الرسائل الأربع - ج ٤

عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة

الرسائل الأربع - ج ٤

المؤلف:

عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٠٠

بالأظهرية ، وأمّا ما كان منها دالّا على اشتراط شرط مخصوص في خصوص مواردها وهي الأحكام غير الإلزامية حتى يكون النسبة بينها التباين ، فلأنّ هذه الأخبار معمول بها عند الأصحاب فلا محالة يكون ما هو المعارض لها على تقدير وجوده معرضاً عنه عندهم فيسقط عن قابلية المعارضة لها» (١).

وجه النظر أنّ أخبار من بلغ لا تختص بالمندوبات حتى تقدّم على ما دل شرائط الحجية ، لما عرفت من عموميتها ، وأمّا عمل المشهور بهذه الأخبار فهو وإن كان مسلماً إلّا أنّه لم يعلم انحصار وجهه في هذا القول إذ يمكن توجيهه على أحد الأقوال التالية.

مختار المحقّق الخراساني (قدس‌سره) ونقده :

وأما القول الثاني فهو خيرة المحقّق الخراساني (قدس‌سره) قال في الكفاية ما نصه : إنّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب فانّ صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله لم يقله ، ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّباً على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه ذو ثواب» (٢).

أقول : مقتضى الانصاف انّه لا إشعار في هذه الأخبار على الحكم بالاستحباب فضلاً عن دلالتها عليه بل فيها دلالة على خلافه ، توضيح ذلك :

إنّ شيئاً من الأعمال لا يكون مستحبّاً ألّا إذا أمكن للمكلّف انتسابه إلى الشارع بحيث لو سئل عنه حين اشتغاله به ، لم تفعل ذلك؟ يقول : افعله لأنّه ممّا طلبه الشارع وقال به ، وهذا المناط موجود في جميع المستحبات الثابتة بالأدلّة

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ / ٢٠٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٢ / ١٩٧.

٢١

المعتبرة ، وغير موجود في المقام ، بل الموجود خلافه ، فانّ قوله (عليه‌السلام) في صحيحة هشام المذكور آنفاً : وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله وقوله (عليه‌السلام) في روايته الأُخرى : «وإن لم يكن على ما بلغه» ، وقوله (عليه‌السلام) في مرسلة الصدوق : «وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه» ، جميع ذلك يشهد قوياً على عدم وجود هذا المناط في المقام وعدم صحة الاسناد الى الشارع وكون الأجر مترتباً على نفس العمل على فرض تسليمه لا يدل على استحبابه لأنّ الواجب أيضاً يكون كذلك ، فكان الدليل أعم من المدّعى.

وإن شئت فقل : إنّ الأحكام الشرعية توقيفية بلا شبهة ولا فرق بين الوجوب والمستحب من هذه الجهة ، ونتيجة ذلك أنّه لا يجوز إثبات شيء منهما إلّا بحجة شرعية ، فالدليل المثبت للحكم إن قام دليل على حجيته فهو وإلّا فلا يمكن الركون عليه فلو اسند إلى الشارع بعنوان حكم من الأحكام الشرعية يكون اتباعاً لما لا يعلم وقولاً على الشارع بغير حجة.

فان قلت : ليس غرض القائل الاعتماد على ما لا يعتمد عليه بل غرضه جواز الركون على ما يعتمد عليه في الندب دون الوجوب والحرمة لدليل دلّ على ذلك بمعنى قيام حجة عامة دالّة مثلاً على حجية الخبر الضعيف الذي لم يدل على حجيته شيء من أدلّة حجية الخبر.

وبعبارة أُخرى : إنّ الحكم باستحباب الفعل وترتب الثواب عليه ليس في الحقيقة مستنداً إلى ما لا يعتمد عليه وغير الحجة بل هو مستند إلى تلك الأحاديث المشتهر مضمونها بين الفريقين.

قلت : هذه مصادرة بالمطلوب إذ ثبوت ما يعتمد عليه في الندب دون الوجوب هو عين المدّعى ودلالة أخبار من بلغ على ذلك غير معلومة بل قد عرفت أنّ المعلوم عدمها.

فان قلت : كثير من المستحبات ثبت بالأمارات غير المفيدة للعلم فكيف يصح اسنادها إلى الشرع؟

٢٢

قلت : المناط في صحة اسناد حكم إليه ، ثبوته بما قام الدليل القطعي على حجيته وإن لم يكن في نفسه قطعيّاً وإن لم يثبت في الواقع ولم يقل به الشارع في نفس الأمر ، والمراد من الثبوت ، الثبوت بالعنوان الخاص لا بالعنوان الطارئ كعنوان البلوغ.

هذا كلّه أوّلاً.

وثانياً انّ الظاهر من تلك الأخبار انّ العمل متفرّع على بلوغ الثواب وكونه هو الداعي إلى العمل ، وهذا ظاهر في أنّ الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه فيما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط ، ومن الواضح أنّ هذا التعبير إنّما يناسب لمن عمل شيئاً انقياداً للمولى لا لأن عمل مستحب.

لا يقال : كون البلوغ داعياً إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً حتى كان الاتيان به انقياداً.

فإنّه يقال : نعم ولكن ذكره في الأخبار يكون قرينة على أنّ المقصود من إتيان الفعل إتيانه انقياداً ولا أقل من كونه موجباً لإجمال الكلام وعدم ظهوره في الدلالة على الاستحباب.

