التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصا عما كان عند الله أنه ملحقه به ، وضامه إليه .. وهكذا شرائع الإسلام شرعها الله شيئا فشيئا إلى أن أنهى ـ سبحانه وتعالى ـ الدين منتهاه الذي كان له عنده.

وثانيهما : أنه أراد بقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه ، وقياما بفرائضه وفي الحديث : «بنى الإسلام على خمس» وقد كانوا تشهدوا ، وصلوا ، وزكوا ، وصاموا ، وجاهدوا ، واعتمروا ، ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله وهم بالموقف عشية عرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). أى : أكمل وضعه لهم.

وقد روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال وأى آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فقال عمر : إنى لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة في يوم جمعة».

وروى أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى عمر ، فقال له ما يبكيك؟ فقال : أبكانى أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقت» (١).

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ في صدر الآية أحد عشر نوعا من المحرمات ، وأتبع ذلك ببيان إكمال الذين وإتمام النعمة على المؤمنين. جاء ختام الآية لبيان حكم المضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فقال ـ تعالى ـ : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقوله (اضْطُرَّ) من الاضطرار بمعنى الوقوع في الضرورة.

والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع الشديد. يقال خمصه الجوع خمصا ومخمصة. إذا اشتد به. وفي الحديث : «إن الطير تغدو خماصا ـ أى جياعا ضامرات البطون ـ وتروح بطانا ـ أى مشبعات». وقال الأعشى :

يبيتون في المشتى ملاء بطونهم

وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٦١ ـ بتصرف وتلخيص ـ.

٤١

أى : وجاراتهم جوعى وقد ضمرت بطونهن من شدة الجوع.

وقوله (مُتَجانِفٍ) من الجنف وهو الميل ، يقال : جنف عن الحق ـ كفرح ـ إذا مال عنه وجنف عن طريقه ـ كفرح وضرب ـ جنفا وجنوفا إذا مال عنه.

والمعنى : فمن ألجأته الضرورة إلى كل شيء من هذه المحرمات في مجاعة شديدة حالة كونه غير مائل إلى ارتكاب إثم من الآثام فلا ذنب عليه في ذلك لأن الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة. فهو بكرمه يغفر لعباده تناول ما كان محرما إذا اضطروا إلى تناوله لدفع الضرورة بدون بغى أو تعد ، وهو واسع الرحمة حيث أباح لهم ما يدفع عنهم الضرر ولو كان محرما.

قال الآلوسى : وقوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أى غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه فإن ذلك حرام. وقيل : يجوز أن يشبع عند الضرورة. وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغيا أو عاديا بأن ينزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصية (١).

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت ما يحرم في حالة الاختيار ، وما يحل في حالة الاضطرار. وجاءت بين ذلك بجمل معترضة ـ وهي قوله (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) إلى قوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) لتأكيد تحريم هذه الأشياء ، لأن تحريمها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإسلام المرضى عند الله.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتى :

١ ـ حرمة هذه الأنواع الأحد عشر التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في هذه الآية ووجوب الابتعاد عنها لأنها رجس أو فسق ، ولأن استحلال شيء منها يكون خروجا عن تعاليم دين الله ، وانتهاكا لحرماته.

٢ ـ حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، متى ذبحت ذبحا شرعيا وكانت بها بقية حياة تجعلها تضطرب بعد ذبحها اضطراب المذبوح.

وللفقهاء كلام طويل في ذلك يؤخذ منه اتفاقهم على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له. أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل له بسبب الخنق أو الوقذ أو التردي أو النطح أو أكل السبع منه ، فقد أفتى كثير من العلماء بعمل الذكاة فيه ، وقد أخذ بذلك الأحناف. فقد قالوا : متى كانت عينه أو ذنبه يتحرك أو رجله تركض ثم ذكى فهو حلال.

وقال قوم لا تعمل الذكاة فيه ويحرم أكله.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٦١.

٤٢

ومنشأ اختلافهم في أن الذكاة تعمل أولا تعمل يعود إلى : هل الاستثناء هنا متصل أو منقطع؟

فمن قال إنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ ، فما قبل حرف الاستثناء حرام ، وما بعده خرج منه فيكون حلالا.

ومن قال إنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة. وكأنه قال : ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال أباح الله لكم التمتع به. أما هذه الحيوانات التي حرمها الله في الآية فلا يجوز لكم الأكل منها مطلقا.

