التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله (إِلَى الْمَرافِقِ) و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه» (١).

رابعا : أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء ، لقوله ـ تعالى ـ (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح.

فقال المالكية : يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط ، وتبعهم في ذلك الحنابلة.

وقال الشافعية : يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس.

ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية. فقال المالكية والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون ـ أيضا ـ زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس ، ويكون البعض داخلا في ذلك.

وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض ، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين ، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته» قالوا : والناصية تساوى ربع الرأس.

قال بعض العلماء : والسنة الصحيحة وردت بالبيان. وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي التي استمر عليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان يداوم عليها. وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجراء غيرها في بعض الأحوال (٢).

خامسا : قوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ) وردت فيه قراءتان متواترتان.

إحداهما : بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب.

والثانية : بكسر اللام وهي قراءة الباقين.

أما قراءة النصب فعلى أن قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) معطوف على قوله (وُجُوهَكُمْ) أو هو منصوب بفعل مقدر أى : وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.

وأما قراءة الجر فعلى أن قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) معطوف على (بِرُؤُسِكُمْ)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٠

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ١٨٨

٦١

قال القرطبي ما ملخصه : فمن قرأ بالنصب جعل العامل «اغسلوا» وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح. وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث. وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته : «ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء» ثم إن الله حدهما فقال : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) كما قال في اليدين (إِلَى الْمَرافِقِ) فدل على وجوب غسلهما ، ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء. فقال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم. وتعلق الطبري بقراءة الخفض ـ أى قال بمسح الرجلين.

ثم قال : وقد قيل : إن قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) بقراءة الخفض ـ معطوف على اللفظ دون المعنى ـ أى لفظ الرءوس ـ وهذا أيضا يدل على الغسل ، فإن المراعى المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب. وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال ـ تعالى ـ (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) بالجر لأن النحاس هو الدخان.

ثم قال : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله. ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب. ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب. ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح. إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح.

ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما. وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) قوله (فَاغْسِلُوا) والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما. تقول : أكلت الخبز واللبن. أى : وشربت اللبن (١).

وقد عقد الإمام ابن كثير فصلا أورد فيه ـ عند تفسيره لهذه الآية ـ كثيرا من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين ، وجعل عنوانه : «ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه».

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٩١ ـ ص ٩٦.

٦٢

ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى وابن عباس. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم.

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».

وعن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله فقال : «ويل للأعقاب من النار».

ثم قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة. وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل. بل يجرى فيه ما يجرى في مسح الخف (١).

ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة ، للإشارة إلى وجوب عدم الإسراف في الماء. فقد قال : فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها : فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.

وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله : لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفى الغليل. والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو ، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم ، كقوله : متقلدا سيفا ورمحا. وعلفتها تبنا وماء باردا. ونظائره كثيرة.

ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال : فائدته الإيجاز والاختصار. وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك ـ الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا. على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود» (٢).

هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٦

(٢) تفسير الكشاف وحاشيته ج ١ ص ٦١٠

٦٣

بالجر. وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء (١).

سادسا : أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أى : غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين.

وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية ـ كما سبق أن أشرنا ـ كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا التريب في القرآن فيجب التزامه. ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الأحناف : الترتيب ليس فرضا ، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا.

كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه. وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة.

والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبى لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئا بأوله. أما إذا قطع المتوضئ وضوءه لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظاهرة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه.

تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها. وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبه فقال ـ تعالى ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة. وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر ، فيقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، وهما جنب ، ورجال ونساء جنب .. واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة ، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من المسلم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر.

وقوله (فَاطَّهَّرُوا) أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة.

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٦١٠

٦٤

فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق ، وتمسحوا برءوسكم. وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، هذا إذا كنتم محدثين حدثا أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر ، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا. أى : تغسلوا بالماء جميع بدنكم. لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو ، كان أمرا شاملا لتطهير جميع البدن ، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله ـ تعالى ـ في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها.

وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) ولأنه ـ سبحانه ـ قد ذكر بعد هذه الجملة ما يحل محل الماء عند فقده.

والتعبير بقوله (فَاطَّهَّرُوا) فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله ، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم ، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجناية أو الحيض أو النفاس فيه إنعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإنهاك ، وفيه كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث في الإنسان حسن الاستعداد لذكر الله ، ولأداء تكاليفه.

قال الفخر الرازي : والدلك غير واجب في الغسل. وقال مالك : الدلك واجب وحجة غيره أن قوله (فَاطَّهَّرُوا) أمر بتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك. ثم قال : والشافعى قال : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل ـ ومثله في ذلك الإمام مالك.

وقال أبو حنيفة ـ والحنابلة ـ هما : واجبان لأن الآية تقول (فَاطَّهَّرُوا) وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم. وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها. وداخل الفم والأنف يمكن تطهير هما. فوجب بقاؤهما تحت النص. ولأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة» فقوله «بلوا الشعر» يدخل فيه الأنف. لأن داخله شعر. وقوله «وأنقوا البشرة» يدخل فيه الجلدة التي داخل الفم. وحجة الشافعى ـ ومالك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما أنا فأحثى على رأسى ثلاث حثيات فإذا أنا. قد طهرت» وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل ، وكل يبين ما يعمله (٢).

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ١١

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٦٥ الطبعة البهية.

٦٥

ثم شرع ـ سبحانه ـ في بيان الاعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) والمراد بالمرضى في قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقا كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء.

وقوله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضى وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر ، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا ، بخلافه في قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فان المراد به هناك سفر القصر ، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية.

وقوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) معطوف على ما قبله والغائط : من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض. وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس.

وفي إسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين ، سمو في التعبير. حيث تحاشى ـ سبحانه ـ التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به. وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب ، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء ، ويمجها الذوق السليم.

والمراد بالملامسة في قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) الجماع : فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال : وهي كناية قرآنية أراد ـ سبحانه ـ أن يعلم الناس منها حسن التعبير ، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإسلام وتعاليمه السامية.

وإلى هذا الرأى اتجه كثير من الصحابة ، منهم على بن أبى طالب وابن عباس وأبو موسى. وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبى حنيفة وأبى يوسف وزفر والثوري فقد قالوا : لا وضوء على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها. واستدلوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبل نساءه ثم يصلّى ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم.

واستدلوا ـ أيضا ـ بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصودا ، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد. وأيضا فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله ـ تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ

٦٦

تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) (١).

ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد ، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء.

وقد سار الإمام الشافعى على هذا الرأى فقال : إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة.

ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد ، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء ، وكذا إذا مسته بشهوة وتلذذ ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما.

وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع. والذي نراه أولى بالصواب في هذه المسألة ما قاله الإمام مالك ـ رحمه‌الله ـ لأنه بنى رأيه على وجود الشهوة وعدمها. والفاء في قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله. (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى).

والضمير في قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا) يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة.

والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ما هو أعم من الوجود الحسى أى : أن قوله : «فلم تجدوا ماء» كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء.

وقوله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) جواب الشرط وهو قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى).

والمعنى : وإن كنتم ـ أيها المؤمنون ـ في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر ؛ أو كنتم محدثين حدثا أصغر أو أكبر ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم ، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف ، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله ، أو كنتم في حاجة ماسة إليه ، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيدا طيبا بدلا من الماء ، فإن الله ـ تعالى ـ (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) يعود إلى الجميع ما عدا المرضى ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله. وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان ، عدم الوجدان الحسى.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣٧

٦٧

والتيمم لغة القصد. يقال تيممت الشيء إذا قصدته.

ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به.

وأما الصعيد ـ بوزن فعيل ـ فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره. وقيل يطلق على التراب فحسب.

والطيب : الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر.

وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) بيان لكيفية التيمم.

أى : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به ، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله ، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم.

وقد استدل بعض الفقهاء بقوله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب.

ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض. متى كان طاهرا. قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض. وهذه الصفة لا تختص بالتراب.

قال القرطبي ـ بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك ـ «وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره» (١).

كما استدل الأحناف والشافعية بقوله ـ تعالى ـ (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير. والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين ، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التيمم ضربتان ضربة للوجه. وضربة للذراعين إلى المرفقين».

ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين. هذا ، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ في سورة النساء : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٣٧

٦٨

صَعِيداً طَيِّباً ، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده ، ورعايته لمصالحهم فقال ـ تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أى : ما يريد الله ـ تعالى ـ بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة ، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه ، ما يريد ـ سبحانه ـ بذلك (لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أى ضيق ومشقة وعسر ، ولكن يريد بذلك ليطهركم.

أى : ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ ، ويريد بذلك أيضا (لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية ، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته ، لأنكم متى شكرتم زادكم من فضله ومننه.

وعبر ـ سبحانه ـ عن نفى الحرج بنفي إرادته ، مبالغة في بيان رأفته ـ سبحانه ـ بعباده ، ورعايته لمصالحهم. فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : ما كان من شأن الله ـ تعالى ـ مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج.

وقوله (لِيَجْعَلَ) يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله : (مِنْ حَرَجٍ) وتكون (مِنَ) زائدة لتأكيد النفي وقوله (عَلَيْكُمْ) متعلق بالجعل. ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير فيكون قوله (عَلَيْكُمْ) هو المفعول الثاني ، وقوله : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته ـ سبحانه ـ بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطهيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله.

وقريب من معنى هذه الجملة قوله ـ تعالى ـ (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢). وقوله ـ تعالى ـ (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣) وقوله تعالى ـ (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٤).

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة النساء الآية ٤٣

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٥

(٣) سورة الحج الآية ٧٨

(٤) سورة النساء الآية ٢٨

٦٩

الدخول في الصلاة ، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا ، وما يجب أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارة أو أداء ما عليهم من تكاليف ، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم ، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها.

ثم بعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله على عباده ورحمته بهم ، أتبع ذلك بأمرهم بمداومة شكره ، وبالوفاء بعهده فقال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

أى : تنبهوا أيها المؤمنون ـ بعقولكم وقلوبكم لما أسبغه الله عليكم من منن فداوموا على شكرها (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بدين الإسلام الذي هديتم به إلى الصراط المستقيم ، واذكروا كذلك (مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) أى : عهده الوثيق الذي أخذه عليكم ، وأمركم بالتزامه بكل قوة.

وقوله : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ظرف لقوله (واثَقَكُمْ بِهِ) أى : إذ قلتم وقت أن أخذ عليكم العهد الموثق : سمعنا قولك وأطعنا أمرك.

فأنت ترى أن الآية الكريمة أوجبت على المؤمنين أمرين :

أولهما : التنبه إلى نعم الله وعلى رأس هذه النعم نعمة الهداية إلى دين الإسلام ، ومداومة شكره ـ سبحانه ـ على ذلك.

وثانيهما : الوفاء بعهوده التي أخذها عليهم ، وتقبلوها بالسمع والطاعة لأنهم متى شكروه على نعمه ، وكانوا أوفياء بعهودهم ، زادهم ـ سبحانه ـ من فضله وعطائه قال الفخر الرازي : وإنما قال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ولم يقل نعمه عليكم ، لأنه ليس المقصود منه التأمل في أعداد نعم الله ، بل المقصود منه التأمل في جنس النعم. كالنظر إلى الحياة والصحة والعقل والهداية وحسن التدبير والصون عن الآفات والعاهات. فجنس هذه النعم لا يقدر عليه سوى الله ـ تعالى ـ فيكون وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل.