مختار المحقّق النّائيني (قدس‌سره) ونقده :

وأمّا القول الثالث فهو للمحقّق النائيني (قدس‌سره) قال :

تكون [يعني الأخبار] متمحّضة في الحكم بالاستحباب لأجل طرو عنوان ثانوي كما قيل بنظيره في مطلق الامارات وأنّها توجب حدوث عنوان في مؤدياتها يوجب جعل الأحكام على طبقها (١).

ولا يخفى أنّه فرق بين ما أفاده (قدس‌سره) وما ذكره في الكفاية حيث إنّ موضوع

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ / ٢٠٨.

٢٣

الحكم على ما في الكفاية هو العمل بعنوانه الأوّلي المأخوذ في الأخبار الضعاف من صلاة أو صيام ونحوهما ، وأما على ما اختاره المحقق النائيني (قدس‌سره) فهو العمل بعنوانه الثانوي الطارئ عليه كما هو مذكور في كلامه ويشهد عليه تنظيره بالأمارات.

وإن شئت قلت : إنّ عنوان البلوغ على مختار صاحب الكفاية (قدس‌سره) من الحيثيات التعليلية لعروض حكم الاستحباب على العمل ، وأمّا على مختاره (قدس‌سره) فهو من الحيثيات التقييدية كما لا يخفى ، وتظهر ثمرة هذا الاختلاف في الآثار التي تترتب على المستحبات الذاتية دون المستحبات العرضية فلا تغفل.

وكيف كان فقد عرفت أنّ الأخبار لا دلالة فيها على الحكم باستحباب العمل فضلاً عن كونها متمحّضة فيه ، مضافاً إلى ما أفاده الشيخ (قدس‌سره) في هذا المجال من أنّ ثبوت الأجر لا يدلّ على الاستحباب الشرعي ، لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعاً على البلوغ لا على الأمر حتى يثبت الاستحباب الشرعي (١).

فان قلت : إنّ استفادة الاستحباب الشرعي من أخبار من بلغ ، يكون نظير استفادته من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل من دون الأمر به مثل قوله (عليه‌السلام) : «من سرّح لحيته أو من صلّ ـ ى أو صام فله كذا من الثواب» ، فكما أنّ قوله مثلاً «من سرح لحيته فله كذا» يدل بالالتزام على استحباب التسريح ، فكذا ثبوت الثواب على فعل بطريق غير معتبر يدل بالالتزام على استحبابه شرعاً فيجوز إتيانه بنية امتثاله.

قلت : فرق واضح بين المقامين فإنّ الثواب يترتّب إمّا على الطاعة الحقيقية أي إتيان العمل بداعي الأمر ، وإمّا على الطاعة الحكمية أي إتيانه باحتمال الأمر المعبّر عنه بالانقياد ، والأخبار التي اقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل لا تدل على

__________________

(١) فرائد الأُصول : ٢٣٠ ، طبعة رحمة الله.

٢٤

ترتب الثواب على الطاعة الحكمية أعني تسريح اللحية مثلاً باحتمال الأمر ، وإنّما تدل على ترتبه على نفس العمل ، فلا بد أن يكون الثواب من جهة الطاعة الحقيقية الموقوفة على العلم بالأمر ، فتدل بالالتزام على وجود الأمر المولوي وهذا بخلاف أخبار من بلغ ، فإنّها تدل على ترتب الثواب على الطاعة الحكمية ولا دلالة فيها بالالتزام على وجود أمر مولوي ، حتى يصح إتيان محتمل العبادة بداعي امتثاله ويستفاد استحبابه.

والحاصل : أنّه لا وجه لهذا القياس بل المناسب أن يقاس ما نحن فيه بقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، الذي يؤكد ما يستقل به العقل من تحصيل ذلك الثواب المضاعف ، أو يقاس بما ورد من الثواب على نية الخير ، فإنّه وعد الثواب على الطاعة الحكمية ولا دلالة فيها على وجود الأمر المولوي فكذا المقام.

وبالجملة : أنّ الظاهر بل المصرّح به في أخبار من بلغ أنّ الثواب يعطى لأجل الإطاعة الحكمية وهو امتثال الأمر المحتمل ، الذي استقل به العقل ، فطلب الشارع فيها إرشادي ، لا يكشف عن طلب شرعي آخر مولوي ليثبت به الاستحباب الشرعي ، وهذا بخلاف تلك الأخبار ، فإنّ الظاهر أو المصرّح به فيها أنّ الثواب مترتب على الإطاعة الحقيقية الذي هو امتثال الأمر فيكشف منه طلب شرعي مولوي كما لا يخفى.

***

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (قدس‌سره) أفاد في توجيه مختاره ما حاصله :

«تكون الجملة الخبرية في تلك الأخبار بمعنى الإنشاء ويكون مفاد قوله (عليه‌السلام) : «فعمله» أو «ففعله» الأمر بالفعل والعمل كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام ، سواء أكانت بصيغة الماضي كقوله (عليه‌السلام) : «من

٢٥

سرح لحيته فله كذا» أم بصيغة المضارع كقوله : «تسجد سجدتي السهو» وغير ذلك من الجمل الخبرية التي وردت في مقام الحث والبعث نحو الفعل ، فيكون المعنى : إذا بلغ الشخص شيء من الثواب على عمل فليعمله ، وعلى هذا يصح التمسك بإطلاق البلوغ والقول باستحباب العمل مطلقاً.