وقد رجح المحققون من العلماء أن الاستثناء متصل ، وقالوا : يؤيد القول بأن الاستثناء متصل الإجماع على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش فيكون مخرجا لبعض ما يتناوله المستثنى منه ، فيكون الاستثناء فيه متصلا.

هذا ملخص لما قاله العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الفروع.

٣ ـ إباحة تناول هذه المحرمات عند الضرورة لدفع الضرر ، وأن هذه الاباحة مقيدة بقيود ذكرها الفقهاء من أهمها قيدان.

الأول : أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط.

الثاني : ألا يتجاوز ما يسد الحاجة ، أما إذا قصد التلذذ أو إرضاء الشهوة ، أو تجاوز المقدار الذي يدفع الضرر فإنه في هذه الأحوال يكون واقعا في المحرم الذي نهى الله عنه.

وقد تكلم الإمام ابن كثير عن هذه المسألة فقال : قوله ـ تعالى ـ (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أى : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله والله غفور له رحيم به ، لأنه ـ تعالى ـ يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له.

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر ـ مرفوعا ـ قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته».

ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان ، وهو إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أوله أن يشبع ويتزود على أقوال ، وليس من شرط تناول الميتة أن يمضى عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم ـ بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.

وقد روى الإمام أحمد عن أبى واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها

٤٣

المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال : «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفثوا بقلا فشأنكم بها».

والاصطباح شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ومعنى لم تحتفثوا : أى تقتلعوا.

وقوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أى متعاط لمعصية الله.

وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي (١).

٤ ـ أخذ العلماء من قوله ـ تعالى ـ (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) أن الاستقسام بالأزلام محرم ، ومحرم أيضا كل ما يشبهه من القمار والتنجيم والرمل وما إلى ذلك قال بعض العلماء : من عمل بالأزلام في السعد والنحس معتقدا أن لها تأثيرا كفر وإن لم يعتقد أثم.

وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «العيافة والطرق والطيرة من الجبت».

والعيافة : زجر الطير. والطرق : الخط يخط في الأرض. وقيل : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء.

وفي القاموس : عفت الطير عيافة زجرتها. وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها فتسعد وتتشاءم. وهو من عادة العرب كثيرا. والطيرة : من اطيرت وتطيرت وهو ما يتشاءم من الفأل الرديء ، وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة (٢).

والجبت : كل ما عبد من دون الله.

وقد روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما» وروى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وعن عمران بن حصين مرفوعا : ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له» (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٤ ـ بتصرف وتلخيص ـ

(٢) لسان العرب ج ٦ ص ١٨٤.

(٣) تفسير القاسمى ج ٦ ص ١٨٣١.

٤٤

٥ ـ استدل بعضهم بقوله ـ تعالى ـ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) على نفى القياس وبطلان العمل به لأن إكمال الدين يقتضى أنه نص على أحكام جميع الوقائع إذ لو بقي بعض لم يبين حكمه لم يكن الدين كاملا.

وأجيب على ذلك بأن غاية ما يقتضيه إكمال الدين أن يكون الله ـ تعالى ـ قد أبان الطرق لجميع الأحكام وقد أمر الله بالقياس ، وتعبد المكلفين به بمثل قوله ـ تعالى ـ (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). فكان هذا مع النصوص الصريحة بيانا لكل أحكام الوقائع ، غاية الأمر أن الوقائع صارت قسمين : قسما نص الله على حكمه ، وقسما أرشد الله ـ تعالى ـ إلى أنه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول. فلم تصلح الآية متمسكا لهم (١).

٦ ـ الآية الكريمة قد اشتملت على بشارات لأبناء هذه الأمة الإسلامية فقد بشرتهم ـ أولا ـ بأن أعداءهم قد انقطع رجاؤهم في إبطال أمر الإسلام أو تحريفه أو تبديل أحكامه التي كتب الله لها البقاء.

وها نحن أولا. نراجع التاريخ فنرى المسلمين قد تغلب عليهم أعداؤهم في معارك حربية ولكن هؤلاء الأعداء لم يستطيعوا التغلب على أحكام هذا الدين ومبادئه. بل بقيت محفوظة يتناقلها الخلف عن السلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبة حجة الوداع : «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه رضى بالتحريش بينهم».