وإنما قال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وهو يشعر بنسيانها مع أن مثلها في تواترها لا ينسى ، للإشارة إلى أنه لكثرة هذه النعم وتعاقبها ، صارت كالأمر المعتاد الذي لكثرة وجوده قد يغفل عنه المرء» (١) والمراد بالميثاق الذي أخذه عليهم ما جرى بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المؤمنين من عهود على أن

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٧٨ ـ بتصرف وتلخيص ـ.

٧٠

يسمعوا له ويطيعوا في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، كما حدث مع الأنصار ليلة العقبة ، وكما حدث مع المؤمنين جميعا في بيعة الرضوان وإنما أضيف الميثاق إلى الله تأكيدا لوجوب الوفاء به ؛ ولأنه ـ سبحانه ـ هو الذي شرعه وهو الذي سيحاسبهم على نقضه وعدم الوفاء به وقال مجاهد : المراد به الميثاق الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من ظهر آدم ، وضعف هذا القول بأن الخطاب هنا للمؤمنين وليس للبشر جميعا.

قال ابن جرير ما ملخصه : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك : قول ابن عباس ، وهو أن معناه : واذكروا أيها المؤمنون ـ نعمة الله التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم إلى الإسلام (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) يعنى : وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ، إذ قلتم سمعنا ما قلت لنا وأخذت علينا من المواثيق ، وأطعناك فيما أمرتنا ونهيتنا عنه .. فأوفوا ـ أيها المؤمنون ـ بميثاقه الذي واثقكم به ونعمته التي أنعم عليكم بها يوف لكم بما ضمن لكم الوفاء به ، من إتمام نعمته عليكم ، وبإدخالكم جنته ، وإنعامكم بالخلود في دار كرامته وإنقاذكم من عذابه وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال المراد بالميثاق ما أخذ عليهم في صلب آدم ، لأن الله بعد أن ذكر المؤمنين بميثاقه الذي واثقهم به ، ذكر بعد ذلك أهل التوراة بالميثاق الذي أخذه الله عليهم في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) منبها بذلك المؤمنين على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه ، ويعرفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه (١) وبعد أن ذكر الله ـ تعالى ـ المؤمنين بنعمته عليهم وبميثاقه الذي واثقهم به وأمرهم بالوفاء بما كلفهم به ختم ـ سبحانه ـ الآية بأمرهم بخشيته والخوف منه قال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

أى : اشكروا الله ـ أيها المؤمنون ـ على نعمته ، وكونوا أوفياء بعهودكم واتقوا الله وراقبوه في كل ما تأتون وما تذرون ، وصونوا أنفسكم عن كل ما يكرهه لكم ، فإنه ـ سبحانه ـ عليم علما تاما بخفيات الأمور الكامنة في الصدور. وبكل ما يظهره الإنسان ويبطنه ، وسيحاسبكم يوم القيامة على أعمالكم ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته و (ذات الصدور) هي الأمور المستقرة في الصدور ، فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه الذي يلازمه ولا يفارقه. ومثلوا لها بالنيات والاعتقادات وسائر الأمور القلبية.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ١٤٠

٧١

والجملة الكريمة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لقوله (وَاتَّقُوا اللهَ) وكرر ـ سبحانه ـ اسمه الجليل لإشعار المؤمنين برقابته التامة عليهم. واطلاعه على أحوالهم المختلفة ، وأعمالهم المتنوعة وللإشارة إلى أنه إذا كان ـ سبحانه ـ يعلم خفيات الأمور ، فمن باب أولى يعلم جلياتها.

وبعد أن أمر الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين بالوفاء بمواثيقه ، أتبع ذلك بأمرهم بالتزام الحق في كل أقوالهم وأعمالهم ، وذكرهم بما أفاء عليهم من نعم فقال ـ سبحانه ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١١)

وقوله : (قَوَّامِينَ) جمع قوام. وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام : هو المبالغ في القيام بالشيء. وفي الإتيان به على أتم وجه وأحسنه.

وقوله : (شُهَداءَ) جمع شهيد ـ بوزن فعيل ـ والأصل في هذه الصيغة ، دلالتها على الصفات الراسخة في النفس ككريم وحكيم.