ثمّ إنّ كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء وأنّها في مقام بيان استحباب العمل ، يمكن أن يكون على أحد وجهين :

أحدهما : أن تكون القضية مسوقة لبيان اعتبار قول المبلغ وحجيته سواء أكان واجداً لشرائط الحجية أم لم يكن ، فيكون مفاد الأخبار مسألة أُصولية ، فإنّه يرجع مفادها إلى حجية الخبر الضعيف الذي لا يكون واجداً لشرائط الحجية ، وفي الحقيقة تكون أخبار من بلغ مخصّصة لما دلّ على اعتبار الوثاقة أو العدالة في الخبر وأنّها تختص بالخبر القائم على وجوب الشيء ، وأمّا الخبر القائم على الاستحباب فلا يعتبر فيه ذلك.

ثانيهما : أن تكون أخبار من بلغ مسوقة لبيان أنّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحباً ، فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية ، فيصير حاصل المعنى هو أنّه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره» (١).

أقول : جريان القول بكون «الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء» في الأحكام الاستحبابية والتنزيهية بعيد جداً ، لأنّ دلالتها على البعث والالزام يكون غالبا آكد من دلالة صيغة الأمر أو النهي على ذلك فانّ الشارع إذا يقول : يغتسل ، يسجد ، يصلّي وأشباه ذلك ، فكأنّه أخبر عن تحقّق هذه الأفعال بادّعاء أنّ وقوع الامتثال من المكلّف يكون مفروغاً عنه ، ومن الواضح أنّ هذا اللسان يناسب الأحكام

__________________

(١) فوائد الأُصول : ٣ / ٤١٢ ، طبعة جماعة المدرسين.

٢٦

الإلزامية فقط.

فان قلت : من المقطوع عدم ظهور هذه الأخبار في الحكم الإلزامي وهذه قرينة على أنّ مفادها هو الاستحباب.

قلت : يمكن استفادة الاستحباب في أمثال المقام من الجمل الخبرى بجعل هذه الأخبار كناية عن الطلب الذي هو ملزومها ، لا أنّها بنفسها عبارة عن إنشائه على فرض كون هذا الطلب ، طلباً مولوياً وهو أيضاً بعيد ، لأنّه يحتمل قوياً كون هذا الطلب إرشادياً ، فالأظهر عدم دلالة الأخبار المزبورة على الحكم بالاستحباب بوجه من الوجهين.

نظرية الشيخ الأعظم (قدس‌سره) ونقدها :

وأمّا القول الرابع فهو خيرة الشيخ الأعظم (قدس‌سره) في فرائده ، قال بعد إيراد النقد على القول بالاستحباب ما توضيحه :

الظاهر من هذه الأخبار أنّ العمل متفرّع على عنوان البلوغ وكونه الداعي على العمل ، ويؤيد ذلك تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتماس الثواب الموعود ، فتختص هذه الأخبار بموارد إمكان الاحتياط ولا تدلّ على أنّ إتيان المحتمل بداعي الأمر يترتب عليه ثواب الامتثال حتى تدل بالالتزام على وجود الأمر المولوي به ، ومن المعلوم أنّ العقل أيضاً مستقل باستحقاق هذا العامل المدح والثواب.

وإذا دلّت الأخبار مطابقة على أنّ المحتاط يثاب تفضّلاً ـ كما أنّ العقل يدل على ذلك ـ فإن كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب بمعنى دلالتها إجمالاً على أنّ المحتاط يثاب على الفعل ، كانت مؤكدة لحكم العقل بالاستحقاق ، وغير مستلزمة للأمر المولوي ، وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ ،

٢٧

والمعنى مثلاً : من بلغه ثواب عبادة أربعين سنة مثلاً على عمل فعمله ، كان له ذلك الثواب وإن لم يكن الواقع كما بلغه ، فهو وإنّ كان مغايراً لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا الفعل ولم يكن مؤكداً له بناءً على أنّ العقل يحكم باستحقاق أصل الثواب ولا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقه هذا العامل لمجرد احتمال الأمر ثواباً وإن كان نوعاً من الجزاء والعوض ، إلّا أنّ مدلول هذه الأخبار اخبار عن تفضّل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع وهو أيضاً لا يستلزم الأمر المولوي ، بل هو نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ملزوم لأمر إرشادي يستقل به العقول.

والحاصل : أنّ اخبار من بلغ ، إنّ دلّت على ثبوت أصل الثواب ، فتؤكّد حكم العقل وتدل بالالتزام على أمر إرشادي بتحصيله فتؤكد حكم العقل أيضاً ولا تدل على وجود أمر مولوي ، وإن دلّت على ثبوت الثواب المسموع فلا يوافق حكم العقل ولا يؤكده ، ولكن تدل أيضاً على أمر إرشادي بتحصيله ولا تدل على أمر مولوي» (١).

وأنت واقف بمتانة هذا الوجه بالنسبة إلى الأقوال السالفة وموافقته مع ما ذكرنا في صدر البحث من أنّ لسان هذه الأخبار يعمّ الواجب والمستحب ولا وجه لتخصيصها بالمندوبات وعدم ورود الإيرادات السابقة عليه ، ومع ذلك كله فقد ناقش بعض المحققين فيما أفاده (قدس‌سره) بما نصّه : قد استدلّ الشيخ (قدس‌سره) للارشاد بوجوه :

الأوّل : تقييد العمل في بعض الأخبار بطلب الثواب الموعود ، الثاني : تقييده في البعض الآخر بالتماس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجه الاستدلال أنّ العمل المأتي به بداعي الثواب أو التماس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انقياد ولا يكشف ترتّب الثواب عليه عن أمر في البين لأن ترتّب الثواب عليه عقلي.