وبشرتهم ـ ثانيا ـ بإكمال هذا الدين ، فأنت ترى نصوصه وافية بكل ما يحتاج إليه البشر ، إما بالنص على كل مسألة يحتاجون إليها ، أو باندراج هذه المسألة أو المسائل تحت العمومات الشاملة والمبادئ الكلية التي جاء بها دين الإسلام المكتمل في عقائده وفي تشريعاته وفي آدابه ، وفي غير ذلك مما يسعد الإنسان.

وبشرتهم ـ ثالثا ـ بإتمام نعمة الله عليهم. وأى نعمة أتم على المؤمنين من إخراج الله إياهم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية ومن تمكينه لهم في الأرض واستخلافهم فيها ، وجعل كلمتهم العليا بعد أن كانوا في ضعف من أمرهم وفساد في أحوالهم.

وبشرتهم ـ رابعا ـ بأن الله قد اختار لهم الإسلام دينا ، وجعله هو الدين المرضى عنده وهو الذي يجب على الناس أن يدخلوا فيه ، وأن يعملوا بأوامره ونواهيه ، لأنه من الحمق والغباء أن يبتعد إنسان عن الدين الذي اختاره الله وارتضاه ليختاره لنفسه طريقا من نزغات نفسه وهواه.

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٢ ص ١٦٤ للأستاذ الشيخ محمد على السائس.

٤٥

وهذه بعض الأحكام والآداب التي استلهمها العلماء من الآية الكريمة. وهناك أحكام أخرى ذكرناها خلال تفسيرنا لألفاظ الآية الكريمة.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أنواعا من : المحرمات. شرع في بيان ما أحله لهم من طيبات فقال ـ تعالى ـ

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٤)

أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير عن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين أنهما سألا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية (١).

والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم من المطاعم بعد أن عرفوا ما حرم منها؟ قل لهم أحل الله لكم الطيبات.

والطيبات : جمع طيب وهو الشيء المستلذ. وفسره بعضهم بالحلال.

أى : قل لهم أحل الله لكم الأطعمة الطيبة التي تستلذها النفوس المستقيمة وتستطيبها ولا تستقذرها ، والتي لم يرد في الشرع ما يحرمها ويمنع من تناولها.

وفي قوله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) التفات من الحاضر إلى الغائب ، لأن في السياق حكاية عنهم كما يقال : أقسم فلان ليفعلن كذا ، لأن هذا الالتفات أدعى إلى تنبيه الأذهان ، وتوجيهها إلى ما يراد منها.

وقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى الجواب عن سؤالهم لأنه هو المبلغ للرسالة وهو المبين لهم ما حفى؟؟؟ عليهم من أمور دينهم ودنياهم.

وقوله (ما ذا) اسم استفهام مبتدأ ، وقوله (أُحِلَّ لَهُمْ) خبره كقولك : أى شيء أحل لهم.

وجواب سؤالهم جاء في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).

وقوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) معطوف على الطيبات بتقدير مضاف و (ما) موصولة. والعائد محذوف.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥.

٤٦

و (الْجَوارِحِ) جمع جارحة. وهي ـ كما يقول ابن جرير ـ الكواسب من سباع البهائم والطير. سميت جوارح لجرحها لأربابها ، وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد. يقال منه : جرح فلان لأهله خيرا. إذا أكسبهم خيرا وفلان جارحة أهله. يعنى بذلك : كاسبهم ، ويقال : لا جارحة لفلانة إذا لم يكن لها كاسب».

ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) (١) أى : كسبتم بالنهار. وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه.

وقوله : (مُكَلِّبِينَ) أى : مؤدبين ومعودين لها على الصيد. فالتكليب : تعليم الكلاب وما يشبهها الصيد. فهو اسم فاعل مشتق من اسم هذا الحيوان المعروف لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. أو هو مشتق من الكلب بمعنى الضراوة. يقال : كلب الكلب يكلب واستكلب أى : ضرى وتعود نهش غيره وهو حال من فاعل علمتم.

والمعنى : أحل الله لكم الطيبات ، وأحل لكم صيد ما علمتموه من الجوارح حال كونكم مؤدبين ومعودين لها على الصيد.

وقوله : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) في محل نصب على أنه حال ثانية من فاعل (عَلَّمْتُمْ) أو من الضمير المستتر في (مُكَلِّبِينَ).