٧٢

والقسط : العدل يقال أقسط فلان يقسط إذا عدل في أقواله وأحكامه وقوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أى : ولا يحملنكم من جرمه على كذا إذا حمله عليه أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة وأطلق على الكسب ؛ لأن الكاسب ينقطع لكسبه والشنآن : البغض الشديد. يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا ، إذا أبغضته بغضا شديدا.

والمعنى. يا أيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أى. ليكن من أخلاقكم وصفاتكم أن تقوموا لله وحده بالحق في كل ما يلزمكم القيام به. ومن العمل بطاعته ، واجتناب منهياته ، وليكن من دأبكم وشأنكم ـ أيضا ـ أن تلتزموا العدل في شهادتكم ، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم على عدم العدل معهم ، فإن عدم العدل في الأقوال والأحكام يتنافى مع تعاليم دين الإسلام. الذي آمنتم به ، ورضيه الله لكم دينا.

وفي ندائه ـ سبحانه ـ بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ) بصفة الكينونة الدالة على الدوام ، وبصيغة المبالغة الدالة على الكثرة. لتمكين صفة الطاعة له من نفوسهم ، وترسيخها في قلوبهم.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : روضوا أنفسكم على طاعة خالقكم ، وعودوها على التزام الحق والعدل. واجعلوا ذلك شأنكم في جميع الظروف والأحوال فلا يكفى أن تلتزموا الطاعة والعدل مرة أو مرتين ، وإنما الواجب عليكم أن يكون التزامكم لذلك في كل أوقاتكم وأعمالكم.

وقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) تصريح بوجوب العدل بعد ما علم من النهى عن تركه في قوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) للتأكيد على وجوب التزامهم بما أمرهم ـ سبحانه ـ به وما نهاهم عنه ، ولبيان العلة في تكليفهم بذلك.

والضمير (هُوَ) يعود إلى المصدر المفهوم من قوله : (اعْدِلُوا).

أى : التزموا ـ أيها المؤمنون ـ العدل في كل أحوالكم ، فإن العدل مع الأعداء ومع غيرهم أقرب إلى اتقاء المعاصي ، وإلى صيانة النفس عن الوقوع في المهالك.

وقال ـ سبحانه (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) مع أن العدل دليل التقوى ولبابها لأن المؤمن في حال حربه وتعامله مع عدوه قد يرى أن من التقوى أن يستبيح ما له ، وأن يأخذ منه ما يمكن

٧٣

أخذه ، فبين له القرآن الكريم أن الأقرب إلى التقوى التامة أن يحسن معاملة عدوه ، وأن لا يعتدى على حق من حقوقه.

قال صاحب الكشاف ، قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أى : العدل أقرب للتقوى ، وأدخل في مناسبتها. وفيه تنبيه على أن وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

أى : واتقوا الله أيها المؤمنون ـ في كل ما تأتون وما تذرون ، وصونوا أنفسكم عمّا لا يرضيه ، وافعلوا ما أمركم به ، إن الله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه على حسب أعمالكم فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أوامر الله ، ومن انتهاك حرماته.

وبذلك نرى الآية الكريمة قد أمرت المؤمنين بالمداومة على طاعة الله في جميع الأوقات والأحوال ، وبأداء الشهادات على وجهها بدون محاباة ولا ظلم ، وبوجوب العدل في معاملة الأعداء والأصدقاء ، وبمراقبة الله ـ تعالى ـ وخشيته في السر والعلانية.