__________________

(١) فرائد الأُصول : ٢٣٠ ، طبعة رحمة الله.

٢٨

وفيه أوّلاً : منع كونه انقياداً ، فانّه من عوارض فعل القلب وهو إرادة الموافقة لا من عوارض الفعل الخارجي.

وثانيا : أنّه على تقديره لا منافاة بين ترتّبه على الانقياد في دليل غير كاشف عن الأمر وبين ترتّبه في دليل آخر على ذات العمل بعنوانه الأوّلي الكاشف عن الأمر كالصحيحة على مختار المصنّف في مدلولها.

الثالث : أنّ ظاهر قوله في الشرط : فعمله بعد قوله من بلغه ، كون الداعي الى العمل هو البلوغ والأمر المحتمل فحينئذ يكون العمل المأتي به بهذا الداعي انقياداً ، ومن المعلوم كونه ملزوماً عقلاً للثواب ، فلا يكشف عن أمر نفسي آخر كما هو واضح.

وفيه أوّلاً : ما ذكرنا في الأوّلين من الوجوه الوجه الأوّل ، وثانياً : أنّ الشرط وإن كان العمل به مقيداً بكونه برجاء الواقع إلّا أنّه قد أُضيف في الجزاء الأجر والثواب إلى اسم الإشارة المشار به إلى العمل ، والعمل كناية عنه بما هو معنون بالعناوين المأخوذة في الأخبار الضعاف ، وأمّا العناوين الأُخر مثل كونه مأتيّاً به بداعي الواقع أو غيره فلم تؤخذ في متعلّق اسم الإشارة فحينئذ يكون الأجر المضاف إلى العمل بعنوانه المأخوذ فيها ، كاشفاً عن أمر متعلّق به بما هو كذلك لا بما هو مأتي به بداعي الأمر» (١).

أقول : ويمكن النظر في جميع ما أفاده (قدس‌سره)

وأمّا ما ذكره أوّلاً ، فلأنّ الانقياد قد يطلق على العمل الصادر من الشخص الذي حصل له القطع بالتكليف ثمّ انكشف له الخلاف وأنّه في الواقع لا تكليف عليه ، وهو بهذا المعنى يكون في مقابل التجرّي.

وقد يطلق على العمل الصادر من الشخص باحتمال كونه مأموراً به بالأمر الوجوبي أو الاستحبابي أو على الترك باحتمال كون الفعل منهياً عنه بالنهي

__________________

(١) لاحظ تعليقات المحقّق المشكيني (قدس‌سره) على الكفاية : ٢ / ١٩٨ و ١٩٩.

٢٩

التحريمي أو التنزيهي ، والجامع بين هذين المعنيين كون العبد بصدد امتثال مطلوب المولى والاهتمام بأوامره ونواهيه ، ومن الواضح أنّ العمل الصادر من الشخص الذي بلغه الثواب على ذلك العمل ، من مصاديق الانقياد بمعناه الثاني ، ولا فرق في ذلك بين كونه من عوارض القلب وكونه من عوارض الفعل الخارجي لأنّ المناط في تطبيق العناوين على مصاديقها هو الصدق العرفيو هو موجود في المقام بلا إشكال ، ومن هنا أقرّ المحقّق الخراساني (قدس‌سره) بتحقّق الانقياد في المقام مع ذهابه إلى دلالة هذه الأخبار على الاستحباب.

وأمّا ما ذكره ثانياً ، فلأنّ المستفاد من جميع تلك الأخبار مضمون واحد لوحدة لسانها ولا تفاوت في ذلك بين الصحيحة وبين غيرها ، مضافاً إلى أنّ الظاهر من بعض الألفاظ الواردة في هذه الأخبار ، كقوله (عليه‌السلام) : طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو التماس ذلك الثواب ، إنّها من الحيثيات التقييدية لا التعليلية ، وهذا يشهد على القول بالانقياد وعلى أنّ المطلوب فيها هو العمل إذا أتى به برجاء المحبوبية لا ذات العمل.

وأمّا ما أفاده ثالثاً ، فلعدم الدليل على كون اسم الإشارة في الصحيحة إشارة إلى العمل بعنوان الأوّلي بل صدر هذه الأخبار وذيلها يشهد على أنّ المشار إليه هو العمل بعنوانه الطارئ. والقول بأنّ العمل كناية عنه بما هو معنون بالعناوين المأخوذة في الأخبار الضعاف غريب.

وعلى تقدير أنّه إشارة إلى العمل بما هو ، لا شبهة في أنّه يصير مقيداً بملاحظة ذيل البعض الآخر من الأخبار مثل قوله (عليه‌السلام) : طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو التماس ذلك الثواب ونحوهما ، فإن الكلام لا يصير ظاهراً في معنى إلّا بعد ملاحظته صدراً وذيلاً كما لا يخفى ، وقد أقرّ هذا المحقق نفسه بأنّ الشرط هو العمل مقيداً بكونه برجاء الواقع.