أى : تعلمون هذه الجوارح بعض ما علمكم الله إياه من فنون العلم والمعرفة بأن تدربوهن على وسائل التحايل وعلى الطرق المتنوعة للاصطياد وعلى الانقياد لأمركم عند الإرسال وعند الطلب ، وعلى عدم الأكل من المصيد بعد صيده.

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان بعض مظاهر فضل الله على الناس ، حيث منحهم العلم الذي عن طريقه علموا غيرهم ما يريدونه منه ، وسخروا هذا الغير لمنفعتهم ومصلحتهم.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على الطيبات : أى : أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح ، فحذف المضاف أو تجعل «ما» شرطية وجوابها (فَكُلُوا) والجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي ، والمكلب : مؤدب الجوارح ومغريها بالصيد لصاحبها ، ورائضها ذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب.

وانتصاب (مُكَلِّبِينَ) على الحال من (عَلَّمْتُمْ).

فإن قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم

__________________

(١) سورة الأنعام. الآية ٦٠.

٤٧

الجوارح نحريرا في علمه ، مدربا فيه ، موصوفا بالتكليب.

قوله ـ تعالى ـ (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أبرع أهله علما وأكثرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من آخذ عن غير متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله (١).

وقوله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة ، ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره والأمر فيه للإباحة.

ومن في قوله (مِمَّا أَمْسَكْنَ) تبعيضية ؛ إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم ونحوهما. ويحتمل أن تكون بيانية أى : فكلوا الصيد وهو ما أمسكن عليكم.

وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أى : أمسكنه.

وقوله (أَمْسَكْنَ) أى : حبس وصدن ، والضمير المؤنث يعود للجوارح.

وقوله (عَلَيْكُمْ) متعلق بأمسكن ، وهو هنا بمعنى لكم ، والاستعلاء مجازى.

والتقييد بذلك ، لإخراج ما أمسكنه لأنفسهن لا لأصحابهن.

والمعنى : إذا علمتم الجوارح وتوفرت شروط الحل فيما تصيده ، فكلوا مما أمسكنه محبوسا عليكم ولأجلكم.

والضمير في (عَلَيْهِ) من قوله : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) يعود إلى (ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ). أى : عند إرسالكم الجوارح للصيد فسموا عليها ، ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم : «وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم ـ الله تعالى ـ فكل مما أمسك عليك».

وقال بعضهم إنه يعود على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل. فكأنه قيل : واذكروا اسم الله عند الأكل مما صدن لكم. وقيل : يعود على قوله (مِمَّا أَمْسَكْنَ) أى : اذكروا اسم الله على ما أدركتم ذكاته مما أمسكن عليكم الجوارح ، ولا بأس من عود الضمير إلى كل ما ذكر ، بأن يذكر اسم الله عند إرسال الجوارح ، وعند الأكل مما صادته. وعند تذكية الحيوان الذي صادته الجوارح.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

أى : واتقوا الله وراقبوه واخشوه في كل شئونكم واحذروا مخالفة أمره فيما شرع لكم وفيما

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٠٦.

٤٨

كلفكم به فإنه ـ تعالى ـ لا يعجزه شيء ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.

فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أمر الله ، وانتهاك محارمه. هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ إباحة التمتع بالطيبات التي أحلها الله ـ تعالى ـ لعباده ، والتي تستطيبها النفوس الكريمة ، والعقول القويمة ، من مطعومات ومشروبات وغير ذلك مما أحله ـ سبحانه ـ لعباده. وفي هذا المعنى وردت آيات كثيرة منها ، قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ، وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١).

٢ ـ إباحة الصيد بالجوارح بشرط كونها معلمة ، وعلامة كونها معلمة أن تسترسل إذا أرسلت ، وتنزجر إذا زجرت ، وتمسك الصيد ولا تأكل منه ، وتعود إلى صاحبها متى دعاها.

ويدخل في الجوارح ـ عند جمهور الفقهاء ـ كل حيوان يصنع صنيع الكلب ، وكل طير كذلك ، لأن قوله ـ تعالى ـ (مِنَ الْجَوارِحِ) ، يعم كل حيوان يصنع صنيع الكلب. وكان التعبير بمكلبين ، لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا للصيد.

وقد جاء في حديث عدى بن حاتم الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك». ويرى بعض الفقهاء أن الصيد لا يكون إلا بالكلاب خاصة.

قال القرطبي ما ملخصه : وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير. وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها وبسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل. وهو الأكل من الجوارح. أى : الكواسب من الكلاب وسباع الطير.