قال الآلوسى : وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) (٢) ـ ولم يكتف بذلك لمزيد من الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ. وقيل : لاختلاف السبب ، فإن الأولى نزلت في المشركين ، وهذه في اليهود. وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا ، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه. بدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ، ولا والد ولا قرابة. والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيام لله ـ تعالى ـ لأنه أردع للمؤمنين ، ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة الكافرين فقال ـ تعالى ـ (وَعَدَ اللهُ) بفضله وإحسانه (الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقا (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي نالوا بها رضا الله ، وعدهم بأن (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة ولهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يعرف مقداره إلا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٣

(٢) الآية ١٣٥ من سورة النساء.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٨٣

٧٤

هو ـ سبحانه ـ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) التي جاء بها نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أى : أولئك الموصوفون بما ذكر من الكفر والتكذيب بآياتنا هم المستحقون لدخول النار المشتعلة الشديدة التأجج ، بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان والتكذيب على التصديق.

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمة أخرى من نعمه الجزيلة ، حتى يزدادوا شكرا له ، ووفاء بعهده ؛ والتزاما لطاعته فقال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).

وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه عبد الرازق عن معمر الزهري عن أبى أسامة عن جابر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها. وعلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابى إلى سيف رسول الله فأخذه فسله. ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك منى؟ قال : الله ـ عزوجل ـ فسقط السيف من يد الأعرابى. فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابى ، وهو جالس إلى جانبه ولم يعاقبه.

قال ابن كثير : وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بنى النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك. وأمروه إن جلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقى تلك الرحى من فوقه. فأطلع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تمالئوا عليه. فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه. فأنزل الله في ذلك هذه الآية (١).

وعلى هاتين الروايتين وما يشبههما يكون المراد بقوله ـ تعالى ـ (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم حيث نجى نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أضمره له أعداؤه وأعداؤهم.

وقال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية. روى أن المشركين رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا بعسفان في غزوة ذات أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ـ يعنون صلاة العصر ـ وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف (٢).

وعلى هذه الرواية يكون المراد بقوله ـ تعالى ـ (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تذكيرهم برعاية الله لهم ولنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كيد أعدائهم.

وقد رجح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٣

٧٥

للنبي وأصحابه فقال : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال : عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كانت يهود بنى النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم في الدية التي كان تحملها عن قتيلى عمرو بن أمية وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله عقب ذكر ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها ، وقبيح أفعالها ، وخيانتها ربها وأنبياءها (١).

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا تنبهوا إلى نعم الله عليكم وقابلوها بدوام الشكر والطاعة له ـ سبحانه ـ حيث أراد قوم من أعدائكم ، أن يبسطوا إليكم أيديهم. أى : أن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك ولكنه ـ سبحانه ـ رحمة بكم ، ودفاعا عنكم ، حال بين أعدائكم وبين ما يريدونه بكم من سوء.

فالآية الكريمة تذكير للمؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عليهم حيث نجاهم من كيد أعدائهم ، ومن محاولتهم إهلاكهم. إثر تذكيرهم قبل ذلك بنعم أخرى كإكمال الدين ، وهدايتهم إلى الإسلام ، وغير ذلك من الآلاء والمنن.

وفي تكرار هذا التذكير ما فيه من الحض على تأكيد المداومة على طاعة الله والمواظبة على شكره.

وقوله (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) ظرف لقوله : (نِعْمَتَ اللهِ) والهم : إقبال النفس على فعل الشيء. أى : اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن قصدكم قوم من أعدائكم بالسوء والإهلاك.

وبسط اليد هنا كناية عن البطش والإهلاك. يقال : بسط يده إليه ، إذا بطش به. وبسط إليه لسانه : إذا شتمه. والبسط في الأصل : مطلق المد. وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر.

وقوله : (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) معطوف على قوله : (هَمَّ قَوْمٌ) وهذا الكف هو النعمة التي قصد تذكيرهم بها حتى يداوموا على شكره وطاعته وعبر ـ سبحانه ـ بقوله (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) للإيذان بأن نعمة كف أيدى الأعداء عنهم قد جاءت عند شدة الحاجة إليها والفاء في قوله (فَكَفَ) للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها فهو ـ سبحانه ـ قد حال بين الأعداء وبين ما يشتهونه بمجرد أن قصدوا السوء بالمؤمنين.