ومما ذكرنا سابقاً من أنّ لسان تلك الأخبار آبية عن الاختصاص بالمندوب ، يظهر ما في آخر كلامه ، من أنّ الأجر المضاف إلى العمل يكون كاشفاً عن أمر

٣٠

متعلّق به ، فإنّ الأمر المكشوف من ذلك يمكن تعلّقه في الواقع بكل من الواجب والمستحب ، فلا يصح أن نقول على وجه القطع : إنّه كاشف عن أمر استحبابي.

فان قلت : إطلاق لفظ الثواب على الفعل في هذه الأخبار يدل على الاستحباب الشرعي لكثرة إطلاقه على المستحب.

قلت : مضافاً إلى ما في أصل الدعوى ، لإطلاقه على الواجب والانقياد أيضاً ، أنّك قد عرفت سابقاً شهادة بعض الأخبار الذي استعمل الثواب فيه في قبال العقاب ، على خلاف ذلك.

نظرية الإمام الرّاحل (قدس‌سره):

وأمّا القول الخامس ، فهو مختار سيّدنا الأُستاذ ـ قدس‌سره ونوّر الله مضجعه ـ قال في توضيحه :

إنّ غرض الشارع لما تعلّق على التحفظ بعامة السنن والمستحبات ويرى أنّ الاكتفاء في طرق تحصيلها على الطريق المألوفة ، ربما يوجب تفويت بعضها ، فلأجل ذلك توصّل إلى مراده بالحث والترغيب إلى إتيان كل ما سُمع عن الغير الذي يحتمل كون مما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأردف حثّه باستحقاق الثواب وترتب المثوبة على نفس العمل ، حتى يحدث في نفس المكلّف شوقاً إلى الإتيان ، لعلمه بأنّه يثاب بعمله طابق الواقع أو خالف ، فهذا الخطاب والترغيب وجعل الثواب على مطلق العمل خالف أو وافق ، ليس إلّا لأجل التحفظ على المستحبات الواقعية ، كما أنّ الغرض في باب الجعالة متعلّق برد الضالّة لكن يرى المولى أنّ الخطاب الشخصي والخطاب الخصوصي بين فرد وفردين ربما لا يحصل الهدف به فلأجله يخاطب العموم تحفّظاً على الواقع.

وإنّ شئت فعبّر : كما أنّ قول القائل : من ردّ ضالّتي فله كذا ، جَعْلٌ معلّق على ردّ الضالّة ، فهذا جَعْلٌ معلّق على إتيان العمل بعد البلوغ أو السماع برجاء

٣١

الثواب وإنّما جعل الثواب على ذلك حثّاً على إتيان كلّية مؤديات الأخبار الدالّة على السنن ، لعلم الشارع بأنّ فيها كثيراً من السنن الواقعيّة فلأجل التحفّظ عليها جعل الثواب على مطلق ما بلغ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، حيث جعل تضاعف الأجر للحث على الإتيان بالحسنات فأدلّة الباب إطلاق بالنسبة إلى كل ما بلغ بسند معتبر أو غيره» (١).

ويلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ هذا الكلام ليس بياناً لما تفيده هذه الأخبار ، الذي هو المطلوب في المقام فإنّ هذا المعنى بهذه الخصوصية لا يستفاد من رواية من هذه الروايات ، نعم يمكن كونه ملزوماً ونتيجة لمدلولها بأن يكون مفادها مثلاً استحباب العمل البالغ فيه الثواب كما هو مختار بعضهم أو إلغاء شرائط حجية الخبر في المندوبات كما هو المنسوب الى المشهور ، ونتيجة ذلك هو التحفّظ على إتيان المستحبات الواقعية والحث على إتيان كلّية مؤديات الأخبار الدالّة على السنن.

وإن شئت قلت : هذا ، أعني : التحفّظ على المستحبات ، ثمرة تترتب على جميع الأقوال بل الوجوه المتصوّرة في المقام ولا تعيّن أحدها.

وثانياً : بما عرفت من أنّ لسان هذه الأخبار يعم الواجب والمندوب ولا وجه لاختصاصه بالمندوب ، فالمناسب أن يقال : إنّ تحفّظ الشارع وعنايته بالتكاليف وأحكامه من الواجبات والمستحبات ، أوجبه على هذا النحو من الخطاب.

وثالثا : بما في قوله (قدس‌سره) : «إنّ الخطاب الشخصي والخطاب الخصوصي بين فرد أو فردين ربما لا يحصل الهدف به فلأجله يخاطب العموم تحفظاً على الواقع» لوضوح أنّ الوصول إلى الغرض بالخطاب الشخصي والبيان الخاص أسهل من الوصول إليه بالخطاب العمومي ، لكثرة عناية الناس بالأوّل دون الثاني.

***

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٩٤.

٣٢

وأمّا القول السادس ، فهو لا يلائم أخبار الباب ، لأنّ الظاهر المتبادر منها هو بلوغ عمل يثاب عليه لا بلوغ الثواب الخاص ، مضافاً إلى أنّ لازم هذا القول رجوع الضمير في قوله (عليه‌السلام) : «فعمله» ، إلى الثواب الخاص ، ولا معنى للعمل بالثواب الخاص إلّا على وجه الاستخدام ، بأن كان معنى الصحيحة مثلاً : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب الخاص على فعل ، فعمل بذلك الفعل كان ذلك الثواب الخاص له ، وهذا خلاف الظاهر وبعيد عن المساق كما لا يخفى ، ولا أقل من إطلاق الأخبار وشمولها لما إذا بلغ الثواب الخاص وما إذا بلغ استحباب عمل فلا وجه لتخصيصها بالأوّل.

