التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

والمراد بالزكاة في قوله (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) الزكاة المفروضة.

والمراد بالقرض الحسن في قوله (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الصدقات غير المفروضة التي يبذلها القادرون عليها في وجوه الخير المتنوعة بدون رياء أو أذى وفي التعبير بقوله : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) تأنيس للقلوب وترغيب للنفوس في البذل والعطاء ، حيث شبه ـ سبحانه ـ ما يعطى للمحتاج رغبة في الثواب بالقرض الذي سيكافئ الله ـ تعالى ـ صاحبه عليه بأضعافه من الخير والنعم.

وأضاف ـ سبحانه ـ الرسل إليه في قوله (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) لتشريفهم وتكريمهم وتعظيم شأن رسالاتهم وللإشارة إلى أن الايمان بهم جميعا واجب ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن كفر بواحد منهم كفر بالله ـ تعالى ـ.

ثم بعد أن فتح الله ـ تعالى ـ لهم باب كرمه إن أدوا ما أمرهم به حذرهم من المخالفة والعصيان فقال : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أى : فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه ، أو أعرض عن التكاليف التي كلفته بها بعد أن عرفها فقد بعد عن السبيل المستوية ، أخطأ الطريق الواضح المستقيم ، وسار في متاهات الضلال التي لا هداية فيها ولا خير معها.

فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن ترك الدين الحق واتجه إلى الأديان الباطلة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل ، فلم قال : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ)؟ قلت : أجل من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل. ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم : لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة ، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية العظمى» (١).

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت أن الله ـ تعالى ـ قد أخذ الميثاق على بنى إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم بها ، وحذرهم من النقض والخيانة والكفر ، ورغبهم في الطاعة والإيمان فماذا كان موقفهم من عهود الله ـ تعالى ـ؟

لقد بين ـ سبحانه ـ جانبا من رذائلهم ، ومن العقوبات التي عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ، لَعَنَّاهُمْ ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

والفاء في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم ، والباء للسببية

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٥

٨١

و «ما» مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس والجار والمجرور ـ متعلق بقوله : (لَعَنَّاهُمْ) وقوله : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) معطوف على ما قبله وقوله : (قاسِيَةً) بوزن فاعلة ـ من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال : قسا قلبه يقسو فهو قاس ، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب أى فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأثر بالمواعظ والنذر.

وقرأ حمزة والكسائي : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة. وللمفسرين في معناها رأيان :

أحدهما : أن (قسية) بمعنى قاسية ، غير أن فيها مبالغة ، إذ هي على وزن فعيلة ، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم.

والثاني : أن معنى (قسية) هنا غير معنى قاسية ، لأن قسية في هذا الموضع مأخوذة من قولهم : درهم قسى ـ على وزن شقي ـ أى : فاسد رديء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم.

والمعنى على هذا الوجه : وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما.

وقد رجح ابن جرير الرأى الأول ـ وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة ـ فقال (وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة ، لأن الله ـ تعالى ـ وصف القوم بنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش) (١) وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثاني إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازما في المعنى فقال : وقرأ عبد الله (قسية) أى : ردية مغشوشة. من قولهم : درهم قسى وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة» (٢).

وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم ، فإنه لا قسوة

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ١٥٥

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٥

٨٢

أشد من تحريف كلام الله ـ تعالى ـ والميل به عن الحق والصواب.

أى : أنهم بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم ، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه ـ سبحانه ـ عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل ، أو التفسير الفاسد ، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تارة وبالنقصان أخرى ، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (يُحَرِّفُونَ) بصيغة الفعل المضارع ، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين. والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم في هذا الخلق الذميم.

فإن هذا التحريف الذي حكاه الله ـ تعالى ـ في هذه الآية قد كان من بنى إسرائيل بعد عهد موسى ـ عليه‌السلام ـ واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ومن تحذيره إياهم.

والمراد بالنسيان في قوله : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) الترك والإهمال قال الراغب : (النسيان : ترك الإنسان ضبط ما استودع. إما لضعف قلبه ، وإما عن غفلة ، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره).

والأنواع الثلاثة التي ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم ، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة.

والتنكير في قوله : (حَظًّا) للتكثير والتهويل. أى : تركوا نصيبا كبيرا مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند ظهوره.

وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن في هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم. فلما بين القرآن ذلك ، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل.