وقال ـ سبحانه ـ (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) بإظهار الأيدى ، ولم يقل فكفها عنكم ؛ لزيادة

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ١٤٧

٧٦

التقرير. وللإشارة إلى أنه ـ سبحانه ـ هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم ، ومناط شدتهم إذ الأيدى هي من أهم وسائل البطش والقتل.

أى : أنه ـ سبحانه ـ قد منع أيديهم عن أن تمتد إليكم بالأذى عقيب همهم بذلك دفاعا عنكم ـ أيها المؤمنون ـ وحماية لكم من الشرور ، فقابلوا ذلك بالشكر لخالقكم. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) معطوف على قوله : (اذْكُرُوا) وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر لهم بالاعتماد على الله وحده.

أى : داوموا على شكر نعم الله عليكم ، وصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه ، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا فإنه ـ سبحانه ـ هو الفعال لما يريد ، وهو الذي يدفع الشر عمن توكل عليه ، ويعطى الخير لمن شكره وأطاعه.

فالجملة الكريمة تذييل مقرر لما قبله ، من وجوب المداومة على طاعة الله وشكره على نعمه.

وإلى هنا نرى أن السورة الكريمة قد وجهت إلى المؤمنين خمسة نداءات ، أمرتهم في أول نداء منها بالوفاء بالعقود. ونهتهم في الثاني عن إحلال شعائر الله ، وأرشدتهم في النداء الثالث إلى ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا أرادوا الدخول في الصلاة ، وأمرتهم في النداء الرابع بالمداومة على القيام بالتكاليف التي كلفهم ـ سبحانه ـ بها وبالتزام العدل في أقوالهم وأحكامهم ، ثم أمرتهم في النداء الخامس بالتنبه إلى نعم الله ومداومة شكره عليها حيث نجاهم ـ سبحانه ـ مما أراده لهم أعداؤهم من شرور واستئصال وبعد هذه النداءات والتكليفات التي كلف الله ـ تعالى ـ بها المؤمنين ، شرعت السورة الكريمة في الحديث عن أحوال أهل الكتاب من اليهود ، فذكرت ما أخذه الله عليهم من عهود موثقة ، وموقفهم منها ، وعقوبتهم على نقضهم لها. فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ

٧٧

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٣)

قال الفخر الرازي : قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأول : أنه ـ تعالى ـ خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا). ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بنى إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به ، فلا تكونوا ـ أيها المؤمنون ـ مثلهم في هذا الخلق الذميم.

الثاني : أنه لما ذكر قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) وقد ذكرت بعض الروايات أنها نزلت في اليهود ، وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالمؤمنين. فلما ذكر ـ سبحانه ذلك أتبعه بذكر فضائحهم ، وبيان أنهم كانوا أبدا مواظبين على نقض العهود والمواثيق.

الثالث : أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان. فذكر ـ سبحانه ـ أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والإلزام غير مخصوصة بهم ، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده» (١).

والميثاق : العهد الموثق المؤكد ، مأخوذ من لفظ وثق المتضمن معنى الشد والربط على الشيء بقوة وإحكام.

والمراد به : ما أخذه الله على بنى إسرائيل لكي يؤدوا ما أوجب عليهم من تكاليف ولكي يعملوا بما تضمنته التوراة من أحكام وتشريعات وغير ذلك مما جاء فيها.

والنقيب : كبير القوم. والكفيل عليهم والمنقب عن أحوالهم وأسرارهم فيكون شاهدهم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٨٣

٧٨

وضمينهم وعريفهم ، وأصله من النقب وهو الثقب الواسع.

قال الآلوسى. والنقيب : قيل فعيل بمعنى فاعل مشتق من النقب بمعنى التفتيش ومنه (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) وسمى بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأمرهم.

قال الزجاج : وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل :

ويقول : فلان حسن النقيبة. أى : جميل الخليقة ، ويقال : فلان نقاب ؛ للعالم بالأشياء ، الذكي القلب ، الكثير البحث عن الأمور (١).