ثمّ إنّه قد يتوهم كون هذه الأخبار إرشاداً إلى استحقاق العامل الثواب الخاص ، وهو مدفوع بما أفاده بعض الأعيان (قدس‌سره) حيث قال :

إنّ الثواب الذي يمكن الإرشاد إليه لا بد من ثبوته لا من ناحية الإرشاد بل بحكم العقل والعقلاء وليس هو إلّا أصل الثواب بناءً على أنّ الحسن العقلي والقبح العقلي ليس إلّا كون الفعل ممدوحاً عليه عند العقلاء وكونه مذموماً عليه عندهم ، وأمّا الوعد بالثواب الخاص فليس من الشارع بما هو عاقل وإلّا لحكم به سائر العقلاء بل بما هو شارع ترغيباً في فعل تعلق به غرض مولوي فيكشف عن محبوبية مولوية ومطلوبية شرعية ، غاية الأمر أنّ محبوبية ما وعد عليه بالثواب الخاص تارة مفروض الثبوت كالوعد بالمثوبات الخاصة على الواجبات والمستحبات المعلومة ، وأُخرى غير مفروض الثبوت ، فيستكشف ثبوتها بجعل الثواب الخاص فيكون من باب جعل الملزوم بجعل لازمه والترغيب فيه» (١).

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٢٣.

٣٣

الوجه المختار :

قد عرفت أنّه لا وجه لاختصاص أخبار من بلغ بالمستحبات ، فإنّ لسان أكثرها بلوغ الثواب ، ومن الواضح شمول عنوان الثواب لكل عمل يثاب على فعله واجباً كان أو مستحباً ، بل يعم الحرام أيضاً ، فإنّ الثواب بحسب اللغة عبارة عن جزاء العمل خيراً كان أو شراً ، قال تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ) (١).

كما قال سبحانه : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٢).

قال الراغب في مفرداته : الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله والثواب يقال في الخير والشر (٣).

وقد عرفت شهادة بعض الأخبار على ذلك.

وهذه نكتة مهمة في المسألة ، غفل القوم عنها ولذا جعل بعضهم هذه الأخبار دليلاً على التسامح في أدلّة المندوبات ، كما جعلها بعض آخر دليلاً على نفس الاستحباب الشرعي. والتحقيق أنّ مفاد هذه الأخبار هو الإخبار عن تفضل الله سبحانه بالنسبة إلى عباده من دون نظر إلى حكم العمل وأنّه على أي وجه يقع ومن دون التفات إلى إلغاء شرائط الحجية في باب المندوبات أصلاً ، فإنّ لسانها والمنساق منها أجنبي عن ذلك جداً ، فهي في صدد بيان أنّ كل عمل يفعله المؤمن اتكالاً على تفضله وعنايته سبحانه ، لا يكون بدون الأجر والجزاء.

وبعبارة أُخرى أنّ الخبر وإن بلغ في الاعتبار والصحة ما بلغ إلّا أنّه لما يحتمل أن لا يكون مطابقاً للواقع سواء كان في واجب أو مستحب أو ترك حرام أو مكروه ،

__________________

(١) المائدة : ٨٥.

(٢) المطففين : ٣٦.

(٣) مفردات الراغب : ١٨.

٣٤

يقع في نفس العبد اضطراب ونحو من التردد ، فتكون هذه الأخبار في صدد رفع هذا التشويش والاضطراب وإعطاء الاطمئنان بفضل الله وكرمه.

ويؤيد هذا المعنى خبر عبد الله بن القاسم : من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجّزة له ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار (١) كما يشهد على ذلك ، بل يدل عليه ما رواه حمدان بن سليمان ، قال : سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه‌السلام) عن قول الله عزّ وجّل : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) قال : «من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن اليه» (٢). ويشهد على هذا المعنى النبوي العامي أيضاً : «من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها إيماناً بالله ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك» (٣). فلسان هذه الأخبار يقرب من قوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (٤) وقوله عزّ شأنه : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٥).

وقد نقلنا عند بيان الأقوال نظير هذا الاحتمال عن بعض الأعاظم (قدس‌سره) إلّا أنّه خصص الأخبار بالعمل بعد وقوعه وقال : إنّها لا تنظر إلى حال العمل ، وأنت خبير بإطلاقها من هذه الجهة.

إن قلت : المستفاد من أخبار الباب الباب هو التحريض على العمل لا الإخبار عن الفضل والرحمة فقط.

قلت : لا منافاة بينهما أصلاً بداهة أنّ الإخبار عن رحمته وفضله سبحانه

__________________

(١) الوسائل ج ١ ابواب مقدمة العبادات ، الباب ١٨ ، الحديث ٥.

(٢) المصدر : الحديث ٢.

(٣) عدة الداعي : ١٣.

(٤) الذاريات : ٥.

(٥) المرسلات : ٧.

٣٥

بالنسبة الى ما وعد من نعيم الجنة يوجب التحريض على العمل والترغيب في الخيرات والحسنات ، كما أنّ الإخبار عن عقابه وعذابه يوجب الردع والزجر عن المنهيات والمحرمات.