ولما كانت أخلاق الآباء كثيرا ما يتوارثها الأبناء ، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود المعاصرين له ، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

وقوله (خائِنَةٍ) بمعنى الخيانة أى عدم الوفاء بالعهد. فهي مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية. قال ـ تعالى ـ (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أى بالطغيان. ويحتمل أن يكون قوله

٨٣

(خائِنَةٍ) صفة لموصوف محذوف أى على فرقة خائنة أو طائفة.

والمعنى : ولا تزال ـ أيها الرسول الكريم ـ ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة. وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم ، وغدرهم ونقضهم لعهودهم. إلا قليلا منهم دخلوا في الإسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها.

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة. فكأن الله ـ تعالى ـ يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئا مستبعدا ، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد : وفيها ـ أيضا ـ تحذير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرورهم ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله (وَلا تَزالُ) المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) استثناء من الضمير المجرور في قوله (خائِنَةٍ مِنْهُمْ) والمراد بهذا العدد القليل منهم ، أولئك الذين دخلوا في الإسلام ، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله.

ثم ختم سبحانه ـ الآية بقوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والعفو عدم مقابلة الإساءة بمثلها.

والصفح : ترك اللوم والمعاتبة. ولذا قالوا : الصفح أعلى رتبة من العفو ، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا. أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن.

وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعفو والصفح عنه :

١ ـ فيرى بعضهم أن المراد بهم ، القلة اليهودية التي أسلمت ، واستثناها الله بقوله (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهذا الرأى مردود بأنهم ماداموا قد آمنوا ، فقد عصموا دماءهم وأموالهم ، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع.

٢ ـ ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود ، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) وهذا الرأى ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر ـ كما سنبين.

__________________

(١) سورة التوبة آية ٢٩

٨٤

٣ ـ ويرى أبو مسلّم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم.

والذي نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود ، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، مع العفو عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإسلامية.

فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين ، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التي تقى المسلمين شرورهم ، لأن العفو عنهم ـ عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة ـ يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو في غير موضعه. وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم. وربما اعتبر توضيحا له. فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم ، واصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر في سير الدعوة الإسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم ، إن الله تعالى يحب المحسنين.

وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانبا مما أخذ الله على بنى إسرائيل من عهود ومواثيق ، ورغّبتهم في الوفاء بها وحذرتهم. من نقضها ، كما بينت بعض العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقي المسلمين من شرورهم ومكرهم.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ جانبا من قبائح اليهود ونقضهم لمواثيقهم عقب ذلك ببيان حال النصارى فقال ـ تعالى ـ :

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)(١٤)

وقوله ـ تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) معطوف على قوله قبل ذلك : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

ونسب ـ سبحانه ـ تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى)

٨٥

جمع نصران كندامى جمع ندمان ، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. وقد صارت كلمة نصراني لكل من اعتنق المسيحية.

وقد سموا بذلك لدعواهم أنهم أنصار عيسى على أعدائهم. أو نسبة إلى بلدة الناصرة التي فيها نشأ عيسى ـ عليه‌السلام ـ وأعلن دعوته للناس.

والمعنى : وكما أخذنا على بنى إسرائيل الميثاق بأن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ، ويستجيبوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشرت به الكتب السماوية ، فقد أخذنا ـ أيضا ـ من الذين قالوا إنا نصارى الميثاق بذلك ، ولكنهم كان شأنهم في الكفر ونقض العهود كشأن اليهود ، إذ ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى قدرا كبيرا ، ونصيبا عظيما مما ذكروا به على لسان عيسى عليه‌السلام ـ فقد أمرهم بتوحيد الله ، وبشرهم بظهور رسول من بعده هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم إلى الإيمان به ، ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان ، فكان دأبهم كدأب بنى إسرائيل في العناد والضلال.

ونسب ـ سبحانه ـ تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ولم يقل : «ومن النصارى» للإشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية وهي الدين الذي جاء به عيسى. إنما هو قول يقولونه بأفواههم دون أن يتبعوه بقلوبهم إذ لو كانوا متبعين حقا لما جاء به عيسى عليه‌السلام ـ لأقروا لله ـ تعالى ـ بالوحدانية ولآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشر به عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

وإلى هذا المعنى أشار ـ صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : فهلا قيل : ومن النصارى؟

قلت : لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله. ثم اختلفوا بعد : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية ، أنصارا للشيطان» (١).