والمعنى : ولقد أخذ الله العهود المؤكدة على بنى إسرائيل. لكي يعملوا بما كلفهم من تكاليف ، وأمر نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يختار متهم اثنى عشر نقيبا. وأن يرسل هؤلاء النقباء إلى الأرض المقدسة لكي يطلعوا على أحوال ساكنيها ، ثم يخبروا نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد ذلك بما شاهدوه من أحوالهم.

وسنفصل القول في شأن بعث هؤلاء النقباء عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً).

وأكد ـ سبحانه ـ ما أخذه على بنى إسرائيل من عهود بقد وباللام ، للاهتمام بشأن هذا الخبر ، ولترغيب المؤمنين في الوفاء بعهودهم مع الله ـ تعالى ـ حتى لا يصيبهم ما أصاب بنى إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم.

وأسند ـ سبحانه ـ الأخذ إليه ، لأنه هو الذي أمر به موسى ـ عليه‌السلام ـ ولأن في إسناد أخذ الميثاق إليه ـ سبحانه ـ زيادة في توثيقه ، وتعظيم توكيده وأى عهد يكون أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب؟

وفي قوله : (وَبَعَثْنا) التفات إلى المتكلم العظيم ـ سبحانه ـ لتهويل شأن هذا الابتعاث ، لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي أمر به.

وإنما اختار موسى ـ عليه‌السلام ـ اثنى عشر نقيبا من بنى إسرائيل لأنهم كانوا اثنى عشر سبطا ، كما قال ـ تعالى ـ (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) (٢) ولأن كل نقيب كان بمنزلة الرقيب على القبيلة التي هو منها يذكرها بالفضائل ويرغبها في اتباع موسى ـ عليه‌السلام ـ وينهاها عن معصيته.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٨٥

(٢) سورة الأعراف الآية ١٦٠.

٧٩

والمعية في قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) معية مجازية بمعنى الحفظ والرعاية والنصرة.

أى : أخذ الله على بنى إسرائيل العهود الموثقة ، وأمر نبيه موسى أن يرسل منهم اثنى عشر نقيبا لمعرفة أحوال الجبارين الذين يسكنون الأرض المقدسة وقال الله ـ تعالى ـ لهؤلاء النقباء ، أو لبنى إسرائيل جميعا : إنى معكم لا تخفى علىّ خافية من أحوالكم. وسأؤيدكم برعايتي ونصرى متى وفيتم بعهدي ، واتبعتم رسلي. فالجملة الكريمة تحذير لهم من معصية الله ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ووعد لهم بالنصر متى أطاعوه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض التكاليف التي كلفهم بها ، وأخذ عليهم العهد بالمحافظة عليها فقال : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ، وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ، وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

واللام في قوله (لَئِنْ) موطئة للقسم المحذوف ، و «إن» شرطية ، وقوله : (لَأُكَفِّرَنَ) جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.

وقوله : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) من التعزيز بمعنى النصر والإعانة مع التعظيم والتفخيم يقال : عزر فلان فلانا إذا نصره وقواه ، وأصل معناه : المنع والذب ؛ لأن من نصر إنسانا منع عنه أعداءه.

والمعنى : لئن داومتم على إقامة الصلاة ، وعلى أدائها على الوجه الأكمل بخضوع وخشوع ، وأعطيتم الزكاة لمستحقيها (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) إيمانا كاملا ، ونصرتموهم مع تعظيمهم وطاعتهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بأن أنفقتم جانبا من أموالكم في وجوه الخير والبر ، لئن فعلتم ذلك (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) بأن أغفرها لكم ، ولأدخلنكم في الآخرة جنات تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد كلف بنى إسرائيل بخمسة أمور نافعة ووعدهم على أدائها بتكفير سيئاتهم في الدنيا ، وبإدخالهم جناته في الآخرة.

قال الإمام الرازي : وأخر ـ سبحانه ـ الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها ؛ لأن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من الصلاة وإيتاء الزكاة ، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل. فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود. وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل» (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٨٥

٨٠