فتحصل من جميع ذلك أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن مما لا أساس لها لا من النقل ولا من العقل ، وظهر مما ذكرنا أنّ المناسب أنّ يبحث عن مفاد أخبار من بلغ في علم الكلام لا الأُصول ولا الفقه.

***

الدليل الرابع : حسن الاحتياط الثابت بالسنّة والإجماع والعقل :

ما ذكره جماعة تبعاً للوحيد البهبهاني (قدس‌سره) من حسن الاحتياط الثابت بالسنّة والاجماع والعقل.

وأورد عليه شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) بما حاصله : أنّ الاقدام على إتيان الفعل احتياطاً إنّما يحسنه العقل إذا كان الداعي إليه احتمال المحبوبية وقصد المكلّف إحراز محبوبات المولى إخلاصاً أو رجاء للثواب ، ولا كلام لأحد في ذلك فإنّه مما يستقل به العقل ضرورة ، إنّما الكلام في استحباب نفس الفعل المذكور على حد سائر المستحبات حتى يكون الداعي للمكلّف على فعله هو هذا الأمر القطعي الذي ثبت من أدلّة التسامح» (١).

أقول : ما أفاده (قدس‌سره) متين جداً وحاصله : أنّه فرق واضح بين إتيان الفعل المشكوك استحبابه بعنوان الاحتياط رجاء وبين إتيانه بما أنّه مستحب كسائر المستحبات ، والأوّل مما لا كلام فيه ولكن المطلوب للقائل بالتسامح هو الثاني.

***

__________________

(١) مجموعة رسائل : ١٢ ، من منشورات مكتبة المفيد.

٣٦

إمكان الاحتياط في العبادات المشكوكة وعدمه :

إذا بلغ الكلام هنا فلا بأس بصرف الكلام إلى إمكان الاحتياط في العبادات المشكوكة وعدم إمكانه لشدة ارتباطه بالمقام.

فاعلم أنّه قد يدور الأمر بين وجوب عمل واستحبابه ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، ولا إشكال حينئذ في حسن الاحتياط شرعاً لمثل قوله (عليه‌السلام) : «أخوك دينك فاحتط لدينك» وعقلاً لأنّه يوجب الإتيان بالواقع ، ولا ريب أنّه حسن ومطلوب عند العقل المدرك لحسن الأشياء وقبحها ، كما لا إشكال في ذلك عند دوران الأمر بين الحرمة وغير الكراهة إذا كان الترك عبادياً فيما إذا فرض عبادية ترك المرجوح ، كما لا ريب في استحقاق الثواب في هاتين الصورتين ، بناءً على أنّ مطلق وجود الأمر المعلوم في البين كاف في تحقق القربة وإمكان الاحتياط.

والحاصل : أنّ الاحتياط حسن فيما إذا أحرز أصل الرجحان والمحبوبية وهو محرز في هذين الموردين (١). ومن هنا لا ينبغي الريب في حسن الاحتياط في الواجبات التوصلية فانّ المقصود فيها تحقق ذات العمل الراجح عند الشارع.

وإنّما الإشكال في جريان الاحتياط وحسنه في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب من حيث إنّ العبادة لا بد فيها من نية القربة وهي تتوقف على العلم بأمر الشارع تفصيلاً أو إجمالا كدوران الأمر بين وجوب الظهر والجمعة في يومها وكالصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ، مع أنّه لا علم به في المقام فلا يمكن الاحتياط.

وببيان أوضح أنّه يعتبر في تحقق العبادة إتيانها متقرباً إلى الله تعالى على وجه الجزم واليقين وهو لا يحصل إلّا بالجزم بأنّ العمل الفلاني عبادة.

__________________

(١) ولا مجال للإشكال في ذلك من ناحية قصد الوجه لأنّه غير معتبر أوّلاً كما حقّق في محلّه ، ولو سلّمناه فهو مختص بصورة الإمكان وعند تعذّره لعدم العلم بالوجوب والاستحباب فلا يعتبر قطعا ثانياً.

٣٧

ثمّ إنّ الإمام الراحل ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ قرّر الاشكال بوجه أدقّ ، قال (قدس‌سره) :

«إنّ العبادة متقوّمة بقصد التقرب ، وفي الشبهات البدئية إمّا أن يقصد ذات الشيء بلا قصد التقرب ، أو ذات الشيء مع قصد التقرب ، أو ذات الشيء مع احتمال التقرب والأوّل خلف ، والثاني ممتنع لأنّ القصد الحقيقي لا يتعلق بالأمر المجهول المشكوك فيه ، والثالث غير مفيد لأنّ الإتيان باحتمال التقرب غير الإتيان بقصده والذي يعتبر فيها قصده لا احتماله» (١).

هذا هو الإشكال ، وقد أجاب القوم عنه بوجوه :

الأوّل : ما حاصله : أنّ الأمر معلول للحسن ولا إشكال في حسن الاحتياط فيستكشف بطريق اللمّ وجود أمر في البين متعلق بالاحتياط في العبادة ويقصد هذا الأمر المجزوم به في مقام الاحتياط.

وفي هذا الجواب مواقع للنظر ، أوّلاً أنّ كون الحسن علة تامة للأمر غير معلوم لنا ، فلا مجال حينئذ للاستكشاف لمّا.