وقوله ـ تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) بيان لما حدث منهم بعد أخذ الميثاق.

أى : أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ورسله ولكنهم لم يكونوا أوفياء بعهودهم ، بل تركوا نصيبا كبيرا مما أمروا بفعله ومما ذكروا به على لسان المسيح عيسى بن مريم. والمراد بالنسيان هنا الترك والإهمال عن تعمد وقصد ، لأن الناسي حقيقة لا يؤاخذه الله ـ تعالى ـ :

والإتيان بالفاء في قوله : (فَنَسُوا) للإشارة إلى أن تركهم لما أخذ عليهم من ميثاق ، كان عن تعجل وعدم تمهل بسبب استيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم.

والتنكير في قوله تعالى : (حَظًّا) للتهويل والتكثير. أى تركوا نصيبا كبيرا مما أمرتهم به

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٦ طبعة دار الكتاب العربي ببيروت

٨٦

شريعتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ظهوره فكان تركهم لهذا النصيب العظيم مما ذكروا به سببا في ضلالهم وسوء عاقبتهم.

قال بعض العلماء : «وسبب نسيان حظ أى نصيب كبير مما ذكروا به ، هو اضطهاد النصارى اضطهادا شديدا في عهد الرومان حتى ضاعت كتبهم ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا. وما ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها ـ ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات المختلفة ـ إلا بعد أن دخل قسطنطين أمبراطور الرومان في المسيحية ، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انعقد في سنة ٣٢٥ ميلادية. وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد» (١).

وقوله : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وعيد شديد لهم بسبب تركهم لما أرشدوا إليه ، ولما ذكروا به.

فالفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَأَغْرَيْنا) للسببية وأغرينا أى : ألقينا وهيجنا وألصقنا. يقال : أغريت فلانا بكذا حتى أغرى به ، أى : ألزمته به وألصقته وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلتصق به الشيء.

وقوله : (بَيْنَهُمُ) ظرف لأغرينا. والضمير فيه يعود إلى فرق النصارى المتعددة عند جمهور المفسرين.

والمعنى : بسبب ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى لما ذكروا به فرقناهم شيعا وأحزابا وجعلنا كل فرقة منهم تعادى الأخرى وتبغضها إلى يوم القيامة.

ويرى بعضهم أن الضمير في قوله : (بَيْنَهُمُ) تعود إلى اليهود والنصارى ، فيكون المعنى : بسبب ما عليه الطائفتان من عناد وضلال ، ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، فهم في عداوة شديدة ، وكراهية مستحكمة.

وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى فرق النصارى فقال :

وأولى التأويلين بالآية عندي : ما قاله الربيع بن أنس وغيره. وهو أن المعنى بالإغراء بينهم : النصارى في هذه الآية خاصة وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى ، دون اليهود ، لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضى خبره عن اليهود ، وبعد ابتداء خبره عن النصارى ، فلأن يكون ذلك معنيا به النصارى خاصة. أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لما ذكرناه» (٢)

__________________

(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة ـ رحمه‌الله ـ مجلة لواء الإسلام السنة ١٩ العدد التاسع ص ٥٤٥.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٦٠

٨٧

وقال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أى : فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى يوم قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها. فالملكانية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون. وكذلك النسطورية الآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» (١).

والذي تطمئن إليه النفس أن قوله ـ تعالى ـ (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يشمل ما بين اليهود والنصارى من عداوة ظاهرة مستحكمة يراها الرائي في كل العصور والأزمان ، كما يشمل ما بين فرق النصارى من اختلاف وتباغض وتقاتل بسبب عقائدهم الزائغة وأهوائهم الفاسدة. وما نراه من تصارع وتقاتل بين طائفتى الكاثوليك والبروستانت في. إيرلاندا وفي غيرها خير شاهد على صدق القرآن الكريم ، وأنه من عند الله ـ عزوجل ـ وقوله ـ تعالى : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان ما حكم به عليه في الدنيا من عداوة وبغضاء. و (سَوْفَ) هنا لتأكيد الخبر وتقويته وبيان أنه وإن تأخر آت لا محالة.