وليس في قوله (مُكَلِّبِينَ) دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة ، وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة» (٢).

٣ ـ استدل بعض الفقهاء بقوله ـ تعالى ـ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) على أن الكلب وما يشبهه من الجوارح إذا أكل من الصيد الذي أمسكه ، فإنه في هذه الحالة لا يحل الأكل منه ، لأنه لم يمسك لمن أرسله وإنما أمسك لنفسه وبهذا قال الشافعية والحنابلة.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٣٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٦٦.

٤٩

ويرى المالكية أن الجارح مادام قد عاد بالصيد ولو مأكولا منه ، فإنه يجوز الأكل منه ، لأنه بعودته بما صاده قد أمسكه على صاحبه.

أما الأحناف فقالوا : إن عاد بأكثره جاز الأكل منه ، لأنه في هذه الحالة يكون قد أمسك لصاحبه ، وإن عاد بأقله لا يجوز الأكل منه ، لأنه يكون قد أمسك لنفسه. وهذه المسألة بأدلتها الموسعة مبسوطة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير (١).

٤ ـ استدل بعض العلماء بقوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) على وجوب التسمية عند إرسال الجوارح للصيد ، ولقوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (٢).

ويرى بعضهم أن الأمر للندب ، ويرى فريق ثالث أن التسمية إن تركت عمدا لا يحل الأكل من الصيد.

قال القرطبي : وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك» فلو لم توجد التسمية على أى وجه كان لم يؤكل الصيد. وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث.

وذهب جماعة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا ، وحملوا الأمر بالتسمية على الندب.

وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال لا تؤكل مع العمد ، وتؤكل مع السهو ، وهو قول فقهاء الأمصار ، وأحد قولي الشافعى» (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا آخر من مظاهر نعمه على عباده ، ورحمته بهم وتيسيره عليهم في أمور دينهم ودنياهم فقال :

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ٦٩. وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٢١.

(٣) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٦٨.

٥٠

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥)

وقوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ). يصح أن يراد به اليوم الذي نزلت فيه. فإنه يجوز أن تكون هذه الآية وما قبلها من قوله ـ تعالى ـ (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قد نزلت جميعا في يوم واحد وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع.

ويصح أن يراد به الزمان الحاضر مع ما يتصل به من الماضي والمستقبل. والمراد بالطيبات : ما يستطاب ويشتهى مما أحله الشرع.

والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب : ذبائحهم خاصة. وهذا مذهب جمهور العلماء.

قالوا : لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب ، وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى ، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم.

وقيل المراد بطعام أهل الكتاب هنا : الخبز والحبوب والفاكهة وغير ذلك مما لا يحتاج فيه إلى تذكية. وينسب هذا القول إلى بعض طوائف الشيعة.

وقيل المراد به : ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة. وقد روى هذا القول عن ابن عباس ، وأبى الدرداء ، وقتادة ومجاهد وغيرهم.

والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى.

قال الآلوسى : وحكم الصابئين كحكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه الصابئة صنفان : صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.

واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله ـ كعزير وعيسى ـ فقال ابن عمر : لا تحل. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل. وهو قول الشعبي

٥١

وعطاء قالا : فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون» (١).

والمعنى : إن الله أسبغ عليكم نعمه ـ أيها المؤمنون ـ وأكمل لكم دينه ، ويسر لكم شرعه ، ومن مظاهر ذلك أنه ـ سبحانه ـ أحل لكم التمتع بالطيبات ، كما أحل لكم أن تأكلوا من ذبائح أهل الكتاب. وأن تطعموهم من طعامكم.

قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن ذبائحهم حلال للمسلمين ، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه ـ تعالى وتقدس ـ (٢).

وإنما قال : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أى يحل لكم ان تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة. فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد ، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة ، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن ، والله ـ تعالى ـ لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا ، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظورا.

قال بعض العلماء : والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم ، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح ، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص ، وأما غير الذبائح فهو قسمان :

القسم الأول : ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر وهو حلال بالاتفاق.