وثانياً : أنّ اللازم وجوده في المقام هو الأمر المولوي والحسن ليس علة تامة للأمر المولوي بل لو سلمنا ذلك فانّما هو بالنسبة إلى جامع الأمر ، ولذا قد يتحقّق الحسن ولا أمر مولوياً كما في الضد المهم إذا تزاحم مع الأهم ، وكذا فيما يحكم العقل بحسنه واستحقاق الثواب عليه كما في معرفة الله والإطاعة ، وعنوان الاحتياط من هذا القبيل.

وثالثاً : أنّه لو سلّمنا ذلك أيضاً إلّا أنّ المكشوف أمر مولوي توصّلي متعلق بعنوان الاحتياط ، الذي يقطع بعدم دخالة قصد أمره في حصول غرضه وهذا هو شأن الأمر التوصّلي.

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٩٠.

٣٨

ورابعاً : إنّه يستلزم الدور إذ الحسن موقوف على موضوعه وهو الاحتياط وهو موقوف على الأمر المتوقف على الحسن ، فيلزم حينئذ توقف الشيء على نفسه فلا يكون الحسن من مقدمات تحقّق الاحتياط. فكيف يقطع بالحسن حتى يستكشف به لمّا تحقّق الأمر المحقّق للاحتياط؟

وقد أشار المحقّق الخوئي (قدس‌سره) إلى هذا الإيراد بقوله :

«إنّ حكم العقل بحسن الاحتياط لا يثبت موضوعه وإمكان الاحتياط ، فانّ حكم العقل والشرع جاريان على نحو القضايا الحقيقية وبيان الكبرى فقط ، ولا تعرض لهما لبيان الصغرى وتحقق الموضوع خارجاً» (١).

هذا ولكن يمكن أن يقال في دفع الدور : إنّ الحسن يكون موقوفاً على موضوعه ، أعني : الاحتياط بحسب مقام الثبوت ، وأمّا الاحتياط فهو موقوف على وجود الأمر بحسب مقام الإثبات ضرورة أنّ الحسن أمر حقيقي يمكن أن يكون علة تامة عند الشارع للأمر ، وأمّا الاحتياط فهو أمر يرتبط بالمكلّف ، يتحقق فيما إذا أحرز أصل الرجحان كما لا يخفى.

وخامساً : أنّ هذا الجواب خروج عن محل البحث إذ حينئذ تصير العبادة يقينية كسائر العبادات المعلوم توجه الأمر بها مع أنّ مورد النزاع هو ما إذا شك في وجود الأمر كما لا يخفى (٢).

ولكن لقائل أن يقول : فرق واضح بين تعلق الأمر بالعمل بالوجدان كتعلّقه بالصلاة والصيام وبين تعلقه به بنحو الاستكشاف كما في المقام فانّه من قبيل الشيء الحكمي والتنزيلي ، ومن الواضح أنّه لا يوجب صيرورة العمل عبادة يقينية واقعاً غاية الأمر أنّه يوجبها حكماً وتنزيلاً.

__________________

(١) مصباح الأُصول : ٢ / ٣١٥.

(٢) لاحظ تعليقات المحقّق المشكيني (قدس‌سره) على الكفاية : ٢ / ١٩٤.

٣٩

الجواب الثاني : أن الثواب يترتب على الاحتياط عقلاً وحيث إنّه معلول للأمر فيكشف بطريق الانّ عن تعلق الأمر بالعمل المشكوك تعلق الأمر به.

وقد أشار المحقّق الخراساني (قدس‌سره) إلى هذا الوجه بقوله :

«وانقدح بذلك أنّه لا يكاد يجدي في دفعه أيضاً القول بتعلّق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه» (١).

وقد أُجيب عن هذا الوجه أيضاً بالوجوه الخمسة المتقدمة طرّاً ، أمّا الثلاثة الأول ، فواضح ، وأمّا الرابع فلأنّ ترتب الثواب موقوف بحسب مقام الثبوت على الأمر بالاحتياط الموقوف عليه حسب توقف الحكم على موضوعه ، فلو ثبت الاحتياط بالأمر لدار ، ولكن يمكن دفع الدور بالبيان المذكور آنفاً. وأمّا الخامس فهو أيضا واضح. إلّا أنّك قد عرفت ما فيه من المناقشة.

الجواب الثالث : ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس‌سره) في فرائده : «منع توقفها [يعني العبادة] على ورود أمر بها بل يكفي الإتيان بها لاحتمال كونها مطلوبة أو كون تركها مبغوضاً ، ولذا استقرت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملاً على إعادة العبادات لمجرد الخروج من مخالفة النصوص غير المعتبرة والفتاوى النادرة» (٢).

قال شيخنا الأُستاذ ـ دام ظله ـ : إنّه أمتن الأجوبة وأحسنها ، وزاد في توضيحه ما حاصله : أنّ الحاكم على لزوم قصد الأمر في العبادات هو العقل لا الشرع وهو يحكم بلزوم قصد الأمر القطعي فيما إذا كان الأمر قطعياً وبلزوم قصد الأمر الاحتمالي فيما إذا كان احتمالياً مثل المقام. ولا يوجب ذلك تشريعاً في الدين لأنّ العمل يؤتى به بقصد الرجاء والاحتياط من دون الاستناد إلى الشرع وإنّما يوجبه إذا أسند إليه ، مع العلم بأنّه ليس منه.

***

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢ / ١٩٤.

(٢) فرائد الأُصول : ٢٢٨ ، طبعة رحمة الله.

٤٠