والمعنى : لقد ألقينا العداوة والبغضاء بين هذه الطوائف الضالة وسوف يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعونه من كتمان الحق ، ومخالفة للرسل ، وانغماس في الباطل ، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون من عذاب شديد.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض الرذائل التي انغمس فيها اليهود والنصارى. وجه إليهم نداء دعاهم فيه إلى الدخول في الدين الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تعالى :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣.

٨٨

مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٦)

والمعنى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أى : يظهر لكم كثيرا من الأحكام والمسائل التي ذكرتها كتبكم وكتمتموها عن الناس ، كإخفائكم صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تجدونها في التوراة والإنجيل وكتمانكم ما جاء فيها من بشارات تبشر به. وغير ذلك من الأحكام التي أخفاها علماؤكم عن العامة ، وتولى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعلانها إظهارا للحق ، ووضعا للأمور في نصابها.

وقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أى : يعرض ولا يظهر كثيرا مما كنتم تخفونه ، لأنه لا ضرورة تدعو إلى بيانه ، ولا فائدة تعود على الناس من وراء إظهاره ، ففي السكوت عنه رحمة بكم ، وصيانة لكم عن الافتضاح والمؤاخذة.

يقال : عفا عن المذنب ، أى : ستر عنه ذنبه فلم يعاقبه عليه.

والمراد بالكتاب في قوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) جنس الكتب ، فيشمل التوراة والإنجيل.

وفي ندائهم بهذا الوصف حمل لهم على الدخول في الإسلام ؛ فإن علمهم بما في كتبهم من بشارات بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى الإيمان به. فإذا لم يؤمنوا به مع علمهم بأنه رسول صادق في رسالته كانت مذمتهم أشد وأقبح ، وكان عقابهم على كتمانهم الحق أعظم وأقسى. وكان التعبير بقوله ـ تعالى ـ (قَدْ جاءَكُمْ) للإشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وصل إليهم ، ويعيش بينهم ، فهم يرونه ويراهم ، ويخاطبهم ويخاطبونه ، ليسمعوا منه ما يشهد بصدقه بدون حجاب أو وساطة.

وفي التعبير بقوله ـ تعالى ـ (رَسُولُنا) تشريف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أضافه ـ سبحانه ـ إلى ذاته ، وفيه كذلك إيذان بوجوب اتباعه لأنه رسول مبلغ عن الله ـ تعالى ـ ما يأمره بتبليغه بدون تغيير أو تبديل.

والمراد بالكتاب في قوله : (تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) التوراة والإنجيل. فقد امتدت أيدى اليهود والنصارى إلى هذين الكتابين فغيروا وبدلوا فيهما على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم.

وفي إظهار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكثير مما كتموه ، وعفوه عن الكثير مما أخفوه ، معجزة له ، لأنه لم

٨٩

يقرأ كتابا ، ولم يجلس أمام معلم ، فإخباره بأسرار ما في كتبهم إخبار عن أمور مغيبة ، فيكون معجزة له تحملهم على الإيمان به فيما يدعوهم إليه.

ثم مدح الله ـ تعالى ـ رسوله ، وما جاء به من الخير والهدى فقال : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ).

والمراد بالنور هنا : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو نور الأنوار ـ كما يقول الآلوسى.

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم الذي أنزله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجملة الكريمة مستأنفة مسوقة لبيان أن فائدة مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه ، بل له منافع أخرى لا تحصى.

قال ابن جرير ما ملخصه ، قوله : تعالى ـ (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يقول ـ جل ثناؤه ـ لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب : «قد جاءكم يا أهل التوراة والإنجيل من الله نور هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنار الله به الحق ، وأظهر به الإسلام ومحق به الشرك» قوله (وَكِتابٌ مُبِينٌ) يعنى : «كتابا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم من توحيد الله ، وحلاله وحرامه وشرائع دينه وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالنور وبالكتاب هنا : القرآن الكريم.

وقد اقتصر على هذا التفسير صاحب الكشاف فقال : قوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يريد القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك ، ولإبانته ما كان خافيا عن الناس من الحق ، أو لأنه ظاهر الإعجاز» (٢).

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير أرجح ، لأن العطف في الغالب يقتضى المغايرة في الذات إذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء للناس برسالة هي نور في شخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاءهم بالقرآن الكريم الدال على صدقه في رسالته.

ثم بين ـ سبحانه ـ الغاية من رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ).

والضمير في قوله (بِهِ) يعود إلى مجموع ما ذكر ، أو إلى الكتاب المبين باعتباره أقرب مذكور و (سُبُلَ) جمع سبيل بمعنى طريق. و (السَّلامِ) مصدر بمعنى السلامة.