والقسم الثاني : ما لهم فيه عمل وهو قسمان ـ أيضا ـ أحدهما ، ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء. فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ، ومن هؤلاء : ابن عباس ، لأن احتمال النجاسة ثابت ، وهو يمنع الحل. وقد تبع هذا الرأى بعض المالكية ، ومن هؤلاء الطرطوسي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجرى مجرى الجبن الزيت ، وعلى هذا الرأى يجرى مجراها السمن الهولاندى وما شابهه. ولكن الجمهور على جواز ذلك مادام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة ، والثاني : المحرم ، وهو ما ثبت أنه قد دخله نجاسة بأن دخله أجزاء من الخمر أو الميتة ، أو الخنزير ، أو غير ذلك من المحرمات» (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٦٥

(٢) ابن كثير ج ٢ ص ١٩

(٣) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع من السنة التاسعة عشرة.

٥٢

ثم بين ـ سبحانه ـ حكم نكاح نساء أهل الكتاب بعد بيان حكم ذبائحهم فقال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ).

وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ) عطف على (الطَّيِّباتُ) وهو جمع محصنة.

والإحصان يطلق على معان منها : الإسلام. ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات ، ويطلق على التزوج ، ولا موضع له هنا ـ أيضا ـ لأنه لا يحل تزوج ذات الزوج. ويطلق على العفة وعلى الحرية وهذان المعنيان هما المختاران هنا.

فمن الفقهاء من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلب العفة ، والعمل على اختيار من هذه صفتها.

وعلى هذا الرأى يصح الزواج من الكتابيات سواء أكن حرائر أم إماء.

ومنهم من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا : الحرائر أى أنه لا يحل الزواج بنساء أهل الكتاب إلا إذا كن حرائر.

والمراد بقوله (أُجُورَهُنَ) أى مهورهن. وعبر عن المهر بالأجر لتأكيد وجوبه. وعدم الاستهانة بأى حق من حقوقهن.

وقوله. محصنين ـ بكسر الصاد ـ أى متعففين بالزواج عن اقتراب الفواحش.

يقال أحصن الرجل فهو محصن أى : تعفف فهو متعفف وأحصن بالزواج الرجل فهو محصن ـ بفتح ـ الصاد ـ أى : أعفه الزواج عن الوقوع في الفاحشة.

وقوله (مُسافِحِينَ) جمع مسافح. والسفاح. الزنا. يقال : سافح الرجل المرأة إذا ارتكب معها فاحشة الزنا ، وسمى الزاني مسافحا. لأنه سفح ماءه أى : صبه ضائعا.

وقوله : (أَخْدانٍ) جمع خدن ـ بكسر الخاء وسكون الدال ـ بمعنى الصديق. ويطلق على الذكر والأنثى.

والمراد بالخدن هنا. المرأة البغي التي يخادنها الرجل أى يصادقها ليرتكب معها فاحشة الزنا.

وغالبا ما تكون خاصة به.

والمعنى : وكما أحل الله لكم ـ أيها المؤمنون ـ الطيبات من الرزق ، وأحل لكم ذبائح أهل الكتاب ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، فقد أحل لكم ـ أيضا ـ نكاح المحصنات من المؤمنات. أى العفيفات الحرائر لأنهن أصون لعرضكم. وأنقى لنطفكم ، وأحل لكم نكاح

٥٣

النساء المحصنات أى : الحرائر العفيفات (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أى : من اليهود والنصارى.

قال الآلوسى : وتخصيص المحصنات بالذكر في الموضعين ، للحث على ما هو الأولى والأليق ، لا لنفى ما عداهن ، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه ، صحيح بالاتفاق. وكذا نكاح غير العفائف منهن. وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم» (١).

وقوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أى : مهورهن ، وهي عوض عن الاستمتاع بهن.

قالوا : وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد ، إذ لا تتوقف صحة العقد على دفع المهر ، إلا أن الأولى هو إيتاء الصداق قبل الدخول.

وقوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أمر لهم بالعفة والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وقوله (مُحْصِنِينَ) حال من فاعل (آتَيْتُمُوهُنَ).

وقوله : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) صفة لمحصنين ، أو حال من الضمير المستتر في محصنين.

وقوله : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) يحتمل أن يكون مجرورا على أنه عطف على مسافحين ، وزيدت فيه «لا» لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير. ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه عطف على (غَيْرَ مُسافِحِينَ).

والمعنى : أبحنا لكم الزواج بالكتابيات المحصنات لتشكروا الله ـ تعالى ـ على تيسيره لكم فيما شرع ، ولتطلبوا من وراء زواجكم العفة والبعد عن الفواحش ، والصون لأنفسكم ولأنفس أزواجكم عن انتهاك حرمات الله في السر أو العلن.

