كونه مستحباً ، يستلزم البدعة في الدين والتشريع المحرّم بالأدلّة الأربعة.

قال شيخنا البهائي (قدس‌سره) في أربعينه : «إنّ خطر الحرمة في هذا الفعل الذي تضمّن الحديث الضعيف ، استحبابه حاصل كلّما فعله المكلّف لرجاء الثواب لأنه لا يعتدّ به شرعاً ولا يصير منشأ لاستحقاق الثواب إلّا إذا فعله المكلّف بقصد القربة ولاحظ رجحان فعله شرعاً ، فانّ الأعمال بالنيّات وفعله على هذا الوجه مردّد بين كونه سنّة ورد الحديث بها في الجملة وبين كونه تشريعاً وادخالاً لما ليس من الدين في الدين ، ولا ريب أنّ ترك السنّة أولى من الوقوع في البدعة ، فليس

__________________

(١) مجموعة رسائل : ٢٢ ، من منشورات مكتبة المفيد.

٥٧

الفعل المذكور دائراً في وقت من الأوقات بين الإباحة والاستحباب ولا بين الكراهة والاستحباب بل هو دائماً دائر بين الحرمة والاستحباب فتاركه متيقّن للسلامة وفاعله متعرّض للندامة.

على أنّ قولنا : «بدورانه بين الحرمة والاستحباب» ، إنّما هو على سبيل المماشاة وإرخاء العناء وإلّا فالقول بالحرمة من غير ترديد ليس عن السداد ببعيد والتأمل الصادق على ذلك شهيد» (١).

وإلى هذا الإشكال ينظر ما أفاده صاحب المدارك في أوّل كتابه فإنّه قال بعد ذكر جملة من الوضوءات المستحبة وذكر ضعف مستندها ما لفظه :

«وما يقال من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها ، فمنظور فيه لأن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل الشرعي» (٢).

وقد يقال في الجواب : إنّ التشريع عبارة عن إدخال ما حكم بخروجه عن الدين فيه ، وفي المقام لم يعلم خروج المشكوك عن الدين حتى يلزم التشريع.

وقد التزم بعضهم بتحقق احتمال التشريع في المقام إلّا أنّ هذا الاحتمال غير ضار بالمطلوب ، أعني : الحكم بالاستحباب لوجود الدليل ، قال :

«كلّ ما لم يثبت كونه من الدين فإدخاله في الدين تشريع محرّم بالنص والاجماع وهو في جميع صور الشك متحقق ، إذ الشك في أحد الأحكام الأربعة يوجب نفيها بالأصل فيخرج عن الدين ، فالأخذ بأحدها تشريع لو لم يكن دليل على جواز الأخذ مع الشك ، وبالجملة : احتمال الحرمة التشريعية في موارد القاعدة [قاعدة التسامح] كافة متحقق» (٣).

__________________

(١) الأربعين للشيخ البهائي : ١٩٧.

(٢) مدارك الأحكام : ١ / ١٣.

(٣) عناوين الأُصول : ١٣٤.

٥٨

تحقيق حول التّشريع

لا بأس بصرف الكلام إلى التحقيق في معنى التشريع ، لأهميته وكثرة الابتلاء به أوّلاً ، ولتوقف حل الإشكال هذا عليه ثانياً ، فنقول :

تجد في غير واحد من كلمات الأُصوليين وعبائر الفقهاء عناوين ثلاثة : البدعة ، والتشريع ، والقول بغير العلم ، وكل منها يمتاز عن الآخر لغة واصطلاحاً ، فالبدعة في اللغة : اسم هيئة من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ، قال في لسان العرب :

«بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه : أنشأه وبدأه وبدع الركيّة : استنبطها وأحدثها ، البدعة الحدث وما ابتدع من الدين بعد الاكمال» (١).

وفي تاج العروس : المبتدع الذي يأتي أمراً على شبه لم يكن ابتدأه إيّاه ، قال الله جلّ شأنه : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي مبتدعها ومبدؤها لا على مثال سبق ، قال أبو الحسن : يعني أنشأها على غير حذاء ولا مثال ، والبدعة بالكسر ، الحدث في الدين بعد الاكمال ، ومنه الحديث : إيّاكم ومحدثات الأُمور فانّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أو هي ما استحدث بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأهواء والأعمال» (٢).

وأمّا في الاصطلاح ، فهو عبارة عن كل شيء أُحدث على غير مثال سابق

__________________

(١) لسان العرب : ٨ / ٦.

(٢) تاج العروس : ٥ / ٢٧٠.

٥٩

سواء كان محموداً أو مذموماً (١). فليس فرق أساسي بين معناه اللغوي ومفهومه الاصطلاحي ، بل هما متحدان كما لا يخفى ، ويظهر مما ذكرنا أنّ البدعة غير منحصرة فيما يكون مذموماً.

قال الطريحي في شرح حديث : من توضّأ ثلاثاً فقد أبدع :

«البدعة بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال ، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار ، وما كان تحت عموم ما ندب الله إليه وحضّ عليه أو رسوله فهو في حيّز المدح ، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها» وقال في ضده : «من سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» وذلك إذا كان على خلاف ما أمر الله به ورسوله» (٢).

هذا في البدعة ، وأمّا التشريع فقد ذكر له تعريفان :

الأوّل : إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين واخراج ما علم أنّه منه عنه ، وإن شئت قلت : تغيير القوانين الإلهية والأحكام الشرعية بإدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه.

الثاني : إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه ، لا خصوص ما علم أنّه ليس منه.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر أنّ التشريع بكلا معنييه يكون أخص مورداً من البدعة أي تكون النسبة بينهما هو العموم والخصوص المطلق ، لا التساوي كما

__________________

(١) البدعة ، تحديدها وموقف الاسلام منها : ١٩٥.

(٢) مجمع البحرين : ٤ / ٢٩٩. هذا وقد أنكر شيخنا الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ تقسيم البدعة إلى قسمين وقال : انّ البدعة الشرعية ليست لها إلّا قسم واحد وهو بدعة ضلال فالتقسيم ناشئ من خلط المعنى اللغوي بالبدعة الشرعية. فلاحظ رسالة الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ.

٦٠