والمعنى : قد جاءكم ـ يا معشر أهل الكتاب ـ من الله نور وكتاب مبين. يهدى الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ١٦١

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٧

٩٠

بذلك أو بالكتاب (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أى : من علم ـ سبحانه ـ منه أنه يريد اتباع ما يرضي بأن يخلص له العبادة ويستجيب للحق الذي أرسل به أنبياءه فإنه متى كان كذلك ، أوصله ـ سبحانه ـ إلى (سُبُلَ السَّلامِ) أى : إلى طرق السلامة والنجاة من كل خوف وشقاء ، بأن يثبته في الدنيا على طريق الحق ، ويكرمه في الآخرة بمثوبته وجنته هذه هي الثمرة الأولى من ثمار اتباع ما جاء من عند الله من نور وكتاب مبين. أما الثمرة الثانية فقد بينها ـ سبحانه ـ بقوله : وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ).

والضمير المنصوب في قوله (وَيُخْرِجُهُمْ) وهو هم يعود إلى (مَنِ) في قوله (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) باعتبار المعنى.

أى : ويخرج ـ سبحانه ـ هؤلاء الأخيار الذين علم منهم اتباع ما يرضيه يخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الحق والإيمان (بِإِذْنِهِ) أى : بإرادته وعلمه.

وقوله : (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بيان للثمرة الثالثة من ثمار اتباع ما جاء من عند الله من حق وخير.

أى : ويهدى ـ سبحانه ـ هؤلاء الذين علم منهم اتباع ما يرضيه إلى صراط مستقيم ، وطريق قويم لا اعوجاج فيه ولا اضطراب ، وهو طريق الإسلام الذي يوصل إلى الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد دعتا أهل الكتاب إلى اتباع الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله ، بأوضح أسلوب ، وأكمل بيان ، وبينتا لهم ما يترتب على اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منافع جليلة ، وفوائد عظيمة تجعلهم يسارعون إلى تصديقه إن كانوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وبعد أن أرشد ـ سبحانه ـ أهل الكتاب إلى الطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسلكوه ، عقب ذلك ببيان ما عليه النصارى من ضلال وبطلان فقال :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٧)

٩١

اللام في قوله : (لَقَدْ كَفَرَ) واقعة جوابا لقسم مقدر.

والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره ، والانغماس في الباطل والضلال. والمعنى : أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم.

قال بعض العلماء ما ملخصه : «لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهى» وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهى فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه. ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه. وقد قال في ذلك البيضاوي : «هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل : لم يصرح به أحد منهم. ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا : لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم».

وذلك بلا ريب ينتهى إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك ، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.

وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله ـ تعالى ـ في أواخر هذه السورة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم.

والحقيقة أن النصارى اليوم ـ وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون ـ يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة. وأنها شيء واحد. وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو روح القدس. فقد قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس : «طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هي : الله الأب ، والله الابن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمى الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطيهر. غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم ، كما هي في العهد الجديد».

ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه. فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب ، كما أن الله هو روح القدس (١) هذا ، وقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام السنة ١٩ العدد ١١

٩٢

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء النصارى الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ، قل لهم على سبيل الإنكار والتوبيخ والتجهيل : من ذا الذي يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد الله ـ سبحانه ـ أن يهلكهم ويبيدهم؟ لا شك أن أحدا لن يستطيع أن يمنع إرادته ـ سبحانه ـ لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده ؛ أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه. ومادام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان ، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها. وحاشا للمخلوق الفاني أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقي (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) قال الإمام الرازي ما ملخصه : «احتج ـ سبحانه ـ على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط.

والتقدير : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره. وقوله (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أى : فمن يملك من أفعال الله شيئا والملك هو القدرة. يعنى فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله ـ تعالى ـ ومنع شيء من مراده.

وقوله : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) يعنى : أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلّم كونه ـ تعالى ـ خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى» (١).

وفي توجيه الأمر إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذي آمنوا به.

قال أبو السعود : وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكارى عن أحد مع تحقيق الإلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط ، لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه ـ سبحانه ـ وإثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٩١. طبعة عبد الرحمن محمد

٩٣

وتعميم إرادة الإهلاك للكل ـ مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح ـ لتهويل الخطب ، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره ـ تعالى ـ وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره.

وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك ، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز ، وعدم استحقاق الألوهية» (١).

وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما.

وعطف عليهما قوله (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من باب عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين. مرة بالنص عليهما. ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما.

وقوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) تأكيد لاختصاص الألوهية به ـ تعالى ـ إثر بيان انتفائها عما سواه.

أى : ولله ـ تعالى ـ وحده دون أن ينازعه منازع. أو يشاركه مشارك ، ملك جميع الموجودات ، والتصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة. فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها ، ولما بينهما من فضاء تجرى فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته. وما المسيح وأمه إلا من جملة ما في الأرض ، فهما عبدان من عباد الله يدينان له ـ سبحانه ـ بالعبادة والطاعة والخضوع.

وقال ـ سبحانه ـ (وَما بَيْنَهُما) ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع ، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان.

أى : ولله ـ تعالى ـ وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاضعة لمشيئة الله وقدرته.

وقوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه في أمر المسيح لولادته من غير أب ، وإحيائه الموتى ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، كل ذلك بإذن الله.

أى أنه ـ سبحانه ـ يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التي يريدها تبعا لمشيئته وإرادته.

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ١٧ طبعة صبيح.

٩٤

فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس ، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن في خلق آدم ، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن في خلق عيسى ، إلى ذلك من مخلوقاته التي ليست مقصورة على نوع واحد بل هي شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد ، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده ، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته.

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

أى : والله ـ تعالى ـ قدير على كل شيء ومالك لكل شيء ومهيمن على كل شيء لا يغلبه شيء طلبه ، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده ، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله ـ عزوجل ـ.

فهذه الآية الكريمة تحكى أقوال النصارى الباطلة في شأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ وترد عليهم بما يزهق باطلهم ، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعض دعاوى أهل الكتاب الباطلة وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٨)

قال الإمام ابن كثير : روى محمد بن إسحاق وابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من اليهود فكلموه وكلمهم ودعاهم إلى الله ـ تعالى ـ وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد؟ نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ فيهم.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) .. الآية (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) حكاية لما صدر عن الفريقين من أقاويل فاسدة ودعاوى باطلة ، يدل على سفاهة عقولهم ، وبلادة تفكيرهم ، حيث قالوا في حق الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥

٩٥

ما لا يليق بعظمته ـ سبحانه ـ.

قال الآلوسى : ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : «ومرادهم بالأبناء : المقربون. أى نحن مقربون عند الله ـ تعالى ـ قرب الأولاد من والدهم. ومن مرادهم بالأحباء : جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب. ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة ، كما يقال : أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. ويجوز أن يكونوا أرادوا بما قالوا أنهم أشياع وأتباع من وصف بالبنوة. أى قالت اليهود : نحن أشياع ابنه عزير. وقالت النصارى : نحن أشياع ابنه عيسى. وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء في قرب المنزلة. وهذا كما يقول أتباع الملك : نحن الملوك.

وقيل الكلام على حذف المضاف. أى : نحن أبناء أنبياء الله ـ تعالى ـ وهو خلاف الظاهر. ومقصود الفريقين بقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) هو المعنى المتضمن مدحا ، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزيد عند الله ـ تعالى ـ على سائر الخلق» (١).

والمعنى : وقالت طائفة اليهود التي تزعم أنها شعب الله المختار ، وقالت طائفة النصارى التي تزعم أنها على الحق دون غيرهم قالت كل طائفة منهما : نحن في القرب من الله ـ تعالى ـ بمنزلة أبنائه المدللين ، وأحبائه المختارين ، فلنا من الفضل والمنزلة والتكريم ما ليس لغيرنا من البشر.

والذي حملهم على هذا القول الباطل ، جهلهم بما اشتملت عليه كتبهم ، وتخبطهم في الكفر والضلال وفهمهم السقيم لمعانى الألفاظ.

قال ابن كثير : «ونقلوا عن كتبهم أن الله ـ تعالى ـ قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكرى. فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه. وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلّم من عقلائهم. وقالوا هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم. إنى ذاهب إلى أبى وأبيكم ، يعنى : ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى ـ عليه‌السلام ـ وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه ، وحظوتهم عنده ، ولهذا قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٢).