وقدم ـ سبحانه ـ المحصنات من المؤمنات على المحصنات من الذين أوتوا الكتاب للتنبيه على أن المحصنات من المؤمنات أحق باختيار الزواج بهن من غيرهن ، وأن المحصنة المؤمنة الزواج بها أولى وأجدر وأحسن من الزواج بالمحصنة الكتابية.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

أى : ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه التي أنزلها على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حبط عمله ، أى : خاب سعيه. وفسد عمله الذي عمله. وهو في الآخرة من الهالكين الذين ضيعوا ما عملوه في الدنيا من أعمال بسبب انتهاكهم لحرمات الله وأحكام دينه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٦٥ ـ بتصرف يسير.

٥٤

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة : الترهيب من مخالفة أوامر الله والترغيب في طاعته ـ سبحانه ـ.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من الآية الكريمة :

١ ـ إباحة التمتع بالطيبات التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عباده ، ولم يرد نص بحرمتها.

٢ ـ إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب وإباحة إطعامهم من طعامنا.

٣ ـ الترغيب في نكاح المرأة المحصنة أى التي أحصنت نفسها عن الفواحش وصانتها عن كل ريبة واعتصمت بالعفاف والشرف ، وكان سلوكها المستقيم دليلا على أنها متمسكة بتعاليم دينها. وبالآداب الحميدة التي جاءت بها شريعة الإسلام.

وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى ، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» ومعنى (تربت يداك) : افتقرت وندمت إن لم تبحث عن ذات الدين ، وتجعلها محط طلبك للزواج بها.

وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن امرأتى لا تمنع يد لامس. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غربها ـ أى طلقها ـ». قال : أخاف أن تتبعها نفسي ـ أى : أرتكب معها ما نهى الله عنه بعد طلاقها ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاستمتع بها». أى أبقها مع المحافظة عليها (١).

٤ ـ إباحة نكاح النساء الكتابيات ـ وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، لأن هذا هو الظاهر من معنى قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

قال ابن كثير : وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله ـ تعالى ـ (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) :

وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) فحجز الناس عنهن حتى نزلت : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فنكح الناس نساء أهل الكتاب.

__________________

(١) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج ٢ ص ٢٧٧ للشيخ منصور على ناصف

٥٥

وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية ، وجعلوها مخصصة للتي في سورة البقرة وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها. وإلا فلا معارضة بينها وبينها ؛ لأن أهل الكتاب انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله ـ تعالى ـ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أخذه الجمهور على عمومه ، فأباحوا التزوج من أهل الكتاب وإن غيروا وبدلوا ، ذميين كانوا أو حربيين. وقيده جماعة بالذميين دون الحربيين.

وذهب جماعة من السلف إلى أن أهل الكتاب قد غيروا أو بدلوا وعبدوا المسيح. وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة. فهم بذلك والمشركون في العقيدة سواء وقد حرم الله التزوج من المشركات ونسب هذا الرأى إلى عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة.

وتأولوا الآية بوجوه أقربها أنها رخصة خاصة في الوقت الذي نزلت فيه. قال عطاء : إنما رخص الله في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت ؛ لأنه كان في المسلمات قلة. أما الآن ففيهن الكثرة العظيمة ، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة.

والذي نراه في المسألة أنه ليس في الآية ما يدل على أنه رخصة ، ولا نعلم في الشريعة ما يدل على أنه رخصة. والآية دالة على الإباحة المطلقة ، ولم تقيد بوقت خاص ، ولا بحالة خاصة.

نعم إن ما نراه اليوم في بعض المسلمين من رغبة التزوج بنساء الإفرنج لا لغاية سوى أنها إفرنجية. ثم يضع نفسه وأولاده تحت تصرفها فتنشئهم على تقاليدها وعاداتها التي تأباها تعاليم الإسلام.

نعم إن ما نراه من كل ذلك يجعلنا نوجب على الحكومات التي تدين بالإسلام وتغار على قوميتها وشعائرها .. أن تمنع من التزوج بالكتابيات ، وأن تضع حدا لهؤلاء الذين ينسلخون عن قواميتهم على المرأة. حفاظا على مبادئ الدين وعلى عقيدة أولاد المسلمين.