وعطف ـ سبحانه ـ قولهم : (وَأَحِبَّاؤُهُ) على قولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) للإشارة إلى غلوهم في الجهل والغرور ، حيث قصدوا أنهم أبناء محبوبون وليسوا مغضوبا عليهم من أبيهم بل هم محل رضاه وإكرامه.

وقد أمر الله ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يكبتهم فقال : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٠

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤ طبعة عيسى الحلبي.

٩٦

والفاء في قوله (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) للافصاح ، لأنها تفصح عن جواب شرط مقدر أى : قل يا محمد لهؤلاء المغرورين ، إن كان الأمر كما زعمتم من أنكم أبناء الله وأحباؤه فلأى شيء يعذبكم إذ الحبيب لا يعذب حبيبه.

وإن واقعكم يا أهل الكتاب يناقض دعواكم ، فقد عذبكم ـ سبحانه ـ في الدنيا بسبب ذنوبكم بالقتل والأسر والمسخ وتهييج العداوة والبغضاء بينكم إلى يوم القيامة.

أما في الآخرة فإن كتبكم التي بين أيديكم تشهد بأنكم ستعذبون في الآخرة على ما تقترفون من آثام في دنياكم.

وقد أقر اليهود بأن العذاب سيقع بهم ـ في زعمهم ـ أياما معدودات في الآخرة وحكى القرآن عنهم ذلك في قوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) :

وأقر النصارى بأن الله ـ تعالى ـ سيحاسب الناس يوم القيامة ، وسيجازى كل إنسان على حسب عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

قال القرطبي : «رد الله عليهم قولهم فقال : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين ، إما إن يقولوا هو يعذبنا ، فيقال لهم : فلستم إذا أبناءه ولا أحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه. وأنتم تقرون بعذابه ، فذلك دليل على كذبكم ـ وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف ـ أو يقولوا : لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم ، وما جاءت به رسلهم. ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم ، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم» (١) وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) رد على أصل دعواهم الباطلة ، وبيان لما هو الحق من أمرهم وهو معطوف على كلام مقدر.

أى : ليس الأمر كما زعمتم يا معشر اليهود والنصارى من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل الحق أنكم كسائر البشر من خلق الله. فإنكم إن آمنتم وأصلحتم أعمالكم نلتم الثواب من الله ، وإن بقيتم على كفركم وغروركم حق عليكم العقاب ، وليس لأحد فضل على أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح.

قال أبو حيان قوله : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) إضراب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشرا من بعض خلقه ، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشرا ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوجهين البنوة. وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما» (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٢٠

(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٢ ص ٤٥١

٩٧

وقوله ـ سبحانه ـ (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بيان لعموم قدرته ، وشمول إرادته.

أى أنه ـ سبحانه ـ يغفر لمن يشاء أن يغفر له من خلقه ، وهم المؤمنون به وبرسله ، ويعذب من يشاء أن يعذبه منهم ، وهم المنحرفون عن طريق الحق والهدى ، لا راد لقضائه. ولا معقب لحكمه.

وقوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) تذييل قصد به تأكيد ما قبله من عموم قدرته ، وشمول إرادته وهيمنته على سائر خلقه.

أى : ولله ـ تعالى ـ وحده ملك جميع الموجودات وهو صاحب التصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وإليه وحده مصير الخلق يوم القيامة فيجازيهم على ما عملوا من خير أو شر. قال ـ تعالى ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). وبذلك تكون الآية الكريمة قد أبطلت حجة اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم (أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وأثبتت بالمنطق الواضح أنهم كذابون فيما يدعون ؛ وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ فساد أقوال أهل الكتاب وبطلان عقائدهم ، ورد عليهم بما لا يدع للعاقل متمسكا بتلك الضلالات. أتبع ذلك بتوجيه نداء آخر إليهم تكريرا لوعظهم ، وتحريضا لهم على اتباع الحق فقال ـ تعالى ـ

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٩)

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله. لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا : ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده ، فأنزل الله

٩٨

في قولهما قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) الآية (١).

وقوله (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أى : على انقطاع من الرسل ، إذ الفترة هي الزمن بين زمنين ، ويكون فيها سكون عما يكون في هذين الزمنين.

قال الراغب : الفتور سكون بعد حدة ، ولين بعد شدة ، وضعف بعد قوة. قال ـ تعالى ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أى : سكون خال عن مجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أى لا يسكنون عن نشاطهم في العادة» (٢). فأصل الفتور : السكون والانقطاع. يقال فتر عن عمله إذا انقطع عما كان عليه من الجد والنشاط.

والمعنى : يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يا من أنزل الله ـ تعالى ـ الكتب السماوية على أنبيائكم لهدايتكم وسعادتكم ، ها هو ذا رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءكم لكي يبين لكم شرائع الدين ، والطريق الحق الذي يوصلكم إلى السعادة الدينية والدنيوية ، وذلك بعد انقطاع من الرسل ، وطموس من السبل ، وضلال في العقائد ، وفساد في الأفكار والمعاملات.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أى : بعد مدة متطاولة ما بين إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين عيسى ابن مريم. وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي؟

فعن قتادة خمسمائة وستون سنة.

وكانت هذه الفترة بين عيسى ابن مريم ـ آخر أنبياء بنى إسرائيل ـ وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين من بنى آدم على الإطلاق ، كما ثبت في «صحيح البخاري» عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي» وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان.

والمقصود من هذه الآية ، أن الله ـ تعالى ـ بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وتغير الأديان ، وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم (٣).

وفي ندائه ـ سبحانه ـ لليهود والنصارى بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) تنبيه لهم إلى أن مصاحبتهم للكتاب وكونهم أهل معرفة ، يوجبان عليهم المبادرة إلى اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشرت بمبعثه كتبهم التي بين أيديهم ، والذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم. وإلا فسيكون

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ١٦٦

(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٣٧١ للراغب الاصفهانى

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥

٩٩

عقابهم أشد إذا ما استمروا في كفرهم وضلالهم.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (قَدْ جاءَكُمْ) للإيذان بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أصبح بينهم ، بحيث يشاهدهم ويشاهدونه ، ويسمع منهم ويسمعون منه ، وأنه قد صار من اللازم عليهم اتباعه ، لأن الشواهد قد قامت على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

وأضاف ـ سبحانه ـ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذاته فقال : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) لتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكريمه ، وللإشارة إلى قدسية هذه الرسالة وسمو منزلتها ، وأنها لا تسوغ مخالفة من أتى بها ، ولا يصح الخروج عن طاعته ، لأنه رسول من عند الله ـ تعالى ـ الذي له الخلق والأمر.

ومفعول (يُبَيِّنُ) محذوف. أى : يبين لكم الشرائع والأحكام ، وما أمرتم به ، وما نهيتم عنه ، وحذف هذا المفعول اعتمادا على ظهوره ، إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام.

وقوله : (عَلى فَتْرَةٍ) متعلق بقوله (جاءَكُمْ) على الظرفية ، وقوله : (مِنَ الرُّسُلِ) متعلق بمحذوف صفة لفترة. أى : قد جاءكم رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحى ، ومزيد الاحتياج إلى البيان.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (عَلى فَتْرَةٍ) فيه معنى فوقيه الرسالة على الفترة ، وعلوها عليها ؛ كعلوا البيان على الجهل ، والنور على الظلمة ، فمن الواجب عليهم أن يسارعوا إلى اتباع الرسول الذي جاءهم بالحق ، وإلا كانوا ممن يرتضى لنفسه الانحدار من الأعلى إلى الأدنى ، ومن العلم إلى الجهل ، ومن الهدى إلى الضلال.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) جملة تعليلية المقصود بها قطع معاذيرهم إذا احتجوا بالجهل وعدم معرفتهم لأوامر الله ونواهيه.

والمراد بالبشير : المبشر الذي يبشر أهل الحق والطاعة بالخير والسعادة.

والمراد بالنذير : المنذر الذي ينذر أهل الباطل والضلال بسوء المصير.

والمعنى : لقد جاءكم يا معشر أهل الكتاب رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين لكم شرائع الله بعد فترة متطاولة من انقطاع الرسل ، لكي لا تقولوا على سبيل المعذرة يوم الحساب ، ما جاءنا من بشير يبشرنا بالخير عند الطاعة ، ولا نذير ينذرنا بسوء العاقبة عند المعصية.

و (مِنَ) في قوله (مِنْ بَشِيرٍ) لتأكيد نفى المجيء.

والتنكير في قوله : (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) للتقليل ، أى : ما جاءنا أى بشير ولو كان صغيرا ، وما جاءنا أى نذير ولو كان ضئيلا.

١٠٠