وإن العمل على تقييد هذا الحكم في التشريع الإسلامى أو منعه ، لألزم وأوجب مما تقوم به بعض الحكومات الإسلامية ، أو تحاول أن تقوم به ، من تحديد سن الزواج للفتاة. وتقييد تعدد الزوجات ، وتقييد الطلاق ، وما إلى ذلك من التشريعات التي ينشط لها كثير من رجال الحكم ، سيرا وراء مدنية الغرب المظلمة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٠

٥٦

ألا وإن انحلال الكثرة الغالبة ممن يميلون إلى التزوج بالكتابيات للمعاني التي أشرنا إليها لمما يوجب الوقوف أمام هذه الإباحة التي أصبحت حالتنا لا تتفق والغرض المقصود منها.

وهذا معنى تشهد به كليات الدين وقواعده التي يتجلى فيها شدة حرصه على حفظ شخصية الأمة الإسلامية ، وعدم انحلالها وفنائها في غيرها» (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم. وفيما يتعلق بما يحل لهم من النساء. أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء ، والغسل. والصلاة. وأمرهم بالمحافظة على ما شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٧)

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ص ٣٠ لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت.

٥٧

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ افتتح السورة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية.

فقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) طلب الله ـ تعالى ـ من عباده أن يفوا بعهد العبودية. فكأنما قيل : يا إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال ـ تعالى ـ : نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم.

معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى ـ سبحانه ـ في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح. وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية.

ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ ـ سبحانه ـ بذكر فرائض الوضوء فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (١).

والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها ، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب ، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائما على ذكر من إرادتها وعدم الإهمال في أدائها.

وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة ، وهذا باطل بالإجماع.

وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك ، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها.

قال الآلوسى ما ملخصه : وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم (الَّذِينَ آمَنُوا) من غير اختصاص بالمحدثين. لكن الإجماع على خلاف ذلك ، فقد أخرج مسلم وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد. فقال له عمر : يا رسول صنعت شيئا لم تكن تصنعه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عمدا فعلته يا عمر».

يعنى : بيانا للجواز. فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٥٠

٥٨

ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم ، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا. وقوله ـ تعالى ـ (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) صريح في البدلية.

ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضئون لكل صلاة ، ورد بأن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد : «من توضأ على طهر كتب الله ـ تعالى ـ له عشر حسنات» (١).

وقوله : (فَاغْسِلُوا) من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم : مع الدلك.

وقوله : (بِوُجُوهِكُمْ) جمع وجه. وهو مأخوذ من المواجهة.

وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا.

والمرافق : جمع مرفق ـ كمنبر ومجلس ـ وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع.

والكعبين : تثنية كعب. وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم.

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر ، فاغسلوا وجوهكم ، أى : فأسيلوا الماء على وجوهكم ، وأسيلوه أيضا على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.

وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الإلمام بأهمها فنقول :

أولا : أخذ جمهور الفقهاء من قوله ـ تعالى ـ (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) إلخ أن الوضوء لا بد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أى شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها ، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنما الأعمال بالنيات» وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء ، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله ، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة.

وقال الأحناف. إن النية في الوضوء ليست بفرض. لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها.

وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة ، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد ، وليست شرطا في الوسيلة وهي الوضوء.

وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة ، ومسح ما يجب مسحه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٦٩

٥٩

منها ، وللمسلم أن يصلى بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل. قالوا : ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله ـ تعالى ـ (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها.

ثانيا : قوله (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه.

فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه ، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قبل غسل الوجه.

وقال بعض الفقهاء : المضمضة والاستنشاق داخلان في الغسل.

ثالثا : أخذ كثير من الفقهاء من قوله ـ تعالى ـ (إِلَى الْمَرافِقِ) .. و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) أن المرافق داخلة مع اليدين في وجوب الغسل ، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل.

قالوا : لأن (إِلَى) هنا بمعنى مع ، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبويه قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد ، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل. وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد.

ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا ، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك ، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين.

وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين.

قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لما رواه الدّارقطنيّ عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه».

ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب ، لأن الغاية من قوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول ، ولا وجوب مع الاحتمال.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله : قوله (إِلَى الْمَرافِقِ) تفيد معنى الغاية مطلقا. فأما دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل. فمما فيه دليل على الخروج قوله : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) لأن الإعسار علة الإنظار. وبوجود الميسرة تزول العلة. ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسرا وموسرا. وكذلك (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم. ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظت القرآن من أوله إلى آخره ـ لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الْمَسْجِدِ

٦٠